لقراءة الفصل السابق من هنا: قصة موسى مع السامري وعبادة العجل


بركات الله ﷻ لبني إسرائيل:

(وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (البقرة: 58).

ورد في التوراة: “وَمَتَى ارْتَفَعَتِ السَّحَابَةُ عَنِ الْخَيْمَةِ كَانَ بَعْدَ ذلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَرْتَحِلُونَ، وَفِي الْمَكَانِ حَيْثُ حَلَّتِ السَّحَابَةُ هُنَاكَ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَنْزِلُونَ. حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَرْتَحِلُونَ، وَحَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ كَانُوا يَنْزِلُونَ. جَمِيعَ أَيَّامِ حُلُولِ السَّحَابَةِ عَلَى الْمَسْكَنِ كَانُوا يَنْزِلُونَ. وَإِذَا تَمَادَتِ السَّحَابَةُ عَلَى الْمَسْكَنِ أَيَّامًا كَثِيرَةً كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَةَ الرَّبِّ وَلاَ يَرْتَحِلُونَ. وَإِذَا كَانَتِ السَّحَابَةُ أَيَّامًا قَلِيلَةً عَلَى الْمَسْكَنِ، فَحَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ كَانُوا يَنْزِلُونَ، وَحَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ كَانُوا يَرْتَحِلُونَ. وَإِذَا كَانَتِ السَّحَابَةُ مِنَ الْمَسَاءِ إِلَى الصَّبَاحِ، ثُمَّ ارْتَفَعَتِ السَّحَابَةُ فِي الصَّبَاحِ، كَانُوا يَرْتَحِلُونَ. أَوْ يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ ارْتَفَعَتِ السَّحَابَةُ كَانُوا يَرْتَحِلُونَ. أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً، مَتَى تَمَادَتِ السَّحَابَةُ عَلَى الْمَسْكَنِ حَالَّةً عَلَيْهِ، كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَنْزِلُونَ وَلاَ يَرْتَحِلُونَ. وَمَتَى ارْتَفَعَتْ كَانُوا يَرْتَحِلُونَ. 23حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ كَانُوا يَنْزِلُونَ، وَحَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ كَانُوا يَرْتَحِلُونَ” (اَلْعَدَد 9 : 17-23).

يتبين من هذه الفقرة أن السُّحب كانت تُظل مكانًا يريد الله تعالى أن ينزلوا فيه أثناء عبورهم سيناء، وإذا أراد سفرهم أظلّتهم مرة أخرى في السفر. ولكن سياق القرآن وكلماته تبين أن المراد من ظلال الغمام هو المطر..لأن السحب الداكنة المظلمة ممطرة عمومًا. وبيان القرآن، كما هي عادته، تصحيح لبيان التوراة، لأن وصف التوراة للسُحب غير ضروري وغير معقول. فأي داع لإحاطة بني إسرائيل بالسحب لتوجيههم إلى المكان المناسب لإقامتهم؟ كان يكفي أن يوحى الله تعالى لموسى ويخبره بذلك.

لقد ذكر القرآن إلى جانب الغمام المنّ والسلوى، ومن هذا يتبين أن تلك الفيافي المجدبة كان يعوزها الطعام والماء. فكان الله تعالى يطفئ عطشهم بالسحب الداكنة الممطرة، ويزيل جوعهم بالمن والسلوى. إن من عادة الله المستمرة أنه يَمُنُّ على عباده ببركات خاصة ليدرأ عنهم الأذى ويهيء لهم الراحة. وما فعل الله هذا في الماضي فقط بل يفعله اليوم أيضًا مع عباده الصالحين. فلا يصح أن يراد بظلال الغمام أن الله تعالى كان يأمر السحاب لتتحرك معهم لتظلهم دائمًا حيثما حلوا وارتحلوا ..إذ أن ظلال السحب المستمر نقمة لا نعمة.

ورد في التوراة: “وَفِي الصَّبَاحِ كَانَ سَقِيطُ النَّدَى حَوَالَيِ الْمَحَلَّةِ. وَلَمَّا ارْتَفَعَ سَقِيطُ النَّدَى إِذَا عَلَى وَجْهِ الْبَرِّيَّةِ شَيْءٌ دَقِيقٌ مِثْلُ قُشُورٍ. دَقِيقٌ كَالْجَلِيدِ عَلَى الأَرْضِ. فَلَمَّا رَأَى بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ هُوَ؟ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مَا هُوَ. فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي أَعْطَاكُمُ الرَّبُّ لِتَأْكُلُوا” (اَلْخُرُوجُ 16 : 13-15).

أما السلوى فيه أيضًا خاص وعام كالمّن. فالعام منها كل ما يسليك، والخاص طير يشبه السماني، والعسل أيضًا. ورد في التوراة: “فَخَرَجَتْ رِيحٌ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ وَسَاقَتْ سَلْوَى مِنَ الْبَحْرِ وَأَلْقَتْهَا عَلَى الْمَحَلَّةِ، نَحْوَ مَسِيرَةِ يَوْمٍ مِنْ هُنَا وَمَسِيرَةِ يَوْمٍ مِنْ هُنَاكَ، حَوَالَيِ الْمَحَلَّةِ، وَنَحْوَ ذِرَاعَيْنِ فَوْقَ وَجْهِ الأَرْضِ. فَقَامَ الشَّعْبُ كُلَّ ذلِكَ النَّهَارِ، وَكُلَّ اللَّيْلِ وَكُلَّ يَوْمِ الْغَدِ وَجَمَعُوا السَّلْوَى. الَّذِي قَلَّلَ جَمَعَ عَشَرَةَ حَوَامِرَ. وَسَطَّحُوهَا لَهُمْ مَسَاطِحَ حَوَالَيِ الْمَحَلَّةِ. وَإِذْ كَانَ اللَّحْمُ بَعْدُ بَيْنَ أَسْنَانِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَنْقَطِعَ، حَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى الشَّعْبِ، وَضَرَبَ الرَّبُّ الشَّعْبَ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدًّا. فَدُعِيَ اسْمُ ذلِكَ الْمَوْضِعِ «قَبَرُوتَ هَتَّأَوَةَ» لأَنَّهُمْ هُنَاكَ دَفَنُوا الْقَوْمَ الَّذِينَ اشْتَهَوْا” (اَلْعَدَد 11 : 31-34).

كان بنو إسرائيل قد عاشوا عبيدًا تحت الفراعنة لمدة طويلة، فأراد الله تعالى أن يعيشوا في البرية أحرارا لزرع أخلاق الجرأة والشجاعة فيهم. فبدلاً من أن يُبلغهم كنعان في وقت قصير تركهم مُدّةً في صحراء سيناء وما حولها من الأماكن، وهيأ لهم هناك أغذية بدون جهد وتعب من جانبهم، منها ما هو حلو ومنها ما هو مالح ومنها ما هو صلب ومنها ما هو ليّن ومنها ما يُطهى ومنها ما يؤكل نيئًا..في تنوع يرضي شتى الأذواق، ويسد الجوع، ويغذي الجسم، ويحفظ الصحة. فبالغمام هيأ الله تعالى لبني إسرائيل الماء، وبالمن وفّر لهم غذاء من الفاكهة والخضر، وبالسلوى زودهم باللحم والعسل وغيرها من المأكولات التي تسلي القلب.

وكلمة (أنزلنا) جديرة بالتأمل. فلا يعني هذا أن الله تعالى أنزل المن والسلوى من السماء، وإنما كانت مما ينمو على الأرض. واستخدم لها كلمة: (أنزلنا) لأنه تعالى هيأها لبني إسرائيل في ظروف غير عادية. فالنزول يدل على الإعزاز والإكرام، أو توفير شيء في أحوال صعبة. وعلى الذين يقعون بسبب كلمة (النزول) في أنواع الأخطاء في مسألة نزول المسيح المنتظر أن يتدبروا وينتبهوا إلى هذه الأساليب القرآنية. فإذا كان إطلاق كلمة النزول على المنّ والسلوى وهما من نتاج الأرض ممكنًا فكيف لايجوز استخدام النزول لمجيء المسيح المنتظر الذي خُلِقَ على الأرض. الحق أن ظهور نفس طاهرة مُصلحة في مثل هذا الزمن المشحون بأنواع الفسق والفجور ..يسمى نزولاً في الاصطلاح الإلهي، وقد ورد للمسيح الموعود أيضًا بنفس المعنى.

وقوله تعالى: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) يشير إلى أن هذه الأغذية بالغة الفائدة لكم في هذه الظروف، وسوف تسد حاجاتكم من الطعام والشراء. فالطيب يعني اللذيذ، الطاهر، الحسن، الحلو، الممتاز.. وهذا يعني أن ما رزقناكم به من غذاء يكفل لكم لذة الطعم، ويساعد على صلاح أخلاقكم، وهو حسن حلو ممتاز في قيمته ومنافعه، فكلوا منه، وتخلقوا بمحاسن الأخلاق، واستعدوا للمهمة الجليلة التي تنتظركم.

ولا يعني قوله تعالى أن الطيبات التي نزلت على موسى وقومه من المن والسلوى هي الطيبات فقط، بل إن كل كلمة، مدحًا كانت أو ذمًا، تعطي معنى نسبيًا؛ فالشيء الذي يكون في وقت مفيدًا، أو لشخص مفيدًا.. فإنه يكون ضارًا في وقت أو لشخص آخر، والعكس صحيح أيضًا. فالأشياء التي أُعطيت لبني إسرائيل، وإن كانت من الطيبات بوجه عام، ولكنها نظرا لظروفهم عندئذ كانت طيبات لهم بوجه خاص، واستبدال أغذية أخرى بها لم يكن ليحقق الغرض الذي من أجله تركهم الله تعالى في صحراء سيناء.

ويبدو من عبارة التوراة التي أوردناه سابقا (عدد31:11 إلى 34) أن قدوم طير السماني كان بمثابة عذاب لبني إسرائيل، لأن غضب الله نزل عليهم قبل أن يمضغوا أول لقمة من لحمه. ولكن القرآن الكريم يقول على عكس ذلك.. بأن هذا الطير جاء نعمة وإحسانًا لهم. والحق أن ما يقوله القرآن هو الصواب، لأن توفير الغذاء في البيداء، ثم إنزال العذاب بسبب جمعه وأكله يُعدُّ ظلمًا. فلو كان الله تعالى نبّههم من قبل بأن طيور السماني ستأتيكم فلا تأكلوها لكان هناك مبرر للغضب عليهم، أو إذا كان السماني حرامًا أكله على بني إسرائيل لاستحقوا العقاب؛ ولكن لم يكن عندهم أي حرمة لها. فإذا كانوا وجدوا شيئًا حلالاً وأرادوا أكله فأي مبرر للغضب والعذاب الذي ملأ الأرض بقبورهم؟ إنه لظلم عظيم، والله ليس بظلام للعبيد.

والحق أن التوراة في موضع أخرى نَفَتْ كون طيور السماني نقمة وقالت: “فَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً: سَمِعْتُ تَذَمُّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. كَلِّمْهُمْ قَائِلاً: فِي الْعَشِيَّةِ تَأْكُلُونَ لَحْمًا، وَفِي الصَّبَاحِ تَشْبَعُونَ خُبْزًا، وَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ. فَكَانَ فِي الْمَسَاءِ أَنَّ السَّلْوَى صَعِدَتْ وَغَطَّتِ الْمَحَلَّةَ. وَفِي الصَّبَاحِ كَانَ سَقِيطُ النَّدَى حَوَالَيِ الْمَحَلَّةِ. وَلَمَّا ارْتَفَعَ سَقِيطُ النَّدَى إِذَا عَلَى وَجْهِ الْبَرِّيَّةِ شَيْءٌ دَقِيقٌ مِثْلُ قُشُورٍ. دَقِيقٌ كَالْجَلِيدِ عَلَى الأَرْضِ” (اَلْخُرُوجُ 16 : 11-14). وتبين هذه العبارة أن طيور السماني جاءت بحسب بشارة الله تعالى، وأمر الله موسى أن يأكلوها نعمة وفضلاً منه تعالى، وبأكلها سيعرفون أني أنا الرب إلههم.

كما ذكرت التوراة نعمة السماني مع نعمة المن، ولم تذكر المن في أي مكان إلا بوصفه نعمة لا عذابًا. فيبدوا أن ما ورد في (عدد11) هو نموذج لحمق كاتب جاهل من كتّاب التوراة.. أدخل فيها أفكاره الخاطئة، وإلا فالحق ما ذكره القرآن بأن المن كان إنعامًا كما كان السلوى أيضًا إنعامًا.

(وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة: 61).

تتحدث هذه الآية عن نكران بني إسرائيل لنعمة أُخرى. لقد كانوا بحاجة إلى الماء في موضع كان نزول المطر فيه شحيحًا. فدعا موسى ؏ للسقيا. فأمره الله تعالى أن يضرب حجرًا معينًا. وعندما ضربه تفجرت منه اثنتا عشر عينًا. ووجدت كل جماعة منهم ماءً وعينت لها موردًا.

يعترض القساوسة على هذه الآية ويقولون عن التوراة لم تذكر مثل هذا الحادث، وهذا عندهم دليل على جهل صاحب القرآن! ولكن كما أسلفت، لا اعتبار بما إذا ذكرت التوراة حادثًا أولم تذكر. لا شك أن المؤرخ مضطر للتقيد بسرد أحداث عن بني إسرائيل كما ذُكرت في التوراة أو في كتب التاريخ الأُخرى، ولكن القرآن الذي يعلن أنه وحي الله تعالى، لا حاجة له ليلتزم فقط بما جاء في تلك الكتب. أفلم تقع أحداث في الدنيا سوى ما ذكرته التوراة وكتب التاريخ؟ وهل هناك خطرٌ على الله جلَّ وعلا ألاّ يذكر إلا ما جاء فيها؟ إن القرآن المجيد كلام الله تعالى، وأنى لعلم المؤرخ أن يبلغ شأن العلم الإلهي؟ من حق منكر القرآن أن يطالبنا بإثبات أنه كلام الله حقًا، فإذا أثبتنا أنه كذلك فلا بد من أن تعتبر شهادة القرآن هي الأوثق والأقوى من شهادة مؤرخ وشهادة كتاب منسوخ أو ممسوخ. ولكن لا يجوز لنا أن نُلبس كلمات القرآن معاني معارضة للقرآن نفسه، أو للعقل الذي خلقه الله تعالى، أو للغة.

وأرى من الضروري هنا ذكر أن المستشرق سيل (Sale)، قد كتب في ترجمته للقرآن الكريم أن سائحًا في القرن الخامس عشر ذكر أنه وجد آثارًا لاثنتي عشرة عينًا في صخرة بجبل حوريب وإن كانت بعضها قد جفت. (القرآن،سيل).

ثم نجد في التوراة الأمر الإلهي لموسى بضرب صخرة في جبل حوريب، ولكن لا نجد هناك ذكر اثنتي عشرة (خروج 6:17) وفي موضع آخر نجد ذكر اثنتي عشرة عينًا في مكان آخر، ولم يذكر هناك الضرب بالعصا (خروج 27:15).

لقد أخطأ بعض المفسرين أيضًا في فهم هذه الآية.. فظنوا أن موسى كان يحمل معه حجرًا، وكلما احتاج بنو إسرائيل للماء يضربه بالعصا ويفجر منه اثنتي عشرة عينًا! الحق إن هذا القول لا يصف معجزة إلهية وإنما يعبر عن مهزلة عقلية. فإذا كان الله تعالى هيأ في بعض المناطق الماء لبني إسرائيل بإنزال المطر من الغمام كمعجزة، لزم أن تكون معجزة تدفق الماء من الحجر بضرب العصا أيضًا خاضعة لسنن الله الكونية. إن المعنى الحقيقي للآية هو أن الله تعالى أمر موسى بضرب حجر بعصاة فانفجرت منه بالضرب اثنتا عشرة عينًا. والذين تيسر لهم زيارة الأماكن الجبلية يعرفون أنه عندما ينصهر الجليد فوق قمم الجبال يرتفع مستوى الماء الباطني الجاري تحت وجه الأرض، ويمكن أن يخرج متدفقًا بمجرد الضرب من عصا. ومثل هذه العيون توجد أيضًا في البراري…وتحدث طبقًا لسنن كونية معروفة. وتكثر مثل هذه المواقع في صحراء الجزيرة العربية حيث الواحات ذات عيون الماء والنخيل.

لقد وجَّه الله تعالى موسى بالوحي إلى موضع كهذا، وكان الماء قريبًا من سطح الأرض، وكان عليه حجر، فأمره الله تعالى أن يحركه بالعصا ليتدفق الماء من ورائه، ففعل. ليست المعجزة أن الماء خرج من الحجر، كما ليست المعجزة أن الماء تولّد فجأة في باطن الحجر وخرج منه، وإنما المعجزة أن الله تعالى دلّه بالوحي على وجود الماء وراء حجر معين يسد جريانه. ولا مبرر لنكران مثل هذه المعجزة، كما لا داعي أيضًا لتصويرها بصورة مخالفة لسنّة الله في الكون.

ويبدو أن الحجر لم يكن كبيرًا ولا عميقًا فتشقق بالضرب بالعصا، وخرج الماء من اثني عشر موضعًا من هذه الشقوق. ومن خبِرَ هذه الجبال يعرف أن العديد من العيون تتدفق من موضع واحد أحيانًا. وقد شاهدت بنفسي في موضع جبلي بكشمير عيونًا كثيرة تفيض من مساحة صغيرة لا تتجاوز أمتارًا، وربما كان عددها اثنتي عشرة عينًا.

ويبدو أن الغرض من عدد اثني عشر أن بني إسرائيل كانوا قبائل عديدة كثيرة الشجار فيما بينها، وهكذا هيأ الله تعالى لكل منها موضع شرب على حدة.

وقوله تعالى: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) (البقرة: 61)، لا يعني أن الله تعالى عين لكل قبيلة موضع شرب لهم، وإنما القوم أنفسهم اتخذوا مواضع شرب لهم. الماء كان يتدفق بوفرة ومن مواضع متفرقة ليتيسر لبني إسرائيل الحصول على كفايتهم منه بدون مشقة، فلا يقع بينهم خصومة أو شجار.

..لقد هيأ الله تعالى لكم في كل موضع كفايتكم من الطعام والشراب، فاشكروا صنيعه وتوكلوا عليه ولا تتكالبوا على الأسباب. إن كل فساد في الدنيا يرجع إلى الاعتماد على الأسباب. فيظن الإنسان أنه إن لم يجد أرضًا كذا أو مسكنًا كذا أو دابةً كذا لأصابه الضرر والخسران.. فيتخاصم مع أخيه وتستمر سلسلة لا تنتهي من الفساد والفتنة. يقول الله تعالى هنا لبني إسرائيل: انظروا كيف حررناكم من كل هذه المتاعب من بحث عن طعام وشراب وغير ذلك، فإذا كنا نسد كل حاجاتكم فلا داعي للفساد والتباغض والشجار مع الجار.

يجب ألا تفسدوا على الأقل في هذه الأيام، كما يجب أن تتجنبوا الفساد في المستقبل تذكرًا لهذه النعم…

لقد عاش بنو إسرائيل على طعام المن والسلوى لمدة طويلة، ومن حين لآخر كانوا يدخلون بعض المدن ويمكثون فيها للتمتع بما فيها من طعام وشراب. ولكنهم لم يستطيعوا الصبر على طعام واحد في البراري، وإن لم يكن واحدًا بل كان متنوعًا. كانوا معتادين على العيش في مدن مصر عيشة مدنية، مولعين بالمشويات والمقليات وغيرها من لذائذ الطعام الذي يأكله أهل الحضر، فتبرموا من أكل الأغذية البرية. وهكذا لم يقدروا الحكمة وراء هذه المعيشة والأغذية. وبلغ بهم الضيق أن قالوا لموسى لن نصبر عن طعام واحد. إذا كنت تصبر أنت عليه ولا ترى حاجة إلى استبداله، فعلى الأقل ادْعُ الله لأجلنا كي يخرج لنا من الأرض أنواع الخضروات والبقول.. أي يسمح لنا بالإقامة والاستقرار في مكان نستطيع فيه الزراعة وإنتاج هذه المحاصيل من غلال وبقول وخضار. فأجابهم الله تعالى: أتطلبون الطعام الأقل نفعًا لكم وتتخلون عن الأجود والأنسب؟

لقد اختلف المفسرون في معنى خير وأدنى، فقال البعض أن المراد من (خير) اللحم ومن (أدنى) الخضار. ولكن هذا خطأ. فالخضار خير واللحم أيضًا خير. ولم يأمر الله تعالى في الشرع أنه إذا وُجد طعام جيد فلا تأكلوا غيره. فالنفس البشرية أحيانًا تشتهي العدس مع تيسر لحم طير، وليس في هذا ما يثير سخط الله.

الحق أن في كلمتي (خير،وأدنى) مقارنة بين ما كانوا يجدونه في البرية من أغذية بدون جهد وتعب، وبين ما يحصل عليه أهل المدن بعد سعي ومشقة. لقد تركهم الله تعالى في هذه البرية لكي يزيل عنهم أثر العبودية ويطهرهم من المعاصي وسيء العادات التي ترسخت في نفوسهم بصحبة المصريين، ولكي لا تثور فيهم نزعات الشرك نتيجة مخالطتهم بالأمم الأخرى أراد الله تعالى لهم أن يظلوا في صحبة موسى باستمرار ليرسخ فيهم عقيدة التوحيد. وقد وفَّر الله لهم كل ما يتيسر في البادية من أطعمة.. أما الخضروات والأطعمة الشهية فلا تتيسر إلا في المدن والقرى.

وقوله تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) (البقرة: 62)، لأنهم فضلوا الزراعة على عيش يؤهلهم للحكم والسلطان في الأرض المقدسة التي وُعدوا بها.. ألزمهم الله الذل والهوان. ومن عجيب قدرة الله تعالى أن بني إسرائيل وإن كانوا قد نالوا الملك بحسب البشارات الإلهية إلا أن إخلافهم المتكرر لعهودهم مع الله تعالى صار وبالاً عليهم حتى حُرموا من الملك فيما بعد لأكثر من عشرين قرنًا ولم يبق لهم إلا أعمال التجارة والزراعة.

(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) (البقرة: 64).

المراد من قوله تعالى (أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ): الوصايا العشر وما نزل معها من تعاليم أُخرى على موسى عند جبل سيناء. وتقول الآية لبني إسرائيل: تذكروا تلك الوصايا التي أُوتيتموها وأنت واقفون عن سفح الجبل، والتي أعرضتم عن سماعها قائلين: لا نريد سماعها حتى لا نهلك.

وفي قوله تعالى (مِيثَاقَكُمْ) أُضيف الميثاق إلى بني إسرائيل لأنه كان ذا شهرة وأهمية كبيرة لديهم، لقد وُضع فيه الأساس لعلاقات كان ستنشأ بين الله تعالى وبينهم. وفي نفس الميثاق وبسبب معاصيهم المتكررة، قدَّر الله تعالى أن النبي الموعود صاحب الشرع الجديد لن يظهر في بني إسحاق، بل سيظهر في بني إسماعيل. وكأن إضافة الميثاق إليهم تذكرة لنبي إسرائيل بأهمية هذا العهد، ولا يعني هذا أنه لم يكن لنبي إسرائيل عهود أُخرى مع الله تعالى.

قوله تعالى (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ): الطور في العبرانية يعني الجبل أيًا كان (قاموس العهد القديم). ومن معاني الطور في العربية أيضًا الجبل. ولكن العرب عندما سمعوا من اليهود أن الله تعالى تكلم مع موسى على الطور أي الجبل، ظنوا أن الطور بالعبرانية يعني ذلك الجبل الخاص في سيناء، فسموه (جبل الطور). واستخدم القرآن الكريم كلمة الطور بمعنى الجبل فقط. قال الله تعالى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) (المؤمنون: 21). وقال: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ) (التين: 2-3).

لقد انخدع البعض من قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ) وظنوا أن الله تعالى رفع الجبل وجعله كالمظلة فوق رؤوس بني إسرائيل. وقد استغل المستشرق رُدْوِل Rodwell هذا الخطأ من بعض المفسرين وطعن به في الإسلام وقال: لقد أخطأ اليهود في فهم عبارة واردة في التوراة ونقل القرآن عنهم هذا الخطأ.

لقد انخدع المفسرون بكلمتي (رفع) و (فوق) مع أنهما تدلان أيضًا على مجرد الارتفاع. جاء في حديث الهجرة النبوية أن أبا بكر قال بصدد اشتداد الحر وقت الظهيرة: (فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) (البخاري،كتاب المناقب)، يعني رأينا في صخرة مرتفعة قريبًا منا لها ظل فأوينا إليها. وورد في القرآن الكريم: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) (الأحزاب: 11-12). أي أنهم جاءوكم من الناحتين المرتفعة والمنخفضة من الأرض.

فالمعنى الصحيح للآية أن اليهود كانوا واقفين بالقرب من الطور عندما أعطاهم الله تعالى بعض الوصايا وأخذ منهم العهد للعمل بها. فقد ورد في التوراة: “وَحَدَثَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ أَنَّهُ صَارَتْ رُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَسَحَابٌ ثَقِيلٌ عَلَى الْجَبَلِ، وَصَوْتُ بُوق شَدِيدٌ جِدًّا. فَارْتَعَدَ كُلُّ الشَّعْبِ الَّذِي فِي الْمَحَلَّةِ. وَأَخْرَجَ مُوسَى الشَّعْبَ مِنَ الْمَحَلَّةِ لِمُلاَقَاةِ اللهِ، فَوَقَفُوا فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ. وَكَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ، وَارْتَجَفَ كُلُّ الْجَبَلِ جِدًّا. فَكَانَ صَوْتُ الْبُوقِ يَزْدَادُ اشْتِدَادًا جِدًّا، وَمُوسَى يَتَكَلَّمُ وَاللهُ يُجِيبُهُ بِصَوْتٍ. وَنَزَلَ الرَّبُّ عَلَى جَبَلِ سِينَاءَ، إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ، وَدَعَا اللهُ مُوسَى إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ. فَصَعِدَ مُوسَى. فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: انْحَدِرْ حَذِّرِ الشَّعْبَ لِئَلاَّ يَقْتَحِمُوا إِلَى الرَّبِّ لِيَنْظُرُوا، فَيَسْقُطَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ. وَلْيَتَقَدَّسْ أَيْضًا الْكَهَنَةُ الَّذِينَ يَقْتَرِبُونَ إِلَى الرَّبِّ لِئَلاَّ يَبْطِشَ بِهِمِ الرَّبُّ” (اَلْخُرُوجُ 19 : 16-22).

وقد نُسب رفعُ الطور إلى الله تعالى في قوله (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ) لأنه هو الذي أوصاهم بالمكث أسفل الجبل كما هو وارد أيضًا في التوراة.

واستخدام كلمة (رفعنا) و (فوق) إشارة إلى أن ميثاق الطور هذا له صفة الدوام، إذ أن هذا العهد قد أُخذ عند الطور وليس هذا فحسب، وإنما يشير أيضًا بطريق المجاز اللطيف إلى أن الطور سيبقى دائمًا محلقًا فوق رؤوسهم يذكرهم بهذا العهد. وليس العهد ليوم أو يومين، وإنما له ارتباط دائم بالحياة القومية لبني إسرائيل.

لقد وضع الله اللبنة الأولى للشريعة الموسوية على جبل في برية سيناء وقد ذُكر هذا في (سفر خروج 19،20). ويتبين من قول التوراة: “اَلرَّبُّ إِلهُنَا قَطَعَ مَعَنَا عَهْدًا فِي حُورِيبَ” (اََلتَّثْنِيَة 5 : 2)، أن موسى تلقى الوصايا العشر إلى جانب تعاليم أُخرى على صخرة حوريب، وهناك أُخذ من بني إسرائيل الميثاق بالعمل بها. وتؤكد آيتنا هذه بأن على بني إسرائيل أن يذكروا دائمًا ذلك العهد الذي أخذ الله منهم عندئذ، ويتمسكوا به بقوة، ويعملوا به بصدق، لكي ينجوا من المصائب جميعًا.

وقد ورد هذا التأكيد في التوراة كالآتي: “وَدَعَا مُوسَى جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ لَهُمْ: اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ الْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ الَّتِي أَتَكَلَّمُ بِهَا فِي مَسَامِعِكُمُ الْيَوْمَ، وَتَعَلَّمُوهَا وَاحْتَرِزُوا لِتَعْمَلُوهَا” (تثنية1:5).

جاء في التوراة: “وَكَانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ يَرَوْنَ الرُّعُودَ وَالْبُرُوقَ وَصَوْتَ الْبُوقِ، وَالْجَبَلَ يُدَخِّنُ. وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ ارْتَعَدُوا وَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ، وَقَالُوا لِمُوسَى: تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ” (اَلْخُرُوجُ 20 : 18-19). وجاء فيها أيضًا: “وَجْهًا لِوَجْهٍ تَكَلَّمَ الرَّبُّ مَعَنَا فِي الْجَبَلِ مِنْ وَسَطِ النَّارِ. أَنَا كُنْتُ وَاقِفًا بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَكُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ لِكَيْ أُخْبِرَكُمْ بِكَلاَمِ الرَّبِّ، لأَنَّكُمْ خِفْتُمْ مِنْ أَجْلِ النَّارِ، وَلَمْ تَصْعَدُوا إِلَى الْجَبَلِ” (اََلتَّثْنِيَة 5 : 4-5).

يتضح من هذه العبارة أن الله تعالى حين دعا بني إسرائيل ليشرفهم بكلامه مشافهة خافوا بسبب الزلزال. فيعني قوله تعالى (ثم توليتم) أنهم فروا من هناك مدبرين، ولم يريدوا سماع كلام الله تعالى. ويقول عز وجل بأنه إن لم يُحِطْكُمْ فضله ورحمته لعاقبكم، ولمحا اسمكم من أُمة رسوله وأصبحتم من الخاسرين.

وكما ورد في التوراة (تثنية18:18) قدر الله تعالى بسبب رفضهم سماع كلامه أن يكون النبي الموعود المثيل لموسى من خارج بني إسرائيل، من إخوتهم بني إسماعيل.

قصة ذبح البقرة:

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) (البقرة: 68)

كان بنو إسرائيل يعيشون في مصر. وكان المصريون يعظمون البقرة كثيرًا، لذلك استولت عظمتها على قلوب بني إسرائيل أيضًا. وكذلك يتبين مما  سبق في الآيات، ومما جاء في التوراة أن بني إسرائيل عندما اتخذوا الصنم إلهًا كان على صورة العجل، مما يدل على أن تعظيم البقرة في قلوبهم وصل إلى حد تأليهها. ولما كان الهدف الأساسي للأنبياء القضاء على الشرك وإظهار جلال الإله الواحد الأحد، الخالق المالك لكل مخلوق.. فكان ضروريًا أن يتضمن شريعة موسى من التعاليم ما يستأصل من قلوب بني إسرائيل تعظيم البقرة، ولولا ذلك لمالوا بعد مدة إلى عبادتها كرّة أُخرى. ولذلك أمرت شريعة موسى في عدة مناسبات بذبح البقر. ومن الواضح أن الذين يذبحون حيوانًا مرة بعد أخرى لا يمكن أن يخلعوا عليه صفات الألوهية.

تشير هذه الآية أن موسى ؏ أمر قومه بذبح بقرة، فأرادوا مماطلته، ولكنهم في النهاية اضطروا كارهين إلى الامتثال بأمره. وذكر الله تعالى هنا نكرانًا آخر للجميل ارتكبه بنو إسرائيل. فبعد عبادة العجل وتلقَّي عقوبات شديدة، وبعد توبة وخجل.. لم يكن متوقعا من هذا الجيل نفسه أن يسقطوا في وحلة الشرك مرة أُخرى. ولكنهم لم يتخذوا من كل ذلك عبرة، بل مالوا إلى الشرك. ويبدو أنه، لسوء حظهم، وُلد عندهم عجل جميل بشكل غير عادي.. كان يشبه العجل الذي يعبده المصريون، فهفت قلوبهم إلى تعظيمه. فأمر الله موسى أن يقيم سنّة ذبح البقر لكي يقتلع من قلوبهم هذه الميول الشركية. ولما كاد المريب يقول خذوني، فقد أحسّوا أن هذا الأمر يخص عجلهم الجميل المحبوب، وتداولوا فيما بينهم حول هذا الأمر، وبدلاً من أن يبادروا إلى ذبح أي بقرة حتى يتم تنفيذ الأمر الإلهي بدون هتك سترهم، انهالوا على موسى بوابل من الأسئلة حول صفات وعلامات تلك البقرة، ظنًا منهم أن الله تعالى يريد بقرة خاصة. وكانت نتيجة هذا النقاش أن الله تعالى أعطاهم علامات دقيقة تنطبق على عجلهم الجميل الذي بدأ تعظيمه يتولد في قلوبهم. فاضطروا آخر الأمر إلى ذبحه، ووقفوا موقف الخجل والإحراج.

ويدلنا تاريخ المصريين القديم أنهم عبدوا حيوانات كثيرة، ولكن أهمها العجل الذى كانوا يختارونه بمواصفات خاصة، ويقيمون له التماثيل، وشيدوا له المعابد، ووضعوا صوره على جدرانها ومن هذه العجول (عجل أبيس). اتخذوا يوم ميلاده عطلة وعيدًا ويوم وفاته مأتما وحزنا. وكانوا يحنّطونه ويدفنونه في مقابر خاصة، ويبحثون بعده عن عجل مثله. وكانوا يعتبرونه مظهرًا لإله الشمس. وكانوا لا يجيزون أكل هذه الحيوانات. وقد استمرت هذه العادة فيهم إلى رعمسيس الثاني أيضًا…

وكان بنو إسرائيل متأثرين بهذه العقائد المصرية، وعندما رأوا هذا العجل الجميل الذي تميز بمواصفات خاصة مالوا إلى الشرك.

لقد اختار القرآن كلمة (بقرة)، ولكنها تستعمل للمؤنث والمذكر. ولا تذكر التوراة هذا الحادث بمثل تفصيل القرآن له، ولكن كما سبق أن ذكرت أن ذكر حادث تاريخي في التوراة أو عدمه لا يعنى شيئًا إزاء كتاب سماوي محفوظ. ومع ذلك فقد جاء في التوراة ذكر تضحية عجل بعلامات كالتي ذكرت في القرآن حيث قيل إن الله تعالى قال لموسى: “كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا إِلَيْكَ بَقَرَةً حَمْرَاءَ صَحِيحَةً لاَ عَيْبَ فِيهَا، وَلَمْ يَعْلُ عَلَيْهَا نِيرٌ، فَتُعْطُونَهَا لأَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ، فَتُخْرَجُ إِلَى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ وَتُذْبَحُ قُدَّامَهُ. وَيَأْخُذُ أَلِعَازَارُ الْكَاهِنُ مِنْ دَمِهَا بِإِصْبِعِهِ وَيَنْضِحُ مِنْ دَمِهَا إِلَى جِهَةِ وَجْهِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَتُحْرَقُ الْبَقَرَةُ أَمَامَ عَيْنَيْهِ. يُحْرَقُ جِلْدُهَا وَلَحْمُهَا وَدَمُهَا مَعَ فَرْثِهَا. وَيَأْخُذُ الْكَاهِنُ خَشَبَ أَرْزٍ وَزُوفَا وَقِرْمِزًا وَيَطْرَحُهُنَّ فِي وَسَطِ حَرِيقِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَغْسِلُ الْكَاهِنُ ثِيَابَهُ وَيَرْحَضُ جَسَدَهُ بِمَاءٍ، وَبَعْدَ ذلِكَ يَدْخُلُ الْمَحَلَّةَ. وَيَكُونُ الْكَاهِنُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. وَالَّذِي أَحْرَقَهَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ بِمَاءٍ وَيَرْحَضُ جَسَدَهُ بِمَاءٍ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. وَيَجْمَعُ رَجُلٌ طَاهِرٌ رَمَادَ الْبَقَرَةِ وَيَضَعُهُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ، فَتَكُونُ لِجَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي حِفْظٍ، مَاءَ نَجَاسَةٍ. إِنَّهَا ذَبِيحَةُ خَطِيَّةٍ” (اَلْعَدَد 19 : 2-9).

لا تذكر هذه العبارة ما دار بين موسى وبينهم من أسئلة وأجوبة كما ذكر القرآن، ولكن يدرك الإنسان بتأمل قليل أن التوراة ذكرت هذا الحادث كحادث عادي. والحكمة في ذبح مثل هذه البقرة هي إزالة الشرك من قلوب بني إسرائيل، ووقايتهم من تأثير الأمم الأُخرى، وربما لهذه الحكمة سُمِّي الماء الذي خُلط به دماء البقرة ماء نجاسة.. أي غُسل به نجاسة الشرك وحُفظوا منه. فلو أنهم استمروا في ذبح مثل هذه العجول والبقر التي كان يعبدها المصريون لزال من قلوبهم نجس الشرك.

لقد جاء في كتب الحديث اليهودية هذا الحادث بتفصيل أكثر مما جاء في التوراة. فقد ورد في (مثتا) باب كامل عن الحادث. ووردت رواية عن الربِّي (نسيس) أنه لم يوجد بعد موسى ؏ بقرة بتلك المواصفات (موسوعة الكتاب المقدس). وفي هذا البيان من أحاديث اليهود تصديق كامل لما ورد في القرآن من أن الله تعالى أمرهم بذبح بقرة خاصة تتميز بجمال غير عادي وبعلامات معينة لا تتوفر في كل الأزمنة.

أمرهم الله تعالى بذبح بقرة أيةً كانت، فبدأ اليهود يسألون عن علاماتها، لأن قلبهم كان يخشى على عجلهم المحبوب. فقال الله تعالى: (بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) (البقرة: 69)..أي لا تعرضوا أنفسكم للإحراج والإذلال بكثرة السؤال. لكن اليهود لم يمتنعوا.

رغم الإشارة الإلهية بأننا نستر عليكم فلا تهتكوا ستركم بالأسئلة فلم تنفكوا عنها بل مضيتم تسألون. فقلنا إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين.

لم يتوقف اليهود عن السؤال، وطلبوا علامات أُخرى للبقرة. ولما كانوا يشكون أن الله تعالى يريد بقرتهم المعظمة، قرروا في نفوسهم أنهم إذا أُمروا بذبحها فسيذبحون…

بعد سلسلة من أسئلة لا داعي لها لدليل واضح على أن أفكار الشرك بصدد عجل معين كانت تولدت في نفوسهم. ثم إن اتخاذهم العجل إلهًا عند ذهاب موسى إلى الجبل دليل آخر يؤكد ذلك. ومن الثابت في تاريخ المصريين أنهم كانوا يعبدون العجل الحي ويعبدون تمثاله أيضًا. وكذلك بنو إسرائيل عبدوا العجل تمثالاً ثم أضمروا عبادته حيًّا…

وقوله تعالى (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) (البقرة: 72) أي كادوا لا يذبحون ذلك العجل لشدة حبهم له.. لأنهم تحت تأثير المصريين ظنوا أنه متصف بقدر من الألوهية.

ما أكثر أحكام الله تعالى حكمة! لقد أباح الله تعالى للمسلمين ذبح البقرة كغيرها من الماشية للقضاء على الشرك المتعلق بها والموجود في بعض بلاد العالم حتى اليوم. وللأسف أن بعض المسلمين في البلاد التي تقدس فيها البقرة، كالهند مثلا، يبدون على استعداد للتخلي عن هذا الحق المشروع بدون أي نفع ديني، وهناك غيرهم الذين يخرجون بهذه الحيوانات المعدة للذبح في احتفال يجرح شعور جيرانهم من أتباع دين آخر. وكلا العملين باطل غير جائز. على المؤمن إصلاح نفسه، ولا يجوز له إيذاء جاره. ما أنصف ما قدمه مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية من اقتراح إلى الجيران من أتباع الديانات الأُخرى كالهندوس.. يقول في كتابه (رسالة صلح): بأننا نعتبر صلحاء الهندوس (كرشنا) و (رام شندرجي) من أنبياء الله تعالى بحسب تعاليم القرآن الكريم. ولو أن الهندوس احترموا رسولنا محمدًا ﷺ لضحينا لهم مقابل ذلك وامتنعنا عن ذبح البقر في بلادهم. ولكن الأسف أن الهندوس لم يقبلوا هذا العرض المنصف.

قصة قتل النفس:

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة: 73)

قوله (نَفْسًا) يعني نفسًا عظيمة أو نفسًا غير معروفة، لأن التنوين يفيد المعنيين. وتخاطب الآية قوم اليهود وتقول تذكروا:

  1. عندما قتلتم نفسًا عظيمة أو أردتم قتلها.
  2. أو عندما عاونتم على قتل أو محاولة قتل إنسان عظيم وساعدتم غيركم على هذه الجريمة.
  3. أو عندما قتلتم أو أردتم قتل إنسان ما. ثم أخذتم تتنصّلون من الجريمة ورمى بعضكم بعضا بارتكابها، أو أنكرتم معرفتكم بالقتل والقاتل.

وأضعف هذه المعاني قتل إنسان مجهول، لأن اليهود كقوم ما كان لهم مأرب في قتل إنسان لا أهمية له، ولا معنى لأن يختلفوا في قتله. فيبدو أن المراد من (نَفْسًا) شخص عظيم لم يذكر اسمه لأنه بنفسه متبادر إلى الذهن.

سوف يهتك الله تعالى سر القاتل ومن تآمر على قتله، ويمكن أن يعني أيضًا أن الله تعالى سوف يظهر العناد والبغض المكتوم في صدور القاتلين الذى دفعهم إلى جريمتهم.

(فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة: 74).

يعني بادىء النظر: هكذا يُحي الله الموتى الحقيقيين ويرجعهم إلى الحياة الدنيا. ولكن هذا المعنى خلاف للقرآن، ولذلك فهو غير مقبول؛ لأنه يقول بأن الموتى الحقيقيين لا يرجعون إلى الدنيا.

ويمكن أن يعني: كذلك يُحي الله الذين يشبهون الموتى، أو كذلك يقيم الله كرامة الموتى ويحفظها، أو كذلك يحفظ الله الناس من الهلاك. والمعنيان الأخيران يصدقهما القرآن أيضًا حيث قال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ )(البقرة: 180).. أي أيها العقلاء إذا عاقبتم القاتل بعقوبة مناسبة لقلّت جرائم القتل في المستقبل، وأُنقذت أرواح كثيرة من الهلاك. وبحسب هذه المحاورة القرآنية يعني إحياء الموتى هو إنقاذ من يحتمل قتله. وفي القصاص حياة بمعنى أن كرامة القتيل لا تضيع وإنما تبقى قائمة محفوظة تزيل من قلوب أهله البغض والشحناء، لأنهم يرون بدون قصاص أن فقيدهم أُهين وأُذل. وهذا الأسلوب موجود عند العرب. قال الشاعر الحارث بن حِلِّزة من أصحاب المعلقات:

إنْ نبشتم ما بين ملْحَةَ فالصَّا        قِبِ فيها الأمواتُ والأحياءُ

يريد.. أيها الأعداء، لو نبشتم بين ملحة والصاقب لوجدتم هناك أمواتًا وأحياء. أي نحن قوم أهل شجاعة وحمية، كلما قتلتم منا قتيلاً أحييناه بأخذ ثأره منكم. أما قتلاكم فهم أموات لأنكم لم تستطيعوا أخذ ثأرهم منا.

وبناء على هذا يعني قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى) أنه ﷻ يُحي من يموت في سبيله بأخذ ثأره من القاتل.

أما المعنى الأول بأنه يُحي من يكون حاله كحال الموتى فهو كثير في الأساليب المستخدمة في الحياة اليومية. فنطلق اسم الشيء على شبيه له. فمثلاً إذا أُصيب أحد بجرح كبير وتألم كثير يقول: لقد مِتُّ، والمعنى أني قد صرت كالميت من الألم والتعب. فيمكن أن يكون معنى الآية: هكذا يُحي الله الذين يكونون كالموتى، ولم يبق أمل في حياتهم، تجزم العلوم الدنيوية بهلاكهم ولكن الله تعالى ينقذهم بفضله.

والحادث المذكور في هذه الآية والتي قبلها يتعلق عند المفسرين بقتيل من بني إسرائيل. وبيان هذا أن شخصًا قتله أخوه أو ابن أخيه. فأمر الله تعالى بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، وقد مرّ ذكر ذبحها، ثم أمر بضرب القتيل ببعض أجزائها، وقد اختلف المفسرون كثيرًا في هذا البعض، وعندما ضربوه بجزء منها قام القتيل حيًا وأخبر عن قاتله (تفسير فتح البيان).

ولا نرى داعيًا للدخول في التفاصيل المختلفة التي أوردها المفسرون حول اسم القاتل والمقتول وسبب القتل وأين وجدت الجثة وما إلى ذلك، لأنها كلها من اجتهاد المفسرين ولا أساس لها من القرآن والحديث. ومن أجل ذلك، وبعد ذكر هذه الراويات قال ابن الأثير: (والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها ولكن لا تصدَّق ولا تكذَّب. فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا)(تفسير ابن كثير) وقد قال صاحب (فتح البيان) عند ذكر أجزاء هذه البقرة: (ولا حاجة إلى ذلك مع ما فيه من القول بغير علم ويكفينا أن نقول: أمرهم الله تعالى أن يضربوه ببعضها).

الحق أن القرآن صريح، وتعاليم الإسلام لا تقبل هذه الروايات وإن كانت منسوبة إلى بعض الصحابة. يقول المفسرون أن الله تعالى أمر بذبح البقرة بعد حادث قتل النفس للعثور على القاتل، ولكن القرآن ذكر حادث ذبح البقرة أولاً، ثم ذكر حادث قتل النفس بعده. والقرآن الكريم كتاب الله تعالى، وهو يفوق كل المعايير الإنسانية للفصاحة والبلاغة. وليس هناك إنسان، وإن كان بسيط العقل.. يقبل الحادث بالترتيب الذي يقول به المفسرون. فلو أن أحدًا ذكر الحادث لقال: أُذكروا عندما قتلتم نفسا واختلفتم في قتلها فأمرناكم بذبح بقرة وضرب القتيل بشيء منها، وعندما فعلتم ذلك قام القتيل حيًّا. ولكن القرآن الكريم ذكر الحادث بترتيب معاكس. فلماذا يقول المفسرون أن البقرة ذبحت للتعرف على القتيل؟ إن مثل هذا الترتيب المعكوس لا يليق بكتاب من صنع البشر، فما بالك بكتاب هو من وحي الله تعالى.. وهو القمة في الفصاحة والبلاغة؟!

فمجرد القول بالتأخير والتقديم بدون ذكر حكمة قول غير كاف ولا يعتد به؛ وإلاَّ لزم بأن هذا الجزء من القرآن خال من الحكمة.. إذ قدّم وأخّر بلا مبرر. إن حادث ذبح البقرة أهم من حادث القتل وكان لا بد من هذا الترتيب، وهذا ما فعله القرآن الكريم. فثبت أن حادث ذبح البقرة منفصل تمامًا عن حادث قتل النفس.

ثم إن القرآن قد استأنف حادث ذبح البقرة بقوله: (إذ)، وكذلك بدأ ذكر حادث قتل النفس أيضًا بقوله (إذ)، كما فعل في بداية ذكر كل حادث مرّ ذكره في الآيات السابقة، وكلها أحداث مستقلة منفصلة عن بعضها. وهذا دليل بيّن على أن هاتين الحادثتين منفصلتان.

ومما يؤيد رأيي أيضًا أنه لا معنى لضرب القتيل لإحيائه بجزء من جسم البقرة، فلو أراد الله تعالى إحياء القتيل كمعجزة ما كان هناك داع لذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها، وإنما كان يمكن إحياؤه بدعاء موسى.. بمثل ما يظن خطأ عامة المسلمين أن عيسى كان يُحي الموتى بدعائه. وإذا قيل إن هناك أثراً طِبيًّا في لحم البقر يساعد على إحياء الموتى فنتساءل لماذا لا يظهر هذا الأثر الآن. وإذا قيل إن هذا الأثر الطبي كان في ذلك النوع الخاص من البقر فنسأل: لماذا أمر الله تعالى أولاً بذبح أي بقرة؟ ولم لم يأمر بذبح البقرة المطلوبة منذ البداية؟ ثم إنه ليس من الصعب العثور على مثل هذه البقرة ليجربوا عليها بحسب عقيدتهم؟

وما دام هذا المعنى الذي يسوقه المفسرون يعارض العقل، ويخالف ما ورد في التوراة، ويخل بالترتيب القرآني اللطيف، ويتعارض مع تعاليم القرآن الصريحة، ولا يسانده قول من رسول الله ﷺ. فلم يبق لنا إلا طريق وحيد.. ألا وهو الفصل بين الحادثين ونبذ قول المفسرين هذا والنظر في تفسير الآية من منظور آخر.

ولو أننا سلمنا بآراء المفسرين جدلاً، فأيضًا لا نستطيع تفسير الآية بأن القتيل عاد إلى الحياة بضربه بجزء من جسم البقرة ثم أخبر باسم القاتل، وإنما نقول بأنه حدث هنالك شيء عند ضرب القتيل عُرف به القاتل. وهذه حيلة علّمها الله تعالى للعثور على القاتل.

وهذا ما ذكره سيدنا المهدي والمسيح الموعود ؏، في كتابه (إزالة أوهام). ولكن كما يبدو من السياق فإنه ذكر هذا المعنى استدراجًا للمعارض من طريق قريب، ولم يسلم معه بإحياء الموتى موتًا حقيقيًا لأن الآية لا تذكر ذلك، بل قال: إذا قبلنا قولك جدلاً فإنما تعني الآية فقط أنه بضرب القتيل حدث شيء عُرف به القاتل.

أقول: في بلادنا أيضًا يضع الناس صبغا أسود على شيء داخل غرفة، ويطلبون من المشتبه فيهم أن يدخلوا ويلمسوا هذا الشيء. فمن التصقت يده بذلك الشيء فهو السارق. ويفعل ذلك الجميع ما عدا السارق فإن يدخل ولا يلمسه، ومن ثم لا يكون الصبغُ الأسود على يده، فيُعرف. بمثل هذه الحيلة مع البسطاء يمكن اكتشاف الجاني. ولعل موسى ؏ اتبع حيلة كهذه بتوجيه من الله لاكتشاف القاتل؛ أو أنه عندما ضرب القتيل بجزء من البقرة أخذت الرعدة القاتلَ خوفا فعُرف. أو أن القتيل عندما ضرب تحرك جسده فظن أن القاتل أنه سينهض حيًّا فغُشي عليه خوفًا أو اعترف بنفسه. ومع ذلك لا يعني هذا أن القتيل بالفعل قام حيًّا وأخبر بالقاتل، وإنما أخذنا بهذا المعنى على سبيل الافتراض لنجنِّب القرآن الاعتراض والتناقض. وإلا فإني أرى أن هذه الآية تتحدث عن موضوع منفصل مستقل عن الآية السابقة.

…أرى أن آيتنا هذه .. تقول: إنكم صنعتم ما صنعتم من المعاصي والجرائم في زمن موسى، واليوم عندما هيأ الله لكم فرصة أُخرى للتقرب إليه. إذا بكم تصرون على شروركم الماضية، وتتآمرون لقتل نفس عظيمة، ثم ترفضون تحمل مسئولية هذه الجريمة وتحاولون التنصل منها؛ ولكن مكائدكم هذه لن تغنيكم من الله شيئًا، لأنه يعلم رؤوس الشر والفتنة وسيهتك سرهم.. أي علم الله تعالى أن كعب بن الأشرف هو الذي يتولى كِبْرَ هذه الفتنة، ولسوف يهييء الأسباب لينال العقاب على بعض جرائمه.

قال الله تعالى (قتلتم نفسًا)، ولكن الأحداث التي ذكرتها تبين أنهم أرادوا قتل الرسول ﷺ ولم يقتلوه فعلاً! وسبب ذلك أن كلمة القتل لا تعني فقط القتل الفعلي بل تعني أيضًا إرادة القتل ومحاولته والتدبير له.. فالقتل هنا بمعنى إرادة المصريين لقتل موسى ؏، وهو المراد في آيتنا هذه.. لأنهم قد حرضوا على قتل هذه النفس العظيمة، ودبروا لذلك بطريقة كأنهم أوشكوا على قتله فعلا. ثم إنهم كانوا فعلا قد قتلوا نفسًا مسلمة.. وإن كانت نفس واحد من عامة المسلمين، ولكن الغرض الحقيقي من قتلها أن تثور فتنة حتى يتمكنوا من قتل نبينا محمد ﷺ.

بعد هذا التمهيد نفصل تفسير الآية الكريمة. المخاطبون في قوله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا) (البقرة: 73)، هم اليهود. والمراد بالنفس هو الرسول ﷺ أو الشخص أو الأشخاص الذين قتلهم اليهود تمهيدًا لقتل الرسول ﷺ. (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) أي أنكرتم تآمركم وتخطيطكم لإغتيال النبي ﷺ أو اختلفتم في قتل المسلم الذي قتلته جماعة منكم ثم أنكر كل واحد منها مسئولية القتل.

إن الذي حرضكم على قتل هذا المسلم أو على قتل النبي ﷺ سوف يفضحه الله تعالى؛ أو أنكم في الظاهر تشببون بالمسلمات وتنتهكون حرمتهن وتهاجمون المسلمين، ولكن هدفكم الأبعد هو قتل النبي ﷺ ولسوف يظهر الله تعالى هذه الخطة الشريرة التي تدبرونها. فإن كنتم اليوم تحاولون إخفاء وإنكار خطتكم هذه، وتتهربون من القرائن الدالة عليها. فلسوف تكشف الأحداث عن ذلك كشفا تاما.

وبالفعل كشفت الأحداث فيما بعد عن نوايا السوء هذه لليهود. فقد دعا يهود بني النضير النبيَّ  ﷺمرة للحديث معه في بعض المسائل الدينية، وكان خطتهم أن يغتالوه عندما تسنح فرصة لذلك، ولكن الله تعالى حماه من ذلك حيث أطلعه على تدبيرهم. فغادر موقعه الذي كان سيلقون عليه صخرة من أعلى الجدار (أبو داود، كتاب الخراج، باب خبر بني النضير).

ثم إن يهودية من خيبر دعته للطعام، وقدمت له كتف شاه مسمومة. وما أن تناول النبي ﷺ منه لقمة حتى أخبره الوحي بذلك، فلفظها. وكان معه مسلم آخر أكل منها لقمة فمات (السيرة النبوية لابن هشام، المسير إلى خيبر).

وهكذا يتضمن قوله تعالى نبأ غيبيًّا بأنهم لن ينفكوا في تآمرهم وسوف يفضحهم الله ويكشفهم متلبسين.

قوله تعالى (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) (البقرة: 74) أي قلنا هاجموا بالسيف هذا الذي يريد قتل محمد ﷺ أو يمهد لقتله بقتل أحد المسلمين، واقتلوه بسبب بعض جرائمه. لأن عقوبة جرائم كعب بن الأشرف لا تتم في هذه الدنيا، ولا يغطي قتله كل العقوبة، بل إنه ليستحق على جرائمه عذابًا في الآخرة أيضًا..لأن القرآن الكريم يصف عقوبة جريمة القتل العمد قائلاً: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) (النساء: 94).

ومن الثابت أيضًا في القرآن الكريم أن القاتل يُقتل أيضًا. فالقاتل إذًا له عقوبتان: الإعدام في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة. فكأن الله يقول هنا: عاقبوه عقاب الدنيا بقتله، أما بقية عقابه فسيكون بعد موته. وأما قولنا بأن قوله تعالى (ببعضها) تقديره ببعض جرائمه.

وقوله تعالى (كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى) (البقرة: 74) يعني أن الأعداء يريدون إهلاك أنبيائه وجماعاتهم، لكنه تعالى بحسب وعده مع الإنبياء يحفظهم منهم، وعندما يكونون في نظر العدو في عداد الموتى يكتب الله لهم حياة جديدة. فمن سنّة الله المستمرة أنه لا يسمح للعدو بالنجاح في قتل النبي الأول والنبي الأخير في سلسلة النبوة للأُمة، لأنهما النموذج الحقيقي للإحياء القومي. فقد كان موسى هو الحلقة الأولى من سلسلة النبوة للأُمة الموسوية، وكان عيسى الحلقة الأخيرة منها، والإحياء القومي الذي تم لبني إسرائيل على أيدي هذين النبيين لم يتم مثله على يد سائر أنبيائهم. ثم إن قوله تعالى إشارة إلى الإحياء العام الذي يتم في العالم بالنبي الأول والنبي الأخير من أية سلسلة، وتخبر الآية أن أعداءهما يبادون لأنهم لو لم يهلكوا لا يتم إحياء الدنيا. ومن ثم فلا اعتراض على هلاك الأعداء وقتلهم، بل الاعتراض على بقائهم.


لقراءة الفصل التالي من هنا: حقيقة إسراء موسى عليه السلام ولقاءه مع العبد الصالح

One Comment on “قصة المن والسلوى وطعام بني اسرائيل، تفسير ذبح البقرة وقتل النفس”

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
    أولا جزاك الله خيراً ونفع بك
    ثانياً بالنسبة لإدعاء سيادتك خطأ فى تفسير المفسرين برفع الجبل … أى أنه ظله، أظنه تسرع منك لأن فى الأعراف لفظ نتقنا يوضح المعنى المراد الذى التبس عليك.
    وأما من يطعن فى الإسلام فقد ذكرت أن الوحى أو القدرة الإلهية غير مقيدة بالعلوم البشرية القاصرة على مفاهيم قاصرة من مخلوقات محدودة القدرات .
    وبالتالى لا إشكال بإذن الله تعالى،والله أعلم.
    شكراً لإتاحة المساحة للتعليق.

Comments are closed.