من هم قوم لوط؟

يقول الله تعالى إن قوم لوط كذّبوا المرسلين، وهذا إشارة إلى أن لوطًا عليه السلام كان -ككل نبي- ممثلاً عن الرسل كافة، وكان إنكاره بمثابة إنكارهم جميعًا.

قال لوط عليه السلام لقومه لقد جئتكم من الله تعالى كرسول أمين، فاتقوا الله وأطيعوني لتحظوا بالنجاة. ولا أسألكم على ذلك أجرًا، إنما أجري على الله رب العالمين. لقد جئتكم لأعظكم بترك السيئات والعمل بأحكام الله تعالى. وإن من أفظع سيئاتكم أنكم تمارسون الشذوذ مع الذكور، معرضين عما شرع الله لكم من علاقات بين الرجل والمرأة إشباعًا للرغبة الجنسية ولخلق المودة والألفة. وتصرُّفكم هذا دليل على أنكم تخالفون الفطرة الإنسانية.

فتضايقَ القوم وهدّدوا نبيهم قائلين: لئن لم تنته، يا لوط، سوف نطردك من أرضنا. فقال: افعلوا ما شئتم، فإنني أكره أعمالكم السيئة كراهة شديدة، وأدعو الله تعالى أن يُنجيني وأهلي منها.

لقد علّمنا الله تعالى هنا درسين: أوّلهما أن الدعاء للنجاة من العمل السيء أهمّ من الدعاء للنجاة من العذاب. وثانيهما: أن على المرء أن يكره الأعمال السيئة دائمًا وليس أن يكره صاحبها ويعاديه. هذا الأمر هامّ جدًّا لإصلاح الأخلاق، وقد ركز عليه الإسلام تركيزًا خاصًّا وفرّق بين السيئة ومرتكبها. إنه أمرنا أن نقضي على السيئة، ولكنه لم يقل أن نقضي على مرتكبها، وإنما جعل بين الأمرين حدًا فاصلاً، ونهانا عن تجاوز هذا الحد. يقول الله تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 3)، أي ينبغي ألا يُعميكم عداء قوم فلا تُنصفوهم وتظلموهم. كلا، بل من واجبكم أن تلتزموا بالعدل والإنصاف في حقهم أيضًا، وإلا فتسقطون من مقام التقوى. ويقول الله تعالى أيضًا: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 9). إذًا فالإسلام يوصينا أنكم إذا رأيتم من فرد أو قوم ما يتنافى مع الصلاح والورع فعليكم أن تَكرهوا فعله هذا، ولكن يجب أن لا يمنعكم هذا من إسداء المعروف إليه، إذ لو ماتت هذه العاطفة فيكم أصبحتم غافلين عن إصلاحه أيضًا. وكان لوط عليه السلام متحلّيًا بهذا الخلق العظيم، فقال لقومه إني أسعى جاهدًا لإصلاحكم ولكني أكره أعمالكم السيئة كراهة شديدة، حتى إني أدعو الله ﷻ أن يحفظني وأهلي، الماديين منهم والروحانيين، من سيئاتكم.

الغريب أن القرآن الكريم قد أثنى على سموّ أخلاق لوط عليه السلام حيث قال الله ﷻ عنه: (وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا) (الأنبياء: 76)، ولكن التوراة تتهمه بتهمة شنيعة للغاية بأنه زنى بابنتيه (التكوين 19: 30-38)، بل تزعم التوراة أن إحداهما ولدتْ، نتيجة لهذه العلاقة غير الشرعية، ابنًا اسمه “موآب” الذي صار أبًا لقبيلة “الموآبيين”، بينما ولدت الأخرى ولدًا اسمه “بن عمي” الذي كان أبًا لقبيلة “بني عمّون”. وكأن التوراة تتهم لوطًا عليه السلام وابنتيه بالزنى من ناحية، ومن ناحية أخرى تقول إن الله ﷻ أنعم على هذين الابنين غير الشرعيين للوط بفضل كبير وبركة عظيمة فأخرج منهما ذرية كثيرة حتى صار كل واحد منهما مؤسس قبيلة كبيرة! هل من الممكن، يا ترى، أن يبارك الله ﷻ في نسل لوط هذه البركة العظيمة لو كان كما وصمته التوراة؟ كلا، بل الحق أن أحد بيانَي التوراةِ المذكورَين أعلاه يمثّل شهادة عَملية من الله ﷻ على بطلان هذه التهمة البشعة. ثم إن القرآن الكريم الذي نـزل ككتاب مبين جاء وصرح أن لوطًا كان من عباد الله المقربين وكان منـزهًا عن جميع السيئات والمنكرات التي كان قومه منغمسين فيها، بل كان يدعو الله ﷻ أن يعينه ويحميه وأهله مما يعمل قومه من المساوئ والمنكرات.

فاستجاب الله ﷻ دعاء لوط عليه السلام ونجّاه وأهله، إلا زوجته العجوز التي حل بها العذاب إذ كانت من الغابرين. وأن الغبر يعني الحقد أيضًا، وعليه فقوله ﷻ: (إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ) يعني أن زوجة لوط عليه السلام كانت تضمر الحقد تجاه تعاليمه وتعاديه، فلما جاء العذاب كانت من الهالكين. تقول التوراة من جهة إن زوجته كانت من الناجين، بل تقول إن الملائكة أمسكوا بيد لوط وزوجته وابنتيه وأخرجوهم من المدينة لأن الله ﷻ تفضَّل عليه (التكوين19: 16)، ومن جهة أخرى تقول التوراة إن زوجته نظرت إلى الوراء أثناء خروجها من القرية فصارت عمودَ مِلحٍ (التكوين 19: 26).

وأقول أوّلاً: فيما يتعلق بتحوُّل إنسان حي إلى عمود مِلح نتيجة نظره إلى الوراء فهو أمرٌ لا يقبله عاقل إلا أصحاب التوراة. وثانيًا: إذا كان الله ﷻ يريد إنقاذ زوجة لوط من العذاب فلماذا حوّلها إلى عمود ملح؟ وثالثًا: ما دام الله ﷻ كان يعلم أن زوجة لوط ستهلك بعد خروجها من القرية بعدة خطوات فلماذا أخرجها من القرية أصلاً؟ إن هذه البيانات المتناقضة تدل صراحة على أن الأيدي البشرية قد عبثت بالتوراة مما جعل روايتها لا تصلح للثقة والاعتبار، وإنما الحق ما بيّنه القرآن الكريم بأن زوجة لوط عليه السلام كانت من معارضيه، ولذلك لما جاء العذاب أهلكها أيضًا. يقول الله ﷻ في مكان آخر من القرآن الكريم: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً) (الحِجر: 75)، أي جاء زلزال عنيف جعَل الأرض الحجرية تتطاير إلى السماء ثم تسقط عليهم. إذًا فنـزل عليهم مطر الحجارة التي أهلكتهم بدلاً من أن ينـزل عليهم الماء مطرًا. وهذه الظاهرة تُشاهَد عند الزلازل العنيفة جدًا، حيث تتطاير قطع الأرض إلى السماء، ثم تسقط ثانية. لقد كانت هذه أيضًا آية، ولكنها كانت لمن بعدهم، أما قوم لوط عليه السلام فلم يؤمنوا.

يتضح من التوراة أن لوطًا كان ابن هاران الذي كان أخًا لإبراهيم عليه السلام، وكان من مدينة “أُور”، وهاجرَ مع إبراهيم إلى فلسطين، ثم هاجر من عند إبراهيم، واستوطن في قرية “سدوم”. (تكوين 11: 27، 31، تكوين: 13: 12)

… يبدو من قوله تعالى: (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أن الحضارة كانت مزدهرة في زمن لوط عليه السلام، وكان قومه متجاسرين على ارتكاب الفواحش في المجالس غير مستنكرين إياها، شأن أهل أوروبا وأميريكا الذين قد انتشرت فيهم الخلاعة والمجون على نطاق واسع، فلا يرون عيبًا في عناق النساء وتقبيلهن في الأماكن العامة وارتكاب الزنا في الحدائق العامة. لم يرتدع قوم لوط عليه السلام عن تصرفاتهم رغم نصحه، بل تحدّوه وقالوا: ائتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين. فلم يجد لوط بدًا من أن يدعو الله تعالى ويقول ربِّ انصرْني على هؤلاء القوم المفسدين.

ضيوف سيدنا لوط  عليه السلام

عندما وصل الرسل إلى قرية لوط عليه السلام دعاهم إلى بيته، ولكنهم لم يقبلوا دعوته، كيلا يشقوا عليه ويسببوا الحرج. ولكنه ألحّ عليهم فأصرّوا على الإنكار، فاستاء من ذلك وتضايق، وهذا ما يذكره الله هنا، ليكشف لنا ما كان يتحلى به نبيه من خُلُق إكرام الضيف، وليس في ذلك -كما ظن البعض- أدنى إشارة إلى بخله وسوء خلقه.

لما وصلت رسل رب العالمين إلى لوط تضايقَ برؤيتهم لأن قومه كانوا قد نهوه عن استضافة الغرباء، حيث ورد في القرآن الكريم في مكان آخر قول معارضي لوط: (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) (الحِجر: 71)، أي ألم نمنعك من إحضار المسافرين الغرباء إلى بيتك؟ ذلك أن المدن في ذلك الزمن كانت صغيرة وبعيدة بعضها عن بعض، وكان الناس يخافون إحضار المسافرين الأجانب مخافة أن يتآمروا عليهم فينهبوهم. وحيث إن أهل سدوم كانوا قُطاع طرق وكانوا يرون أن الآخرين أيضًا صعاليك مثلهم، فكانوا لا يسمحون للمسافرين الغرباء بالإقامة بينهم، خشية أن يفتحوا المدينة ليلاً فيُفاجئهم العدو بالهجوم. وكان لوط عليه السلام إنسانًا مضيافًا، فكان يأتي بالمسافرين إلى بيته مخافة أن يتعرضوا للنهب إذا باتوا في الخارج، وكان قومه ينهونه عن ذلك؛ فلما جاء بالرسل ثار قومه غضبًا وأَتوه مسرعين، فتأذى لوط بسبب ضيوفه وخاف أن يُخزيه قومه أمامهم، فقال له الرسل: (لا تَخَفْ)، أي لا داعي للخوف الآن لأن الله تعالى قد قرر هلاكهم. ولكن كان طبيعيًا أن يحزن لوط عليه السلام بهلاك قومه، فطمأنوه وقالوا له: (وَلا تَحْزَنْ)، أي لا حاجة للقلق على هلاكهم لأن الله تعالى لن يضيع بذرة الخير، بل سينجيك وأهلك جميعًا من العذاب إلا امرأتك، وبالتالي ستنمو هذه البذرة وسيخضَرّ زرع الخير والصلاح في الدنيا.

وقد نسب الرسل إنقاذ لوط عليه السلام من العذاب إلى أنفسهم فقالوا: (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ)، وذلك لأنهم كانوا قد أُرسلوا إلى لوط من عند الله تعالى ليأخذوه وأهلَه إلى مكان آمن من العذاب.

ثم نسبوا إهلاك قوم لوط أيضًا إلى أنفسهم، فقالوا: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)، أو قولهم في مكان آخر: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) (الذاريات: 33-35) لا يعني أنهم سيُنـزلون العذاب، وإنما يعني إخبارهم بخبر العذاب بناءً على وحي الله تعالى وبأن لوطًا ومعظم أهل بيته سينجون من العذاب، بينما يهلك أعداؤه. أما العذاب فلم يُنـزله عليهم إلا الله تعالى كما صرح في قوله: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) (هود: 83-84)، كما نسب تعالى هذا العذاب إلى نفسه في هذه السورة فقال: (وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الآية: 36). فهذه الآية صريحة في أن الله تعالى هو الذي أنـزل عليهم العذاب، أما الرسل فلم يُنـزلوا العذاب وإنما جاءوا ليخبروا لوطًا بقرب نـزول العذاب على قومه. لو كان الرسل هم الذين أنـزلوا العذاب لما قال الله تعالى إنا تركنا من خلال هذا العذاب آية بينة لقوم يعقلون، لأن الرسل لو كانوا أنـزلوا العذاب فهم الذين تركوا هذه الآية وليس الله تعالى. فثبت أن قوله تعالى: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) وما شابهه من الآيات لا يعني أن الرسل أنـزلوا العذاب، بل المراد أنهم أتوا بخبر العذاب على أهل تلك القرية، أما العذاب فلم يُنـزله إلا الله تعالى.

لماذا استبشر قوم لوط بقدوم ضيوفه؟

إن لوطًا عليه السلام خاف على الرسل أن يتعرض لهم قومه بمكروه، لأنهم كانوا أشرارًا بالعموم. ولا نعني بالشر هنا شرًّا جنسيًا كما زعم بعض المفسرين، إذ قالوا بأن الرسل كانوا ملائكة تمثّلوا للقوم على صور فتيانٍ مُرْدٍ ذوي جمال وبهاء، وعندما رآهم قوم لوط أعربوا عن سرورهم وجاءوا مسرعين لفعل الفاحشة بهم. لكن هذا الظن باطل كليةً، لأن الله تعالى قد وضح الأمر في موضع آخر من القرآن الكريم حيث يحكي قولهم للوط (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) أي ألم نمنعك من اصطحاب الأجانب إلى قريتنا. فلو كانوا فرحين بمقدمهم وهم يضمرون الفاحشة بهم لكانوا قد ألحّوا عليه بإحضار المسافرين إلى القرية بكثرة، ولكنهم على النقيض من ذلك يقولون له في غضب: ألم نمنعك من إحضار الغرباء. ولو قيل: لقد ورد في مكان من القرآن الكريم (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ)، أي جاءه قومه فرحين بقدوم الأجانب لأن الفرصة قد سنحت لفعل الفاحشة بهم، فالجواب: إنهم لم يفرحوا بنية الفاحشة بهؤلاء الضيوف، وإنما فرحوا لأنهم وجدوا في ذلك حجة يبررون بها معاقبة لوط، حيث قالوا: اليوم قد وقع هذا في قبضتنا وسوف نسوي الحساب معه.

ما هو تفسير: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)

وكان سيدنا لوط يكرم الضيوف عملاً بسنة الأنبياء عليهم السلام، فكان يستضيف المسافرين في بيته خَشية أن يسلبهم القوم إذا باتوا في الخارج. وكان قومه ينهونه عن ذلك، فعندما جاءه الرسل هذه المرة استشاطوا غضبًا لمخالفة أوامرهم، وفرحوا واستبشروا أنهم وجدوا فرصة لمعاقبته ولحل القضية نهائيًا. ولما كان لوط يعرف سوء معاملتهم للضيوف الأجانب خاف أن يسيئوا إليهم، فقال لقومه مهدئًا ثورتهم: إن بناتي هؤلاء اللاتي يعشن بين ظهرانيكم هم أطهر شهادة على براءة ساحتي، أي لا تتعرضوا للضيوف لأنكم إذا طردتموهم هكذا مهانين فسوف تجلبون عليكم الفضيحة والعار أمام الآخرين، وأما خوفكم من أنني أتآمر عليكم مع الأعداء فلا داعي لذلك، لأن بناتي هؤلاء يشكلن ضمانًا يجب أن يُطمئنكم -مع العلم أنه كانت للوط بنتان متزوجتان بين القوم- إذ تستطيعون بكل سهولة أن تنتقموا مني بمعاقبتهما، دون أن تُفتضحوا أمام العالم.

وقد هرَأَ بعض المفسرين وقالوا بأن سيدنا لوطًا عليه السلام كان قد قدم للقوم بنتين له ليشبعوا بهما رغبتهم الجنسية ولا يتعرضوا للضيوف، وقد كتبوا هذا متأثرين بما ورد في التوراة. ولكن هذا المعنى باطل تمامًا ولا يليق بشخص رذيلٍ دَعْكَ أن يصدر عن نبي من أنبياء الله الكرام، وهم أكثر الناس غيرة وحمية. الواقع أنه لا يقترح مثل هذا الاقتراح حتى من يرتكبون الفواحش عمومًا. فلا ريب أن هؤلاء المفسرين قد وقعوا في الخطأ بسبب تأثرهم بالتوراة. لأن القرآن الكريم لا يقول أبدًا بأنه قدم بناته لهم من أجل أن يفعلوا بهن الفاحشة، وإنما حاول بذلك تهدئة أهل قريته قائلاً: ما دام عيالي وأولادي يعيشون بينكم وتحت حكمكم فكيف ساغ لكم أن تسيئوا بي الظن وتعتبروني عدوًا لكم يريد التآمر مع الأعداء. فافهموا قصدي واعملوا بنصحي، فهذا خير لكم، ولا تفضحوا أنفسكم بإهانة الضيوف. ولو سلمنا جدلاً أنه كانت له بنات عذارى إلى جانب المتزوجات فلا تنحل المشكلة أيضًا، إذ ليس من المعقول أن يأتيه أهل المدينة طامعين في ضيوفه الرجال للفاحشة فيقول لهم لوط: حسنًا، فليتزوج بعضكم ببناتي هؤلاء! ولما كان سيدنا لوط شيخًا كبيرًا فقد يكون قوله هذا مجازًا، حيث اعتبر زوجات المعارضين كبناته فقال: إن بناتي هؤلاء -أي زوجاتكم- خير لكم وأطهر، فلماذا تعرضون عن الطريق السليم وتقعون في الفاحشة.

ما هو تفسير: (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ)

عندما قال لهم لوط عليه السلام إن بناتي اللاتي هن تحتكم لضمان كاف لبراءتي، فكأنما اعتبرهن رهائن عند القوم، ولكن كانت العادة الشائعة لدى هؤلاء الناس أنهم ما كانوا يرضون برهائن إناث بل بالرهائن الذكور من أولاد العدو، ولذلك ردوا عليه: لا نقبل الرهائن الإناث، وأنت تعلم جيدًا أن قصدنا من ذلك أن نمتنع عن إحضار الضيوف الأجانب إلى القرية، فقولك، احتجزوا بناتي بينكم ولا تؤذوا ضيوفي قول مرفوض. يقول بعض المفسرين بأن قولهم (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ) أيضًا يشكل دليلاً على أن لوطًا عليه السلام عرض عليهم بناته للفاحشة أو للزواج. ولكن الحقيقة أن هذه الآية تبطل زعمهم، إذ كيف يتوقع من قوم بلغوا هذا الحد في ارتكاب الفاحشة أن يفرقوا بين ما يحق لهم وما لا يحق في الأمور الجنسية الشهوانية، فقولهم (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ) إنما يشير إلى عاداتهم من أخذ الرهائن الذكور، وليس إلى ما ذهب إليه هؤلاء المفسرون.

وهنا قال لوط عليه السلام ياليت كانت بي قوة حتى أمنعكم من ارتكاب المعاصي، ولكن ليس لي عليكم سلطان، اللهم إلا أن ألوذ بربي وأطلب منه أن ينزل بكم العذاب، ولكني أؤجل هذا حتى يهتدي منكم من كان الهدى من نصيبه. غير أن القوم عندما لم يرضوا بالتماسه الحار المخلص دعا عليهم بإذن من الله تعالى. ولما علم الرسل أن لوطًا يريد أن يبتهل إلى الله لهلاك القوم كشفوا له غرض قدومهم الذي كانوا يخفونه عنه، وأخبروه بأنهم قد أتوا من عند الله للغرض نفسه أي لنخبرك أن الله تعالى قد قضى بهلاك هؤلاء القوم، ولقد أُرسلنا لنخرجك وأهلك -عدا زوجتك- من بين القوم، قبل العذاب الذي سيحل بهم في الصباح ويهلكهم عن بكرة أبيهم. فلما جاء أمر الله أهلك القوم بزلزال عنيف مدمِّر، لأن الزلزال الشديد يؤدي إلى قلب سطح الأرض، وتطاير الأحجار التي تتساقط على الأرض كالمطر. والمراد من قوله (مُسَوَّمَة) أي أنه تعالى كان قد قدّر منذ الأزل أن تتسبب هذه الأحجار في دمار هذا القوم.

كيف حل العذاب على قوم لوط؟

نزول العذاب على قوم لوط كما تصوره التوراة
نزول العذاب على قوم لوط كما تصوره التوراة

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ)  (الحجر: 66)

الإسراء يعني الخروج في أي وقت من الليل، غير أن الأقرب إلى القياس أن الرسل أشاروا على لوط عليه السلام بالخروج في آخر الليل، وتدعم ذلك كلمة (مُصْبِحِينَ) الواردة في الآية التالية. وإذا كان هذا هو المراد فكلمة (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) تكون شرحًا لآخر الليل. وكانت الحكمة في اختيار هذا الموعد هي ألا يستطيع العدو مطاردتهم. ذلك أن العذاب كان سيحل على القوم بعد رحيل قافلة المؤمنين من القرية في آخر الليل مباشرة، فما كان بإمكان أهل القرية، وقد حلّ بهم العذاب، مطاردةُ القافلة المؤمنة وإن علِموا بهروبها.

وأما قوله تعالى للوط (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) فهو دليل على عظيم رحمة الله ﷻ. ذلك أن الحماية الحقيقية من العذاب إنما تكون للنبي فقط، فما كان العذاب لينـزل بالقرية ما لم يصل سيدنا لوط إلى مأمنه، لذلك نصحه الرسل أن يكون وراء القافلة المؤمنة حتى يضمن نجاةَ كل فرد منها.

هذه الآية تشكل دليلاً قاطعًا على إيمان بضعة أفراد من أهل القرية بلوط عليه السلام، وإن كان عددهم ضئيلاً جدًّا. تزعم التوراة أنه عليه السلام لم يخرج من القرية إلا مع بنتَينِ لـه فقط لا غير (تكوين 19: 16)، ولكن القرآن الكريم يخبرنا أنه قيل للوط: (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ)، والواضح أن ضمير (هُمْ) يُستخدم لثلاثة أو أكثر من الرجال، أو لمجموعة من الذكور والإناث، إذ من عادة العرب أنهم في حالة وجود الجنسين في مجموعة يكتفون باستخدام ضمير المذكر للجنسين (انظُرْ سورة النور الآية 13). فلو لم يكن أحد من رجال القرية قد آمن بلوط ولم يخرج معه إلا بنتان له للزم أن يقال: (أدبارهما)، أو إذا كانت مع بِنتَي لوط نسوةٌ أُخَر لقيل: (أدبارهن)، ولكن يستحيل أن يقال من أجل بنتيه: (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ)؛ مما يؤكد بشكل حاسم أن القافلة المؤمنة المهاجرة من القرية كانت تتضمن رجالاً مؤمنين إلى جانب لوط وبنتيه، ولهذه المجموعة من الذكور والإناث استخدم القرآن الكريم ضميرَ المذكر (هُمْ).

بل ورد في التوراة نفسها في موضع آخر ما يؤيد موقف القرآن الكريم، حيث تقول إن الرسل لما انصرفوا عن إبراهيم تقدم إلى الرب قائلاً: أتُهلِك البارَّ مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارًّا في المدينة؟ أفتُهلِك المكان ولا تصفَحُ عنه من أجل الخمسين بارًّا الذين فيه؟ فقال الرب: إنْ وجدتُ خمسين بارًّا في القرية إني أصفح عنها كلِّها مِن أجلهم. ولم يزل إبراهيم ينقص العددَ متوسلاً إلى ربه من أجل نجاة القرية حتى قال: عسى أن يوجد فيها عشرةٌ من الأبرار؟ فقال الله ﷻ: لن أُهلكها من أجل العشرة أيضًا. وعندها لزم إبراهيم الصمت حيث أدرك أنه لا يوجد فيها حتى عشرة من الصلحاء (تكوين 18: 22 – 32).

وهذا يوضّح أن إبراهيم عليه السلام كان على علم بإيمانِ بعض أهل القرية؛ إذ كان يعيش على مسافة غير بعيدة من قرية قوم لوط، ولا جرم أن أخبارها كانت تصله من حين لآخر؛ فكيف يمكن أن يبتهل هكذا إلى ربه لنجاة القرية لو كان يعلم أنه لا يوجد فيها ولا مؤمن واحد. فثبت أنه كان يعلم بالتأكيد أن في القرية بعض المؤمنين وأن عددهم قليل جدًّا، ولأجل ذلك توسل إلى الله تعالى في البداية من أجل الخمسين، ثم ظل ينقص العددَ حتى ترك الدعاء عندما بلغ عددَ العشرة. وهذا يعني أن المؤمنين بلوط عليه السلام كانوا أقل من العشرة. ولما كان ضمير (هُمْ) يُستخدم لثلاثة وأكثر فيبدو أن عددهم كان ما بين الثلاثة ودون العشرة. وأما قوله تعالى (ولا يلتفِتْ منكم أحدٌ) فليس نهيًا عن الالتفات الظاهري، بل المراد ألا يكترثوا بالكفار ولْيَدَعوهم يهلَكوا بالعذاب.

وأما قول التوراة عن امرأة لوط بأنها “نظرتْ من ورائه فصارتْ عمودَ ملح” (تكوين 19: 26)، فلا أعلّق عليه بل أتركه لعقول اليهود والنصارى لتحكم فيه كيفما تشاء. إلا أنني أود أن أوضح هنا أن القرآن الكريم يعلن أن زوجة لوط لم تغادر القرية معه أصلاً، بل كانت من الغابرين. وإن براءة القرآن الكريم من مثل هذه الخرافات الواردة في التوراة وخُلُوَّه منها يشكّل برهانًا ساطعًا على أنه كلام الله حقًّا. أليس غريبًا أن التوراة التي هي أقرب زمنًا من القرآن إلى هذا الحادث تسجله بهذا الأسلوب الخرافي، بينما نجد بيان القرآن الكريم خاليًا من هذه الخرافة؟ وأما قولـه تعالى (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) فأيضًا يؤيد ما قلت من قبل من أن هؤلاء الضيوف الرسل كانوا من البشر الذين أخبرهم الله ﷻ بالإلهام باقتراب موعد العذاب، وأرسلهم إلى سيدنا لوط ليدلّوه على المكان الذي يهاجر إليه بعد مغادرة القرية. فيبدو أنهم بعد أن وصفوا للوط عليه السلام معالم المنطقة التي سيهاجر إليها تركوه في بيته ليستقبلوه هناك في مهجره الذي قدره الله له.

لقراءة المزيد عن قصص الأنبياء من هنا