هل للإنسان قرين من الملائكة وآخر من الشيطان؟

نعم، إذ قد هيّا اللهُ تعالى لنا جميعاً ملائكة للحفظ والتأثير النوراني من جهة الفطرة التي يأتي بها الإنسان إلى العالم مقابل هوى النفس الذي ينشأ كلما زادَ إدراك الإنسان ووعيه فيستغل الشيطان هذا الهوى من الجهة المعاكسة فيصبح الإنسان في اختبار حقيقي لا نجاح فيه بدهاء البشر بل فقط من خلال الاستعانة بالله تعالى الذي أودع في نفس الإنسان الفطرة الصالحة، أي أنَّ الصلاح هو أصل الإنسان وليس الشر لأنه يأتي لاحقاً فيصبح الأجر والثواب مضاعفاً كلما بذل الإنسان الجهد للتخلص من الشهوات والعودة إلى الفطرة الصالحة.

وقد شرح مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام هذا الأمر بكل روعة وجمال فيقول حضرته:

ملاك الرقابة الداخلية

إذا طُرح سؤالٌ: أين جاء في القرآن الكريم صراحةً أو إشارة أنَّ روح القدس يبقى مع المقربين دائماً ولا يهجرهم؟ فجوابه أنَّ القرآن الكريم زاخر بهذه التصريحات والإشارات، بل يعد كلَّ مؤمن بصحبة روح القدس؛ فمن جملة الآيات التي تصرِّح بذلك أوائل آيات سورة الطارق وهي: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}، فالآية الأخيرة منها {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} التي معناها أنَّ على كُلّ نفسٍ ملاكاً حافظاً، تَدُلُّ دلالة صريحة على أنه كما أنَّ هناك ملاكاً موكَّلاً على وجود الإنسان الظاهري لا ينفصل عنه كذلك هناك ملاكٌ موكَّل بحفظ باطنه أيضاً فيحفظه من الشيطان ويحميه من ظلمة الضلال، وهو روح القدس الذي لا يسمح بتسلُّط الشيطان على عباد الله الخواص. وهذا ما تشير إليه أيضاً الآية: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. لاحظوا كيف تبينُ هذه الآية بصراحة تامة أنَّ مَلاكاً من ملائكة الله يبقى مع الإنسان دائماً وفي كُلّ حين لِحفظه، ولا يفارقه لحظة واحدة، فهل يمكن أن يخطر بالبال في هذا المقام أن يكون هناك ملاكٌ موكَّل بالإنسان لرقابته المادية دائماً وَلَمْ يوكل برقابتة الروحانية الدائمة؟ كلا بل إنَّ أكثر الناس تعصباً أيضاً يستطيع أنْ يفهم أنَّ حفظ الباطن والروح أهمّ من حفظ الجسد، لأن ضرر آفة الجسد يقتصر على هذا العالَم، أما آفة الروح والنفس فتُلقي بالمرء في جهنم أبدية. فكيف لنا أن نزعم أنَّ الله الرحيم الكريم الذي يرحم جسد الإنسان الذي سيصبح تراباً غداً لا يرحم روح الإنسان؟ فثابت من هذا النص القطعي واليقيني أنَّ روح القدس أو قولوا إنْ شئتم “ملاك الرقابة الداخلية” يبقى مع الإنسان الصالح دائماً كما يكون معه لحفظه المادي.

لكل عبد ملاكا موكلا يبقى معه

هناك آيات كثيرة في القرآن الكريم بهذا المعنى يثبت منها أنَّ هناك ملائكة موكّلين لتربية الإنسان وحفظه الظاهري والباطني ولتسجيل أعماله ويبقون معه على الدوام. فمن جملة تلك الآيات قول الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}، {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} أيْ أن لله حافظين يرسلهم عليهم فيحفظونهم من كُلّ جانب، ظاهرياً وباطنياً أيضا. وفي هذا المقام أوردَ صاحبُ “معالم”حديثاً يفيد أنَّ لكلّ عبدٍ ملاكاً موكَّلاً يبقى معه دائماً ويحفظه في أثناء نومه ويقظته من الشياطين والبلايا الأخرى. وبهذا المعنى أوردَ حديثاً آخر برواية كعب الأحبار. وقد أوردَ ابْنُ جرير في تأييد هذه الآية حديثاً: “إنَّ معكم مَن لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم“.

قرين من الجن وقرين من الملائكة

وقد جاء في هذا المقام عن عكرمة حديثٌ مفاده أنَّ الملائكة يرافقون الإنسانَ دائماً لِحفظه من كُلّ شرّ، وعندما ينـزل القدَرُ المُبرم يهجرونه. ونُقلَ عن مجاهدٍ أنه ما مِن إنسانٍ لَمْ يُوَكَّل لِحفظه الدائم ملاك. ونُقل حديثٌ آخر عن عثمان بن عفّان يتلخص في أنَّ عشرين ملاكاً يلازمون الإنسان لأداء مهمّات مختلفة، وأنَّ إبليس يترصّد للإضرار في النهار ويترصد أبناؤه للغرض نفسه ليلا. وقد أوردَ الإمامُ أحمد رحمة الله عليه الحديث التالي: “حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَان حدثني مَنْصُور عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِيِه عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ “مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِن الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِن الْمَلَائِكَةِ. قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ وَإِيَّايَ لَكِنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ.” انفرد بإخراجه مسلم. فمِن هذا الحديث يتبين بكلّ وضوح أنه كما وُكِّل بالإنسان الداعي إلى الشر الذي يرافقه دائماً، كذلك قد وُكِّل الداعي إلى الخير أيضاً بكلّ بشرٍ لا يهجره في حال من الأحوال، بل هو قرينه ورفيقه دائما. ولو وَكَّل اللهُ تعالى بالإنسان داعياً إلى الشر فقط دون توكيل الداعي إلى الخير لوصم ذلك عدل الله ورحمه بأنه ﷻ وكّلَ الشيطانَ قريناً ورفيقًا دائماً لفتنة الإنسان الضعيف الذي ترافقه النفسُ الأمّارة سلفًا بحيث يجري منه مجرى الدم ويدخل في قلبه ليترك فيه نجاسة الظلمة ويثيرُ الشرَّ ويخلق الوساوس، وَلَمْ يوكّل به أيّ رفيقٍ لدعوته إلى الحسنة حتى يدخل هو الآخر قلبَه ويجري في الدم لكي تتساوى كلتا الكفتين. ولكن لمّا ثبت من آيات القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أنه كما وكّل اللهُ تعالى الشيطان قريناً دائماً ليدعو إلى الشر كذلك وكّل ذلك الرحيم والكريم من ناحية ثانية روح القدس بالإنسان قريناً للأبد لدعوته إلى الحسنات. وليس ذلك فحسب بل إنَّ تأثير الشيطان ينعدم تماماً في مرتبة البقاء واللقاء وكأنه يُسْلِم، ويلمعُ نورُ روح القدس إلى أقصى الدرجات. فمَن له أن يعترض عندها على هذا التعليم المقدس والأعلى إلا مَن كان غبياً أو أعمى يعيش كالبهائم فقط وليس له من نور التعليم المطهّر نصيب.

بل الْحَقُّ والواقع أنَّ هذا التعليم القرآني أيضاً يُعدّ معجزة من جملة المعجزات لأن الحُسن والاعتدال والحكمة التي حلّ بها هذا التعليمُ عقدةَ أنه لماذا توجد في الإنسان عواطفُ الخير والشر القويةُ؟! -لدرجة أنّ أنوارها أو ظلماتها تلاحَظ بكلّ وضوح في عالم الرؤيا أيضا- لَمْ يبينها أيّ كتابٍ آخر بهذا الأسلوب المحكم والصادق. وما يزيد الأمر إعجازاً هو أنه لا يتوصل المرء إلى أيّ أسلوب ناجع سواه، إذ ترِد على أساليب أخرى اعتراضات لا يمكن الخلاص منها بحال من الأحوال؛ لأن قانون الله في الطبيعة يثبت لنا بوجه عام أنَّ الفائدة التي تستمدها نفوسنا وقوانا وأجسامنا من الله، مبدأ الفيض، إنما تُستمد بواسطة بعض الأشياء الأخرى. فمثلاً صحيحٌ أنَّ الله هو الذي يهب عيوننا نوراً ولكننا ننال ذلك النور بواسطة الشمس. كذلك إنَّ ظلمة الليل التي تريح نفوسنا ونؤدي أثناءها حقوق نفوسنا تأتي منه ﷻ في الحقيقة، لأنه هو علّة العلل لكلّ مخلوق. ثم حين نرى أنَّ هناك قانوناً محدداً منذ القِدم لفائدتنا، فإننا نجدُ كُلّ فيضٍ من فيوض الله بواسطة غيرنا -وإن كنا نملك في أنفسنا أيضاً قوى لقبول ذلك الفيض- كما أنَّ أعيننا تملك نوعاً من النور لقبول الضوء، وأنَّ آذاننا أيضاً تملك في أعصابها حواس لتلقّي أصوات يوصلها الهواء إلينا، ولكن هذا لا يعني أنَّ قوانا مخلوقة بصورة مستقلة وكاملة بحيث لا تحتاج إلى مُعينات أو مساعِدات خارجية قَط. فلا نرى مطلقاً أنَّ قوة من قوانا الجسدية يمكن أن تعمل كما هو حقها بناء على مَلَكة فيها دون أن تحتاج إلى مُعِينٍ أو مساعد خارجي. فمهما كانت عيوننا حادّة البصر لكننا محتاجون إلى ضوء الشمس. ومهما كانت آذاننا مرهفة السمع لكننا مع ذلك بحاجة إلى الهواء الذي ينقل الصوت من خلاله ويوصله إلى آذاننا؛ فثبت من كُلّ ذلك أنَّ قوانا وحدها لا تكفي لإدارة آليّة بشريتنا بل نحن بحاجة إلى أنصار ومساعدين خارجيين. ولكن النواميس الطبيعية تخبرنا بأنه، وإن كان ذلك النصير والمعين الخارجي هو الله تعالى لكونه علّة العلل، ولكنه لَمْ يدبّر قَطْ أن يؤثّر في قوانا وأجسامنا بغير واسطة؛ بل بقدر ما نمعن النظر ونستخدم فكرنا وذهننا نرى بكلّ صراحة ووضوح أنَّ هناك عِلَلاً تتوسط بيننا وبين الله تعالى لنيل كُلّ نوع من الفيض، وبواسطتها تُنال كُلّ قوّةٍ فيضاً بقَدر حاجتها.

فمن هذا الدليل وحده يثبت وجود الملائكة والجِنَّة أيضاً، لأن الذي نريد إثباته هو أنَّ قوانا وحدها لا تكفي لاكتساب الخير أو الشر، بل نحن بحاجة إلى عوامل مساعدة خارجية تملك تأثيراً خارقاً للعادة، ولكن تلك الممِدَّات والمعينات ليست هي اللهُ تعالى بشكلٍ مباشر ولا تعمل دون واسطة، بل تعمل بواسطة بعض الأسباب. إنَّ مطالعة النواميس الطبيعية كشفت لنا بالقطع واليقين أنَّ تلك العوامل المساعدة موجودة في الخارج وإنْ لَمْ نعلم كنهها وكيفيتها، ولكنه مَعلومٌ يقيناً أنها ليست الله تعالى مباشرة ولا هي قوانا ولا مَلكاتنا، بل هو خلقٌ آخر غير هذا وذاك، ويملك كياناً مستقلا. وعندما نسمِّي أحدها الداعي إلى الخير فسندعوه روح القدس أو جبريل، وحين نسمّي غيره داعياً إلى الشر نسمّيه شيطاناً وإبليس أيضا. ليس ضرورياً أن نُري روح القدس أو الشيطان عياناً لكلّ قلب مظلم، وإن كان العارفون يرونهما إذ يمكن رؤيتهما في الكشوف، غير أنَّ المحجوب الذي لا يقدر على أن يرى الشيطان ولا روح القدس يكفيه هذا الدليل لأن وجود المؤثِّر يثبت بوجود المتأثِّر. وإذا لَمْ يكن هذا القانون صحيحاً فكيف يمكن العثور على وجود الله تعالى إذًا؟ هل لأحدٍ أن يُري أين الله؟ بل الْحَقّ أنه قد اعتُرف بضرورة ذلك المؤثّر الحقيقي نظراً إلى المتأثِّرات التي هي نماذج قدرته. غير أنَّ العارفين يرونه بعيون روحانية ويسمعون كلامه بعد بلوغه مرتبتهم الأخيرة. ولكن لا سبيل للاستدلال على وجوده أمام المحجوب إلا أن يؤمن بالمؤثِّر الحقيقي من خلال النظر فيما يحدث فيه التأثير. فبهذه الطريقة يثبت وجود روح القدس والشياطين، ولا يثبت فقط بل يُرى بكلّ جلاء. ولكن الأسف على الذين أنكروا وجود الملائكة والشياطين متأثرين بظلمة الفلسفة الباطلة، وبذلك أنكروا البَيِّنَات والنصوص القرآنية الصريحة، وسقطوا لغبائهم في هوّة الإلحاد. فليكن واضحاً هنا أنَّ هذه المسألة من المسائل التي لإثباتها أفردني الله تعالى في استنباط الحقائق من القرآن الكريم، فالحمد لله على ذلك.” (مرآة كمالات الإسلام)

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد

2 Comments on “هل للإنسان قرين من الملائكة وآخر من الشيطان؟”

Comments are closed.