سلسلة “المسيح يكسر الصليب بتصحيح المفاهيم” حلقة 4
أزلية النار
أثار بعض القساوسة والهندوس من أعداء الإسلام -مستغلين سوء الفهم عند عامة المسلمين- أثاروا شبهة، فقال القسس بأن أزلية نار جَهَنَّم في العقيدة النصرانية هي ذاتها في العقيدة الإسلامية، ولذلك لا يوجد حل إلا بالتسليم بصلب المسيح لتكفير الخطايا، لكي ينجو من يؤمن بهذا الفداء من العذاب غير المنقطع في بحيرة النار الأزلية. أما الهندوس الذين يَرَوْن بكل فرقهم الجنة والجحيم زائلتين، وأن الإنسان بعد زوالهما يرجع إلى الدنيا ثانية عن طريق التناسخ (أنظر: ستيارث بركاش ص569). فقد طرحوا سؤالاً حول مصير الناس الذين يذهبون إلى جهنم ببعض الآثام فقط وهي [[عند المسلمين]] بلا نهاية ولا انقطاع. أما اليهود فهم يَرَوْن أنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا، إذ لا مكان فيها لغير اليهود، وأن الجحيم شبهُ محرمةٍ على اليهود، وإذا كان لا بد من دخول يهودي فيها فإنه لن يبقى إلا لمدة أحد عشر شهرًا على الأكثر ثم يخرج إلى الجنة (أنظر: ترجمة سيل للقرآن، ص10). أما غير اليهود فهم خالدون في الجحيم بلا نهاية. وكذلك النصارى يعتقدون أن كلاً من الجنة والنار أبَديّة لا نهاية لها ولا انقطاع. (أنظر: رسالة بولس الثانية كورنثوس 5).
أما الإسلام فهو يعارض هذه النظريات كلها معارضةً شديدةً. وقد ذكر السلف الصالح هذه الحقيقة كالإمام الرازي في تفسيره والإمام ابن القيم رحمهم الله (أنظر: تفسير الرازي، وفتح البيان). وعند سماع حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام بهذه الشبهة كشف عَلَيهِ السَلام عن حقيقة العقيدة الإسلامية بطريقة واضحة ناصعة وذلك بعد أن تشوهت المفاهيم للأسف عند المسلمين. وبيّن عَلَيهِ السَلام أن الجنة أبدية وهي ثواب لزمن غير محدود من رب كريم لا حدود لكرمه، بينما ستنتهى جهنم بعد مرور زمن علمه عند الله ﷻ. (انظر: الخزائن الروحانية ج 3، إزالة أوهام ص280. وأيضًا الخزائن الروحانية، ج 22 حقيقة الوحي ص189). وقد ألف حضرته عَلَيهِ السَلام كتاباً بعنوان “عاقبة آثم” ضَمَّنَه رسالة بعربية فصيحة بعنوان “مكتوب أحمد” يفنّد فيها حضرته اعتقاد النصارى الذي تسرب إلى المسلمين وهو أن النار لا نهاية لها.
وقد كان ردَّ حضرته عَلَيهِ السَلام بليغاً مليحاً عربياً فصيحاً فنَّدَ فيه هذا الظن بأنه ليس من عقيدة الإسلام في شيء، بل هو اعتقاد باطل يسيء إلى عدل رب العالمين الذي لا يظلم مثقال ذرة، فالعدل لا يعاقب ذنباً محدوداً عقاباً غير محدود، واستدل عَلَيهِ السَلام بقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم أن ثواب الجنة لا ينقطع بينما قال تعالى عن النار بأنها فقط ما دامت السموات والأرض: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ . وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، وقال حضرته أن المجرم والناقص يلبث في مستشفى جهنم أحقاباً حتى يُعالج من مرضه ويزول نقصه فيكمل ويدخل الجنة أخيراً بعد استيفاء الذنوب والآثام برحمة الرحمن الرحيم، فيقول عَلَيهِ السَلام:
“إننا نعتقد بأن جہنم مُکمِّلۃٌ للناقصین، ومنبِّہۃٌ للغافلین، وموقظۃ للنائمین۔ وسمّاها اللّٰہ أُمَّ الداخلین، بما ترُبُّہم کالأمّہات للبنین۔ ونعتقد أن كل بصرٍ يكون يومئذٍ حديداً بعد برهة من الزمان، ويكون كل شقی سعیدًا بعد حقب من الدوران، ولا یلبثون إلا أحقابًا فی النیران، ما شاء اللّٰہ من طول الزمان، فإنّا ما أُعطِینا علم تحدیدہ بتصریح البیان، فہو زمان أبدی نسبۃً إلی ضعف الإنسان، ومحدود نظرًا علی مِنن المنّان، ولا یُترَکون کالأعمٰی إلی الأبد علی وجہ الحقیقۃ، ویکون مآل أمرهم رُحْمَ اللّٰہ والرشد ومعرفۃ الحضرۃ الأحدیۃ، بعدما کانوا قومًا عمین۔ ونعتقد أن خلود العذاب لیس کخلود ذات اللّٰہ رب الأرباب، بل لکل عذابٍ انتہاءٌ، وبعد کلّ لعنٍ رُحْمٌ وإیواءٌ، وإنّ اللّٰہ أرحم الراحمین۔ ومع ذلک لیسوا سواء فی مدارج النجاۃ، بل اللّٰہ فضّل بعضہم علی بعض فی الدرجات والمثوبات، وما یرِد علی فعلہ شیء من الإیرادات، إنہ مالک الملک فأعطی بعض عبادہ أعلی المراتب فی الکمالات، وبعضہم دون ذلک من التفضلات، لیُثبت أنه هو المالک یفعل ما یشاء، لیس فیہ إتلافُ حقّ من حقوق المخلوقین۔ ولما کان وجود اللّٰہ تعالٰی علّۃً لکل علّۃ، ومبدءً لکل سکون وحرکۃ، وهو قائم علی کل نفس، فلیس من الصواب أن یُعزَی إخلاد العذاب إلی هذا الجناب، وما کان العبد مُختارًا من جمیع الجہات، بل کان تحت قضاء اللّٰہ خالقِ المخلوقات وقیّوم الکائنات، وکان کل قوتہ مفطورۃً مِن یدہ ومن إرادتہ، فلہ دخلٌ عظیم فی شقاوتہ وسعادتہ۔ فکیف یترک عبدًا ضعیفًا فی عذاب الخلود، مع أنہ یعلم أنہ خالِقُ الشقی والمسعود، والعبدُ یفعل أفعالا ولکنہ أوّلُ الفاعلین، وکل عبدٍ صُنْعُ یدہ وهو صانع العالمین۔ وإنہ رحیم وجوّاد وکریم، سبقت رحمتُہ غضبَہ، ورِفقُہ شِصْبَہ، ولا یُساویہ أحدٌ من الراحمین۔ فلا یُفنی کل الإفناء، ویرحم فی آخر الأمر وانتہاء البلاء، ولا یدوس کل الدوس بالإیذاء کالمتشدّدین، بل یبسط فی آخر الأیام یدہ رأفۃً ویأخذ حُزْمۃً من الناریّین۔ فانظر إلی ید اللّٰہ وحزمته، هل تغادر أحدًا من المعذَّبین؟ وکذلک أشار فی أهل النار وقال قولا کریما، فیہ إطماعٌ عظیم ونسیم الإبشار، فقال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾، فانظر إلی استثنائه ببصر حدید ونظر رشید، ولا تظن ظن السوء کالیائسین۔
والعجب کل العجب من إلٰہ النصارٰی، أنہ بزعمہم صلَب ابنہ وأضاع وحیدہ کالمجنون الغَضبان، وما سلک فی المجازاۃ طریق العدل والرفق والإحسان، بل خوّف من العذاب الأبدی الذی لا ینقطع فی حین من الأحیان۔ فأین الرحم فی مثل هذا القہّار، الذی فوّض الابن المحبوب إلی الکفّار؟ وما خفّف عذابہ کالرحماء الأخیار، بل ألقی عبادہ فی جہنم لأبد الآبدین۔ زاد العذاب زیادۃ فاحشۃ مکروهۃ، ثم ادّعی أنہ قتل ابنہ لینجّی المذنبین رحمۃ، فما هذا إلا طریق الظالمین المزوّرین۔ .. وأمّا القول الأحسن الأقوم فی هذا الباب، والحق القائم علی أعمدۃ الصواب، فہو الذی بیّنہ اللّٰہ فی الکتاب لقوم طالبین۔” (الخزائن الروحانية، المجلد 11، مكتوب أحمد، الصفحات 117-124)
وهكذا يكسر المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام أعمدة الصليب واحداً بعد الآخر، فالظلم ليس من صفات الله ﷻ الرحمن الرحيم الودود اللطيف. وللاستزادة حول هذا الموضوع يمكن قراءة تفسير الآيات 107-108 من سورة هود في التفسير الكبير للمُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
للمزيد إقرأ: جهنم وحقيقة عذاب النار في الإسلام؟
بوركتم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.