أُثيرَ ولا زال اعتراض حول مسألة خلق أمنا حواء من ضلع آدم الواردة في التوراة. وقد رددنا على هذه المسألة سابقاً أنها إذا صحّت فلا تعني الخلق المادي وإنما الخلق المعنوي بمعنى أن المرأة خُلقت من نفس مزايا ومواصفات الرجل أي أن كلاهما يكمل بعضه الآخر ويحتاج ويُحبُ الآخرُ الاخَرَ من أجل ديمومة الحياة وعمران الأرض وبلوغ السعادة. ولكن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام تناول هذه المسألة ببُعدٍ أكثر عمقاً ودلالة. وفيما يلي بيان ذلك.
أولاً
كان الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام يسمّي كل نَبِيٍّ أو رأس كل سلسلة بشرية مادية أو روحية وحتى نفسه هو كان يسمي جميع ذلك بـ آدم. فليسَ المراد من آدم في كُلّ نَصٍّ آدم واحد محدد. يقول عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام:
’’لا نعرف كم مثل هذه السلسلات قد انتهت في هذه الدنيا؟ ولا نعرف كم آدم مضوا؛ كلٌّ في وقته؟!‘‘ (محاضرة مدينة لاهور)
ويقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“إنَّ الله القادر المطلق الذي كما خَلَقَ بشراً بقدرته الكاملة فجعل له نسباً وصهراً؛ فكذلك هو قادر على خلقه الروحاني؛ بِمَا أن قانون قدرته في الخلق الروحاني متشابه تماماً بالخلق المادي؛ فهو يخلق بيده إنساناً روحانياً عند الضلالة المتشابهة بالعدم؛ ثم يعطي أتباعه الذين يعدون ذريته حياة روحانية ببركة الاتباع ! فلذا الرسل جميعهم آدم روحانيون؛ وصلحاء أممهم ذريتهم الروحانية؛ وهناك تطابق بين السلسلة الروحانية والمادية تماماً؛ ولا يوجد اختلاف بين قوانين الله تعالى المادية والروحانية.” (البراهين الأحمدية، ج 4)
ويقول عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام:
“فلا شك أنَّ نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كان آدم ثانياً بل آدماً حقيقياً لمّا أقام الروحانية؛ ولمّا اكتملت الفضائل الإنسانية كلها بواسطته !” (محاضرة مدينة سيالكوت)
ويقول عَلَيهِ السَلام:
“فأرسلني الله تعالى مثيلاً للمسيح وكآدم للألفية السادسة. كما أوحى في البراهين الأحمدية ما نصه: “أردتُ أن أستخلف فخلقتُ آدم.” (إزالة الأوهام)
ثانياً
لَمْ يقل المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أن الله تعالى خَلَقَ حواء من ضلع آدم ؑ في المرحلة الحالية للخلق. بل المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام ينفي هذا الفهم ويبيّنُ أن من معاني هذا الخلق هي العلاقة الحميمة (الحب) بين الرجل والمرآة، إِذْ يقول عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام:
“وليكن معلوماً أيضاً أنَّ المراد من الضلع والعظم في كتب الله هي علاقات القرابة أيضاً، ويُفهم منها أن العلاقة بين آدم وحوّاء كانت متينة جدا. ولأننا نؤمن بالله تعالى قادراً على كُلّ شيء لذا نستبعد أن تكون حواء قد خُلقت من ضلع آدم أو آدم خُلق من ضلع حواء. إنَّ كلام الله في هذا المقام يشمل معانٍ واسعة جداً، ومعنى الآية الواسع هو أننا خلقنا الآخر من الأول.” (ينبوع المعرفة)
وينقل المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نصاً آخر للمسيح الموعود عَلَيهِ السَلام كما يلي:
“يفسرُّ النَّاسُ قول الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ النساء 2 أنَّ حواء خُلقت من ضلع آدم، وهو ما يُعتَرض عليه، في حين أنه تفسير خاطئ. لَمْ يقل القرآن الكريم أنَّ حواءَ خُلقَت من ضلع آدم بل معنى الآية أنَّ حواء خُلقت من ِجنس آدم، بمعنى أنَّ المرأة أيضاً خُلِقَت بالقوى والمشاعر نفسها التي خُلق بها آدم. لأنه لو لَمْ يكن الرجل والمرأة متجانسين في مشاعرهما لما نشأ بينهما الحُبُّ والمودّة الحقيقية. بل لو أُودع الرجلُ قوة الشهوة وَلَمْ تكن في المرأة، لتعاركا دوماً ولمَا اتفقا على أمر واحد. فلقد أَودَع اللهُ تعالى المرأةَ مشاعر مماثلة ومتجانسة لمَا أعطاها الرجل ليعيشا حياة ملؤها المحبة والمودة. لاحظوا كيف يبعث هذا الأمر على المحبة والتوافق والانسجام بين الرجل والمرأة، فلو غضب رجل على زوجه يُنصح بأن للمرأة مشاعر مماثلة لمشاعرك، فكما لا تحب أن تُجرَح مشاعرك كذلك هي أيضاً تريد ألا تُجرح مشاعرها، فينبغي أن تحترم مشاعرها أيضا.” (إنجازات المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الصفحة 76)
ولكن المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام لم يكتف بالمجاز رغم أن المعنى المذكور أعلاه هو نفسه المعنى المادي كما سيتبين في ردّه على الاعتراض حول هذه الآية، والاعتراض كان من طرف الأريا على آية {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، بل شملَ ردُّ المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أيضاً المعنى المادي للآية، فقال عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام بأن آدم أي الإنسان الأول الذي بدأ خلقه من ماء وخلايا أي قبل أن يتكاثر عن طريق النطفة عند الزواج من جنسه كان تكاثره يتم بقانون مادي آخر للخلق وهو الخلق من وجود إلى وجود، فتم الخلق من إنسان إلى إنسان آخر بهذا المعنى، فلم يكن الإنسان أو آدم هنا يعني إنسان مثل الإنسان اليوم بل عبَّرَ المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام عن مراحل خلق خُلق فيها زوج الإنسان منه ثم بعد المرور بمراحل خلق مختلفة وصلت الخلقة إلى تمامها الذي هي عَلَيهِ الآن. يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
’’فإن الأرض بجميع مخلوقاتها والسماء بجميع مصنوعاتها كانت حقيقة هوية آدم؛ كأن مادتَه انتقلت من الحقيقة الجمادية إلى الحقيقة النباتية؛ ثم من الحقيقة النباتية إلى الهوية الحيوانية؛ ثم بعد ذلك انتقلَتْ من حيث الروحانية من الكمالات الكوكبية إلى الكمالات القمرية؛ ومن الأنوار القمرية إلى الأشعة الشمسية؛ وكانت هذه الانتقالات كلها مظاهر ترقيات العالم إلى معارج الحقيقة الإنسانية.” (الخطبة الإلهامية)
ولهذا ردَّ المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام على هذا الاعتراض بأن الخلق من نفس واحدة لا إشكال فيه البتة إذا كان في القوانين الخلقية السابقة أي قبل تكاثر آدم الحالي بالنطفة. وهذا يقرُّ به العلماء وحتى المعترضين أنفسهم على أن قانون الخلق لم يكن من نطفة بل سبقه قانون آخر، فلماذا الاعتراض إذن؟ يقول عَلَيهِ السَلام:
“اعترضَ المحاضرُ على القرآن الكريم أنَّ المرأة خُلقت من ضلع آدم، وقال بأن الرجال يتولّدون من بطن المرأة على جاري العادة، أما في القضية قيد البحث فقََدْ خُلقت المرأة من الرجل وذلك من ضلع فقط. ويتكون اللحم من الدم أولاً ثم العظم، ولكن في الحالة قيد البحث تكوّن اللحم من العظم، وهذا يخالف النواميس الطبيعية. ليكن معلوما أن الآية المقصودة في القرآن الكريم هي: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا …. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} (الزمر: 7) ترى أنه لَمْ يُذكر هنا الضلع أو العظم أو غيرهما، وما جاء فيها هو أنه خَلَقَ الإنسانَ من إنسان آخر. غير أنه قد جاء فيها أن الله غَيَّرَ قانونه السابق لأن الإنسان ما كان يُخلق من النطفة في البداية بل خُلق من إنسان آخر كيلا يحدث الخلاف في النوعية. ثم بدأ بعد ذلك قانونٌ آخر وبدأ الناسُ يُخلقون من نطفة الإنسان. وإن نسخَ الله قانوناً سابقاً ليس محل اعتراض لأن الله ينسخ قانونه لتظهر للعيان قدراته مختلفة الأنواع. من معاني الآية المذكورة آنفاً أنَّ إنساناً كاملاً يتكون في الرحم بعد خلق من عدة أنواع ويُخلق في ظلمات ثلاث. (1) البطن. (2) الرحم. (3) المشيمة. وليكن معلوماً أيضاً أنَّ المراد من الضلع والعظم في كتب الله هي علاقات القرابة أيضاً، ويُفهم منها أن العلاقة بين آدم وحوّاء كانت متينة جدا. ولأننا نؤمن بالله تعالى قادراً على كل شيء لذا نستبعد أن تكون حواء قد خُلقت من ضلع آدم أو آدم خُلق من ضلع حواء. إنَّ كلام الله في هذا المقام يشمل معان واسعة جداً، ومعنى الآية الواسع هو أننا خلقنا الآخر من الأول. إذا كان عند أحد اعتراض أن الخلق من الضلع ينافي قانون الله في الطبيعة فجوابه أن الخلق من النطفة أيضاً ينافي القانون الذي ظهر للعيان في البداية بحسب مبدأ الآريين. فالذي غَيَّرَ القانون الأول وبدأ بالقانون الثاني للخلق فهل يُستبعد منه -كونه قادراً على كل شيء- أن يخلق في الخلق الأول بحسب مبدأ الإسلام إنساناً من ضلع أحدٍ كما خلقه في الخلق الأول بحسب مبدأ الآريين على غرار الفطريات.” (ينبوع المعرفة)
وهكذا وباختصار فخلقُ الإنسان عند المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام لم يبدأ هكذا مرة واحدة بل مَرَّ بمراحل مختلفة حتى وصل إلى هذا الحال. وبهذا وبحسب قوانين الخلق البدائية السابقة خُلق الإنسان من الإنسان ثم تطور وصار يُخلق الإنسان من الإنسان بواسطة النطفة، ولهذا وصفه الله تعالى بـ فإذا هو خصيم مُّبِين، أي تحوّل من مجرد خلقٍ بلا إدراك إلى خلقٍ له تفكيره وارادته الخاصة. فالاعتراض على الآية لا يقول به عاقل.
مع ذلك فإن أصل الإنسان لم يكون حيواناً بل بدأ أصل الإنسان مكرّماً كبشر مستقل وتطورت الحياة من هذا الأصل الكريم. وقد ذكر شخصٌ للمسيح الموعود عَلَيهِ السَلام موضوع كون الإنسان وحشياً في البداية ثم ظل يمر بمراحل الارتقاء حتى وصل مرحلة التحضر. فقال عَلَيْهِ السَلام:
“عندما نسمّي الإنسانَ متحضراً فلماذا لا نخبره بأصل التحضر؟ يتبين من القرآن الكريم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}. يتضح من هنا أنهم صاروا وحوشاً فيما بعد. أقول: هل كان يليق بالله أن يخلق النموذج الأول سليماً أو فاسداً ينطبق عليه المثل: “أول الدّنِّ دَردٌ”؟ هل خلقه اللهُ سيئاً ثم تحسّن تلقائياً بمرور الزمن؟ هذه إساءة كبيرة في حق الله تعالى.” (الملفوظات)
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ