ما هي حقيقة النبوة وتعريفها؟
النبوة في الإسلام ووفقا للقرآن الكريم هي أن يختار الله أحدا ويُظهره على الغيب ويسميه نبيا ثم يرسله برسالة أو مهمة، وهذا ما يُستخلص من قوله تعالى:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن 27-28)
وهذا يدل على أن النبي الحقيقي لا يكون نبيا إلا إذا كان رسولا، أما بغير رسالة فلا يسمَّى أحدٌ نبيا على الحقيقة، ولا ينال مقام النبوة الحقيقي.
ومن هذا الباب، ولأن الله تعالى قد اختار المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام لمهمة إحياء الإسلام وفقا للأنباء التي أنبأ بها القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه أظهره على الغيب وزوَّده بالآيات القاهرات فكان يقدِّم طول حياته البشرى والإنذار، ثم سمَّاه نبيا في الأنباء السابقة وفي وحيه إليه، فيصح تسميته نبيا، بل هو نبي بالمعنى الحقيقي القرآني للنبوة؛ رغم أنه لم ينل النبوة إلا باتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم ورغم كونه ليس صاحب شريعة وليس لديه سلطة على الشريعة أيضا بأن يُحدث فيها شيئا من التغيير بالوحي كما كان الأنبياء السابقون.
ما معنى قوله تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (النساء 70) ألا يعني هذا أن هنالك في الأمة من نالوا وسينالون درجات الأنبياء أيضا؟
وفقا لهذه الآية التي تبين طريق نيل النبوة في الأمة، والتي هي طاعة الله ورسوله، نال حضرته مقام النبوة الحقيقية في الإسلام، ولكن نيله هذا المقام اقتضته الرسالة والمهمَّة التي كُلِّف بها – والتي قد أنبأ عنها النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم مسبقا وهي نزول المسيح والبعثة الثانية للنبي صلى الله عليه وسلم من خلال رجل فارسي في سورة الجمعة- مما جعله نبيا على الحقيقة وبالتالي مرسلا.
أما في غياب الرسالة والمهمة من بعده، واقتصار الأنباء على بعثة واحدة فحسب، بل والإنباء عن قيام الخلافة الراشدة على منهاج النبوة وبقائها إلى يوم القيامة من بعده، فإن باب البعث والإرسال يكون قد أُغلق، فلا يمكن أن ينال أحد مقام النبوة على الحقيقة ويكون مبعوثا ومرسلا. بل يصبح معنى الآية أنه ستستمر السنة التي كانت جارية في الأمة من قبل وهي أن هنالك أفرادا من الأمة من الأولياء يحوزون مقامات ودرجات الأنبياء عند الله تعالى، ولكنهم لا يسمَّون أنبياء على الحقيقة ولا يبعثون، ولا يعلنون عن أنفسهم ولا عن مقاماتهم، بل يميلون دوما إلى التواضع ونكران الذات رغم مقامهم الرفيع عند الله تعالى. ويمكن اعتبارهم أنبياء مجازيين نتيجة لما يتمتعون به من مقامات وقدرات روحانية عالية، ولكن دون تعيين أحد منهم بناء على الاجتهاد، بل لا بد من الإيمان الإجمالي بهذا المقام في الأمة ليس إلا.
وإلى هؤلاء أشار حضرته في قوله:
“وإنّ له عبادًا من الأولياء يسمّون في السماء تسمية الأنبياء بما كانوا يشابهونهم في جوهرهم وطبعهم، وبما كانوا يأخذون نورًا من أنوارهم، وكانوا على خُلقهم مخلوقين. فيجعلهم الله وارثهم، ويدعوهم بأسماء مورثيهم، وكذلك يفعل وهو خير الفاعلين. وللأرواح مناسبات بالأرواح لا يُدْرى دقائقها، فالذين تناسبوا يُعَدّون كنفس واحدة، ويطلق أسماء بعضهم على بعض، وكذلك جرت سنة الله، وذلك أمرٌ لا يخفى على العارفين.” (التبليغ.. مرآة كمالات الإسلام)
هل أنبأ المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام عن بعثة أنبياء من بعده؟
المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أنبأ بأنه لم ينل أحد مقام النبوة الحقيقة من قبله ولن يبعث أحد من بعده.
فقد قال حضرته حول نيله فقط هذا المقام في كتاب تذكرة الشهادتين مسجِّلا حوارا بينه وبين الشهيد عبد اللطيف:
“لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مثيلا لموسى، وكان خلفاؤه كأنبياء بني إسرائيل، فلماذا سُمِّي المسيح الموعودُ وحده في الأحاديث نبيًا ولم يُعطَ هذا الاسم للخلفاء الآخرين؟ فأجبته على ذلك بما يلي: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – هو خاتَم الأنبياء، ولا نبيَّ بعده، لذا فلو سمِّي كل خليفة من خلفائه نبيًّا، لاشتبه أمر النبوة، ومن ناحية ثانية لو لم يسَمَّ أي خليفة منهم نبيًّا، لوقع الاعتراض من حيث عدم تحقق التشابه، لأن خلفاء موسى كانوا أنبياء، ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يُبعث الخلفاءُ في بداية الأمر مراعاةً لختم النبوة دون أن يسمُّوا أنبياء أو يُعطَوا هذه المرتبة. وأُطلِقَ على الخليفة الأخير (أي المسيح الموعود) اسم نبي، لكي يتم التشابه بين السلسلتين من حيث الخلافة.” (تذكرة الشهادتين)
هل أنبأ المسيح الموعود عن بعثة مسحاء من بعده؟
نفى المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام بعثة مسحاء من بعده، إذ يقول حضرته:
“وإنّا إذا ودّعْنا الدنيا فلا مسيحَ بعدنا إلى يوم القيامة“. (إعجاز المسيح)
وورد أيضا في الملفوظات قوله:
“سأل أحد: هل سيأتي عدة مُسحاء؟ قال عليه السلام: كما تكون هناك مماثلة في الصُّوَر كذلك تكون في الأخلاق. لقد قيل بأن قلب صالح يكون على قلب نبي من الأنبياء. ولكن الموعود القادم واحد فقط (أي حضرته).” (الملفوظات)
أما قوله إنه لا مانع من بعثة مسحاء من بعده في سياقات أخرى فالمقصود منها خلفاؤه الذين سيتصدُّون للفتن في وقتها وحسب مقتضى الظروف، ولكنهم لن يكونوا أنبياء ولا مبعوثين ولا مسحاء على الحقيقة.
والواقع أن قوله بظهور المسحاء المتعددين إنما قصد بها أن بعض الأنباء ستتحقق في حياته وبعضها في حياة خلفائه، بل بعض الظروف أيضا ستختلف في المستقبل وسيوازيها تصرُّف مناسب من قبل خليفة الوقت، بل يمكن أن تتحقق التصورات التي في أذهان المشايخ وعامة الناس بصورة ما في المستقبل أيضا، ولكن المستحيل هو نزول المسيح من السماء، فيقول حضرته موضحا ذلك:
“فمن الواضح أنه إذا كان ظهور ثلاثين دجالا ضروريا، فلا بد أن يكون هناك ثلاثون مسيحا أيضا بحكم المثل: “لكل دجال عيسى”. فمن الممكن بحسب هذا القول، بل ممكن جدا؛ أن يأتي في زمن من الأزمان مسيح تنطبق عليه بعض كلمات الحديث الحرفية أيضا، لأني ما جئت بحكومة دنيوية أو ملكوتها، بل جئت في حُلّة المسكنة والفقر. فما دام الحال على هذا المنوال، فأيّ إشكالية بقيت لدى المشايخ؛ إذ قد تتحقق أمنيتهم هذه أيضا في حين من الأحيان. غير أني لا أرى – كشفا وإلهاما وعقلا وفرقانا – تحقُّق أمنيتهم ليروا يوما من الأيام المسيح ابن مريم نازلا من السماء في الحقيقة.” (إزالة الأوهام)
كذلك قال حضرته في السياق نفسه:
“فالجواب على هذه الوسوسة أنني ما ادّعيتُ قط أني أنا المسيح الموعود الوحيد فقط ولن يأتي مسيح في المستقبل، بل أؤمن وأقول مرارا وتكرارا بأنه يمكن أن يأتي أكثر من عشرة آلاف مسيح دع عنك مسيحا واحدا، ومن الممكن أن يأتي بعضهم بشوكة وجلال ظاهري أيضا، وممكنٌ أيضا أن ينزل بدايةً في دمشق.
ولكن اعذُرني يا صديقي من قبول نزول المسيح ابن مريم – الذي مات – من السماء بجسده.” (إزالة الأوهام)
وفي السياق نفسه أيضا ذكر أن الأحوال ستختلف في المستقبل، وهذا التغيُّر سيؤدي إلى تجلٍّ جديد من خلال أحد الخلفاء، ولكنه لن يكون نبيا ولا مبعوثا وليس مسيحا منفصلا عنه أو غير تابع له:
“وكُشف عليّ أيضا أن مِن المقدّر أن ينتشر الفساد والشرك والظلم في العالم ثانيةً بعد انقضاء فترة الخير والصلاح وغلبة التوحيد، فيأكل البعض بعضًا كالديدان، ويسود الجهل، ويبدأ الناس في عبادة المسيح ثانية، وتنتشر جهالة اتخاذ المخلوق إلهًا على نطاق واسع، وستنتشر كل هذه المفاسد في الدنيا في الفترة الأخيرة من هذا الزمن الأخير على يد الديانة المسيحية، وعندها تهيج روحانية المسيح هيجانًا مرةً ثالثة، وتقتضي نزولَها نزولاً جلاليًّا، فتنزلُ في صورة مثيلٍ له قاهرٍ، وينتهي ذلك الزمن، وعندها تكون النهاية ويُطوى بساط العالم.” (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية، مجلد 5، ص 341 – 346)
وهكذا يتضح أننا لا نؤمن بفتح باب النبوة وظهور مدَّعِيْ النبوة – سواء ادَّعوا كونهم مسحاء أو قالوا إنهم على أقدام أنبياء آخرين – وأننا نؤمن بمقام النبوة الذي شرَّف الله به الأمة الإسلامية في الماضي من خلال الخلفاء والأولياء، وحاليا من خلال الخلفاء بالدرجة الأولى ثم الأولياء، وفي المستقبل أيضا، والذي يمكن اعتباره نبوة مجازية مقامية، ولكننا لا نؤمن ببعثة ورسالة وبمقام نبوة حقيقي، بل نؤمن باستمرار الخلافة على منهاج النبوة إلى يوم القيامة حاملة بركات النبوة وقائمة بأعمالها.