النبوة إنما هي الإظهار على الغيب من الله تعالى؛ أي كثرته وغلبته، ولا ينالها أحدٌ إلا إذا كان مرسلا، لقوله تعالى:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن 27-28)
والنبوة والرسالة متلازمتان، أي لا يمكن أن يكون النبي ليس برسول، كما لا يمكن أن يكون الرسول ليس نبيا. ولا فرق بين النبيِّ والرسول، ولكنهما وصفان لحقيقته من جانبين؛ من أنه نبيٌّ بمعنى أنه يتلقى الغيب بكثرة من الله تعالى، ومن أنه رسول أي مكلَّف من الله تعالى برسالة إلى الخلق.
أما ما هي الرسالة؟ فالرسالة وفق القرآن الكريم إنما هي البشرى والإنذار؛ البشرى لمن آمن به وصدَّقه وأحسن اتِّباعه، والإنذار لمن كذبه وعانده. لذلك قال الله تعالى ذاكرا النبوة والرسالة:
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (الأَنعام 49)
{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (البقرة 214)
وهكذا، فالتعريف الدقيق للنبوة وفقا للقرآن الكريم هي:
“الإظهار على الغيب بالبشرى والإنذار وتبليغهما”
فمن سماه الله تعالى نبيًّا، وأظهره على الغيب بالبشرى والإنذار، فهو نبيٌّ قطعا.
أما الكتاب والشريعة فليسا من لوازم النبوة والرسالة، فليس ضروريا لكل نبيٍّ أن يأتي بكتاب من الله تعالى أو بشريعة جديدة، بل إن الأنبياء الذين جاءوا بشريعة كانوا قلَّة، ومع ذلك فقد سمَّى الله تعالى النبيين الذين لم يأتوا بكتاب ولا بشريعة بالرسل أيضا نظرا إلى حقيقة الرسالة التي هي البشرى والإنذار أساسا. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في وصف إسماعيل عليه السلام:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } (مريم 55)
والواقع أن الشريعة هي نوع من البشرى والإنذار، ولكن البشرى والإنذار قد يكون من شريعة جديدة أو شريعة سابقة.
وببعثة النبي صلى الله عليه وسلم خُتمت النبوة والرسالة ووصلت إلى كمالها الذي ليس بعده كمال. وهذا الكمال يقتضي حجب أي نبوة أو رسالة جديدة، ولكنه لا يمنع بعثة مبعوث بالبشرى والإنذار من أمته صلى الله عليه وسلم خادما وتابعا له لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا من الشريعة، ولا ينال من مقام خاتمية النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه قد أنبأ عن هذه البعثة؟
من هذا الباب نقول إن الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام نبيٌّ بهذا المعنى، الذي هو المعنى الحقيقي للنبوة، ولكنه ليس صاحب رسالة جديدة ولا كتاب جديد وليس له سلطة على الشريعة؛ أي ليس مستقلا كما كان الأنبياء السابقون جميعا. فالأنبياء السابقون وإن لم يكونوا مشرِّعين فقد كانوا مستقلين؛ أي يمكن أن يُنزل الله تعالى عليهم بعض الأحكام الفرعية التي تخالف الشريعة التي يتبعونها وهذا بسبب أن تلك الشرائع لم تكن كاملة ولا نهائية. أما الاستقلال فلم يعد متاحا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وكمال شريعته.
أقول أخيرا إن الإشكال ينشأ عند الناس لظنهم أن النبوة إنما تعني دينا جديدا أو كتابا جديدا، وأننا لو تقبَّلنا أن المسيح الموعود نبيٌّ فهذا يعني أنه أصبح مخولا بالإضافة والحذف والتعديل في الشريعة! وهذا كله لا أساس له.
المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام نبيٌّ حقيقي، ولكنه ليس صاحب شريعة ولا مستقلا منفصلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو بيده سلطة على تعديل الشريعة، وهو يشترك في حقيقة النبوة هذه وتعريفها الذي هو محصور بـ “الإظهار على الغيب بالبشرى والإنذار وتبليغهما” مع سائر الأنبياء، وقد سماه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم نبيًّا. ولكن لا نلقِّبه بلقب النبي لأن النبي واحد وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والواقع أنه لا يستحق أحد من الأنبياء لقب “النبي” إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا ناداه الله تعالى بالنبي دوما في القرآن الكريم بينما نادى الأنبياء الآخرين بأسمائهم. وهذا اللقب حازه صلى الله عليه وسلم نظرا إلى كماله وسيادته المطلقة وخاتميته، وكل من دونه إذا سموا أنبياء فإنما يسمَّون بذلك مجازا نسبة إلى الكمال.
والخلاصة أن الأنبياء جميعا هم في الحقيقة أنبياء نظرا إلى حقيقة النبوة وتعريفها الذي هو الإظهار على الغيب بالبشرى والإنذار، ويشترك معهم المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في هذه الحقيقة أيضا. أما من حيث الكمال فهم أنبياء مجازيون نسبة إلى كمال النبي صلى الله عليه وسلم بما فيهم المسيح الموعود. وينفرد المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام بمجازية خاصة أخرى أيضا نظرا إلى كونه تابعا للنبي صلى الله عليه وسلم وحائزا على النبوة بفضل اتِّباعه وبالفناء في حبه وطاعته، والتي حازها وفقا لوعد الله تعالى في الآية الكريمة:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (النساء 70)
لذلك هو نبي حقيقي من ناحية حقيقة النبوة التي يشترك فيها مع كافَّة الأنبياء، ونبي مجازي من حيث الكمال والتبعية للنبي صلى الله عليه وسلم.
فمن قصد بأنه نبي حقيقي بمعنى التشريع والاستقلال فهو مخطئ – لأن التشريع والاستقلال لا علاقة له بصلب حقيقة النبوة، وإن كان هذا ما هو شائع في أذهان الناس خلافا لتعريف القرآن – ومن قال إنه نبي مجازي وأراد أن ينفي عنه حقيقة النبوة فهو مخطئ أيضا. ولا حاجة للخلاف ولا للحرج؛ فلقبه ومنصبه الذي بعث به إنما هو الإمام المهدي والمسيح الموعود الذي أنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم ذاته، وبهذا قبلنا به وآمنا وصدقنا.