الشبهة الأقوى التي يقدمها خصومنا، ويحاولون بها تنفير الناس من الجماعة الإسلامية الأحمدية، هو دعواهم أننا نؤمن بنبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يضمنون أن ينفر السامع تلقائيا ولا يعاود النظر في دعوى الجماعة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين الذي لا نبي بعده.
وبالطبع، فإن هؤلاء يمارسون بذلك الكذب الصريح المتعمَّد بتحريف الكلم عن مواضعه. فهم يعرفون حقيقة دعوانا، ولكنهم يرتكبون خيانة وزورا؛ إذ يريدون أن تصل فكرة خاطئة تتبادر إلى الإذهان تلقائيا بمجرد إطلاق هذه الشبهة!
فبمجرد أن يسمع أحد قولهم إن هذه الجماعة تؤمن بنبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم فستتبادر تلقائيا الفكرة التقليدية المسيطرة على الأذهان حول النبوة، وسيستنتج السامع أن هذه الجماعة قد جاءت بدين جديد ينسخ الإسلام وبكتاب جديد وشريعة جديدة. فكيف يمكن لمسلم بعد ذلك أن يكلِّف نفسه عناء النظر في دعواها؛ إذ أن عنوان الرسالة كفر، فهل نتوقع خيرا بعد ذلك؟!
وللأسف، فإننا نرى أن هذه الخدعة كثيرا ما تنطلي على الناس.
والحقُّ هو أن الجماعة الإسلامية الأحمدية هي التي تؤمن بختم النبوة، وبأنه لا يمكن أن يأتي نبي، قديما كان أو حديثا، بدين جديد أو شريعة جديدة، بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شريعة الإسلام هي الشريعة الأبدية التي لا يُنسخ منها حرف ولا يضاف إليها حرف، وأن الإسلام هو الدين الكامل الذي ارتضاه الله للناس إلى يوم القيامة. وأن خصومنا في عقيدتهم لا يؤمنون بهذا الإيمان الجازم بخاتمية النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذه الضوابط التي نؤمن بها واخترناها لأنفسنا، وهذا ما سيتضح. ولكنهم، رغم ذلك، يرتكبون هم الخيانة ويتهموننا بما هم غارقون فيه، كما يقول المثل: “رمتني بدائها وانسلَّت“.
ولكن من أين جاءت هذه الشبهة، وما هي حقيقتها؟
الواقع أن هذه الشبهة مردُّها عقيدة نزول المسيح في آخر الزمان، التي نشترك معهم في الاعتقاد بها، ولكن للقارئ أن يقارن بين عقيدتنا وعقيدتهم ويرى من الذي يؤمن بنبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الذي يضع الأساس لنسخ تعاليم الإسلام ويتقبلها.
فعقيدة خصومنا هي أن عيسى عليه السلام ما زال حيًّا في السماء، وأنه سينزل بنفسه في آخر الزمان، فيكون بذلك آخر الأنبياء عهدا في الأرض، ويكون نبيا للمسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون مهمته نسخ تعاليم الإسلام التي على رأسها الحرية الدينية التي هي قلب هذه التعاليم، حيث سيقاتل الناس كافة على الإسلام، ولن يقبل منهم سوى أن يسلموا أو يموتوا، وسيخرِّب المعابد والصوامع ويكسِّر الصلبان، وسيجري أنهارا من الدماء في الأرض. هذا ناهيك عن العديد من الأحكام الفرعية الأخرى والأخبار القرآنية التي سينسخها بمجرد نزوله، والتي لا حاجة للخوض في تفاصيلها حاليا.
أليسوا بذلك يؤمنون بنبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ ألم يكسروا بهذه العقيدة ختم النبوة؟ ألم يؤمنوا بذلك بنسخ أجزاء كبيرة من تعاليم الإسلام؟
أما نحن، فنؤمن أن هذا الخبر حقٌّ، ولكنه سيتحقق تحت ضوابط ختم النبوة الصارمة، ولن يكسر ختم النبوة، ولن يسمح بنسخ حرف أو نقطة من شريعة الإسلام. والواقع أن القرآن الكريم معنا، والسنة النبوية معنا، والحديث الشريف معنا، والحفاظ على أبدية الشريعة وأبدية خاتمية النبي صلى الله عليه وسلم هي صلب عقيدتنا.
فلأن القرآن الكريم يعلن وفاة عيسى عليه السلام بكل وضوح، بل لم يذكر وفاة نبي سوى وفاته عليه السلام- لأنه كان في سابق علم الله أن عقيدة حياته ستتسرب إلى المسلمين من عقائد النصارى- لذلك لا نؤمن بحياته في السماء، ونؤمن أنه قد خلا وتوفي كالأنبياء السابقين، وأن الله تعالى لو أراد لنبي أن يخلد فلن يكون ذلك سوى للنبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول تعالى:
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الأنبياء 35)
كذلك نرى أن القرآن الكريم يعلن صراحة أن عيسى عليه السلام قد مات، ولن يعود بنفسه إلى الأرض قبل يوم القيامة للانتقام من النصارى وكسر صلبانهم والقضاء عليهم لأنهم اتخذوه إلها:
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (117) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } (المائدة 117-118)
ونرى أن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه قد فسر هذه الآية في حديث الحوض الذي رواه البخاري ومسلم، والذي كرر فيه النبي صلى الله عليه وسلم قول عيسى عليه السلام ليؤكد أنه قد فارق قومه بالوفاة، ولم يرجع إليهم بنفسه ليصلح حالهم.
كذلك نرى أن الأحاديث تخلو تماما من أسطورة رفع المسيح إلى السماء.
وهناك الكثير من الأدلة التي لا مجال لتبيانها تفصيلا هنا.
فما هي حقيقة نزول المسيح؟
ولكن، بما أن خبر نزول المسيح في آخر الزمان حق، فإننا نرى أن المقصود به ظهور شخص مثيل للمسيح في الأمة الإسلامية، لن يأتي بدين جديد ولا بكتاب جديد ولا ينقص حرفا في الإسلام أو يزيد حرفا، وسيكون تابعا كاملا وخادما مخلصا للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون فانيا فيه فناء مطلقا.
هذا الشخص لن يكون نبيا مستقلا، ولن تكون لديه سلطة على الشريعة لإحداث تغييرات فيها؛ لأن النبوة المستقلة التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قد ختمت. ولكنه من حيث المقام نبيٌّ أيضا بمعنى أن الله تعالى قد اختاره وكلَّفه وأظهره على الغيب بأنباء وفيرة تتضمن البشرى والإنذار، وهذا في الواقع هو صُلْب النبوة أصلا؛ وإن لم يكن قد جاء كالأنبياء السابقين مستقلا، وكان مقيدا بهذه الشروط، وهذا لأن خاتمية نبوة النبي صلى الله عليه وسلم هي التي أنهت إلى الأبد بعثة أنبياء كالأنبياء السابقين.
أما خصومنا، ففهمهم للنبوة مقصور على الاستقلال والتشريع أو السلطة على الشريعة وإمكانية إحداث التغيير فيها، وتحت هذا الفهم يؤمنون بنزول المسيح في آخر الزمان، وبالتالي فهم يقبلون أن يكسر ختم نبوة النبي صلى الله عليه وسلم شاءوا أم أبوا!
أما نحن، فلا نؤمن بنبي – كهذا الذي في أذهانهم- يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بأن هذه النبوة التي في أذهانهم قد انقطعت. ونحن الذين نحافظ على ختم النبوة، بينما هم يعطون المسيح النازل صفة النبوة المستقلة والسلطة للتغيير في الشريعة ونسخ تعاليمها، ويقرون بذلك.
كان الأولى ألا يمارسوا هذا الدجل والخيانة ويتحروا الصدق والعدل، ولكن أنَّى ذلك! فسيرة أعداء الأنبياء والمبعوثين الربانيين هي الإجرام، كما يقول تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } (الفرقان 32)
هؤلاء يتبعون سنن اليهود ويمارسون ما كانوا يمارسونه من تحريف الكلم عن مواضعه، والذين قال عنهم الله تعالى:
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (البقرة 76)
فصدق الله تعالى في الإنباء عنهم، وصدق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وصدق المسيح الموعود إذ قال عنهم في شعره:
ولكن قلوبٌ باليهود تشابهت … وهذا هو النبأ الذي جاء فاذكروا
فصِرتُ لهم عيسى إذا ما تهوّدوا … وهذا كفى منّي لقومٍ تفكّروا