بداية القرآنيين ومنكري السنة
بدعة منكري السنة الذين يسمّون أنفسم بالقرآنيين ليست حديثة، فقد بدأت في الهند منذ أكثر من قرن وربع، وكان من مؤسسيها شيخ اسمه عبد الله الجكرالوي، حتى إن هذا المنهج كان قد سمي باسمه، فأصبح يطلق على أتباعه اسم “الجكرالويين”.
وفي عام 1902 جرت مناظرة بين الشيخ عبد الله الجكرالوي والشيخ محمد حسين البطالوي الذي كان يمثِّل أهل الحديث، وبعد نشْرها علق عليها المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، الحكَم العدل، وبيَّن مواطن الخلل في هذا الفكر خاصة الذي فرَّط في الحديث بغير وجه حق، وبيَّن أيضا خطأ أهل الحديث وإفراطهم في الحديث وإساءتهم للقرآن الكريم عمليا.
كان موقف الشيخ الجكرالوي أن الأحاديث هي لغو باطل وهي أشبه بمتاع رديء، وشنَّ عليها هجوما أساء فيه الأدب، فرد عليه الشيخ البطالوي قائلا إنه لو كان هذا صحيحا لبطلت معظم أجزاء العبادات ومسائل الفقه؛ مدعيا أننا نعرف تفاصيلها من خلال الحديث فحسب. فبيَّن حضرته أن رده، مع أنه لا يخلو من الخطأ، إلا أنه كان قريبا نسبيا من الصواب، ولهذا كان رد الجكرالوي غير مقنع ولا قيمة له، مما جعله مضطرا إلى إحداث تغييرات في الصلاة وفي الأدعية المأثورة التي تُقرأ فيها، ولعله قد غير في مسائل الحج والزكاة وغيرها أيضا. وهذا بالفعل ما أسرف فيه بعض منكري السنة في هذه الأيام أيضا كما نشهد.
ما هو موقف المسيح الموعود مرزا غلام أحمد من الحديث؟
ثم دافع حضرته عليه الصلاة والسلام عن الحديث وبيَّن أنه ليس لغوا باطلا بل له قيمة وأهمية بالغة، ولكن أهل الحديث قد أفرطوا فيه، وجعلوه قاضيا على القرآن الكريم بغير وجه حق، وبهذا فقد أساءوا إلى مكانة القرآن الكريم القطعي اليقيني، وجعلوه يقف مهانا أمام الحديث الظني، وبذلك فقد جعلوا الظن حكما على اليقين، وأدخلوا الريب على الدين. وبيَّن حضرته أن القرآن الكريم يستنكر موقفهم هذا في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } (الأَعراف 186) ويتنبأ عنهم في صيغة استغراب واستنكار. فكيف يمكن لعاقل أن يؤمن بعد بيان القرآن الكريم بحديث ما ويقدمه على آياته المحكمات؟
ثم بيَّن حضرته أن خطأ أهل الحديث أنهم لا يفرِّقون بين السنة العملية المتواترة القطعية اليقينية، التي هي تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم العملي للقرآن الكريم، وبين الحديث، ويعتبرونها شيئا واحدا، مع أن هذا غير صحيح، لأن مكانة السنة هي أعلى من مكانة الحديث. فقد طبق الصحابة والتابعون وتابعوهم السنة إلى ما يقارب 150 عاما قبل أن تُجمع الأحاديث، فهل كان الإسلام ناقصا حينها؟ ثم أوضح حضرته أن الحديث إنما هو شاهد للقرآن والسنة وليس قاضيا عليهما، فهو يشهد لما جاء في القرآن من أحكام، وما طبقه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته والمسلمون من بعده، وإذا شهد الحديث على سنة من السنن العملية الثابتة فإنما هو يكتسب قوته من تواتر العمل لا من تواتر الرواية.
ثم بعد ذلك، وتأكيدا على أهمية الحديث، بيَّن حضرته أن أهل الحديث أقرب إلينا من منكري السنة، وأن على الأحمديين أن يتبرَّأوا تماما من أفكارهم، فهم أكثر الفرق اقترابا من الهلاك. ثم وجه نصيحته للعلماء الأحمديين أن يقدموا الحديث – حتى ولو صنفه أهل الحديث ضعيفا- على اجتهادات البشر، وأن يسعوا للتوفيق بين الحديث والقرآن الكريم ما استطاعوا. أما ما كان صريحا ومؤكدا في معارضة القرآن الكريم فعليهم أن يردوه، لأنه يستحيل أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم.
من يحكم على الحديث؟
ولكن، من الجدير ذكره هنا، أن ردَّ الحديث لا ينبغي أن يكون عملا فرديا، أو لكل من هبَّ ودبَّ، بل لا بد من رفع الأمر إلى الخلافة الراشدة لتحكم فيه، فإما تقبله وتعتمده أو ترده، وهذا لأن علماء الجماعة موحدون تحت الخلافة الراشدة، وليسوا كالعلماء في الفرق الأخرى الذين يخالف بعضهم بعضا. وهذا لا ينطبق على الحديث فحسب، بل على كل فكرة أو وجهة نظر أو تأويل.
وأخيرا، فإن حضرته قد تعرَّض لأفكار أهل الحديث في أكثر من موضع من كتاباته، ولعل كتابه “مناظرة لُدهيانة” الذي كان تسجيلا لمناظرته مع الشيخ البطالوي نفسه، قد قدَّم تفصيلا رائعا حول الحديث ومكانته، وكشف جوانب جميلة جدا لم يقدمها أحد من قبل. أما بالنسبة لمنكري السنة، فقد تعرَّض حضرته لأفكارهم في أكثر من موضع من كتاباته أيضا وفندها. ولكن الملفت للنظر في تعليقه على هذه المناظرة بالذات أنه قد تلقى وحيا يتضمن نبوءة عنهم، حيث قال حضرته في حاشية:
“وفي الساعة 3:02 في الليلة نفسها (أي الليلة التي كتب حضرته في صبيحتها التعليق على هذه المناظرة) تلقيت إلهاما آخر: “مَن أعرض عن ذكري نبتليه بذرية فاسقة ملحدة يميلون إلى الدنيا ولا يعبدونني شيئا“. أي من أعرض عن القرآن الكريم… ستكون عاقبة ذريةٍ مثلِها سيئة ولن يوفَّقوا للتوبة والتقوى“.
والعجيب أن الوحي قد جاء فيه أن هؤلاء الذين يسمُّون أنفسهم قرآنيين هم عمليا معرضون عن القرآن الكريم، وهذا ما كان أوضحه حضرته في تعليقه على المناظرة، حيث بيَّن أنهم بتركهم للسنة والحديث إنما ينكرون القرآن الكريم الذي يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران 32)، فلو كانوا يُجلِّون القرآن الكريم حقًّا ويقدِّرونه لقدَّروا السنة وحاولوا تتبعها ووقَّروا الحديث وأنزلوه المنزلة التي يستحقها. وهذا الوحي يتضمن نبوءة بأن مصير هؤلاء وذريتهم – سواء كانت الذرية تعني أفراخهم ومتبعيهم أو ذريتهم الفعلية- سيكون الإلحاد والفسوق، عقابا من الله تعالى، وسيكونون مائلين إلى الدنيا ولا يعبدون الله تعالى.
وسبحان الله! فهذا ما نشهده الآن من كثير من منكري السنة، الذين أصبحوا متميزين عن غيرهم بالفسق والفجور، بل قد أصبحت ذرياتهم ملحدة فاسقة، وتخلّوا عن الحشمة والحياء بدعوى أنها ليست سوى مجرد عادات لا علاقة لها بالدين، وأصبح باديا للعيان انحرافهم وإلحادهم في أقوالهم وأفعالهم.
والواقع أن منكري السنة هم في الأصل يعبدون أنفسهم وأهواءهم، ولا يقيمون وزنا للنبوة ولا لمقام النبي صلى اليه وسلم، ويعدُّونه مجرد حامل رسالة كساعي البريد – والعياذ بالله- وأنهم هم الأجدر الآن بفهم ما في القرآن الكريم، وهم أكثر قدرة منه صلى الله عليه وسلم على ذلك. وإذا كان أهل الحديث قد جعلوا الحديث قاضيا على القرآن، فقد جعل منكرو السنة أنفسهم قضاة على القرآن وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنصَّبوا بذلك أنفسهم آلهة نتيجة كبرهم واستعلائهم الزائف وإعجابهم بأنفسهم! فكان حقًّا على الله تعالى أن يقضي على الآلهة الباطلة، وكان طبيعيا أن يجد منكر السنة نفسه خلوا من الإيمان، وأن يندفع إلى الدنيا ويميل إليها سادرا في الفسق والفجور والإلحاد.