هل اعتقد المسيح الموعود عليه السلام بنسخ التلاوة؟ …2

بين الإيمان بالقراءات القرآنية والقول بالنسخ في القرآن الكريم ..

الاعتراض:

المسيح الموعود عليه السلام يؤيد نسخ التلاوة، لزعمه أن آية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الحج 52) قد أزال الله منها كلمتين، أي نسخ منها كلمتين نسْخَ تلاوة. والكلمتان هما (ولا محدَّث) .

الرد:

أثبتنا في مقالات سابقة إيمان المسيح الموعود عليه السلام بعدم وجود النسخ إطلاقا في القرآن الكريم، وقد أثبتنا أن قول حضرته عيه السلام بوجوب رجم الزاني لا ينمّ عن إيمانه بنسخ التلاوة مع بقاء الحكم، لأن إيمانه بهذا الحكم ليس مبنيا على آية منسوخة تلاوة باقية حكما كما زُعم في آية الرجم” الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة”، بل على آية موجودة في القرآن الكريم وهي: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (61) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (62)} (الأحزاب 61-62).

أما الاعتراض المذكور أعلاه، فهو لجوء إلى الدجل والكذب الصراح لتبرير دجل سبَقَه، وهو اعتراض داحض وباطل من عدة وجوه، هي:

1: لم يقل المسيح الموعود عليه السلام ولم يدّع قطّ أن هنالك نسخ واقع في الآية : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } (الحج 53) وأن هناك كلمتان قد حذفتنا أو نسختا تلاوةً فيها.

2: كل ما قاله حضرته بالنسبة لهذه الآية، هو أن لها قراءة أخرى بإضافة كلمتين، وهي قراءة ابن عباس أو غيره، كما يلي: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ولا محدَّث إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } (الحج 53). والقول أو الإيمان أو الأخذ بالقراءات المختلفة للقرآن الكريم لا يعني القول بوجود النَّسخ في القرآن الكريم، بل هو إيمان بالقراءات المختلفة والأخذ بها كلها وفق تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهُنَّ شَافٍ كَافٍ} (سنن النسائي, كتاب الافتتاح) وقوله : “أنزل القرآن على سبعة أحرف، أيَّها قرأتَ أصبْتَ” .

3: كما أن منكري النسخ الذين يؤمنون بحفظ القرآن الكريم حفظا تاما يعترفون أيضًا بالقراءات منذ بداية الإسلام، ومع ذلك يؤكدون أن قراءةً لا تنسخ قراءة أخرى ولا تغيّر المعنى .. أي أن من المحال أن تذكر قراءةٌ معنى لا تحمله قراءة أخرى، نعم، يمكن أن توسّع قراءة ما نفس المعنى وتصدّقه أيضا. وبناء على ذلك فإن الأخذ بالقراءات المختلفة للآية لا يعني بالضرورة الإيمان بنسخ إحدى القراءتين للأخرى. فيبطل استدلال المعترض من جذوره عند هذا الحد.

4: فهذه التعاليم النبوية المذكورة أعلاه تؤكد صحة  الأخذ بالقراءات المختلفة كلها ، وهي تعاليم نبوية، وهي لا تقول بأن هذا الإيمان بهذه القراءات هو إيمان بوقوع النسخ في القرآن الكريم، إذ إن عقيدة النسخ التي يؤمن بها البعض لا تستند على أي تعليم  للنبي صلى الله عليه وسلم  يقول به بوجود النسخ في القرآن الكريم. فشتان ما بين الإيمان بالقراءات القرآنية والقول بوجود النسخ في القرآن الكريم.

5: بتتبع المواضع التي ذكر فيها حضرته عليه السلام هذه القراءة (ولا محدث) ، نرى بأن حضرته لم يقل في أي منها إن هذه القراءة نُسخت بالقراءة الأخرى، ولم يستعمل لفظ النسخ أو الحذف قطّ في شأنها، بل استعمل لفظ (الاختصار) و ( الاكتفاء) حيث قال: “حين اختصر الله جلّ شأنه قراءة: “وما أرسلنا من رسول ولا نبي ولا محدَّث” واكتفى في قراءة ثانية بالكلمات: “وما أرسلنا من رسول ولا نبي“.” [مرآة كمالات الإسلام (اسمه الثاني دافع الوساوس، الخزائن الروحانية مجلد 5)]

أو قول حضرته:

وإلى هذا المحمل أشير حين اختصر الله جلّ شأنه القراءة: “وما أرسلنا من رسول ولا نبي ولا محدَّث” واكتفى بالقراءة الثانية بكلمات: “وما أرسلنا من رسول ولا نبي“. (مرآة كمالات الإسلام، ص238 – 239) الأحزاب (ص: 18)

فلو كان حضرته عليه السلام يؤمن بوقوع النسخ في هذه الآية، فلِمَ لَمْ يقل بذلك؟ ولمَ لمْ يستعمل لفظ النسخ، للدلالة على التغيير الحاصل في هذه الآية !؟ لم قيّد نفسه بالقول: اختصر الله هذه الآية ” ولمْ يقل “حين نسخ الله هذه الآية” !؟ الحقيقة أن عدم تلفظ حضرته بعبارة النسخ في هذه الآية ،دليل قاطع أنه لا يفكر حتى في مسألة النسخ هذه إطلاقا.

6: كما أننا نجد تارة أخرى أن حضرته عليه السلام يعتبر قراءة ابن عباس (ولا محدث) في حكم الحديث الصحيح، حيث جاء:

سُئل – عليه السلام -: هل كلمات القرآن الكريم هي نفسها التي نزلت؟ فقال: هذه الكلمات هي نفسها، وقد نزل بهذه الصورة نفسها. أما اختلاف القراءة فذلك أمر آخر. ففي {ما أرسلنا من قبلك من رسول} هناك قراءة شاذة هي: “ولا محدَّث” وهي في حكم الحديث الصحيح. كما يكون وحي نبي أو رسول محفوظا كذلك يكون وحي المحدَّث أيضا محفوظا كما يتبين من هذه الآية. (الحكم، مجلد6، رقم40، عدد 10/ 11/1902م، ص69)

فما الذي منع حضرته عليه السلام أن يقول بأنها آية منسوخة تلاوة، بل اعتبرها قراءة من قراءات القرآن الكريم التي يجب الأخذ بها كما يجب الأخذ بالحديث الصحيح!؟

7: من الأدلة القطعية على عدم وجود النسخ وعدم الإيمان به في هذه الآية، أنه حتى القائلين بنسخ التلاوة لم يصرّحوا بوجود نسخ التلاوة في هذه الآية، فلمْ يستشهدوا على نسخ التلاوة مع بقاء الحكم إلا يثلاث آيات مزعومة هي: آية الرجم، وآية (لو كان لابن آدم واديان…)، والرضعات الخمس، مع علم كل هؤلاء بوجود قراءة ابن عباس (ولا محدث). فمن أين للمسيح الموعود عليه السلام ان يدّعي نسخ التلاوية مع بقاء الحكم في مثل هذه الآية!؟

8: نرى أن مفسري القرآن الكريم يأخذون بقراءة (ولا محدَّث)، ولا يدحضونها بحجة وقوع نسخ فيها، حيث جاء:

أ: “قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ:” وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ” ذَكَرَهُ مَسْلَمَةُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ مَسْلَمَةُ: فَوَجَدْنَا الْمُحَدَّثِينَ مُعْتَصِمِينَ بِالنُّبُوَّةِ- عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ- لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِأُمُورٍ عَالِيَةٍ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ خَطِرَاتٍ، وَنَطَقُوا بِالْحِكْمَةِ الْبَاطِنَةِ فَأَصَابُوا فِيمَا تَكَلَّمُوا وَعُصِمُوا فِيمَا نَطَقُوا، كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قِصَّةِ سَارِيَةَ «3»، وَمَا تكلم به من البراهين العالية.” [تفسير القرطبي (12/ 79)]

ب: وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ) ، وَقَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يُحَدَّثُ؟ قَالَ: تَتَكَلَّمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى لِسَانِهِ، وَذَلِكَ يُوَافِقُ مَا رُوِّينَا عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. [الاعتقاد للبيهقي (ص: 315)]

وما جاء في هذه التفاسير يؤيد كلام المسيح الموعود في هذا الموضوع ،بأن المحدَّثية نبوة تاقصة. إلا أن ما يهمنا في كل هذا أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لم يرد هذه القراءة ولم يقل بنسخها، بل يُفسر كيف يحدِّث الله تعالى المحدَّث. وبمعنى آخر فإن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يأخذ بقراءة (ولا محدَّث) ويستشهد بها ويفسرها كما فعل المسيح الموعود عليه السلام، فهل كان صلى الله عليه وسلم يؤمن بنسخ التلاوة في هذه الآية !؟

فإذا كان المسيح الموعود عليه السلام يؤمن بنسخ التلاوة فكذا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أمر لا يقول به أحد. إذ من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يصدر عنه أي تعليم يقول بوجود النسخ في القرآن الكريم؛ وهذا أمر يعلمه ويقر به المعارضون بأنفسهم. فإن قيل بأن المسيح الموعود عليه السلام يؤمن بنسخ التلاوة لاستشهاده بقراءة ابن عباس، فلا بد من أن يعزى نفس الاتهام لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ألم نقل للمعارضين مرارا إنكم باتهامكم المسيح الموعود عليه السلام تعرّضون بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم!؟

9: جاء في تفسير القرآن الكريم القول بوقوع النسخ في هذه الآية على لسان عبد الله بن عوف حيث جاء:

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَالَ: إِن فِيمَا أنزل الله {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي} وَلَا مُحدث، فنُسخت مُحدث “[ الدر المنثور]

فإن صحت هذه الرواية فلا تؤخذ على معنى النسخ الرائج، إذ من المعروف أن مفهوم النسخ عند المتقدمين ليس كمفهومه عند المتأخرين. فالمتقدمون كعبد الرحمن بن عوف قصدوا بالنسخ أمورا أخرى مثل، تخصيص العام وبيان المجمل. وفي هذه الحال يكون قصد عبد الرحمن بن عوف أن المحدث قد شُملت اختصارا في الآية المقتصرة على (ولا نبي).

10: وهذا يؤيده قول المسيح الموعود نفسه، حيث يتضح من حديث حضرته عليه السلام عن هذه الآية، أنه لا يؤمن بالنسخ فيها، بل بالاختصار والإجمال في المعنى، بحيث تكون كلمة محدث قد شملت في كلمت نبي اختصارا وإجمالا، حيث يقول:

فمن منطلق هذه القوة والموهبة يجوز حمل المحدَّث على أنه نبي؛ بمعنى أنه يجوز القول: “المحدَّث نبي”، حيث يقولون: “العنب خمرٌ، نظرًا إلى القوة والاستعداد؛ ومثل هذا الحَمل شائع متعارف في عبارات القوم، وقد جرت المحاورات على ذلك، كما لا يخفى على كل ذكي عالم مطّلع على كتب الأدب والكلام والتصوف.” وإلى هذا الحَمل أشيرَ حين اختصر الله جلّ شأنه قراءة: “وما أرسلنا من رسول ولا نبي ولا محدَّث” واكتفى في قراءة ثانية بالكلمات: “وما أرسلنا من رسول ولا نبي”.” مرآة كمالات الإسلام (اسمه الثاني دافع الوساوس، الخزائن الروحانية مجلد 5) (2/ 127)

فمن قوله عليه السلام هذا يتضح أن القراءة المختصرة جاءت مجمَلة وشاملة للقراءة التفصيلية، من منطلق أن كلمة (نبي) تحوي وتشمل معنى (المحدثية)، لأن المحدثية جزء من النبوة؛ وبذلك فالقراءة التفصيلية جاءت كنوع من تفصيل المجمل، حيث فصلت النبوة بأنواعها: النبوة ، والمحدثية التي هي نبوة بالقوة أم نبوة ناقصة.

وبالرغم من قول عبد الرحمن بن عوف هذا، بأن كلمة محدَّث قد نُسخت، إلا أننا نرى بأن المسيح الموعود عليه السلام، في كل حديثه عن هذه الآية، لم يسمح لنفسه أن يتلفظ بلفظ النسخ الذي استعمله عبد الرحمن بن عوف. أوليس هذا حرصا منه على عدم القول بوقوع النسخ في القرآن الكريم!؟ واتخاذا للحيطة والحذر حتى لا يَظن البعض بأن حضرته يقول بوجود نسخ في القرآن الكريم!؟

11: فخلاصة الكلام، أنه شتّان ما بين الأخذ بالقراءات القرآنية على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم، والقول بوجود النسخ في القرآن الكريم، فالأخذ بالأول لا يعني القول بالثاني. إذ منذ متى ومن يقول بأن القراءات القرآنية المختلفة هي إثبات على وجود النسخ في القرآن الكريم.!