ما هي الآيات التي ذكرت معجزة إنشقاق البحر؟

ذُكرت قصة عبور سيدنا موسى عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام ببني إسرائيل البحر في عدّة مواضع من القُرآن الكَرِيم كما يلي:

  • ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ -البقرة
  • ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ -يونس
  • ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ -الشعراء
  • ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ﴾ -طه

 إنشقاق البحر معجزة لا يجب إنكارها

يقول المصلح الموعود رضي الله عنه:

يخبرنا القرآن الكريم .. وسائر الأديان تؤيده في ذلك، أنَّ تدبير أمر هذا العالم يتمّ بإذن الله تعالى بواسطة الملائكة .. فهُم مأمورون بإتمام الأعمال المختلفة .. فهناك ملائكة لتنفيذ أوامر الموت، وملائكة موكلة بالكواكب وحركاتها، وملائكة لتدبير الأمطار والرياح. وفي الأمر الإلهي للملائكة بجعل آدم خليفة ثم السجود له .. إشارةً إلى أنَّ الملائكة مكلَّفون بتأييد آدم في مهمته كخليفة أو نبي، ولذلك فإن فلاح النبي في مهمته أمر حتمي؛ إِذْ تسانده الملائكة المدبّرون لنظام هذا العالم. ونرى في حياة الأنبياء من الشواهد ما يدلّ على هذه الحقيقة. ففي نجاة نوح من الطوفان، وسلامة إبراهيم من النيران، واجتياز موسى البحر وهلاك فرعون؛ ونجاة عيسى من الصليب، وانتصار “رام شندر جي” رغم إحداق أعدائه به، وغلبة “كرشن جي” على أعدائه الجبابرة، وتغلب “زرداشت” على أعدائه الأشداء، وفوق كُلّ ذلك كلّه وأعظم منه .. مبارزة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لجميع العرب وهو وحيد منفرد، وانتصاره عليهم جميعا بصورة خارقة .. في تلك الحوادث كلّها معجزات بيّنات لا ينكرها إلا العميان المعاندون، ودلالة على صدق هذه الحقيقة، وتذكير للناس بأن الملائكة الذين أُمروا بمساندة آدم مأمورون أيضاً بمساندة مُحَمَّدٍ ﷺ في مهمته، وأنهم سوف يُحدثون تطورات حاسمة يترتب عليها الانتصار النهائي لرسول الله ﷺ بالرغم من كُلّ العداء.” (التفسير الكبيرة، سورة البقرة)

فانشقاق البحر لسيدنا موسى ؑ وعبوره إياه مع بني إسرائيل هي معجزة لا ينكرها إلا الأعمى حسب المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

تفصيل معجزة انشقاق البحر

وقد فسّر المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الحادثة كما يلي:

قوله تعالى: [وإذ فرقنا بكم البحر] يعني لفظيًا: عندما شققنا البحر بواسطتكم، وبسبب هذا المعنى لحرف الباء انخدع معظم المفسرين، وفسّروا الآية أنَّ بني إسرائيل كانوا ذريعةً لفلق البحر. أُمروا بخوض البحر .. فكانوا كلّما تقدّموا فيه تراجعَ الماء على جانبهم. ولكن هذا المعنى باطل لقوله تعالى في موضع آخر: [فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم](الشعراء: 64). يتبين من ذلك أنَّ بني إسرائيل لَمْ يكونوا سببًا في انفلاق البحر، وإنما كانت العصا هي السبب الظاهري فيما جرى.

فما معنى حرف “الباء” هنا إذًا؟ والجواب أنَّ حرف الباء يفيدُ أيضاً التعليل والسببية. فالمعنى: أننا فرّقنا لأجلكم البحرَ .. أي لـ نجاتكم، أو بعبارة أخرى: فرقنا لكم البحر. (البحر المحيط والكشاف)

وقوله تعالى إشارة إلى معجزة أظهرها اللهُ تعالى لموسى عندما كان يخرج ببني إسرائيل من مصر إلى الشام، وطاردهم فرعونُ مع جنوده لإعادتهم. وقد ورَدَ في التوراة: “ومدَّ موسى يده على البحر، فأجرى الرَّبُّ البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة وانشق الماء. فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سُورٌ لهم عن يمينهم وعن يسارهم. وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم جميعُ خيل فرعون ومركباته وفرسانه إلى وسط البحر. وكان في هزيع الصبح أن الرب أشرف على عسكر المصريين في عمود النار والسحاب وأزعج عسكر المصريين، وخلع بَكَرَ مركباتهم حتى ساقوها بثقلة. فقال المصريون: نهرب من إسرائيل لأن الرب يقاتل المصريين عنهم. فقال الرب لموسى: مُدَّ يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين على مركباتهم وفرسانهم. فمدّ موسى يده على البحر، فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة والمصريون هاربون إلى لقائه. فدفع الرب المصريين في وسط البحر. فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل وراءهم في البحر، لم يبق منهم ولا واحد. وأما بنو إسرائيل فمشوا على اليابسة في وسط البحر والماءُ سورٌ لهم عن يمينهم وعن يسارهم. فخلّص الرَّبُّ في ذلك اليوم إسرائيل من يد المصريين. ونظر إسرائيلُ المصريين أمواتا على شاطئ البحر، ورأى إسرائيل الفعل العظيم الذي صنعه الرب بالمصريين، فخاف الشعبُ الربَّ وآمنوا بالرب وبعبده موسى.” (الخروج 14: 21-31)

ضرب موسى البحر بعصاه

لقد وردت هذه القصة في القرآن الكريم في مواضع أخرى أيضاً .. فجاء قوله تعالى: [فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ](الشعراء: 64)، وجاء أيضاً: [ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقًا في البحر يبسا. لا تخاف دَركًا ولا تخشى . فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم . وأضلّ فرعون قومه وما هدى](طه: 78 -80).

بالجمع بين هذه الآيات كلها تبدو تفاصيل الحادثة كما يلي: كان بنو إسرائيل سائرين يريدون الأرض المقدسة. وعندما لحق بهم فرعون بجيشه أصابهم الهلع وظنوا أنهم مُدرَكون. ولكن الله تعالى طمأنهم بأن أوحى إلى موسى أن يضرب البحر بعصاه ففعل. فتراجعَ الماءُ على الجانبين وظهر لهم طريق في البحر وتقدموا فيه، وكان الماء يمتد على الجانبين، فيتراءى لهم مرتفعًا كالتلال. وتبعهم فرعون وجنوده يطاردونهم. ولما وصل بنو إسرائيل إلى الجانب الآخر سالمين تراجع الماء مرة أخرى وأُغرِقَ المصريون.

ولفهم هذا الحادث يجب أن نتذكر أنَّ القرآن الكريم يعلّمنا بأن كُلّ المعجزات تكون من الله تعالى، ولا دخل ولا تصرف للإنسان فيها. فكان ضرْب موسى البحر بعصاه بمثابة علامة لا غير، وليس معناه أنه كان لموسى أو لعصاه أي دخل في تراجع ماء البحر. كما يجب أن نتذكر أيضاً أنه لا يثبت أبدًا من ألفاظ القرآن أنَّ البحر انشق إلى جزئين منفصلين وأنَّ موسى مرّ بينهما. ولقد عبّر القُرآنُ عن هذا الحادث بكلمتين: “الفرق” و”الانفلاق” ومعناهما: “الانفصال”. فكأن ماء البحر انفصل مبتعدًا عن اليابسة عند مرور بني إسرائيل، فظهرت الأرض، ومرّوا عليها. وتحدُث هذه الظاهرة على شواطئ البحر. فقََدْ ورَدَ في كتاب حياة نابليون أنه عندما غزا مصر مرّ مع بعض جنوده على شاطئ البحر الأحمر وقت الجَزْر، وبينما كان يعبر هذا الموضع جاء وقت المَدّ وارتفع الماء وتمكن هو وجنوده من النجاة بصعوبة.

كيف إنشق البحر لسيدنا موسى؟

والمعجزة في هذا الحادث هي أنَّ الله تعالى أتى ببني إسرائيل إزاء البحر في وقت الجَزْر ، وما أن رفع موسى يده بالعصا لضرب البحر حتى بدأ الجَزْر وتراجع الماء. وعندما دخل فرعون مع جنوده البحر وقعت لهم من العوائق غير العادية أثناء العبور ما قلّل سرعتهم كثيرًا، وكانوا لا يزالون في وسط البحر عندما أدركهم المَدّ فغرقوا. وهذا ما يؤيده وصف القرآن للحادث بقوله: [فكان كل فرق كالطود العظيم] .. أي عندما تراجع ماء البحر كان كل جزء منه كالتلّ الرملي المرتفع. فلو كان القرآن يريد القول بأن البحر قد انشق جزئين لما استخدم كلمة “كل” التي تدخل على نكرة مفردة. فلفظ “كل” تبين أنَّ البحر لَمْ ينشق إلى قسمين وإنما تراجع الماء عن أماكنه .. كما يحدث في البحار التي توجد على جوانبها حُفر ومنخفضات، فتبقى ممتلئة بالماء وقت الجَزْر. وهذا ما حدث وقتها هناك. كان على جانب بني إسرائيل بحر من ناحية، ومن ناحية أخرى تلك البحيرات الصغيرة والحفر الممتلئة ماء. وكما هي ظاهرة طبيعية .. تبدو هذه المساحات المائية لمن يمر بينها كأنها تلال من الماء. ويتبين من خريطة خليج السويس أنه توجد على شواطئه العديد من البحيرات التي كانت أكثر عددًا في الماضي كما تَدُلُّ على ذلك الخرائط القديمة.

بعد ذِكر معنى الآية من وجهة نظري أرى من المناسب ذكر ما رآه المفسرون السابقون. يرى هؤلاء أنَّ موسى عَلَيهِ السَلام عبرَ النيل، ويضيفون أنَّ النهر انشق من اثني عشر موضعًا. ويستدلون على هذا بقوله تعالى: [فكان كل فرق كالطود العظيم]. ويرون أنه انشق هكذا لتعبر قبائل بني إسرائيل الاثنتا عشرة كل على حدة. ويبالغون في هذه القصة إلى قول أنه كان هناك حاجز من الماء يفصل بين كل قبيلة وأخرى، ورفضت القبائل العبور ما لم تر كل واحدة منها الأخرى. فدعا موسى ربه، فأمره أن يدخل عصاه في جدار الماء ففعل. فحدثت ثقوب في الحاجز حتى سمع ورأى منها بعضهم بعضًا (الكشاف). وكأن الماء قد تجمّد بحيث يبقى الثقب على حاله، وكأن عصا موسى طالت حتى شقت بضربة واحدة كل الحواجز الاثني عشر التي مرت بينها بنو إسرائيل!! ولم يُلق أحدٌ من المفسرين الضوء على سبب إنشاء طريق لكلّ قبيلة على حدة، مع أنهم على هذا الحب الشديد الذي جعلهم لا يرتاحون إلا برؤية بعضهم البعض، ولم يطمئنوا للعبور مع وجود موسى بصحبتهم؟ لماذا لم يستطيعوا العبور جميعا عن طريق واحد؟!

إنَّ المفسرين وقعوا في خطأ خطير ظنًا منهم أنَّ الماء الذي عبره موسى مع قومه هو ماء النيل، ولكن الأحداث لا تثبت ذلك. فكما يتبين من التاريخ والآثار القديمة كان سكان العاصمة في زمن موسى ؑ وإلى زمننا هذا يقيمون على الجانب الشرقي من النيل لا الغربي منه (انظر الخريطة) ؛ يتبين من هذه الخريطة بوضوح أنَّ أرض كنعان التي قصدها موسى وقومه تقع إلى الشمال الشرقي من النيل. وكانت عاصمة الفراعنة في منطقة (جوشن) وتسمى أيضًا (وادي الثميلات) (موسوعة الكتاب المقدس، تحت كلمة رعمسيس). وهذا الوادي يقع في الشرق من النيل، وكل من يسافر إلى كنعان من هناك لا يعبر النيل. وبما أنه لا يقع أي نهر بين عاصمة مصر القديمة وبين قادس التي وصل إليها موسى مع بني إسرائيل، فلزم أنَّ يكون المكان الذي عبره موسى وقومه بحرًا أو جزءًا كبيرًا منه. فكل هذه القصص التي ذكرها المفسرون لغو لا يصدقه القرآن الكريم. إنه يستعمل كلمة البحر واليم، وكلمة (اليَمّ) وإن كانت تطلق على النهر أيضًا إلا أنها أكثر استعمالاً في البحر أو البحيرة المالحة. ولا يقع بين موطن بني إسرائيل في مصر وبين كنعان إلاَّ البحر أو البحيرات المنشقة منه، وليس هناك نهر جارٍ. فالمكان الذي عبره موسى إما هو بحر أو شرم منه.

فكما ذكرت من قبل، انطلق فرعونُ مُطارِدًا بني إسرائيل بعد خروجهم من موطنهم بيوم على الأقل، ولذلك سبقوه إلى ساحل البحر حيث كان الجَزْرُ قد بدأ. ثمّ لمّا لمحوا جيش فرعون قريبًا منهم دخلوا الطريق الخالي من الماء وقطعوا معظمه. ولما وصل فرعون إلى الساحل اندفع بجيشه وراءهم مع مركباته. وتسببت الأرض الرخوة في تأخير مسيرة فرعون، إذ غاصت مركباته فيه وتعطلت. ولقد استغرق ذلك وقتًا طويلاً تمكن بنو إسرائيل أثناءه من الخروج من المنطقة، وخلفوا جيش فرعون وراءهم. وفاجأ المد جيش فرعون وزاد في ارتباكه فَلَمْ يستطع أن يتقدم أو يتأخر. وفي النهاية أغرق الماء معظم جيشه معه. وبسبب اندفاع الماء خرجت جثثهم على الساحل فيما بعد.

وقد أسلفتُ الردَّ على من يسأل: إذا كان موسى قد استفاد من ظاهرة المد والجزر، فأين المعجزة؟ وقلتُ أنَّ المعجزة هي أنَّ الله تعالى أتى به عند ساحل البحر في وقت بداية الجَزْر.

وهنا ينشأ سؤال:

لماذا لَمْ يطارد فرعون بني إسرائيل سالكا طريق البر اليابس بدلا من الدخول وراءهم في هذا الطريق الذي ظهر داخل الساحة المائية؟

والجواب أنَّ بني إسرائيل عبروا على الأغلب من مكان قريب من مدينة السويس يضيق فيه البحر إلى ثلثي ميل تقريبًا (موسوعة الكتاب المقدس). أما المنطقة الشمالية منها فتكثر بها البحيرات والأرض الرخوة المتحركة الخطيرة. وقد توجّه موسى إليها أوّل الأمر، ثم تركها لخطورتها ووعورتها، ونزل إلى المكان الذي عبر منه. ويقول الكتاب المقدس: “وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله تعالى لم يهدهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة، لأن الله قال: لئلا يندم الشعب إذا رأى حربًا ويرجعوا إلى مصر. فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف” (خروج: 7: 17- 18). فلو اتجه فرعون إلى طريق البرّ لكان عليه أن يدور حول البحيرات شمالاً، ولكان بنو إسرائيل أثناء ذلك قد أفلتوا منه بمسافة بعيدة وخرجوا من مملكته. ولذلك لم ير سبيلاً للحاق بهم إلاَّ أن يتبع خطاهم في طريق البحر (راجع سفر الخروج 13 و14، لتجد صورة إجمالية لخروج بني إسرائيل من مصر، وإن كان يتضمن كثيرًا من الأخطاء والمبالغات).

من عبر أي بحيرة عبر بني إسرائيل؟

هذا موضوع يتناوله الباحثون الجُدد. فيرى بعضهم أنَّ موسى عبرَ من قرب بحيرة التمساح اعتمادًا على ورود ذكر نهر في التوراة .. وأنها كانت متّصلة بالبحر عن طريق قناة في زمن سابق (موسوعة الكتاب المقدس، خروج). ويرى البعض الآخر أنهم لَمْ يمرّوا قرب بحر القلزوم بل مرّوا بالقرب من “زوآن” قريبًا من البحر المتوسط (المرجع السابق). ويرى غيرهم أنهم لَمْ يكونوا يعيشون في مصر الأفريقية، وإنما عاشوا في “مصر” الواقعة في شمال الجزيرة العربية. ويرون أنَّ بني إسرائيل أخطأوا وكتبوا في التوراة “مصر” (نفس المرجع). وبحسب هذا الرأي، لو أنهم عبروا بحرًا فعلاً لكان من الشرق إلى الغرب لا العكس، ولم يعبروا خليج السويس وإنما عبروا خليج العقبة. وإذا اعتبرنا موقع مصر التي في الجزيرة العربية لوجدناها أبعد إلى الشمال ومن ثمَ لَمْ يعبروا أيّ بحر، وتكون قصة العبور كلها مُختلقة.

ويتأكد من بحث الآثار والتواريخ القديمة أنه كانت هناك عدة مناطق تسمى “مصر” وكانت تقع في شمال إفريقيا وجنوب الشام وشمال الجزيرة العربية، بل كانت هناك أماكن أخرى تسمى مصر أو مصران أو مصرام أو مصرايم أو مُصرى. وبسبب ذلك عندما وجد هؤلاء الباحثون بعض ما ورد في التفاصيل عن حادثة الخروج في التوراة لا ينطبق على مصر الإفريقية قالوا أنها وقعت في مصر التي بالجزيرة العربية، ويحتّجون على رأيهم بذهاب موسى إلى مدين، لأن مدين تقع قرب حدود مصر الجزيرة العربية.

وإطلاق اسم مِصر على عدة مناطق قد يُعَدّ عجيبًا لدى الكتاب الغربيين، ولكنه ليس كذلك عند العلماء الذين يعرفون اللغة العربية، لأن كلمة “مِصر” تعني في اللغة بلدًا أو مدينة. ويعرف اللذين عاشوا في مدن كبيرة أو زاروها أنَّ من يعيشون حول هذه المدن يشيرون إليها باسم “مصر” بدلاً من ذكر اسمها، فمثلاً يقول أهلُ الريف عند زيارتهم للقاهرة أنهم ذهبوا إلى مصر. فلا عجب إذا أطلق العربُ أو من لهم لغة تشبه العربية اسم مصر على منطقة فيها بلدان كبيرة سواء كانت في الشام أو في الجزيرة العربية أو في أفريقيا .. وذلك في زمن لْم توجد فيه مدن كبيرة. وما كان مرادهم من كلمة مصر أو مصرام وغيرهما إلاَّ أنها منطقة فيها بلدان. وكان العيش في المدن أعجوبة عند قوم من أهل البادية كالعرب، وكانت المناطق التي تكثر فيها المدن أمرًا محيرًا لهم، ولذلك كان من الطبيعي أن يطلقوا عليها اسم مصر أو أمصار أو ما شابه ذلك. فلا يمكن الاحتجاج بكلمة “مصر” وحدها على أنَّ أحداث خروج بني إسرائيل وقعت في مصر من هذه الأمصار وليس مصر الأفريقية.

إذًا، فبسبب اختلافاتهم في جزئيات الطريق الذي مرَّ منه بنو إسرائيل لا نستطيع أن نصرف النظر عن المسألة الأساسية .. وهي اتفاق القرآن الكريم والتوراة على أنَّ ملوك مصر التي خرج منها بنو إسرائيل كانوا يُسمَّون فراعنة، وكانوا يُحنطون جثث موتاهم، وهذا ينطبق على مصر الأفريقية وحدها.

هذا، وتاريخ الأزمنة القديمة ليس محفوظًا بحيث نستطيع معرفة تفاصيله معرفة صحيحة مائة بالمائة. فعلينا أن نتّخذ ذلك الاتفاق الذي بلغ من الصحة سبعين بالمائة مثلاً ونترك الاختلاف الذي ينحصر في الثلاثين بالمائة المتبقية، ولا نرتكب حماقة فعل العكس.

هل دخل بني إسرائيل إلى مصر؟

وهناك البعض الذين يحاولون أن يثبتوا من شهادة التاريخ السلبية أو الإيجابية أنَّ بني إسرائيل لَمْ يدخلوا مصر ولم يعيشوا فيها أصلاً. ويُبنى استدلالهم على الأمور التالية:

  1. عدم ذِكر بني إسرائيل في الآثار المصرية القديمة.
  2. يتبين من أثر يعود إلى زمن الملك منفتاح -الذي يقال إن موسى أخرج بني إسرائيل من مصر في عهده- أنَّ بعض قبائل بني إسرائيل كانوا يعيشون في كنعان في العام الخامس من عهده. وتقول التوراةُ إنهم خرجوا من مصر في عهده ودخلوا كنعان بعد حوالي خمسين سنة.
  3. صحيح أنَّ الآثار المصرية تذكر مجيء بعض القبائل الآسيوية إلى مصر، ولكننا إذا طبّقنا هذه الأحداث على بني إسرائيل تطابقت الأحداث وَلَمْ تتوافق التواريخ، وإذا توافقت التواريخ لم تطابق الأحداث. فثبت أنَّ كُلّ القصة مُختلقة.

ولمّا كان القُرآنُ الكريم يذكر دخول بني إسرائيل في مصر وخروجهم منها فلا بُدَّ لنا من الردّ على هذه النظريات، فنقول:

  • أولاً: ليس ضرورياً أن يُعرف كُلّ شيء بالآثار القديمة. فلو بادت أُمّة متقدمة من هذا الزمن المتحضر .. فهل يمكن معرفة تفاصيل تاريخهم الكامل: عددهم وعاداتهم وعلومهم وفنونهم ودياناتهم ومذاهبهم .. من دراسة آثار مدينة أو مدينتين منها؟ فإن لَمْ يكن ذلك ممكنًا .. فما أسخف الظن بأنه بالحفر والتنقيب في بلد أو بلدين يمكن معرفة تفاصيل دقيقة كاملة عن أحوال أُمّة مضت منذ آلاف السنين! إنه أمر مخالف للعقل، ولو بنينا عليه علمًا لكان ذلك استهزاء بالعلم نفسه. إنَّ الحصول على الشهادة الأثرية الإيجابية ذو قيمة بلا شك وإن كان فيها احتمال خطأ كبير، ولكن القول بأن قومًا لَمْ يعيشوا في مكان لأننا لَمْ نعثر بعد على آثار لهم لقولٌ خاطئ وخلافٌ العقل. كان الواجب على هؤلاء الكُتّاب تجنّب ذِكر ذلك في كتبهم العلمية. أيُّ وزنٍ كان لبني إسرائيل في مصر؟ كانوا يعيشون عبيدًا، وَلَمْ تعهد إليهم مسئوليات ذات قيمة حتى يكون لهم ذكر في الآثار التاريخية. وأبرز ما كان يميزهم هو دينهم المختلف عن دين المصريين. وربما لَمْ يكن حكام مصر في ذلك الوقت مصريين خالصين، ولذلك كانوا يخشون تآمر بني إسرائيل مع الأعداء ضدهم. وفي مثل هذه الظروف لَمْ يكن هناك داعٍ لذكر اسم بني إسرائيل في الآثار التاريخية. وإن كان لهم هناك ذِكر فإن الآثار لا تعطي إلا نتفًا من التاريخ وليس كُلّ التاريخ. فسكوتها عن ذِكرهم لا يكون دليلاً على عدم مكوث بني إسرائيل في مصر.
  • ثانيًا: أما قولهم بوجود أثر فرعوني من زمن منفتاح أو مَلِكٌ قبله يدلّ على أنَّ بني إسرائيل وقتها كانوا يعيشون في كنعان .. فذلك قول لا وزن له أيضاً، لأن هذا الأثر الذي لم يتعين تاريخه، إذا كان من زمن ما بعد يوسف وما قبل خروج موسى، فإنه يعني فقط أنَّ جزءًا من بني إسرائيل كان قد هاجر إلى كنعان قبل خروج موسى إلى مصر، وأما إذا كان من زمن ما قبل يوسف أو ما بعد خروج موسى فهذا لا يشكّل دليلاً خلاف ما نقول.
  • ثالثًا: أما قولهم بأنه مما لا شك فيه أنَّ بعض الشعوب الآسيوية ورَدَ ذِكرُهم في تاريخ مصر ولكنه لا ينهض سببًا لاعتبارهم بني إسرائيل، فهو دليلٌ سلبي محض. والدليل السلبي القائم على آثار ناقصة ليس دليلاً، ومثله كمثل من يدّعي بعدم وجود موضوع ما في كتاب ضاعت منه نصف صفحاته. فربما كان الموضوع مذكورًا في الصفحات الضائعة.

أدلة قياسية على عيش بني إسرائيل في مصر

والآن أُقدّمُ أدلةً قياسيةً على عيش بني إسرائيل في مصر:

  • 1. يعترف هؤلاء المنكرون أنفسهم بأن اسم موسى موجودٌ في اللغة المصرية القديمة. فيرون أنَّ أصل كلمة “مُوسي” هو “مَوْسِي” ومعناه الابن. ( موسى والتوحيد، سيجموند فرويد). وإذا كانت هذه دعوى صحيحة فقد ثبت أنَّ بني إسرائيل عاشوا في مصر الأفريقية، وطالَ عيشهم هناك حتى تسمّوا بالأسماء المصرية. وهؤلاء يدّعون أيضاً أنَّ أسماءَ بعض أصحاب موسى -مثل حور التي وردت في التوراة- أسماءٌ مصرية؛ ولو صحَّ هذا لكان دليلاً أيضاً على عيش بني إسرائيل في مصر ثم خروجهم منها.
  • 2. لا تقول التوراة بأن آباء الإسرائيليين كانوا ملوكًا وحكامًا في مصر حتى نقول عنهم أنهم اختلقوا هذه القصة تعظيمًا لشأنهم، وإنما تذكر أنهم عاشوا فيها عبيدًا مضطهدين، فلا نجد سببًا لتلفيق مثل هذه القصة.
  • 3. تفصيلات التوراة عن هذا الحادث تَصدُق كلها على مصر الأفريقية، منها ذكرُ الفراعنة، وأسماءُ بعض ملوكهم التي أكَّدتها الآثار، وأسماءُ بعض الأماكن الواقعة في مصر والتي كانت آثارها قد اندثرت جغرافيًا بصفة عامة، ولكن الحفريات الحديثة كشفت عن وجودها، وقوانينُ الفراعنة وآدابهم ومخازن الغلال. وقد أكدت الآثار على صدق هذه التفاصيل الواردة في التوراة.

ولنذكر ضمنًا أنَّ القرآن الكريم قد ألقى الضوء على عقيدة المصريين باتصاف ملوكهم بصفات الإله. وقد تأكد هذا الأمر أيضاً باكتشافات الآثار المصرية القديمة.

تؤكد كُلُّ هذه الآثار بوجود علاقة عميقة بين إسرائيل ومصر في ذلك الزمن. وأما ما يثار اليوم من شبهات فسببها أنَّ القائلين بها يريدون أن تكون كُلّ هذه التفصيلات متطابقة تمامًا مع ما وجدوه من معلومات من الاكتشافات الأثرية الناقصة أو في كتب التاريخ الناقصة. وهذه مُطالَبةٌ مُخالِفةٌ للعقل.

  • 4. وكذلك يتضح من التاريخ اليوناني القديم أنَّ المصريين كانوا يتحدثون بخروج بني إسرائيل من مصر. ولكن هذه الروايات اليونانية خالية ومشوهة للحقائق أيضاً، كمثل قولها أنَّ بني إسرائيل كانوا أولاد المصريين المصابين بالجذام، عاشوا معزولين عن سائر الناس بسبب مرضهم، وكانوا ينكرون آلهة المصريين، فثاروا على المصريين فطردوهم. وقد ذَكَرَ هذه الروايات المؤرخُ “أبديرا” المعاصرُ للإسكندر الأكبر، والمؤرخُ “منيثو” من هيلوبوليس (إسرائيل، لأدولف لودز).

ولا شكّ أنَّ هذه الروايات تخالف ما جاء في التوراة مخالفة تامة، ولكننا نتساءل: لماذا قالها المصريون إن كان بنو إسرائيل لَمْ يعيشوا في مصر وَلَمْ يخرجوا منها؟ وأما سبب الاختلاف بين هذه الروايات وما ورَدَ في التوراة فهو أنَّ المصريين كانوا أعداء للإسرائيليين، وهلك ملكهم مقهورًا ذليلاً أمام موسى، فقالوا أنَّ بني إسرائيل كانوا مرضى بالجذام، وطردناهم من بلادنا.

فالتوراة والقرآن يبيّنان أنَّ بني إسرائيل كانوا ذهبوا إلى مصر وخرجوا من هناك بعون الله تعالى ونصرته. وهذا هو الْحَقُّ الواضح.

وبعد أن تَبيّنَ أنَّ المُراد بكلمة “مصر” هي مِصرُ الأفريقية المعروفة فقََدْ ثبت أنَّ بني إسرائيل خرجوا من مصر قاصدين كنعان. أما التساؤل عما إذا كان طريق خروجهم من الجنوب أو الوسط أو الشمال فهذا لا يحمل أهمية كبيرة من وجهة النظر الدينية. ولكن فيما يتعلق بالبحث المتوافر وظاهرة المَدّ والجَزْر المذكورة في القرآن والتوراة فالأقرب إلى العقل أنهم اتجهوا من عاصمة مصر وقتئذ، وهي عند موقع تل أبي سفيان، بادئين أولاً من الوسط. أي إلى بحيرة التمساح الأقرب إلى كنعان، ولما اعترضت البحيرات طريقهم اتجهوا إلى الجنوب وعبروا إلى سيناء من البحر في وقت الجَزْر قريبًا من مدينة السويس، ومن هناك اتجهوا إلى قادس.

ويتبين من قوله تعالى: [وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون] أنَّ المكان الذي عبر منه بنو إسرائيل البحر كان قليل الاتساع، ولولا ذلك ما استطاعوا مشاهدة غرق آل فرعون في وسط البحر من الجانب الآخر. وقد سبقت الإشارة إلى أنَّ عرض خليج السويس في أقصى شماله يبلغ حوالي ثلثي ميل. وإذا اعتبرنا أنَّ آل فرعون غرقوا في منتصف هذه المسافة مثلاً، فمعنى ذلك أنَّ الإسرائيليين كانوا يشاهدون منظر غرقهم واقفين على بعد 500 أو 600 متر. ويبدو أنَّ فرعون وبعض حاشيته ما كانوا يعرفون السباحة، أو أنَّ الوقت كان مساءً، وخيّم الظلام، فضلُّوا الطريق وتخبطوا في المياه ودخلوا المياه العميقة فغرقوا. وحدث نفس الشيء مع نابليون في الواقعة التي ذكرناها من قبل .. فقََدْ حلّ عليهم المساء عندما دخلوا في الطريق اليابس الذي كشفه تراجع الماء وقت الجَزْر، وكانوا لا يزالون يسيرون فيه عندما جاء المدّ. ولما كانت هناك كثيرٌ من البرك الصغيرة في الأرض اليابسة اتصّل ماءُ البحر بماءِ البرك، وَلَمْ يستطيعوا أن يحدّدوا الجهة المقصودة. فخافوا أن يتجهوا إلى المياه العميقة بدلاً من الشاطئ فغرقوا. عندئذ أمر نابليون زملاءه أن يتقدّموا في الاتجاهات الأربعة على شكل علامة “+”، فإذا صادف فريقٌ منهم الماءَ العميق حذّر رفاقه وارتدّوا في الاتجاه الآخر. وهكذا تلمّسوا طريقهم حتى خرجوا إلى الشاطئ. ولمّا وصل نابليون إلى برّ الأمان استلقى على الرمال وقال بطريقة عفوية: لو غرقتُ اليوم لأثار العالَمُ المسيحي كلّه ضجّة وقال: ها قد غرق فرعون آخر في البحر.” (التفسير الكبير، سورة البقرة)

إذن كانت هذه المعجزة هي توقيت نجاة موسى ؑ وليس أنَّ في العَصا قوة خارقة أو ما ينسبه بعض المفسرين رحمهم الله للقصة بسبب الإسرائيليات التي كانوا يوردونها على سبيل الرأي والاستئناس والتعجب فقط لأنها مثيرة وتُقدّم تفسيراً لِما ورَدَ في الكتاب المقدس، فكانوا يقدّمونها كآراء تفسيرية فلهم أجر ذلك عند الله تعالى لإحسانهم الظن وبذل الجهد. ولكن للأسف بسبب هذه الإسرائيليات صار يُنسب إلى الله تعالى وكتابه المجيد ما لا يليق. ولذلك فقََدْ بيَّنَ المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بأن المعجزة المذكورة في القصة كانت عبارة عن توقيت وصول موسى عليه السلام البحر وقت الجزر، وتوقيت وصول فرعون ومن معه وقت المدّ. وهنالك ظواهر طبيعية مشابهة لما حدث مع سيدنا موسى عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام منها على سبيل المثال ظاهرة انشقاق البحر التي يحتفل بها شعب كوريا الجنوبية ويعدّونها من المهرجانات السياحية البارزة ويطلقون عليها اسم “مهرجان انشقاق البحر في جيندو Jindo Sea Parting Festival” لأنها تقع في جزيرة “جيندو Jindo” الكورية، وهي في أرخبيل جيندو الذي يضم 250 جزيرة، وتعتبر جيندو ثالث أكبر جزيرة في كوريا. ويحدث هذا الانشقاق البحري مرتان في السنة؛ الأولى في نهاية شهر نيسان/أبريل والثانية في منتصف حزيران/يونيو من كُلّ عام، وسبب هذه الظاهرة هو المد والجزر شديد الانخفاض لدرجة ظهور طريق طبيعية بطول 2.9 كيلومتراً وعرض ما بين 10 إلى 40 متراً تربط جزيرة جيندو الرئيسية وجزيرة مودو الصغيرة بجنوب جزيرة جيندو. ويجذب الجسر البحري الطبيعي الناشيء بفعل هذه الظاهرة ما يقارب نصف مليون سائح محلّي وأجنبي لحضور هذا الحدث سنوياً. وتظهر الطريق على سطح البحر لمدة ساعة تقريباً قبل أن تغمرها المياه مرّة أخرى. (انظر المقال في موقع ناشونال جيوغرافيك)

العبرة من معجزة إنشقاق البحر

كذلك تناول المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ العبرة وَالْحِكْمَةَ من هذه إيراد هذه القصة في القُرآن الكَرِيم كما يلي:

يخبرنا اللهُ تعالى هنا أنه أوحى إلى موسى ؑ أن يضرب بعصاه البحر، فضربه، فانشق، فتراءى كُلّ من ماء البحر وماء البحيرات الصغيرة الموجودة قريبًا من البحر كتلال مرتفعة، فقرّب اللهُ تعالى جنود فرعون من ذلك المكان، فمرّ موسى ؑ بسهولة من اليابسة المنكشفة بين البحر والترع، بينما أصيب فرعون وجنوده بالذعر حيث أخذت عجلات عرباتهم تغوص في الرمال، فلم يستطيعوا عبورها حتى فاجأهم المدّ وأغرقهم جميعًا. … لقد ذَكَرَ المفسرون القدامى بصدد هذه المعجزة قصصًا عجيبة غريبة، فقالوا في تفسير قوله تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} إنَّ موسى ؑ “ضربَ البحرَ فصار وانشقّ اثني عشر فلقًا بعدد الأسباط” (فتح البيان)، لتعبر كُلّ قبيلة من مسلك منفصل.

وقد بالغ البعضُ أكثر فقال إنَّ جدارًا مائيًا حالَ بين كُلّ قبيلة وأخرى، فَلَمْ يستطع بعضهم رؤية بعض، فقالوا لموسى: لن نتقدم خطوة واحدة ما لم يرَ بعضنا بعضا. فدعا موسى ربَّه، فأمره اللهُ ﷻ أن يُدخل عصاه بين الجدران المائية الحائلة بينهم، ففعلَ، “فصارت فيها كُوى فتراءَوا وتسامعوا كلامهم”، وعبروا البحر فرحين مسرورين. (الكشاف)

ولا شكّ أنَّ المفسرين قد ذكروا هذه القصة إشباعًا لطبائعهم المعجَبة بالعجائب والغرائب. ليتهم ذكروا أيضًا طول عصا موسى ؑ التي تمكن بتمريرة واحدة بها من ثقب جميع الجدران المائية الحائلة بين اثني عشر مسلكًا مرّ بها اليهود. وليتهم بيّنوا أمرًا آخر، وهو أنَّ بني إسرائيل إذا كانوا مُتحابّين فيما بينهم بحيث رفضوا عبور البحر إلا ويرى بعضهم بعضاً، فلماذا لم يعبروه من طريق واحد؟ ولماذا اختارت كُلّ قبيلة طريقًا منفصلاً؟ فعبورهم البحر من طرق مختلفة في ذلك الوقت الحرج الذي كان فرعون يطاردهم فيه، وحبُّ بعضهم لبعض لدرجة أنهم قد رفضوا التقدم خطوة واحدة إلا إذا كانوا يرون بعضهم بعضاً، لأمرانِ متعارضان يدلّان على أنَّ القصة كلّها كذبٌ وافتراء.

كُلّ ما في الأمر أنَّ الله ﷻ قد أتى ببني إسرائيل إلى البحر وقت الجزر، فما إنْ ضرب موسى ؑ بعصاه البحر حتى أخذ الماء ينحسر. وعندما وصل فرعون البحر كان موسى ؑ قد عبرَ مُعْظم اليابسة التي انحسر عنها ماء البحر، فلما رآهم فرعونُ يعبرون البحر من ذلك المكان أسرع وراءهم بعرباته. وَلَكِنَّ رمال البحر أدّت إلى هلاكه وجنوده حيث أخذت عجلات عرباتهم تغوص في الرمال، وقضوا وقتًا طويلاً في محاولة إخراجها من الرمال، حتى حان وقتُ المد، فرجع الماءُ وأغرقَ فرعونَ وجنوده.

والحقّ أنَّ قوله تعالى {فَانْفَلَقَ} أيضاً يشير إلى هذه الحقيقة، لأن الانفلاق يعني الانشقاق والانفصال. والمراد من انفلاق البحر أنَّ ماءه انحسر عن الشاطئ، فظهرت اليابسة، فمرّ بها بنو إسرائيل والبحرُ على جانب منهم والبحيراتُ الصغيرة الواقعة قريبًا من البحر على جانبهم الآخر، وتراءت لهم مياه البحر والبحيرات كتلال مرتفعة.

يقول الله ﷻ مشيرًا إلى هذه المعجزة العظيمة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .. أي تكمن في هذه الواقعة آية عظيمة تدل ّعلى قدرة الله ﷻ وعظمته، ولكن المؤسف أنَّ الناس يتعامون عن هذه الآيات العظيمة ولا يحظون برضاه وحبه من خلال الإيمان بأنبيائه. فكلّما يأتيهم نبي من عنده ﷻ يكفر به الأكثرية منهم، وقليلٌ هُم الذين ينالون شرف الإيمان به. مع أنَّ المفروض بعد رؤية هذه الآيات العظيمة أن تُلبي الأكثرية منهم نداء الله تعالى، ولا يحرم من ذلك إلا قلة قليلة جدًا. ولكن الغريب والمؤسف جدًا أنَّ الناس لا يفتحون عيونهم لرؤية الْحَقّ رغم ظهور مثل تلك الآيات العظيمة أيضاً، بل يصرّون على الرفض والإنكار والمعارضة، وبالرغم من إنكارهم يُعلِنُ اللهُ تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .. أي أنه تعالى يجعل أنبياءه غالبين كبرهانٍ على كونه تعالى عزيزًا، ورغم استهزائهم وكفرهم يبعث رسوله مرة أخرى عند ظهور الفساد في الأرض، كدليل على أنه تعالى رحيم. ذلك أن {الرَّحِيمُ} على وزن فعيل، والكلمات العربية التي تكون على هذا الوزن تَدُلُّ دائمًا على الاستمرار والتواتر؛ وعليه فقََدْ أشار اللهُ Iبذكر صفته “الرحيم” هنا إلى سنّته المستمرة منذ الأزل أنه كلّما ظهر الفساد في الأرض بعث اللهُ ﷻ أحدًا من عنده ليأتي إليه بعباده الضالين التائهين ويوصلهم به ثانية. فلم يُبعَث في الدنيا نبي قط لَمْ يتغلب على أعدائه، ولم يحدث قط في الدنيا أنَّ أهلها فسدوا ولم يهيئ الله ﷻ الأسباب لإصلاحهم. لقد جاء آدم فعارضه الناس، ولكن الله ﷻ لم يقل بسبب معارضتهم: حسنًا لن نبعث إليهم بعد ذلك نبيًا، بل بعث نوحًا بعد آدم لهدايتهم. فتعرّض نوحٌ أيضاً للمعارضة الشديدة، ومع ذلك لمّا وجد الله ﷻ عباده قد ضلّوا بعده أقام إبراهيمُ لهدايتهم. فواجه إبراهيمُ أيضاً معارضةً شديدةً حتى ألقوه في النار، ورغم ذلك بعث ربُّنا الرحيمُ موسى لهداية البشر، ثم بعث من بعده في أمته مئات الأنبياء الذين قد قُتل بعضهم أيضاً، ورغم العداء الشديد الذي تعرّض له الأنبياء قد بعث اللهُ تعالى نبيَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لهداية الناس حين رأى أنَّ الفساد قد ظهر في البرّ والبحر.

إذًا، فإننا نجدٌ في كُلّ عصر الدلائلَ على كون الله ﷻ عزيزًا حيث كان الله ورُسله هم الغالبين في كُلّ عصر كما يُعلِنُ اللهُ ﷻ في موضع آخر من القرآن الكريم: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}(المجادلة:22). كما نجد٫ البراهين على كون الله ﷻ رحيماً أيضاً في كُلّ عصر، بمعنى أنه تعالى لَمْ يزل -رغم معارضة الناس لأحبته بكل شدة- يبعث رُسله لهدايتهم مَرّةً تلو أخرى. وقد ذَكَرَ اللهٌ ﷻ في قصة موسى ؑ صفتيه “العزيز” و”الرحيم” لأنها قد أكّدت أنَّ الله عزيزٌ حيث صار موسى ؑ غالباً على فرعون الذي دُمّر تدميرًا، برغم أنَّ موسى ؑ لَمْ يملك أيّة قوة إزاء فرعون وجنوده. كما برهنت هذه المعجزة على أنَّ الله ﷻ رحيمٌ أيضاً، حيث لَمْ يمتنع ﷻ عن بعث رُسله إلى الناس على الرغم من تعرُّض نبيّه موسى لمعارضة شديدة، بل كلّما ضربَ عبادَه الجوعُ والإفلاس روحانياً بَعَثَ تعالى رُسله لمساعدتهم وإصلاحهم.” (التفسير الكبير، الشعراء)

فهي إذن معجزة عظيمة تحمل معانٍ وعِبَر تبيّن حُب الله تعالى لعباده ونصرته لهم وإرادته نجاتهم جميعاً مؤمنهم وكافرهم رغم كُلّ الجرائم التي يرتكبونها بحقّ أنفسهم وبحقّ رُسل الله تعالى والمؤمنين به، مما يدلّ على وجوب توكّل العباد على الله تعالى دائماً والدعاء له في كُلّ الأوقات والظروف والتسليم له تعالى، والتخلُّق بهذه الصفات العظيمة من صبر وعطف وصدق وطهارة ورحمة، فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

لقراءة المزيد في قصة سيدنا موسى عليه السلام

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد