المقدمة

قيل عن كتاب “أسباب النزول” للواحدي بأنه:

أشهر كتاب في هذا الفن وهو كتاب “أسباب النـزول” للواحدي النيسابوري، الذي قلما تخلو منه مكتبة باحث، وقد صرح العلماء بتفوقه في هذا المجال كالزركشي (البرهان: 1/22) والسيوطي (الإتقان: 1/38، لباب النقول: 16) وغيرهما (مباحث في علوم القرآن للقطان: 75 علوم القرآن لزرزور: 133).” (مقدمة كتاب “أسباب النـزول” للواحدي النيسابوري)

أقوال العلماء فِيهِ:

علي بن أحمد بن محمد بن علي، أبو الحسن الواحدي النيسابوري. كان من أولاد التجار من ساوه، وكان أوحد عصره في التفسير. كان إماماً عالماً بارعاً محدثاً؛ صنّف التفاسير الثلاثة: البسيط والوجيز والوسيط.” (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)

قَالَ عَبْد الغافر الفارسي: “الإمام المصنف المفسر النحوي، أستاذ عصره وواحد دهره، أنفق صباه وأيام شبابه في التحصيل، فأتقن الأصول عَلَى الأئمة، وطاف عَلَى أعلام الأمة.”

وَقَالَ معاصره الباخرزي: “الشيخ أبو الحسن عَلِيّ بن أحْمَد الواحدي مشتغل بما يعنيه، وإن كَانَ استهدافه للمختلفة يغنيه، ولقد خبط ما عِنْدَ أئمة الأدب مِنْ أصول كلام العرب خبط عصا الراعي فروع الغرب، وألقى الدلاء فِي بحارهم حَتَّى نزفها، ومد البنان إلى ثمارهم إلى أن قطفها، وله فِي علم القرآن وشرح غوامض الأشعار تصنيفات بيده لأعنتها تصريفات.

وَقَالَ القفطي: “الإمام المصنف المفسر النحوي أستاذ عصره، قرأ الحَدِيْث عَلَى المشايخ، وأدرك الإسناد العالي، وسار الناس إلى علمه، واستفادوا مِنْ فوائده.

وَقَالَ ابن خلّكان: “كَانَ أستاذ عصره في النحو والتفسير ورُزق السعادة فِي تصانيفه، وأجمع الناس عَلَى حُسنها ،وذكرها المدرّسون فِي دروسهم.

وَقَالَ الذهبي: “الإمام العلّامة الأستاذ …صاحب التفسير وإمام علماء التأويل.

وَقَالَ عَنْهُ فِي العبر: “وأبو الحسن الواحدي المفسر … وأحد من برع فِي العلم … وكان رأساً فِي العربية.

وَقَالَ أيضا: “كَانَ الأستاذ أبو عَلِيّ واحد عصره فِي التفسير … ودأب فِي العلوم … وكان مِنْ أئمة العربية واللغة … وكان مُعظّماً محترماً.

وَقَالَ السبكي: “الإمام الكبير … كَانَ الأستاذ أبو الحسن واحد عصره فِي التفسير.

وَقَالَ ابن قاضي شهبه: “كَانَ فقيهاً إماماً فِي النحو واللغة وغيرهما، شاعراً، وأما التفسير فهو إمام عصره.” (أسباب النزول، تحقيق الفحل 1/ 17. المبحث الخامس، مكانته العلمية وثناء العلماء عَلَيْهِ)

المبحث

وقد ابتدأ الإمام الواحدي النيسابوري الحديث الطويل الخاص باستقبال النبي ﷺ وفد نجران النصراني والذي وردت عبارة أن عيسى أتى عليه الفناء ابتدأه بقوله: “قال المفسّرون” أي أن الخبر تلقّاه عن غير واحد من المفسرين في جيله. والجملة على لسان النبي ﷺ في المناظرة كما يلي:

“«أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وأنَّ عيسى أتى عَلَيْهِ الْفَنَاءُ؟»، قَالُوا: بَلَى.” (أسباب النـزول، سورة آل عمران، ص 68، طبعة “عالم الكتب” بيروت 1983. وكذلك ص 97، طبعة “دار الإصلاح” الدمام، تخريج وتدقيق عصام بن عبد المحسن الحميدان)

أما الحديث الذي رواه الطبري في “جامع البيان” 5/174، وابن أبي حاتم في “التفسير” 2/585 بصيغة “يأتي عليه الفناء“، والحديث كاملاً من تفسير ابن ابي حاتم كالتالي:

حَدَّثَنَا أَبِي (محمد بن إدريس الحنظلي)، ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ (أبو جعفر عيسى بن ماهان الدارابجردي المروزي)، عَنِ الرَّبِيعِ (الربيع بن أنس البكري الحنفي البصري ثم الخراساني)، قوله: “لا إِلَهَ إِلا هُوَ سورة المؤمنون آية 116، قَالَ: إِنَّ النَّصَارَى أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَاصَمُوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَبُوهُ؟ وَقَالُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَالْبُهْتَانَ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لا يَكُونُ وَلَدٌ إِلا وَهُوَ أَبَاهُ؟، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لا يَمُوتُ، وَأَنَّ عِيسَى يَأْتِي عَلَيْهِ الْفِنَاءُ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَتَوَلاهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ؟، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؟، قَالُوا: لا، قَالَ: أَفْلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ؟، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ رَبَّنَا صَوَّرَ عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ يَشَاءُ، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا لا يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَلا يَشْرَبُ، وَلا يُحْدِثُ الْحَدَثَ؟، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا، ثُمَّ غُذِّيَ كَمَا يُغَذَّى الصَّبِيُّ، ثُمَّ كَانَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ، وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ وَيُحْدِثُ الْحَدَثَ؟، قَالُوا: بَلَى.، قَالَ: فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَمَا زَعَمْتُمْ؟ فَعَرَفُوا، ثُمَّ أَبَوْا إِلا جُحُودًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لا إِلَهَ إِلا هُوَ سورة المؤمنون آية 116.” (تفسير ابن أبي حاتم في “التفسير” 2/585، رقم الحديث: 13369)

هذا الحديث لا تصح نسبته إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لأنه حديث ضعيف الإسناد لوجود أحمد بن عبد الرحمن المتفق على ضعفه.

قال عنه أبو أحمد بن عدي الجرجاني: “رأيت شيوخ المصريين مجمعين على ضعفه وكل ما أنكروا عليه فمحتمل لعل عمه خصه به” (الجرح والتعديل)

قال عنه أبو زرعة الرازي: “لا أرى ظهر بمصر منذ دهر أوضع للحديث وأجسر على الكذب مِنْه.” أهـ

قال عنه أبو سعيد بن يونس المصري: “لا تقوم بحديثه حجة” أهـ

قال عنه أحمد بن شعيب النسائي: “كذاب” أهـ

وقد أورده الإمام الذهبي في الضعفاء، وقال: “منكَر الحديث” أهـ

(انظر تهذيب الكمال للمزي)

وقد ذكر الإمام البغوي في إحدى حواشي تفسيره بأن التصويب لهذا الحديث هو رواية الواحدي في “أسباب النزول” كالتالي: “والتصويب من «أسباب النزول» للواحدي.” (معالم التنزيل، البغوي 510هـ، 407 /1، دار إحياء التراث العربي – بيروت، تحقيق: عبد الرزاق المهدي)

كما أن العقل والمنطق أيضاً يرفض صيغة المضارع في الحديث، إذ كيف أجابَ النصارى بـ”بَلَى” أي بالإيجاب عندما سألهم النبيُّ ﷺ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لا يَمُوتُ، وَأَنَّ عِيسَى يَأْتِي عَلَيْهِ الْفِنَاءُ؟” ! فهل يوجد نصرانيٌّ يقول بأن عيسى سوف يموت ؟ بالطبع لا، لأن الصواب هو أن يكون السؤال “أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وأنَّ عيسى أتى عَلَيْهِ الْفَنَاءُ؟، لأن جميع النصارى يُؤْمِنُونَ أن عيسى بالفعل مات ولكنه عاد من الأموات وهو حي ولن يموت ثانية. وهكذا يصبح جوابهم “بَلَى” منطقيا. إذن حتى من الناحية العقلية لا يمكن أن يسألهم النبيُّ ﷺ بصيغة المضارع بل بصيغة الماضي لكي يصح السؤال والجواب معا، وهذا فقط ينطبق على حديث الواحدي في أسباب النزول.

 

وبهذا يتضح أن الحديث بصيغة المضارع “يأتي” إنما تصحيحه يكون على ضوء حديث الواحدي النيسابوري في “أسباب النزول” الوارد بصيغة الماضي “أتى“. ولأن الحديث بصيغة المضارع ضعيف ساقط السند فلا يؤخذ به بل يؤخذ بحديث الواحدي المصوب له والذي لم يروه الواحدي بالسند، ولكونه واحد عصره في التفسير والحديث فهو الأصح نسبة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد

One Comment on “أتى عليه الفناء أم يأتي عليه الفناء”

Comments are closed.