فيما يلي نص رسالة الحاكم الروماني بيلاطس لقيصر إمبراطور الرومان حول الأحداث التي سبقت محاولة صلب المسيح الناصري (عَلَيهِ السَلام). في هذه الرسالة عدد من الأمور التوثيقية المهمة التي تبين ميل الحاكم لإنقاذ المسيح من الموت كما وضح حضرة مرزا غلام أحمد المسيح الموعود (عَلَيهِ السَلام) في إثباته نجاة المسيح الناصري (عَلَيهِ السَلام) من الصليب من الكتاب المقدس. الرسالة منقولة من موقع مسيحي وهي إحدى المخطوطات المنحولة (الأبوكريفا) والتي هي جزء من إنجيل نيقوديموس الذي يعود تاريخه حسب ادعاء الكنيسة نفسها لأواخر القرن الثالث الميلادي وهي توثق قيامة المسيح وغالبا ما يلجأ إليها الآباء لإثبات وجود المسيح وقيامته إلى جانب مخطوطات يوسيفوس (من هنا). فلنقرأ معاً ما خطه الحاكم الروماني بيلاطوس في رسالته :

بيلاطستقرير بيلاطس حاكم اليهودية
إلى الأمبراطور طيباريوس قيصر
عن ظهور يسوع المسيح الناصري في الجليل**

جلالة الملك طيباريوس قيصر الملك المفخم

بعد تقديم ما يجب لسامي المقام من السَّلام والإكرام أعرض:

إنّ الحوادث التي حصلت في ولايتي في هذه الأيّام هي ذات شأن عظيم حتى رأيت من المناسب أن أحرّر لجلالتكم تفصيلاتها لأنّه لا عجب إذا كانت تغيّر مستقبل أمّتنا مع مرّ الأيّام وكرّ الأعوام. لأنّه يظهر لي أنّ الآلهة غضّت الطرف وتخلَّت عنّا في هذه الأيّام، حتّى إنّي أكاد ألعن اليوم الذي استلمت فيه زمام حكومة اليهودية عقب “فاليريوس جراتيوس”، ولكنّ هكذا قدّر وهكذا صار.

عند وصولي إلى أورشليم استلمتُ محلّ القضاء، وأمرتُُ بإعداد وليمة فاخرة دعوتُ إليها رئيس ربع الجليل ورئيس الكهنة وحاشيته ومعيته. ولكن لم يحضر أحد منهم في الميعاد المقرّر للحضور، فاعتبرتُ ذلك سبّة وإهانة لمركزي ومقامي. وبعد أيّام قليلة تنازل جناب رئيس الكهنة وزارني. وكانت تلوح على وجهه الهيبة والخداع، وادّعى أنّ ديانته لا تبيح ولا تجيز له ولا لحاشيته الجلوس على مائدة الرومانيين، وإهراق السكائب معهم. فرأيتُ أنّ الأقرب إلى الصواب والسياسة قبول اعتذاره. ولكن تأكدت من هذه اللحظة أنّ هذه الأمّة المقهورة التابعة لنا أضمرت العدوان والمناوأة لأسيادها المستولين عليها. ويظهر لي أنّ مدينة أورشليم هي المدينة الوحيدة التي يصعب حكمها، بخلاف باقي المدن التي استولينا عليها، فإن دأب سكانها الميل إلى العدوان والهيجان والاضطراب، بحيث أنّني دائمًا في أرق وقلق وجزع وفزع لئلا يخلعوا دثار الطاعة، ويحدثوا القلاقل والفتن. وليس عندي لقمعهم وإخضاعهم سوى قائد مائة وشرذمة قليلة من العساكر تعدّ بالأصابع. وطلبتُ من والي سورية أن يرسل لي إمدادات، فأخبرني أنّه لا يستغني عن نفر واحد من عساكره، فإنّهم غير كافين لحماية ولايته وحفظ الأمن إلاّ بشقّ الأنفس. وأخشى أنّ التولّع الزائد لفتح البلاد وتدويخ العباد وتوسيع مملكتنا بزيادة فاحشة حتى نعجز عن حمايتها والدفاع عنها، يكون سببًا في ضعضعة أركان حكومتنا الفخيمة.

ومن الإشاعات التي طرقت أذني واستلفتت أنظاري بنوع خصوصي، هذه الإشاعة: وهي أنّ شابًا ظهر في الجليل، يدعو الناس، بمسحة ولهجة شريفة، إلى شريعة جديدة. وكنتُ أخشى، في مبدأ الأمر، أن تكون غايته توغير الصدور على الرومانيين، وإغراءهم على القيام عليهم. ولكن زال ما كان يختلج فؤادي من الريب، وانقشعت مخاوفي. فكان يؤخذ من كلام يسوع الناصري أنّه يميل إلى الرومانيين أكثر من ميله إلى اليهود.

وفي ذات يوم، لَمّا كنتُ مارًا في جهة “سلوا” حيث كان مجتمعًا جمهور من الناس، رأيتُ في بهوة الحلقة شابًا متوكئا على شجرة، يخاطب الجمهور بهدوء وسكون. فقلتُ بعد الاستفهام إنّ هذا الشخص هو يسوع، وهو ما كنتُ أنتظره وأتوقعه ويلهمني إليه وجداني. فإنّه كان يوجد بينه وبين السامعين بون عظيم، وفرق جسيم، فلون شعره الذهبي، ولحيته اللطيفة، جعلت هيأته سماويّة، ويظهر أنّه بلغ من العمر ثلاثين سنة. ولم أر في حياتي وجهًا صبوحًا أحلى أو أصفى أو أنقى من وجهه. وما أعظم الفرق بينه وبين سامعيه ذوي اللحى السوداء واللون الأسمر.

ولَمّا كنتُ لا أريد أن أشوش عليه، استمررت في السير، ولكنّي أوعزتُ إلى كاتبي “مانيليوس” حفيد زعيم المتآمرين الذين حلّوا في “اتروبه” في انتظار “كاتلين”، وكان مانيليوس سابقًا من اليهودية، وله إلمام تامّ باللغة العبريّة، وأظهر الولاء والأمانة لي، وهو جدير بثقتي. ولَمّا دخلتُ محلّ القضاء، لقيت مانيليوس، فقصّ عليّ أقوال يسوع التي نطق بها في “سلوا”، ولم أسمع في خطب الخطباء، ولا في مؤلفات الفلاسفة، كلامُا يشبه كلام المسيح وجوامع كلمه.

فسأله أحد اليهود القساة العصاة – فإنّ أمثال هذا العاتي كثيرون في أورشليم– وقال له: هل يجوز أن نعطي الجزية والجباية لقيصر أم لا؟ فأجاب يسوع: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه. فلذا أعطيتُ هذا الناصري، بسبب حكمة أقواله، حريّة تامّة، لأنّه كان في استطاعتي وإمكاني إلقاء القبض عليه، ونفيه إلى بنطس، ولكن لو فعلت هذا لكان منافيًا للإنصاف والعدل اللذين اشتهر بهما الرومان. فلم يكن هذا الرجل من المفسدين، ولا من العصاة، وجعلته تحت ظلّ حمايتي ورعايتي، وإن لم أطلعه على ذلك، فيجوز له أن يفعل كيف شاء، ويتكلّم مع من يشاء، ويجتمع مع الناس ويخاطبهم ويختار تلاميذه بلا تضييق عليه ولا قيد. فإذا قدّر – لا سمحت الآلهة بوقوع هذا الفال– بأن تنسخ ديانة يسوع ديانة أسلافنا وجدودنا، يكون سبب دفن ديانة رومية في الرمس، وزوالها من الوجود، وإطلاق عنان الحريّة للناس في الديانة، وأكون أنا الرجل التعيس آلة ووسيلة فيما يسمّيه المسيحيّون العناية، ونسمّيه نحن بالمكتوب المقدّر.

ولكنّ إطلاق الحريّة ليسوع هيّج اليهود الأغنياء والأقوياء، لا البائسين الفقراء –ولا ينكر أنّ يسوع كان صارمًا على الأغنياء الأقوياء– ومن رأيي أنّ عدم تقييد حريّة الناصري هو لحكمة سياسية مفيدة، فكان يقول للكتبة والفريسيين ما نصّه: يا أولاد الأفاعي، أنتم تشبهون القبور المبيضّة. وكان يزدري بصدقة العشارين الصادرة عن الكبرياء، وأوضح لهم أنّ فلس الأرملة هو عند الله خير، وأبقى وأثمن وأغلى. وكانت تقام شكاوى جديدة كلّ يوم، في محلّ القضاء، على وقاحة اليهود. وبلغني أنّهم عزموا على الفتك به، وليست هذه المرّة الأولى التي رجمت فيها أورشليم أنبياءها. وبلغ عتوهم أن قالوا إذا لم تنصفهم الولاية رفعوا دعواهم إلى قيصر.

ومع كلّ هذا فوقع سلوكي من مجلس “السناتو” في رومية موقع الاستحسان، ووعدوني بإرسال الإمدادات بعد الحرب “البارتيانية”. وبما أنّه إذا استفحل الأمر وحصلت ثورة فليس في استطاعتي إخمادها لعدم وجود القوة الكافية، فلذلك عزمتُ على اتخاذ هذه الطريقة التي تتكفل باستتباب الهدوء والسكون في المدينة، بدون تعريض الولاية للذلّ والاستكانة بالرضوخ لمقترحاتهم.

فأرسلتُ خطابًا إلى يسوع، طالبًا مقابلته في محلّ القضاء للتحدث معه، فلبّى الطلب. ولا يخافكم أنّ في عروقي يجري الدم الإسبانيولي المختلط بالدم الروماني، بحيث لا أخشى من اضطراب الجأش. ولَمّا وصل، كنتُ أتمشى في المحكمة، وظهر أنّ قدمي ربطتا بيد من حديد، بأرض المحكمة المبلّط بالرخام، وارتعدت فرائصي كأنّي مجرم، مع أنّ الناصري كان هادئًا ساكنًا. ولَمّا دنا منّي وقف وأشار إليّ كأنّه يقول لي: ها أنا قد أتيت. فتفرّست بالإنذهال والهيبة، في هذا الرجل العجيب الصورة والهيئة، التي لم يكن لقرائح المصوّرين والنقّاشين أن يأتوا بمثل هذا الشكل البديع، مع تفنّنهم في رسم صور الآلهة والأبطال. وأخيرًا قلتُ له ولساني متلعثم:
يا يسوع الناصري، قد منحتك في الثلاث سنين الماضية حريّة وافرة لتخاطب الناس، وإنّني غير متأسّف على هذا، فإنّ أقوالك هي أقوال حكيم، ولا أعرف إذا كنتَ طالعتَ كتب سقراط أو أفلاطون أو غيرهما. ولكنّ الأمر الأكيد عندي هو أنّ خطاباتك وأقوالك مشهورة بالبساطة السامية التي ترفع قدرك على أولئك الفلاسفة. وبلغ الإمبراطور خبر هذا، وبما أنّني النائب عنه في الحكم على هذه الأمّة، فأنا منشرح لأنّي منحتُكَ هذه الحريّة فإنّك جدير بها. ومع ذلك فلا أخفي عنك أنّ أقوالك وخطاباتك أحدثت لكَ أعداء أقوياء ألداء، ولا عجب في هذا، فقد كان لسقراط أعداء، ومن شدّة بغضهم له جرعوه غصص المنون. وأعداؤك يستاءون منك لسببين: أوّلهما أقوالك، وثانيهما الحريّة التي خولتها لك. بل اتهموني بالاتحاد معك سرًا لنجرّد العبرانيين من السلطة الطفيفة التي تركَتها رومية لهم. فغاية ما ألتمسه منك، ولا أقول على سبيل الأمر، هو أن تزداد تبصرًا واحتياطًا في المستقبل، وأن لا توغر صدور أعدائك لئلا يهيجوا عليك الأوباش، ويحملوني على استعمال آلات العدل“.

فأجاب يسوع الناصري بهدوء:
يا حضرة أمير الأرض، إنّ أقوالك هذه ليست صادرة من الحكمة الحقيقيّة. أيجوز أن تقول للتيار: قف في وسط الجبل، لأنّه يستأصل أشجار الوادي؟ إذن لأجابَكَ هذا التيار الجارف قائلاً: يجب عليّ أن أطيع نواميس الخالق، فالله هو الذي يعرف وحده المحل الذي يصبّ فيه التيار. الحقّ أقول لكَ إنّه قبل أن يزهر نرجس شارون يهرق دم البار“.

فأجبته بروعة وقلتُ له:
لا يسفك دمك فإنّ منزلتك عندي بالنظر إلى حكمتك هي أسمى من منزلة جميع الفريسيين المتغطرسين الميالين إلى الهيجان والعدوان، الذين لم يعرفوا قيمة الحريّة التي خولتها لهم الرومان، بل تألبوا على القيصر وتآمروا عليه وتوهموا أنّ ما أظهرناه لهم من اللين هو خوف. ولم يدر هؤلاء الأسافل الوقحاء أنّه قد يلبس أحيانًا ذئب الأحراش جلد الغنم. وعلى كلّ حال إنني سأحميك من مكائدهم، وسراي عدالتي هي مفتوحة لك تلتجئ إليها في أيّ وقت شئت“.

فأطرق يسوع رأسه بلا مبالاة ولا اهتمام وقال بلطف وتبسم:
إلهي، متى حلَّ يوم ابن الإنسان لا يكون له ملجأ في الأرض ولا تحت السماء، وإنّ ملجأ البار هو هناك“.
قال هذا مشيرًا إلى السماوات وأنّه ينبغي أن يتمّ ما هو مكتوب في كتب الأنبياء. فأجبته بتؤدة وقلت له:
أيّها الشاب إنك تلزمني على تغيير طلبي إلى أمر، فإنّ سلامة الولاية التي فوّض لي الاهتمام بشأنها تستلزم ذلك، والواجب عليك أن تراعي زيادة الاعتدال في خطاباتك، واتبع أوامري ولا تنقضها، ولترافقك السعادة، وأودعك في أمان الله“.
فأجاب يسوع وقال:
يا أمير هذه الأرض، إنّي لم آت بحرب إلى هذا العالم بل أتيتُ بسلام ومحبّة. وولدتُ في اليوم الذي أعطى فيه أغسطس قيصر سلامًا للعالم الروماني، فالاضطهاد لا يصدر منّي بل من غيري، وسألاقيه طاعة لإرادة أبي الذي أراني الطريق. إذًا اكظم تبصرك الدنيوي فليس في طاقتك ولا في استطاعتك أن تحجز الذبيحة عن الفداء“. قال هذا واختفى كظلّ لامع خلف ستار السراي.

فالتجأ اليهود، أعداء يسوع، إلى هيرودس، الذي كان واليًا على الجليل، وطلبوا منه أن ينفث انتقامه على الناصري. فلو فوّض الأمر لهيرودس لأمرَ بقتل المسيح حالاً. ولكن مع تباهيه وافتخاره بمقامه الملوكي كان يخشى من الإقدام على عمل يحطّ من نفوذه.

وفي ذات يوم زارني هيرودس في محلّ الولاية. ولَمّا عزم على الانصراف بعد أحاديث تافهة، استفهم منّي عما أراه بخصوص الناصري فأجبته قائلاً: “يظهر لي أنّ يسوع هو من كبار الفلاسفة الذين يندر ظهور مثله في الأمم العظيمة، وأنّ تعاليمه لا تمسّ حرمة الدين مطلقًا. وأنّ غاية رومية أن تطلق له عنان الحريّة في الخطابة، فإنّ سلوكه وتصرفه يجعلان له حقًا في ذلك“. فتبسّم هيرودس تبسّم الحقد والخبث وانصرف إلى حال سبيله بعد أن سَلّم عليّ سلام متهكم.

وبما أنّه قرب عيد اليهود العظيم كان غرض أئمة ديانة اليهود انتهاز فرصة ضجة ورجة وهرج ومرج الشعب، التي كانوا دائمًا يظهرونها في احتفالات الفصح لدرك مآربهم. وكانت المدينة غاصّة برعاع اليهود أصحاب الشغب والاضطراب الذين كانوا يصيحون طالبين قتل الناصري. وأفادني رسلي بأنّ خزينة الهيكل صرفت على إغراء القوم على الهياج، والخطب جسيم، حتى تطاولوا على قائد مائة روماني بالشتم. وطلبتُ من والي سورية أن يرسل إليّ مائة عسكري من المشاة ومائة أخرى من العساكر الخيالة فلم يسعفني، فرأيتُ نفسي فريدًا بشرذمة من العساكر يعدون على الأصابع في وسط مدينة عاصية، وليس في استطاعتي تسكين هذا الاضطراب وإخماد نيران الشغب. ولم يبق سبيل سوى ترك الأمور تجري في مجاريها، فألقى الأوباش الهائجون القبض على يسوع. ولَمّا آنسوا عدم الخوف من الحكومة إذ ظنّوا مع زعمائهم أنّني جزع فزع من ثورتهم، تمادوا على الصياح قائلين: أصلبه، أصلبه…

وقد تحالف وتآمر في هذا الوقت ثلاثة أحزاب أقوياء. وبيان ذلك أنّ الهيرودسيين اتحدوا مع الصدوقيين على إحداث الشغب والاضطراب لسببين: أولهما، تعصبهم للناصري؛ وثانيهما، تولعهم لخلع نير رومية والتحرّر من سلطانها. فلم يغتفروا إلى دخول مدينتهم المقدسة بالبنادر والأعلام المرسوم عليها صورة امبراطور رومية، وقد وقعت في هذا الخطأ المشئوم جهلاً منّي بعاداتهم، فاستبشعوا واستعظموا هذا الأمر، وعَدّوه انتهاكًَا لحرمة الدين. والأمر الثاني الذي أوغر صدورهم وزاد حقدهم وكيدهم هو أنني كنتُ أشَرتُ بصرف جانب من خزينة الهيكل في تشييد أبنية ذات منافع عمومية فنبذوا هذه الإشارة ظهريًا.

وأيضًا كان الفريسيون أعداء يسوع الألداء، ولم يكترثوا بحكومتنا، وتجرّعوا غصص التوبيخات والتنديدات الصارمة، التي رجمهم بها الناصري مدّة ثلاث سنين، حيثما تَوجّه، ولَمّا كانوا على جانب عظيم من النذالة والجبن وخور العزيمة ولجوا باشتياق وتولع أبواب مشاحنات الهيرودسيين والصدوقيين. وزيادة على هذه الأحزاب الثلاثة تَعيّن عليّ أن أكافح الأوباش والرعاع الجامحين في الغوايات، والميالين إلى الانحياز إلى الثورات والفتن، لأنّهم يستفيدون من الفوضى والاختلال الناشئ عن هذه الفتن.

فساقوا يسوع إلى أن أتوا به أمام رئيس الكهنة الذي كان وقتئذ “قيافا”، فأبدى رئيس الكهنة عملاً دَلّ على خضوعه السخري، فإنّه لو كان خاضعًا لنا خضوعًا حقيقيًا، وممتثلاً امتثالاً صادقًا، لَما حكمَ على يسوع بالموت. فأرسل إليّ لأنطق بالحكم عليه فأجبته قائلاً: بما أنّ يسوع كان جليليًا فهذه القضية هي من اختصاصات هيرودس. وبناءً عليه أمرتُ بإرساله إلى الجليل، فتظاهر رئيس الربع، هذا الخداع المكار، محتجًا باحترامه لمقامي، بصفة كوني وكيل القيصر، وفَوّض أمر هذا لي. وفي الحال، صارت هيئة سراي كهيئة قلعة محصورة. وكان يزداد عدد الثائرين كلّ لحظة، وغصّت أورشليم بالأفواج الكثيرة الآتين من جبال الناصرة، وظهر لي أنّ كلّ اليهودية انسكبت في أورشليم انسكابًا. وكنتُ اقترنتُ بزوجة من “الغال” ادّعت أنّ لها علمًا بالمستقبل، فبكت وألقت بنفسها عند قدميّ وقالت لي:
إحترس ولا تمسّ هذا الرجل لأنّه قدّوس، فقد رأيته البارحة في رؤيا الليل ماشيًا على الماء، وطائرًا على أجنحة الرياح، وكَلّم العاصفة وأسماك البحيرة، وكان الكلّ مطيعًا له، ممتثلاً لأمره، وها هو ذا سيل جبل قدرون جاريًا بالدم، وتماثيل القيصر ملآنة بأقذار حيمونية، وأعمدة الأنتربيم سقطت، وسترت الشمس حدادًا كالعذارى الباكيات على القبر. فيا بيلاطس ، إذا لم تنصت لالتماس زوجتك، لا بدّ أن يلاقيك الشرّ، واخش لعنة السناتو الروماني وبأس القيصر“.

وفي هذه الأثناء كادت سلالم الرخام أن تسقط من ثقل الأفواج الكثيرة. فأتوا ثانية بالناصري إليّ، فتوجّهتُ إلى كرسي القضاء، يتبعني حرسي، وسألتُ المتجمهرين بصوت صارم عما يطلبونه، فأجابوا: نطلب موت الناصري. فقلتُ لهم: وأيّ ذنب اقترفه؟ فأجابوا قائلين: إنّه قد جَدّف وتنبأ عن خراب الهيكل وقال إنّه ابن الله وإنّه الماسيا ملك اليهود. فقلتُ لهم إنّ القانون لم يقدّر عقابًا بالموت على مثل هذه الذنوب. فصاح هؤلاء الجماهير العتاة القساة قائلين: أصلبه، أصلبه. وكاد صياح هذه الجماهير الهائجين المائجين أن يزعزع أساس القصر. وكان في وسط هذه الجماهير الكثيرة، شخص ساكن هادئ، وهذا الشخص هو الناصري. وبعد أن بذلتُ جهدي مرارًا عديدة لوقايته وحمايته من مضطهديه القساة المجردين من الشفقة والرحمة، لم يُجدِ ذلك نفعًا، فاتخذتُ هذه الطريقة التي ظهر لي أنّها الطريقة الوحيدة لإنقاذ حياته، وهي أنني أمرتُ بجلده. ثمّ طلبتُ طشتًا وغسلتُ يدي أمام الجمهور مشيرًا بذلك إلى استهجان عملهم، ولكن لم يأت ذلك بثمرة ولا فائدة، فإنّ نفوس أولئك الأشقياء ظمآنة لقتله.

وكثيرًا ما رأيتُ في ثوراتنا الداخلية هيجان الجماهير وأحقادهم، ولكن ليست بشيء بالنسبة لما رأيت من اليهود في هذه الحالة، حتى يمكن أن يقال إنّه قد اجتمعت جميع الأرواح الجهنمية في أورشليم. وكان يلوح لي أنّ هؤلاء الجماهير غير ماشين على الأرض بل محمولين على الأمواج المتلاطمة من أبواب محلّ القضاء لغاية جبل صهيون يعجّون ويصيحون ويجأرون ويزأرون مما لم يسمع بمثله في فتن “البانوتية” أو في ميدان رومية.

فأخذ النهار يعتم ويظلم بالتدريج مثل شفق الشتاء وكان مثاله مثل الظلام الذي شوهد عند موت يوليوس قيصر العظيم الذي كان في 15 مارس. أمّا من جهتي أنا، والي هذه البلاد، فكنتُ متوكئًا على عمود من أعمدة قصري، شاخصًا من الظلام المخيف إلى زبانية العذاب، يجذبون الناصري البريء ليجرعوه غصص المنون. وخلا جميع الجهات التي حولي فإنّ أورشليم تقيأت جميع الساكنين فيها إلى بوابة الجنازة التي تؤدي إلى “جيمونيكه” واكتنفتني هيئة الخراب والتحسّر، وانضمّ حرسي إلى الخيالة وقائد المئة لإظهار ظلّ القوّة، باذلين الجهد لحفظ النظام، فصرت وحيدًا منفردًا. وناجاني فؤادي بأنّ هذه الأمور الحاصلة الآن هي من متعلقات الآلهة وليست من متعلقات إنسان. وسمع صياح وصراخ عال من الجلجثة محمولاً على الرياح، منبئًا بكرب لم يطرق أذن إنسان مثله، فنزلت سحب مظلمة معتمة على أجنحة الهيكل واستقرّت على المدينة وكأنّها سَتَرَتها بحجاب. وكانت العلامات التي ظهرت في السماوات والأرض هائلة مخيفة، حتّى صاح ديونيسيوس الأريوباغي(1) قائلاً: إمّا أن يكون خالق الطبيعة متألّم أو أنّ العالم آخذ في التمزق.

وفي الساعة الأولى من الليل خلعتُ ردائي ونزلتُ إلى المدينة وتوجهتُ إلى بوابة الجلجثة، وكان قد مضى الأمر وتَمّت الذبيحة. وعادت الجماهير، وإن كانت هائجة مائجة إلاّ أنّه كان يلوح على وجوههم الكمد واليأس واشتغال البال، لأنّه اعتراهم التحسّر والفزع مما شاهدوه. وكذلك رأيت فرقتي الرومانية مارة وعليها هيئة الاكتئاب، وغطى رافع اللواء صورة النسر (وهي علامة بيرق الرومانيين) علامةً على الحداد والغَمّ. وكان بعض العساكر يهمسون بعض ألفاظ غريبة لم أفهم معناها، وكان البعض الآخر يروون عجائب وغرائب تكاد أن تشبه الغرائب التي كثيرًا ما أصابت الرومانيين بإرادة الآلهة، وكانت تقف أحيانًا زمر من الرجال والنساء ساكنين باهتين موجهين أنظارهم إلى جبل الجلجثة منتظرين طروء أمر عجيب آخر.

فرجعتُ إلى كرسي القضاء كاسف البال كثير التفكير والبلبال. ولَمّا طلعتُ على السلالم التي كانت لا تزال ملوثة بدم الناصري، شاهدتُ رجلاً هرمًا في حالة الاستغاثة والتوسّل، وكان خلفه جملة من النساء باكيات فألقى نفسه عند قدميّ وبكى بكاءً مرًّا. ولعمري إنّه يوجعني ويؤلمني رؤية رجل هرم يبكي، فقلت له بلطف: “يا أبي، من أنت وما هي طلبتك؟” فأجاب قائلاً: “أنا يوسف من أرماثا أتيتُ متعطفًا حضرتكم وأنا جاثٍ على ركبتي أن تأذن لي بدفن يسوع الناصري“. فقلتُ له: “قد أجبت طلبك“. وفي الحال أمرتُ ماتليوس أن يأخذ بعض عساكر معه ليلاحظ ويباشر دفنه لئلا يتعرّض أحد له.

وبعد ذلك بأيّام قليلة وجد القبر فارغًا وأذاع تلاميذ يسوع في أطراف البلاد وأكنافها أنّ يسوع قام من بين الأموات كما تنبأ. فبقي عليّ القيام بهذا الواجب وهو إبلاغ جلالة الإمبراطور هذه الحوادث المكدرة.

وبناءً عليه، بادرتُ بتحرير هذا. ولم أنته من تحرير هذا البلاغ إلاّ وبزغ نور النهار. وفي هذا الوقت طرق أذنيّ صوت نفير يضرب نغمة “ديانا” فوجهتُ نظري نحو بوابة قيصر، فشاهدتُ فرقة من العساكر، وسمعتُ من على بعد أبواقًا تضرب سلام القيصر، فاتضح لي أنّها الامدادات التي وعدتني الحكومة الرومانية بإرسالها، ويبلغ عددها نحو ألفَي نفَر، من نخبة العساكر، الذين مشوا طول الليل ليتيسّر لهم الوصول بسرعة، فصرختُ فاركًا يديّ: قد قدر وقوع هذا الإثم العظيم ولا رادّ للقضاء، ولو وصلت العساكر لَما حصل ما حصل، ولكن، هل نقول إنّ العساكر وصلوا اليوم لمنع حدوث فعلة البارحة؟

فتبًا لهذا الدهر الغدار الذي يعبث بأحوال البشر. ولعمري لقد صدق ما صرح به الناصري وهو معلّق على الصليب: “قد أكمل. انتهى

** (هذا هو عنوان المنشور كما ورد على الصفحة الأولى. أمّا العنوان الوارد على الغلاف فهو: “المسيح من خلال الترجمة الكاملة للمخطوط اليدوي النفيس المحفوظ في مكتبة الفاتيكان الذي كتبه الوالي بيلاطوس البنطي ورفعه إلى الأمبراطور طيباريوس قيصر”.)

الحواشي:
(1)- ذكر كتاب الخريدة النفيسة (جزء 1 صفحة 114) تأييدًا لهذا ما يأتي: وفيما هو (ديونيسيوس) بمدينة هليوبوليس متعمقًا في التأملات الفلكية ورصد النجوم صلب سيدنا المسيح وكسفت الشمس. فتأمل في هذا الانكساف الذي كان وقت طلوع القمر بدرًا ودهش جدًّا لحدوثه على خلاف المجرى الطبيعي وصرخ قائلاً: إمّا أنّ إله الطبيعة متألّم وإمّا أنّ العالم أوشك أن يهدم.


الفائدة من هذه الرسالة :

١- أن يسوع شخصية حقيقية تاريخياً ذكره أحد قادة الرومان في مذكراته وهو ما يرد على زعم الملاحدة انتفاء ووهم وجود شخصية يسوع، فالكاتب شخصية رومانية معروفة وهو يشهد على وجود المسيح شهادة واضحة.

٢- أن الحاكم كاتب هذه الرسالة كان مطمئنا ليسوع من الناحية السياسية (لم يكن المسيح يدعو للجهاد ضد المحتل) بل كان يظن أنه يميل إلى الدولة الرومانية أكثر من ميله لمشايخ اليهود.

٣- وصف دقيق لملامح المسيح الناصري (عَلَيهِ السَلام) بأنه أبيض ذو شعر أشقر ولحية وهو ما نراه في اللوحات والأيقونات التي تمثل المسيح برجل مائل إلى الحمرة ذو لحية وشعر طويل وهو ذات الوصف الذي قاله النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) حوله كما في صحيح البخاري.

٤- أن الحاكم كاتب الرسالة قد عبّر بكل وضوح عن ميله واحترامه ليسوع ومنحه الحرية الكاملة للتبليغ ورغبته في حمايته من الأذى في أي وقت. والنص استذكارا هو “لا يسفك دمك فإنّ منزلتك عندي بالنظر إلى حكمتك هي أسمى من منزلة جميع الفريسيين المتغطرسين” و “وعلى كلّ حال إنني سأحميك من مكائدهم“. ولقد حاول بيلاطس فعلا إنقاذ المسيح الناصري (عَلَيهِ السَلام) في نفس يوم الصلب، فنقرأ “وبعد أن بذلتُ جهدي مرارًا عديدة لوقايته وحمايته من مضطهديه القساة المجردين من الشفقة والرحمة، لم يُجدِ ذلك نفعًا، فاتخذتُ هذه الطريقة التي ظهر لي أنّها الطريقة الوحيدة لإنقاذ حياته، وهي أنني أمرتُ بجلده. ثمّ طلبتُ طشتًا وغسلتُ يدي أمام الجمهور مشيرًا بذلك إلى استهجان عملهم“.

٥- توثيق لغدر مشايخ اليهود وخبثهم عندما استغلوا مرور الحاكم الروماني بقرب حلقة الدرس فسألوا المسيح سؤالاً أرادوا من خلاله إثبات دعوة يسوع الناس للخروج على حكم الدولة الرومانية وإثارته الفتن.

٦- توثيق لعدل الروم (الإنجليز والأوربيين اليوم) وإنصافهم.

٧- اعتراف بيلاطس الحاكم وكاتب هذه الرسالة بنبوة المسيح (عَلَيهِ السَلام) بقوله “وليست هذه المرّة الأولى التي رجمت فيها أورشليم أنبياءها“. إضافة لتصديق دعوى المسيح الناصري (عَلَيهِ السَلام) بقوله “ولعمري لقد صدق ما صرح به الناصري وهو معلّق على الصليب: ‘قد أكمل‘”.

٨- اعتراف الحاكم أن يسوعاً ليس عدواً للدولة الرومانية المحتلة بل اليهود هم الذين يؤلبون الرأي العام ضد الحكومة الرومانية تحت غطاء يسوع البريء وأنهم يجرون التحالفات السرية فيما بينهم للتحرر من قبضة الدولة.

٩- توثيق بيلاطس الحاكم الروماني وكاتب الخطاب لرؤيا زوجته حول المسيح الناصري (عَلَيهِ السَلام) والتماسها إياه بعدم المساس به وأذيته بسبب هذه الرؤيا الواضحة بقولها “إحترس ولا تمسّ هذا الرجل لأنّه قدّوس، فقد رأيته البارحة في رؤيا الليل .. إذا لم تنصت لالتماس زوجتك، لا بدّ أن يلاقيك الشرّ” مما يدل على حرص بيلاطس الكبير على سلامة المسيح الناصري (عَلَيهِ السَلام) من الموت.

١٠- إشارة لوحي تلقاه بيلاطس نفسه، حيث قال اثناء عملية صلب المسيح “فصرت وحيدًا منفردًا. وناجاني فؤادي بأنّ هذه الأمور الحاصلة الآن هي من متعلقات الآلهة وليست من متعلقات إنسان.” أي أن ما يجري لا يد لك فيه بل هو من مشيئة الله تعالى.

١١- تأكيد بيلاطس الحاكم على تسليم جثة المسيح (عَلَيهِ السَلام) ليوسف الرامي بدلاً من أعدائه ليتم دفنه (القبر عبارة عن حجرة بشباك علوي تسع عددا من الأشخاص للجلوس والحركة).

١٢- دليل على أن الذي وضع على الصليب هو المسيح نفسه لا شبيهه. كما تفيد أن المسيح لم يمت بدليل اختفاء جثته وإشاعة تلاميذه قيامته من الموت.

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد