لقراءة الجزء الأول: وفاة سيدنا عيسى المسيح ابن مريم ؏ من القرآن والأحاديث – الجزء الأول

عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:

لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِىُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ:

«اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِى مَا وَعَدْتَنِى اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِى اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِى الأَرْضِ».

فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ. وَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ) فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلاَئِكَةِ.” (صحيح مسلم، 4687، 5/156)

والسؤال للقائلين بحياة المسيح في السماء ألم يكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يعلم بأن عيسى عَلَيهِ السَلام (حي) و يعبد الله ؟

ألن ينزل إلى الأرض ليقيم الإسلام فيُعبد الله ﷻ على الأرض ؟

أليس هذا الحديث دليل واضح على موت المسيح عَلَيهِ السَلام !

الحديث التالي الذي ذكره ابن كثير في تفسيره يبيّن معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كما يلي:

لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّينِ لَمَا وَسِعَهُما إلا اتِّباعِي“. (تفسير القرآن العظيم، ابن كثير الدمشقي، 2/68)

وقد شرح ابن كثير رحمه الله بنفسه هذا الحديث ليؤكد على عقيدته بموت المسيح عَلَيهِ السَلام بقوله:

“.. لان الله تعالى شرف هذه الامة بخاتم الانبياء الذي شرع له الدين العظيم القويم الشامل الكامل الذي لو كان موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة وعيسى بن مريم الذي أنزل عليه الانجيل حيين لم يكن لهما شرع متبع بل لو كانا موجودين بل وكل الانبياء لما ساغ لواحد منهم أن يكون على غير هذه الشريعة المطهرة المشرفة المكرمة المعظمة”. (البداية والنهاية، ابن كثير، 2/174)

وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: “ولو كان موسى وعيسى عليهما السلام حيين لكانا من أتباعه وإذا نزل عيسى ابن مريم عليهما السلام فإنما يحكم بشريعة محمد (ﷺ).”. (مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1393 – 1973، 2/476)

وذكر العالم الزاهد عبد الله اليافعي (ت 768هـ) في “عبرة اليقظان” ذات الحديث مُقرّاً بحقيقة موت المسيح عَلَيهِ السَلام محتجاً بها عند شرحه لبيت شعر قاله الحلي كما يلي:

“ونادى لسان الكون في الأرض رافعًا … عقيرته في الخافقين ومنشدا
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه … وموسى جميعأ ينصران محمدا

إشارة إلى الإخوة الثلاثة قلت: وما ألطف هذه الإشارة، وأظرف هذه العبارة: وحسن سهولة هذا النظم وعذوبته، وأشار بعيسى إلى الملك المعظم، وبموسى إلى الملك الأشرف، وبمحمد إلى الملك الكامل وحسن مطابقة الحال أن عيسى وموسى المذكورين كانا في خدمة محمد، ومتابعة طاعته، وتبجيله، واحترامه كذلك موسى وعيسى صلوات الله على نبينا وعليهما لم يزالا في تبجيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم واحترامه، فلو كانا حيين ما وسعهما إلا متابعته كما ورد في الحديث وجاءت في هذه المطابقة أعظم تبكيت للفرنج الحاضرين بل لليهود والنصارى أجمعين، فما أحسن هذا الاتفاق العجيب والمعنى الغريب.”. (مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان، عبد الله اليافعي، 2/152)

ومن المعاصرين علي بن نايف الشحود وهو عالم وباحث سلفي معروف بمؤلفاته في تفسير القرآن وشرح وتحقيق الحديث وله كتب في الفقه وترجمته موجودة في موقع أهل الحديث، لم يجد علي بن نايف الشحود للرد على النصارى وتبكيتهم غير ما قاله العالم الأحمدي الكبير مصطفى ثابت رحمه الله في برنامجه “أجوبة عن الإيمان” والذي قام الشحود بنقله بالكامل في موسوعته العلمية حيث وجدتُ جميع حلقات الأستاذ مصطفى رحمة الله عَلَيْهِ متوفرة بطريقة التفريغ النصي في موسوعة الشحود العلمية. ولنقتبس منها ما يلي:

“.. الواقع أن القرآن قد بيّن وفاة المسيح بشكل يفوق غيره من الأنبياء، وذلك لأن الله تعالى كان في سابق علمه أن بعض الناس سوف يقعون في هذا الخطأ. ولذلك فقد أكّد الرسول ﷺ أيضا على وفاة المسيح، فعندما كان يحاور وفد نصارى نجران قال لهم: “ألا تعلمون أن الابن يرث من صفات أبيه“؟ قالوا بلى، قال: “ألا تعلمون أن عيسى قد أتى عليه الفناء وأن الله حي لا يموت”؟ وكذلك فقد جاء في ابن كثير قوله ﷺ: “لو كان موسى وعيسى حيّيْن لما وسعهما إلا اتّباعي“.

واليوم.. قَلَّ أن تجد بين علماء الدين المتنورين، أو من بين فئات المسلمين المثقفين ثقافة دينية صحيحة، من يتمسك بخرافة حياة المسيح في السماء أو نزوله منها بشخصه في آخر الزمان.”

(موسوعة البحوث والمقالات العلمية، علي بن نايف الشحود)

ويدعم ذلك الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه وورد كذلك في البخاري:

عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: “صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَوَهَلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْخَرِمَ ذَلِكَ الْقَرْنُ.” (صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب قوله صلى الله عليه وسلم لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة، 2537)

وَفِي رِوَايَةِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ يَقُولُ: “مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ الْيَوْمَ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمئِذٍ.”. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ. (مسند الإمام أحمد، باقي مسند المكثرين. والحاكم في المستدرك على الصحيحين، في الفتن والملاحم. وفي المصنف، باب “الفتن”. ورواه مسلم في الصحيح، باب فضائل الصحابة)

يقول ابن حجر في (الفتح): “ووقع الأمر كذلك، فإن آخر من بقي ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبو الطفيل عامر بن واثلة كما جزم به مسلم وغيره، وكانت وفاته سنة عشر ومائة من الهجرة، وذلك عند رأس مائة سنة من وقت تلك المقالة، وقيل كانت وفاته قبل ذلك.”. (فتح الباري، ابن حجر)

ومما سبق يثبت أن لا أحد من الأنبياء كان حياً في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ناهيك عن يومنا هذا، وذلك يوافق قول الحق تبارك وتعالى: [وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ] وكذلك قوله تعالى:

[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ]

والخلو هو الموت لا غير إذ لا معنى لخلو الأنبياء والبشر جميعا قبل سيد الخلق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إلا بالموت خصوصاً وقد قرن الله تعالى ذلك اللفظ بالموت والقتل في الآية الكريمة. وَعَلَى العموم لنأخذ رأي بعض المفسرين حول معنى الخلو الوارد في الآية سالفة الذكر. يقول الطبري في تفسيره للآية أعلاه:

“فمـحمد صلى الله عليه وسلم إنـما هو فـيـما الله به صانع من قبضه إلـيه عند انقضاء مدة أجله كسائر مدة رسله إلـى خـلقه الذين مضوا قبله وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم.” (تفسير جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري ت 310هـ)

ويقول البيضاوي مفسراً معنى الخلو:

“{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ} فسيخلوا كما خلوا بالموت أو القتل.” (تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، البيضاوي ت 685هـ)

وقال الواحدي في (الوسيط):

“لأنه يَمُوتُ كما ماتَتِ الرُسل قبله.” (التفسير الوسيط، الواحدي ت 468هـ)

وهو قول ابن الجوزي في (الزاد):

“ومعنى الآية: أنه يموت كما ماتت قبله الرُّسل.” (تفسير زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي ت 597هـ)

كذلك فسر الشيعة معنى الخلو في الآية بالموت. يقول الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي:

“فيخلوا كما خلوا بالموت أو القتل.” (تفسير الصافي في تفسير كلام الله الوافي، الفيض الكاشاني ت 1090هـ)

وهو رأي الجنابذي أيضا في (البيان):

“{ومَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ} اى مضت {مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ} بالموت او القتل فيخلو لا محالة.” (تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة، الجنابذي ت القرن 14هـ)

وكما تبيّن فلا استثناء لأحد من البشر من الموت بعد عمر معين معروف حدده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بمائة عام قد يزيد قليلا أو ينقص قليلا ولا يتجاوز ذلك حيث وصف الحق تبارك وتعالى من يعمره بالتنكيس في الخلق وهو ما لا يصح أن يقال في حق الصلحاء ناهيك عن الأنبياء عَلَيهِم الصَلاة وَالسَلام:

[وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ]

وفي هذا يقول القرطبي في تفسيره الجامع:

“«نَنْكُسْه» بفتح النون الأولى وضم الكاف من نكستُ الشيءَ أَنْكسُه نَكْساً قلبته على رأسه فانتكس. قال قتادة: المعنى أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا. .. وخانه ثِقَتَاه السَّمْع والبصرُ.. فطول العمر يصيِّر الشباب هَرَما، والقوّة ضعفاً، والزيادة نقصاً، وهذا هو الغالب. وقد تعوّذ صلى الله عليه وسلم من أن يردّ إلى أرذل العمر.”. (الجامع لأحكام القرآن، القرطبي)

يقول تعالى أيضا:

[وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ]

ويشرح القرطبي في نفس التفسير معنى قوله تعالى أعلاه من سورة النحل:

“{وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ} يعني أردأه وأوضعه. وقيل: الذي ينقص قوته وعقله ويصَيّره إلى الخَرَف ونحوه. وقال ابن عباس: يعني إلى أسفل العمر، يصير كالصبي الذي لا عقل له؛ والمعنى متقارب. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ يقول: «حديث:

اللَّهُمّ إني أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل»

تفسير:

وفي حديث سعد بن أبي وَقّاص: «حديث:

وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العمر» تفسير: الحديث. خرّجه البخاري. {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} أي يرجع إلى حالة الطفولية فلا يعلم ما كان يعلم قبلُ من الأمور لفرط الكبر. وقد قيل: هذا لا يكون للمؤمن، لأن المؤمن لا ينزع عنه علمه. وقيل: المعنى لكيلا يعمل بعد علم شيئاً؛ فعبّر عن العمل بالعلم لافتقاره إليه؛ لأن تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه. والمعنى المقصود الاحتجاج على منكري البعث، أي الذي رده إلى هذه الحال قادر على أن يميته ثم يحييه.”. (نفس المصدر، تفسير الآية 71 من سورة النحل)

فحاشا لنبي الله عيسى ابن مريم عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام أن ينكس ويُرَد إلى أرذل العمر، ولذلك فقد توفاه الله تعالى كما توفى الأنبياء والبشر وَعَلَى رأسهم سيد الخلق جميعا أبا القاسم محمد خاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَعَلَى آله أجمعين.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد