من عجائب أفعال الله تعالى، أنه عندما يبعث نبيا، وتكون هنالك نبوءات تشير إليه وإلى زمنه، فإنه لا يجعل هذه الأنباء تنطبق عليه فحسب، بل يجعله متفردا في دعواه، بحيث لا يكون هنالك مدَّعٍ آخر ينافسه. وحتى لو حاول أحد العابثين أن يدعي أنه مصداق لهذه الدعوى، فإنه سرعان ما يندثر، ويبقى المدعي الصادق وجماعته متفردة. والمنطق البسيط يقول إنه إذا كان الوقت هو الوقت، وكان هنالك شخص واحد وجماعة واحدة تقول إنها مصداق الأنباء، فإن هذا يكفي لكي نصدق بأنها الجماعة الحقة، وتصبح الأدلة الأخرى ليست سوى لمزيد من الاطمئنان.
أما المكذبون والمعارضون، فليس لديهم سوى التكذيب، وإنكار أن الوقت هو الوقت، وليس لديهم بديل يعلن أنه المصداق الحقيقي للأنباء. فلو كان هنالك مدَّعٍ آخر أو جماعة أخرى تعلن أنها هي المصداق لهذه الأنباء، لسقط هذا الدليل الدامغ، وأصبح لا بد من البحث عما سواه؛ لأنه إذا تعدد المدعون أصبح واجبا أن نبحث في دعوى كل فريق لمعرفة أيهم على الحق، ولكن التفرُّد عند ثبوت أن الوقت هو الوقت يشكل دليلا قويا على صدق المدعي لا سبيل لدحضه، وكان هذا الدليل باستمرار من أقوى الأدلة بيد جميع الأنبياء، وعلى رأسهم سيدنا محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
ففيما يتعلق بجماعتنا، فأول هذه الأنباء وعلى رأسها نبأ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} (الجمعة 4) الذي ورد في سورة الجمعة، والذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون زمن النشأة الثانية للإسلام، والذي سيكون على يد رجل فارسي يعيد الإيمان من الثريا. وهذا النبأ يتضمن أن الأمة ستمر بفترة انحطاط وفساد، يُرفع فيها الإيمان، ولكن هذا الرجل الفارسي سيعيده مرة أخرى. وواضح أن هذا الزمن الذي نحن فيه هو زمن انحطاط الإسلام، ولا ينكر هذه الحالة البائسة سوى مكابر. وتفردت جماعتنا وحدها بادعائها أنها المصداق للنبأ، وقدمت الأدلة على أن الرجل الفارسي إنما هو مؤسسها عليه السلام. فمن ينكر ذلك عليه إما أن يثبت أن هذا الزمن ليس زمن انحطاط الإسلام، وأن الإسلام والمسلمين هم في أحسن أحوالهم، أو أن يأتي بهذا الرجل الفارسي الموعود وجماعته إن لم يقبل بأن جماعتنا هي المصداق لهذه النبوءة. فهل هذا بمقدور أي من المعارضين؟
ومن هذه الأنباء أيضا نبأ نزول المسيح في آخر الزمان ليكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية أو الحروب الدينية، وورد أيضا أنه سيقتل الدجال. ولكي يحسِم الحديث أي الجدل حول زمان نزوله فقد وضع علامة واضحة وهي ترك القلاص، إذ جاء في الحديث:
{عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا} (صحيح مسلم, كتاب الإيمان)
وهذا يعني أن زمنه سيكون زمن ترك الركوب على الإبل وزمن ظهور وسائل المواصلات الحديثة. وهذا الحديث يشير أيضا إلى أن باقي العلامات التي وردت في القرآن الكريم في سورة التكوير، والتي منها تعطيل العشار الذي ورد في الحديث، هي لهذا الزمن أيضا الذي هو زمن نزول المسيح، إذ جاء فيها:
{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (4) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (5) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (6) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (7) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (8) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (9) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (10) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} (التكوير 4-11)
وواضح أن هذا هو الوقت دون أدنى شك، وبالفعل، ظهر المسيح الموعود وأنشئت جماعته تماما عند بدء ظهور وسائل المواصلات الحديثة هذه، وهذه العلامة وحدها تكفي، ولكن العلامات الأخرى من نشر الصحف وتسجير البحار وتسيير الجبال بالمشاريع الهندسية الضخمة وبالبواخر التي تحمل جبالا من البضائع وغير ذلك من العلامات تزيد الأمر وضوحا ويقينا. فالذي يؤمن بأن المسيح سينزل من السماء على الحقيقة، أو الذي يؤمن بتحقق هذا النبأ بأي طريقة أخرى، فإن الواجب عليه أن يقدِّم هذا المسيح الحق الذي ظهر في ذلك الوقت تماما، إذا لم يقبل بمسيحنا. ولكن أنَّى له ذلك!
ومن الأنباء الأخرى نبأ ظهور الفرقة الناجية في هذه الأمة بعد تفرقها إلى فرق عديدة كبني إسرائيل من قبل، وكذلك تشابه الأمة مع بني إسرائيل في الفساد، إذ جاء في الحديث الشريف:
{عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي } (سنن الترمذي، كتاب الإيمان عن رسول الله)
وجاء في الحديث أيضا أن هذه الفرقة ستكون الجماعة:
{عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ} (سنن ابن ماجه، كتاب الفتن)
وهذا النبأ يتحدث عن زمن معين، وهو زمن الفساد التي تشتد فيه الفُرقة بين المسلمين، وعند هذا الزمن سيكون الحق فقط مع فرقة واحدة، التي ستكون “الجماعة” والتي ستكون كما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهذا يربط هذا النبأ بنبأ بعثة الرجل الفارسي في زمن انحطاط الأمة، والذي سيكون ممثلا للنبي صلى الله عليه وسلم وينشئ جماعة الآخرين الملحقة بالأولين. وبما أن هذه الأمة ستتشابه مع بني إسرائيل في الافتراق والفساد فهي ستتشابه معها أيضا في نشوء الفرقة الناجية فيها. ومعلوم أن الفرقة الناجية في بني إسرائيل عند فسادهم كانت الفرقة التي أنشأها المسيح عيسى بن مريم عليه السلام. فإذا كانت جماعتنا تتفرد بأنها تعلن أنها الفرقة الناجية الموعودة في زمن الافتراق والفساد هذا، وكان مؤسسها يعلن أنه المسيح الموعود، فهل بقي شك بعد ذلك أنها هي الجماعة الحقة؟ فليس أمام المعارضين سوى أن يماحكوا بإنكار الافتراق والفساد في الأمة، أو أن يقدموا هذه الفرقة الناجية التي يؤسسها مثيل المسيح في الأمة كما أسس المسيح عيسى بن مريم الفرقة الناجية في بني إسرائيل. فهل يستطيعون ذلك؟
ثم هنالك نبأ عودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بعد أن تنشأ أول مرة ثم تتحول إلى ملك عاض ثم إلى ملك جبري. وقد جاء هذا النبأ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال:
{عن حُذَيْفَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ} (مسند أحمد، كتاب أول مسند الكوفيين)
وبالفعل قامت الخلافة الراشدة بعد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت ثلاثين عاما، ثم نشأ الملك العاض الذي تمثَّل في بني أمية ثم بني العباس، ثم كان الملك الجبري الذي تمثَّل في الخلافة العثمانية التي طبقت نظاما جبريا قسريا. ومعلوم أن السلطنة العثمانية قد أفلت منها زمام الأمور في عام 1908 إلى أن حدث الانقلاب في عام 1909 على السلطان عبد الحميد الثاني وجرد من صلاحياته وعُين ابنه بدلا منه، وأصبحت الخلافة إسمية إلى أن ألغيت تماما في عام 1924. ومعلوم أيضا أن الخلافة الراشدة الثانية قد بدأت في الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1908 تماما بعد وفاة مؤسسها عليه السلام، وهكذا تواصلت هذه السلسلة التي أنبأ عنها الحديث دون انقطاع زمني، وجاءت في الجماعة التي أنشأها ممثل النبي صلى الله عليه وسلم وخادمه الذي كان على نهج نبوته. فإذا لم تكن خلافة قد نشأت في ذلك الزمان مباشرة سوى الخلافة في الجماعة الإسلامية الأحمدية التي ما زالت قائمة حتى اليوم، وإذا كانت قد فشلت كل محاولات إقامة الخلافة على يد بعض السياسيين الطامحين بعد سقوط خلافة العثمانيين- رغم أن هذه المحاولات جاءت بعد مرور الوقت الذي كان يجب أن تظهر فيه الخلافة، وهي لا تصلح حتى وإن نجحت مؤقتا بسبب مرور الوقت ولعدم ارتباطها بالفرقة الناجية ونهج النبوة ونزول المسيح- فهل بقي بيد المعارضين شيء بعد ذلك؟
ومع انطباق هذه الأنباء وتضافرها وتعاضدها، فمن الواضح أنه ليس في يد المعترضين سوى التكذيب والتشكيك في صدق هذه الجماعة ومؤسسها، وهذا كان سُنَّة ومنهج الكافرين باستمرار. فلا يصلح التشكيك والتكذيب وقذف الشبهات أمام دليل التفرُّد هذا عند ثبوت الوقت، ولا ينبغي حتى أن يُنظر في دعاوى هؤلاء المعارضين ما داموا لا يقدِّمون البديل المنافس الذي يَثبُت أنه هو الحق وأن جماعتنا ومؤسسها على الباطل.
من الواضح أن هؤلاء المعترضين ليس لهم دعوى سوى تكذيب الجماعة وإبعاد الناس عنها، ولا يهمهم أن يهتدي الناس إلى الحق. بل كثير منهم لا يجرؤون على أن يعلنوا عما هو الحق من وجهة نظرهم لأنهم هم بأنفسهم لا يعرفونه ولا يريدون أن يلزموا أنفسهم به. كل ما يهمهم أن يصدوا الناس عن الجماعة فحسب. وهذا في الواقع يؤكد أنهم ليسوا سوى صوت الشيطان الذي أعلن أمام الله تعالى بسبب حسده وحقده وفجوره:
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأَعراف 17-18)
فعملهم ليس سوى أن يقعدوا للناس على الصراط المستقيم ليحرفوهم عنه، وذلك بالشبهات والأراجيف والأكاذيب. ولكن الله تعالى يعد الشيطان بالخيبة والخسران بقوله:
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } (الحجر 43)
فلن يتَّبع صوت الشيطان إلا الغاوون أصلا، الذين قد حجب الله عنهم رؤية الحق وصرفهم عنه بسبب إجرامهم وما في نفوسهم من كبر، فأصبحوا يصيحون ويتجرأون على الإعلان بأنهم لا يرون آية واحدة رغم كثرة الآيات البينات، إذ يقول تعالى:
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } (الأَعراف 147)
مذهل ويطرب الروح