لغاية الآن لا يزال بعض إخواننا بالإسلام يعتقدون بأن الإمام المهدي عند بعثته ستكون مهمّته الرئيسية هي توزيع المال الذي لا يُعَدُّ ولا يُحصى لدرجة أنَّ الناس سوف تملّ من المال ولن يطلبه أحد وذلك بسبب توزيع المهدي للنقود فوق حد ّالإحصاء وستتناثر العملات في الأسواق والطرقات ولن يكترث لها أحد.
هذا الفهم في الحقيقة غير صحيح وهو منافٍ تماماً للكتاب والسنَّة، لأن الناس لو تساووا جميعاً بالمال فكيف سيحتاج الناس لبعضهم البعض وينفقون من أموالهم ويؤدّون الزكاة كما يأمر الله تبارك وتعالى؟
هذه بعض الآيات التي تثبت أنَّ المال باق بين الناس ووجوب الإنفاق منه والزكاة عليه مما يعارض أنَّ المال المادّي أي النقود ستُطرح في الأرض بلا قيمة:
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ -البقرة
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ -البقرة
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ -البقرة
﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ -البقرة
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ -البقرة
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ -البقرة
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ . الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ . وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ . لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ . لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ -البقرة
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ -البقرة
كذلك يخالف المعنى الحرفيُّ للمال قولَ اللهِ تعالى:
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ -الشورى
وهذا يقطع بأن التأويل الحرفي لفيض الدراهم لا يجوز بأي حال من الأحوال.
وكذلك قوله تعالى:
﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ -الزخرف
إذن فالمعنى المادي الشائع لإفاضة المال يخالف القُرآن الكَرِيم تمام المخالفة خصوصاً وأنَّ الله تعالى يقول:
﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾
و قوله ﷻ:
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
ولذلك فإن المعنى الحرفي لا يصحّ بل إنَّ أعظم المال والكنوز هو العِلم حيث سيطلب الناس من المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام المال (العِلم) فيحثيه لهم حثياً ولكن للأسف لن يقبله إلا من رحم ربي ولن يطلبه أحد.
فلا مجال للاعتقاد بأن المال الذي سيكثر فلا يطلبه أحد هو الدراهم والأوراق النقدية والتعاملات التجارية التي هي حسب القُرآن الكَرِيم ضرورة في الحياة الدنيا.
أما إذا قيل بأن النقود في زمن المهدي لن تكون متداولة وستكون النقود المادية بلا قيمة، فلماذا يعطي الإمام المهدي للناس أشياء عديمة القيمة؟
فما هو المقصود إذن بالمال الذي سيحثوه الإمام المهدي عَلَيهِ السَلام؟
يجيبنا ترجمان الإسلام وحبر الأمة ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بأن المقصود بالمال هو العِلم والمعرفة والحق حيث ينقل ابن كثير رحمه الله قول ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كالتالي:
“وكان ابن عباس ؓيقول: [ما كانَ الكنزُ إلا عِلما].” (تفسير ابن كثير للآية: فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا 66)
والأمثلة على تأويل المال بالعِلم كثيرة في الكتاب والسنَّة، وفيما يلي بعض الأحاديث وأقوال الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم والسلف الصالح رحمهم الله حول هذا الأمر من تفسير الإمام الطبري ؒ:
““حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} قَالَ: كَانَ تَحْتَهُ كَنْزُ عِلْمٍ.“
“حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قَالَ: كَانَ كَنْزُ عِلْمٍ.“
“حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قَالَ: عِلْمٌ.“
“حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قَالَ: عِلْمٌ.“
“حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قَالَ: صُحُفٌ لِغُلَامَيْنِ فِيهَا عِلْمٌ.“
“حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: صُحُفُ عِلْمٍ.“
“حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، قَالَ: ثَنَا هَنَّادَةُ ابْنَةُ مَالِكٍ الشَّيْبَانِيَّةُ، قَالَتْ: سَمِعْتُ صَاحِبِي حَمَّادَ بْنَ الْوَلِيدِ الثَّقَفِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قَالَ سَطْرَانِ وَنِصْفٌ، لَمْ يُتِمَّ الثَّالِثَ: “عَجِبْتُ لِلْمُوقِنِ بِالرِّزْقِ كَيْفَ يَتْعَبُ، عَجِبَتْ لِلْمُوقِنِ بِالْحِسَابِ كَيْفَ يَغْفُلُ، وَعَجِبَتْ لِلْمُوقِنِ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ” وَقَدْ قَالَ: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} قَالَتْ: وَذَكَرَ أَنَّهُمَا حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْهُمَا صَلَاحٌ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَبِ الَّذِي حُفِظَا بِهِ سَبْعَةُ آبَاءٍ، وَكَانَ نَسَّاجًا.“
“حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا كَانَ الْكَنْزُ إِلَّا عِلْمًا.“
“حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قَالَ: صُحُفٌ مِنْ عِلْمٍ.”.” (تفسير الطبري، الإمام محمد بن جرير الطبري، تفسير سورة الكهف، القول في تأويل قوله تعالى “وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة“، ص 88، طبعة دار المعارف)
فمعنى يفيض المال حتى أنَّ لا أحد سيطلبه أي توفر العلم بكثرة تصل حدّ الأفاضة ولكن لا أحد سيهتم ويطلب هذا العِلم الربّاني بل يكون سعي الناس للمصالح الزائلة بدل المال الحقيقي أي العلم، وهذا يوافق ارتفاع العلم والإيمان أيضا إلى الثريا كما في الحديث الصحيح المعروف.
كذلك ورد ذات الحديث عن سفيان الثوري في تفسيره أنَّ الكنز المذكور في سورة الكهف يُراد به العلم:
“عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: “وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا سورة الكهف آية 82، قَالَ: [ عِلْمًا ]”. عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلِهِ.” (تفسير سفيان الثوري، سُورَةُ الْكَهْفِ، رقم 391)
وقد ثبت أنَّ المسلم لا يكون همّه حطام الدنيا بل العلم والمعرفة الربّانية وأسبابها، وفي ذلك نقرأ الحديث التالي:
“حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ فِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ مَا نَزَلَ قَالُوا: فَأَىَّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ قَالَ عُمَرُ: فَأَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ ذَلِكَ. فَأَوْضَعَ عَلَى بَعِيرِهِ فَأَدْرَكَ النَّبِيَّ ﷺ وَأَنَا فِي أَثَرِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىَّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى أَمْرِ الآخِرَةِ.»” (سنن ابن ماجه، كتاب النكاح)
إذن أيُّ المالِ خيرٌ يا رسول الله؟ الجواب من النبي ﷺ: العِلم !
لذا فإفاضة المال في الحديث معناه إفاضة العلم والمعرفة الإلهية الصحيحة.
وفي حديث آخر بنفس السياق روى الإمامُ الحاكم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال للصحابي شدّاد بن أوس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
“يَا شَدَّادُ، إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ التَّثْبِيتَ فِي الأُمُورِ، وَعَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَخُلُقًا مُسْتَقِيمًا، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ.” (المستدرك على الصحيحين، للحاكم، حديث رقم 1804. قال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.)
فليست الدراهم هي مسعى المؤمنين بل العلم الرباني الذي هو بحسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم خير المال،
وَهٰذَا الذي قاله تماماً ووضّحه حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام كما يلي:
“إنَّ نبوءاتي التي يتوقف صدقي على تحقّقها تتلخص في أنَّ الله تعالى خاطبني وقال ما مفاده: سوف تَغلب بعد كونك مغلوباً؛ أيْ ستغلب بعد أن تبدو حقيراً كالمغلوبين ظاهرياً، وتكون العاقبة لك. ونضع عنك وِزرك الذي أنقض ظهرك. يُرِيدُ اللهُ أن ينشر توحيدك وعظمتك وكمالك. سيُظهر الله وجهك ويمدّ ظلك. جاء نذير في الدنيا، فأنكروه أهلها، وما قبلوه، ولكن الله يقبله، ويُظهر صدقه بصولٍ قويٍّ شديدٍ صول بعد صولٍ. سيُعطَى عن قريب مُلكاً عظيماً؛ أي سيوضع له القبول وتُستمال إليه قلوب خلق كثير. ستُفتح عليه الكنوز؛ أي تُكشف عليه كنوز المعارف والحقائق، لأن الأموال السماوية التي يُعطاها عباد الله الخواص ويوزعونها على الدنيا ليسَت من قبيل الدراهم الدنيوية ودنانيرها، بل هي الحكمة والمعرفة كما يقول الله تعالى مشيراً إلى هذا الأمر: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. والخير هو المال، أما الحكمة فهي المال الطيب الذي يشير إليه الحديث النبوي: «إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ هو المعْطِي». وهذا هو المال الذي عُدَّ علامة من علامات المسيح الموعود. ذلك فضل الله وفي أعينكم عجيب. سنريكم آياتنا في الآفاق وفي أنفسكم. حُجّةٌ قائمةٌ وفتحٌ مبين.” (فتح الإسلام)
وكذلك قوله عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام:
“{قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}. ففي الآية الأخيرة إشارة إلى أنه لا مال ولا ثروة مثل العلم والحكمة. وهو المال نفسه الذي جاء عنه في النبوءة أنَّ المسيح سيوزعه في الدنيا حتى يسأم الناس من قبوله، ولا يعني ذلك أنه سيجمع الدراهم والدنانير التي هي مصداق قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، ويوقِع الجميعَ في الفتنة قصداً بإعطائهم أموالاً هائلة. إنَّ طبيعة المسيح الأول أيضاً لم تكن راغبة في الأموال المادية؛ إِذْ قال بنفسه في الإنجيل إنَّ مال المؤمن ليس الدرهم والدينار بل ماله جواهر الحقائق والمعارف. هذا هو المال الذي يناله الأنبياء من الله تعالى، وهذا ما يوزّعونه. وإلى هذا المال أشارَ النبيُّ ﷺ في قوله: «إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ هو المعطي».” (فتح الإسلام)
وللمزيد يرجى مراجعة كتاب “حمامة البشرى” وغيره من كتب للمسيح الموعود عليه السلام، ففيها الكنوز الحقيقية والمعارف الغنيّة.
كذلك هنالك معاني حرفيّة لإفاضة المال أي النقود المادية لا تخالف الكتاب والسنَّة، وهي تبرّع المؤمنين بالمسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في الجماعة الإسلامية الأحمدية تبرّعهم المتواصل بأموالهم لمشاريع خدمة الخلق والدعوة إلى الإسلام ونجدة البشر المحتاجين يتبرّعون بأموال طائلة ويقدّمونها بكل تواضع حتى تفيض عن الحاجة، ورغم لك فلا يطلبها أحد.
وإنَّ لمَِنْ أهمّ ما يميّز الجماعة الإسلامية الأحمدية جماعة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام هو النزاهة في التعامل المالي، ولهذا السبب فإن المال متوفّر بفضل الله تعالى. فأبناء المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في الجماعة الإسلامية الأحمدية يبذلون أموالهم وجهودهم في سبيل الله دون انتظار جزاء لخدماتهم، حيث أنَّ على المسلم الأحمدي إنفاق ثابت من دخله كل شهر لخدمة الخلق ونشر السَلام. كذلك بازدياد عدد المنضمّين إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية يزداد الدخل وعدد العاملين مما يفتح مجالاً رحباً ومشاريع في سبيل الله تعالى تتوسع بهذه الزيادة المتسارعة. وبهذا المعنى من جهة أخرى يتعفف المسلمون الأحمديون عن أخذ المال المادّي من أي أحد بل هم الذين يبذلون أموالهم في سبيل الله تعالى، وهكذا يبارك الله تعالى في جهود الجماعة ويجعلها تستغني عن حب المال المادي في هذا العصر الغارق في المادَّة، وكُلّ هذا بفصل الله تعالى.
كذلك يوجد لفظ للحديث يُنسب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول فيه بأن الذي يحثو المال سيكون خليفة:
“عن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَلِيفَةٌ يُقَسِّمُ الْمَالَ وَلَا يَعُدُّهُ».” وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا، وَلَا يَعُدُّهُ عَدًّا».” (صحيح مُسْلِمٌ)
فهذه المهمة حسب الحديث مسندة للخليفة وليس للإمام المهدي. وهذا يدلّ على إنَّ المهمة ستستمر من بعد الإمام المهدي ؑ على يد خلفاءه ؓ.
كما أنَّ التفسير الحرفي الشائع للحديث يعارض الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه كما يلي:
“حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ».” (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال)
وهنالك مظاهر أخرى لحثي المال فلا يطلبه أحد قَدْ تحقّقت في زماننا هذا وهي حثو الناس في البلدان النامية للباعة بالأموال الكثيرة لشراء سلعة بسيطة لا تتجاوز القروش القليلة في البلدان الغنيّة، فيصعب عدّها فيتم تقديرها فقط، والسبب هو تدنّي قيمة العملة الأساسية للبلد بحيث تصبح عديمة قيمة عند التداول.
ومن المظاهر الأخرى لإفاضة المال على الوجه الحرفي الجوائز التي كان يقدّمها المسيح الموعود عليه السلام للمعارضين ويتحدّاهم بأخذها منه على رؤوس الأشهاد إذا وافقوا على قبول تحدّيه، ومع ذلك كانوا يهربون من المواجهة. وهكذا يُرفض المال الذي يفيض على يد المهدي فلا يقبله أحد.
وأخيراً وليس آخراً تتعدد الوجوه المقبولة لمعنى إفاضة المال في الحديث ويبقى المعنى الثابت الذي أثبته الحديث الشريف ومن فوقه القُرآن الكَرِيم ثم التفاسير وقول الصحابة ؓ والسلف ؒوهو أنَّ المال الفائض بيد المهدي ؑ في آخر الزمان والذي لا يطلبه أحد إنما هو العِلم والمعرفة الإلهية والحق الذي لا يمكن أن يتمّ إلا بوحي السماء كما تنصّ الأحاديث حول تلقّي المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الوحي والتعليم من عند الله تبارك وتعالى، ولذلك هو مُلزِمٌ لمن شاء أن يطلبه ويقبله.
فالحمد لله تعالى على أنَّ جميع الوجوه المقبولة للحديث فضلاً عن المعنى الأصلي أي العِلم كلّها تحقّقت في المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام وجماعته المباركة فيما لا زال الخصوم الذين كُتب عليهم النفاق يلهثون خلف المال المادّي داعين الناس إلى طريقهم المقفر الذي لا يقود إلا إلى التهلكة والمتاع الزائل. فماذا لدى خصوم الجماعة لهذا الحديث إلا الضلال وقد باعوا الحق ليشتروا به الباطل {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}. فالمال في الإسلام إذن هو العِلم كما ثبت من الكتاب الكريم والسنَّة المطهّرة.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ