ما الذي يستدعي بعثة الأنبياء؟ هل الرقي والازدهار المادي يلغي الحاجة إلى بعثة الأنبياء؟ وهل إذا كان الناس في مأمن من الفقر والجوع فهذا يعني أنهم لم يعودوا بحاجة إلى أي شيء آخر وأن هداية السماء أصبحت لا تلزمهم؟
الواقع أن الغاية من بعثة الأنبياء هي تعريف الناس بخالقهم وإنشاء الصلة معه، وتذكيرهم بالغاية التي من أجلها خلقوا، وهي العبودية، والتي تعني أن يتمثلوا صفات الله تعالى ويعكسوها على الخلق في مواساة فطرية، وهذا لن يحدث إلا إذا تخلصوا من ذنوبهم وآثامهم وسيئاتهم التي تحول دون تحقيق هذا الغرض الذي من أجله خلقوا، بل وتكون عواقبها على وشك أن تفتك بهم.
والواقع أن الازدهار والرقي المادي غالبا ما يكون سببا للغفلة والإغراق في السيئات، ويكون الناس في هذه الحالة في أمسِّ الحاجة إلى الأنبياء لكي يخلصوهم من غفلتهم ويعيدوهم إلى الطريق التي حادوا عنها، وهي طريق العبودية، التي استبدلوها بالتنعم في هذه الحياة الدنيا غافلين عن حقوق إخوانهم من بني البشر، بل في أحيان كثيرة يكون هذا التنعم على حساب معاناة إخوانهم الضعفاء وفقرهم وجوعهم.
وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله تعالى:
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (الروم 10)
{ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } (الأَنعام 7)
فلم يقل الله تعالى أنكم إذا تقدمتم وازدهرتم ماديا فقد حققتم الغاية من خلقهم، وأنكم الآن لا تحتاجون لنبي، بل قال تعالى إن الذين كانوا قبلكم ممن حققوا ازدهارا ماديا عظيما كنا قد أرسلنا إليهم رسلنا، فلا تظنوا أن الازدهار ورغد العيش هو الغاية من خلقكم وهو هدفكم النهائي، بل غاية الرسل هو توجيهكم إلى الله وتخليصكم من سيئاتكم. وحال الرفاه والازدهار كثيرا ما يكون سببا لغفلتكم وإغراقكم في السيئات.
وهكذا فإن هذا العصر الذي شهد ازدهارا ماديا لم يسبق له مثيل، وأورث غفلة وإغراقا في السيئات لم يعاينها العالم من قبل، هو في أمسِّ الحاجة إلى مبعوث سماوي يعيد الناس مرة أخرى إلى الغاية التي من أجلها خلقوا، ويخلصهم من سيئاتهم، ويجعلهم ينشئون العلاقة مع الله تعالى. أما المعجبون بهذا الازدهار المادي ورغد العيش ورقي هذه الأمم العلمي والسلوكي ظاهريا فهؤلاء هم الملحدون الذين يرون أن لا دور للدين في رقي البشر، بل إن حال هذه الشعوب التي حققت الرقي والتقدم العلمي والطبي وغيره تبطل الحاجة إلى الدين وإلى بعثة الأنبياء، بل وإلى الإله في حد ذاته، حسب فهمهم، وهذا ما وقع فيه بعض المسلمين من تعساء الحظ.
ولكن، هل يحتاج العصر حاليا إلى دين جديد ونبي جديد وشريعة جديدة؟
والجواب هو أنه لو لم يكن في الإسلام بعثة جديدة وزخم جديد يصلح حال العالم، لكان هنالك حاجة حتما إلى دين جديد ونبي جديد وشريعة جديدة لتعيد الناس إلى الهدف من خلقهم ولتخلصهم من سيئاتهم. ولكن الإسلام قد أعلن أن له بعثة ثانية في هذا العصر الأخير، وأن زمن النبي صلى الله عليه وسلم ممتد إلى يوم القيامة، لذا لا حاجة لنبي جديد وكتاب جديد وشرع جديد بل الحاجة لبعثة مجدد لهذا الدين يكون مظهرا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أنبأ الإسلام مسبقا عن هذا الزمان بصورة تفصيلية، ووضع المواصفات للمبعوث الذي سيبعث ويكون نائبا للنبي صلى الله عليه وسلم وممثلا عنه.
والواقع أن المسلمين خاصة قبل غيرهم هم بأمسِّ الحاجة في هذا الزمان إلى هذه البعثة الثانية، فهم رغم أن كتابهم محفوظ وذخيرة علوم الإسلام محفوظة أيضا، إلا أنهم قد ضيعوا الإيمان وفقدوا روح الدين وخسروا كل شيء، فلم يحققوا الرقي المادي كغيرهم ولكنهم شابهوهم في الإغراق في السيئات والفساد.
وكان القرآن الكريم قد أنبأ بصورة خاصة عن هذا الزمان، الذي سيرتفع فيه الإيمان، وسيحتاج العصر فيه إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ثانية، لإصلاح المسلمين أولا، وقد جاء النبأ في سورة الجمعة بصورة مذهلة واضحة، إذ قال تعالى:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (الجمعة 3-4)
أي كما بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم في الأميين الذين هم العرب أول مرة، فهو سيبعثه في آخرين أي ليسوا من العرب، وسيكون بين الفريقين بعد زمني، إذ لن يلتحقوا بهم مباشرة. وقد فهم الصحابة هذا، وسألوا عن الآخرين ولم يسألوا كيف سيبعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ثانية، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وضع يده على كتف سلمان الفارسي:
{لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ أَوْ رَجُلٌ مِنْ هَؤُلَاءِ } (صحيح البخاري, كتاب تفسير القرآن)
فبهذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أن المقصود ببعثته في ذلك الزمان هو بعثة ممثل ونائب له، وأن هذا سيكون في زمن ارتفاع الإيمان وفساد المسلمين!
فالظن بأن هذه الآية تتحدث عن مجرد التحاق أقوام بالإسلام ودخولهم فيه هو معنى لا ينطبق، لأن الداخلين الجدد لن يعيدوا الإيمان من الثريا، بل هم التحقوا بالإسلام في زمن أوج الإيمان وفي خير قرون الإسلام.
وهكذا فقد غطى هذا النبأ القرآني حاجة العصر بالنسبة للمسلمين، وأصبح واضحا أن هذا الزمان الذي ضيَّع فيه المسلمون الإيمان هو زمن هذه البعثة.
أما بالنسبة للمفاسد في العالم، وكيف أن هذا الوقت بحاجة إلى إصلاح لتخليص الناس من العقائد الباطلة التي أبعدتهم عن التوحيد ولتخليصهم من السيئات التي استغرقوا فيها بسبب التقدم المادي، فقد جاء تفصيل هذا النبأ والوقت المتعلق به في أحاديث صحيحة كثيرة تتحدث عن نزول المسيح في آخر الزمان، منها:
{يُوشِكُ مَنْ عَاشَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِمَامًا مَهْدِيًّا وَحَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (مسند أحمد, كتاب باقي مسند المكثرين)
وهذا الحديث يبين أن مبعوثا يسمى بعيسى بن مريم سيكون إماما مهديا وحكما عدلا، وأن مهامه هي كسر الصليب أي إبطال العقيدة المسيحية، وقتل الخنزير أي القضاء على السيئات التي استغرق فيها العالم، ثم تبيان أن الجزية لم تعد قابلة للتطبيق في ذلك العصر لأن الحروب الدينية قد وضعت أوزارها، في الوقت الذي يكون المسلمون فيه متورطين في فهم خاطئ للجهاد وتطبيقه. وبالنظر إلى الوقت الحاضر، فسنرى أن هذا الزمان هو زمان استعلاء الصليب وغلبته وزمان انتشار المفاسد التي تتفاقم يوما فيوما، وزمان انتشار عقيدة الجهاد الخاطئة عند المسلمين التي أذاقتهم الأمرين ولا زالت. فإذا كان العالم فاسدا، وكان المسلمون فاسدين, وقد تسربت إليهم هذه العقائد الباطلة والأفكار المغلوطة التي على رأسها عقيدة الجهاد العداوني الفاسدة، وتغلب عليهم المسيحيون في كل شيء حتى شنوا عليهم هجوما بالحجج والشبهات التي لم يعد المسلمون قادرين على الدفاع عن دينهم ضدها، فهذا الزمن بلا شك هو الذي يستدعي هذا المبعوث الذي سيكون الإمام المهدي والحكم العدل والمسيح الموعود.
وإمعانا في تبيان هذا الزمان الذي سيبعث فيه المسيح، فقد جاء في الحديث أن هذا الزمان سيكون زمن ترك القلاص، أي ظهور وسائل مواصلات حديثة تغني عن ركوب الجمال، إذ جاء في الحديث:
{عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا وَعَدْلًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ وَلَيَتْرُكَنَّ الْقِلَاصَ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا} (مسند أحمد, كتاب باقي مسند المكثرين)
وبهذا فقد ربط الحديث بين زمن المسيح وترك القلاص، بل وبهذا قد ربط بين سورة التكوير ونزول المسيح التي جاء فيها ذكر ترك القلاص في قوله تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ } (التكوير 5)، وبهذا فإن العلامات الأخرى التي جاءت في سورة التكوير تصبح أيضا علامات لزمن نزول المسيح، إذ جاء في السورة:
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } (التكوير 2-14)
فإذا وعد القرآن الكريم بالبعثة الثانية للنبي صلى الله عليه وسلم من خلال الرجل الفارسي، وعبَّر الحديث عن زمان ضعف المسلمين وفسادهم وفصَّل في أحوالهم، بل وربط الحديث نبأ نزول المسيح مع ظواهر كترك القلاص ونشر الكتب والمطبوعات وغيرها من العلامات الأخرى، فهذا يعني أن زمان البعثة الثانية هو زمن نزول المسيح حتما، دون أدنى شك، وأن هذا الرجل الفارسي هو نفسه المسيح والمهدي، وأن أي تأويل عشوائي لا يربط بين هذا كله إنما هو تخريص لا أساس له.
فإذا كان الزمان هو الزمان، وكان هنالك رجل واحد فقط ادعى أنه المسيح والمهدي والرجل الفارسي المقصود في هذه النبوءة، فهذا يعني أن حضرته صادق لا محالة. فليس هنالك أوضح من هذه النبوءات التي بينت العصر وحاجته وبينت من هو المبعوث الذي سيبعث وما هي مواصفاته، وكيف إنه سيجمع الصفات كلها، ثم لم يكن هنالك سوى مدعٍ واحد فقط يقول إنه مصداق للنبوءات كلها!
وبالطبع يطول الحديث حول النبوءات الأخرى المعاضدة التي تؤدي نفس النتيجة، كنبوءة افتراق الأمة وفسادها كما حدث مع بني إسرائيل، وهذا ما حدث بالفعل، والتشابه بين سلسلة بني إسرائيل والأمة الإسلامية إنما يدل على أن المبعوث في آخرها سيكون المسيح في الأمة كما كان المسيح عيسى بن مريم في آخر سلسلة بني إسرائيل. وتتعاضد النبوءات وتتضافر لترسم صورة متكاملة لا ينكرها إلا حاجد، وليس هذا المجال لذكرها تفصيلا.
وعودة إلى هذه الأعمال التي كلَّف الله تعالى بها المسيح الموعود والتي أنجزها على أكمل وجه، فعلى رأسها كان كسر الصليب، فما المقصود به؟ هل المقصود إثبات وفاة عيسى بن مريم فحسب؟ وهل وفاة عيسى بن مريم وحدها تكسر الصليب؟
إن كسر الصليب إنما يعني إبطال العقيدة المسيحية والتصدي لها في زمن تتحول فيه العقائد المسيحية إلى مسيح دجال يُظهر التدين ويخفي الكفر، وتصبح المسيحية ذريعة لتدمير التوحيد في العالم وإشاعة الشرك، ولتكون وسيلة لإخضاع الأمم والشعوب ونهب خيراتها للحفاظ على ازدهار الأمم المسيحية ورقيها. فكسر الصليب لا يعني مجرد إثبات وفاة المسيح عيسى بن مريم، بل تبيان بطلان العقيدة المسيحية من أساسها، والتصدي للشرك المرتبط بها الذي يريد حرف الناس عن التوحيد الذي أقامه الله تعالى بالإسلام، وأيضا كشف المكايد التي تتبعها الأمم المسيحية وتضمرها بالدجل والكذب والزور والتي لا علاقة لها بالدين ولا بالغاية التي وجد من أجلها، ألا وهي تعريف الناس بخالقهم وتخليصهم من السيئات. فكما هو معلوم، فإن فكرة الإله في المسيحية قد شوَّهت التوحيد وقضت عليه قضاء مبرما، أما دور المسيحية في مقاومة السيئات فهو دور سلبي، إذ إن العقيدة المسيحية قد شجعت السيئات بأنْ ألغت الشريعة واعتبرتها لعنة، وأصبح كل شيء مباحا، ورُفع عن الناس العقاب بدم المسيح.
ولا بد أن يكون واضحا أن الإلحاد مرتبط ارتباطا وثيقا بالمسيحية المحرفة الدجالية، بل هو أحد أذرعها، إذ إن غاية المسيحية الدجالية في الأصل لم تكن سوى إبعاد الناس عن التوحيد بالشرك ودفعهم إلى السيئات، فإذا كان الإلحاد يلغي التوحيد ويدفع إلى السيئات، فهو لا ينفصل عن المسيحية الدجالية، بل هو جزء منها ولذلك قد عرفه الناس بين المسيحيين أولا، بل إن المسيحيين هم القائمون عليه والذين يروجونه في العالم، وفي الواقع هو حيلة دجالية اتبعها المسيحيون ليتنصلوا من دينهم ومن سخف عقائده وتهافتها والدفاع عنها مع بقائهم أمما مسيحية ثقافيا، ومع التزامهم بالمسيحية كرابط مشترك يربطهم، وإن كان قائما على خرافة وعقائد غير معقولة. فهم رغم إلحادهم وعلمهم أن هذا الدين وعقائده متهافته إلا أنهم يدعمون الحملات التنصيرية بأموال طائلة. فعلى سبيل المثال فإن الشعوب الاسنكدنافية في أوروبا هي من الشعوب التي في غالبيتها الساحقة تعلن الإلحاد، ومع ذلك هي من أكثر الدول دعما للنشاطات التنصيرية في العالم.
باختصار، الذي يظن أن الإلحاد قد قضى على العقائد المسيحية فهو واهم، لأن هدف الإلحاد والمسيحية المحرفة واحد، وهو تسخيف فكرة الإله أو القضاء عليها تماما ودفع الناس إلى السيئات دون رادع أو وازع.
وهكذا نجد أن هذا المبعوث الذي بعثه الله تعالى قد جاء طبقا للنبوءات تماما، ووفقا لحاجة العصر، وهو يؤدي الدور الذي هو الدور الحاسم واللازم في هذا الوقت؛ وهو تعريف الناس بإلههم وتخليصهم من السيئات التي عبَّر عنها الحديث بالخنزيرية، وتخليص المسلمين من عقيدة الجهاد المغلوطة الباطلة. والعالم اليوم بأمس الحاجة إلى هذه الدعوة وهذا العمل لأن السيئات في تزايد، وزيادة السيئات يدفع العالم نحو الهلاك والدمار.
وإذا كان من الملاحظ أن عدم طاعة هذا المبعوث قد أدت إلى استغراق الناس في السيئات أكثر، فهذا يدل على أن الحاجة تمسّ يوما بعد يوم لطاعته لكي يتخلص الناس من سيئاتهم، لا أنه لم يفعل شيئا أو قد فشل في مهمته! والذي يظن أن السيئات ستزول تلقائيا بمجرد وجود هذا المبعوث سواء أطاعه الناس أم عصوه فهو يتطابق في فهمه مع بني إسرائيل الذين ظنوا أنهم سينالون الأرض المقدسة سواء أطاعوا موسى أم لم يطيعوه، وأن الواجب عليه أن يحقق كل هذه الوعود بحقهم ويخلِّصهم من ظروفهم السيئة بمجرد وجوده فيهم وهم واقفون مكتوفو الأيدي!
لقد جاء هذا المبعوث بفضل الله، وحظي الذين آمنوا به وأطاعوه بالفلاح، وكان صورة في أخلاقه من سيده ومطاعه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رغم عدم حبه للظهور ورغبته في العزلة معروفا بأنه على أعلى درجات التقوى والصدق التي اختبرها الناس في حياته منذ نعومة أظفاره، حتى شهد له العدو قبل الصديق بسمو أخلاقه وتقواه وورعه، ثم بعد ذلك عندما بعثه الله تعالى في تلك القرية النائية أوحى إليه أنه سيبلغ دعوته إلى أقصى أطراف الأرض، وتَحقُّقُ هذه النبوءة وحدها كفيل بإثبات صدق حضرته عليه الصلاة والسلام، إذ أن دعوته الآن منتشرة في جميع أنحاء العالم، وجماعته هي الجماعة الأكثر نموا بين كل الفرق والأديان والمذاهب على الإطلاق، وهي الوحيدة التي تقدِّم الإسلام الأصيل المنزه عن الشبهات والعقائد الباطلة الحصين ضد هجمات أعداء الإسلام، والذي يقتحم الميدان وتخضع أمامه العقائد الباطلة وينتشر بقوة حججه وبراهينه وصدقه وصدق أفراده وسمو أخلاقهم.
إن غض النظر عن هذا كله بعيد كل البعد عن المنطق والعقل والواقع والإنصاف، والذي ينكر ذلك إنما هو مغيَّب، كالذي يريد أن ينكر الشمس في رابعة النهار.