بعد بحث في مذهب الإمام الحافظ الشَّاطبيُّ رحمه الله (ت : 970 هـ 1388) صاحب الكتب العظيمة: «الموافقات في أصول الشريعة» و«الاعتصام في أهل البدع والضلالات» و«المقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية» وهو شرح الألفية، يعني ألفية ابن مالك وطبع في 10 مجلدات ! جاء في معرِض كلامه عن “ابن تومَرت” (مدعي المهدوية في عصره)، ونقدِه، وبيانِ ضلاله عقيدة واضحة حول كون المسيح هو الإمام المهدي عَلَيهِ السَلام، حيث قال:
وقال في الكتاب المذكور: «جاء الله بالمهدي، وطاعته صافية نقيّة، لم يُرَ مثلها قبل ولا بعد، وأنَّ به قامت السماوات والأرض، وبه تقوم، ولا ضدَّ له، ولا مثل، ولا ند». انتهى. وكذب؛ فالمهديُّ عيسى عليه السلام».اهـ (انظر: «الاعتصام في أهل البدع والضلالات» 2/440. ط. الدار الأثرية / بتحقيق الشيخ مشهور حسن)
وللشاطبي قول مشابه في موضع آخر من كتاب “الاعتصام” جاء فيه:
«وقد كان السُّلطان أبو العُلَى إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي منهم ظهر له قُبْحُ ما هم عليه من هذه الابتداعات، فأمر -حين استقرَّ بمراكش- خليفةً بإزالة جميع ما ابتدَع مَن قَبْله، وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر فيها بتغيير تلك السِّيَر، ويوصي بتقوى الله، والاستعانة به، والتوكل عليه، وأنه قد نبذ الباطل وأظهر الحق، وأن لا مهديَّ إلا عيسى، وأن ما ادَّعوا من أنه المهدي بدعة أزالها، وأسقط اسم من لا تثبت عصمته.» (الاعتصام 2/73)
فالإمام الشاطبي رحمه الله على عقيدة لا مهدي إلا عيسى، والإمام غني عن التعريف فهو من كبار أئمة أهل السنة وله شروح للبخاري وغيره وكتبه لا غنى عنها لكل باحث في الفقه، ومن يظن أن الشاطبي ينكر أحاديث المهدي فقد شط عن الحق إذ يتبيّن مما أشار إليه -في صفحة 253 من الجزء الثاني من النسخة المطبوعة في مطبعة المنار سنة 1331 هـ- عدم تعرضه لأحاديث المهدي بالإنكار والرد، ونَصُ كلامه عن ابن تومرت: “وقد وَضَعَ القتل شرعًا معمولا به على غير سنة الله وسنة رسوله، المتسمي بالمهدي المغربي، الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث“. انتهى. فيتبيّن من قول الشاطبي عن المهدي: “المبشر به في الأحاديث“، صريح في أنه يرى أن المهدي المبشر به في الأحاديث حق ولكنه يرى أن المهدي هو المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أي أن أحاديث المهدي هي شرح لأحاديث نزول المسيح عَلَيهِ السَلام الثابتة فالمهدي الحقيقي لن يقتل أحدا حيث يرى الشاطبي أن القتل ليس من سنّة النبي ﷺ ولذلك فالمهدي هو المسيح عَلَيهِ السَلام، وهو ما ذهب إليه ابن أبي شيبة في مصنفه:
“الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْمَهْدِيُّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ».“. (انظر: مصنف ابن أبي شيبة 192/8)
وكذلك قول ابن حجر في “الصواعق المحرقة” 1/420 أن الآية الثانية عشرة من سورة الزخرف 61 [وإنه لعلم للساعة] هي عن المهدي حيث يقول نقلاً عن تفسير مقاتل:
“قال مقاتل بن سليمان ومن تبعه من المفسرين إن هذه الآية نزلت في المهدي“. (انظر: الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، إبن حجر الهيتمي، طبعة مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى، 1997، تحقيق: عبدالرحمن بن عبدالله التركي وكامل محمد الخراط، 1/420)
ويتبين موقف الشاطبي المؤيد لمذهب الإمام مالك ابن أنس رحمهم الله ما ذهب إليه مالك من موت عيسى نبي بني إسرائيل عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام كما في كتاب “إكمال إكمال المعلم” للإمام محمد بن خليفة الوشتاني الأُبيّ وهو شرح لأحاديث صحيح مسلم، حيث قال الشارح:
“وفي العتبية قال مالك: مات عيسى ابن ثلاث وثلاثين سنة. قال ابن رشد: يعني موته: خروجه من عالم الأرض إلى عالم السماء. قال: ويحتمل أنه مات حقيقة، ويحيا في آخر الزمان، إذ لا بدّ من نزوله لتواتر الأحاديث بذلك.” (انظر: الوشتاني، محمد بن خليفة، الإكمال، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1415هـ1994م، ج1ص445.)
كما أورد قولَ مالك الشيخُ محمد طاهر الغجراتي في “مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل”، وهو قاموس لشرح غريب القرآن والحديث، حيث قال:
“والأكثر أن عيسى لم يمت، وقال مالك: مات وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة” وتابع قائلا: “ولعله أراد رفعه إلى السماء، أو حقيقته (أي حقيقة الموت) ويحيا آخر الزمان لتواتر خبر النزول.” (انظر: الغجراتي، محمد طاهر، بحار الأنوار، ج1ص387.)
كما أورده ابن رشد في البيان والتحصيل، حيث قال:
“ويحتمل أن يكون معنى قوله (بل رفعه الله إليه)، أي رفع روحه إليه بعد أن مات، ويحييه في آخر الزمان، فينزله إلى الأرض على ما جاءت به الآثار، فيكون قول مالك على هذا ومات وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة على الحقيقة لا على المجاز” (انظر: ابن رشد، أبو الوليد، البيان والتحصيل، تحقيق محمد حجّي، إدارة إحياء التراث الإسلامي دولة قطر، د.ط، 1406هـ1986م، ج18ص448)
وأورده القاضي ابن عطية في “المحرر الوجيز”، حيث قال:
“وقال مالك في العتبية: مات عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة” (ابن عطية، أبو محمد عبد الحق، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1413هـ1993م، ج1ص444)
وهو أيضا مذهب الإمام ابن حزم رحمه الله كما في كتابه الشهير “المحلى”، حيث قال:
“فالوفاة قسمان، نوم وموت فقط، ولم يرد عيسى عليه السلام بقوله (فلما توفيتني) وفاة النوم؛ فصحَّ أنّه إنّما عنى وفاة الموت” (ابن حزم، أبو محمد علي، المحلى، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، دار الجيل، د.ط، د.ت، ج1ص23، رقم المسألة 41)
وهو بالأصل مذهب حبر الامة ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كما نقله البخاري في صحيحه:
“قال ابن عباس متوفيك مميتك” (انظر: صحيح البخاري: الجزء الثالث كتاب التفسير تفسير سورة المائدة)
وقد ذكر السيوطي رحمه الله في “الإتقان” تفسيراً لابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بعنوان «صحيفة علي بن أبي طلحة في التفسير» (انظر: كتاب تفسير ابن عباس المسمى: صحيفة علي بن أبي طلحة في تفسير القرآن الكريم؛ اعتنى بها وحققها وخرّجها راشد بن عبد المنعم الرجال؛ الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية بيروت – لبنان؛ الطبعة الأولى 1411هـ / 1991م؛ الصفحة: 6 يذكر فيه تصحيح إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله جاء فيه لقول ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وتوثيق ابن حجر لهذا التفسير كما يلي:
“وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّفْسِيرِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً وَفِيهِ رِوَايَاتٌ وَطُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْ جَيِّدِهَا طَرِيقُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْهَاشِمِيِّ عَنْهُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ “بِمِصْرَ صَحِيفَةٌ فِي التَّفْسِيرِ رَوَاهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ لَوْ رَحَلَ رَجُلٌ فِيهَا إِلَى مِصْرَ قَاصِدًا مَا كَانَ كَثِيرًا” أَسْنَدَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذِهِ النُّسْخَةُ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ رَوَاهَا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهِيَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِي صَحِيحِهِ كَثِيرًا فِيمَا يُعَلِّقُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخْرَجَ مِنْهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حاتم وابن المنذر كثير بِوَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي صَالِحٍ وَقَالَ قَوْمٌ لَمْ يَسْمَعِ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ التَّفْسِيرَ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَعْدَ أَنْ عَرَفْتَ الْوَاسِطَةَ وَهُوَ ثِقَةٌ فَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ.” (انظر: كتاب الإتقان في علوم القرآن؛ جلال الدين السيوطي المتوفى: 911هـ؛ المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم؛ الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ طبعة 1394هـ / 1974م؛ 237/4)
ووافقه ما رواه الطبراني والحاكم في المستدرك عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنها حيث قالت:
“قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة“. (أخرجه الطبرانى عن زيد بن أرقم 22/417، رقم 1031. وأخرجه الهندي في “كنز العمال” 37735. و 959، 1/189. و 32242، 11/476. وابن عساكر 47/481)
والحديث أعلاه سنده حسن، حيث علّق الإمام السخاوي في “المقاصد الحسنة” قائلا:
“أما حديث: ما بعث الله نبياً إلا عاش نصف ما عاش النبي قبله فهو حديث معروف، ذكره أبو نعيم في الحلية والفسوي في مشيخته عن زيد بن أرقم به مرفوعاً، وسنده حسن لاعتضاده.” (انظر: “المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة”، شمس الدين السخاوي، باب: ما بعث الله نبيا إلا عاش … 901)
وهو بالأصل إجماع الصحابة عند وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حينما تلا الصدّيق أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الآية [وَمَا مُّحَمَّدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرُسل] فانعقد بذلك أول إجماع في تاريخ الأمة على موت المسيح الناصري عَلَيهِ السَلام. وهنالك من المتقدمين من أهل العلم من أيّد ذلك ولا يسع المقام لذكرهم. بل إننا نجد حتى المعارضين لعقيدة لا مهدي إلا عيسى قد أوّلوها بما يتفق مع فهمهم لأحاديث المهدي ومنهم القرطبي حيث قال:
«أي: لا مهدي كاملاً معصوماً إلا عيسى، وعلى هذا تجتمع الأحاديث ويرتفع التعارض» (انظر: «التذكرة»، ص 516)
والحديث المشهور من سنن ابن ماجه:
“لا يزداد الأمر إلا شدة ولا الدنيا إلا إدبارا ولا الناس إلا شحا ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ولا مهدى إلا عيسى ابن مريم.” (انظر: سنن ابن ماجه 17808، والحاكم، وأبو نعيم فى الحلية عن أنس قال الحاكم: يعد فى أفراد الشافعى، أخرجه ابن ماجه 2/1340، رقم 4039، والحاكم 4/488، رقم 8363، وأبو نعيم فى الحلية 9/161. وأخرجه أيضا: الخطيب 4/220، والقضاعى 2/68، رقم 898)
وللحديث شواهد وألفاظ أخرى.
وما يؤكد بأن القول بلا مهدي إلا عيسى عقيدة لا مجرد قول شخص أو اثنين هو ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان اعتقاد فرق الإسلام حول هوية الإمام المهدي:
“وقد اختلف الناس في المهدي على أربعة أقوال: أحدها: أنه المسيح بن مريم. القول الثاني: أنه المهدي الذي ولي من بني العباس، وقد انتهى زمانه. القول الثالث: أنه رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان، وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً، فيملؤها قسطاً وعدلاً، وأكثر الأحاديث على هذا تدل. وأما الرافضة الإمامية: فلهم قول رابع، وهو أن المهدي هو: محمد بن الحسن العسكري المنتظر، من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن، الحاضر في الأمصار، الغائب عن الأبصار، الذي يورث العصا، ويختم الفضا، دخل سرداب سامراء طفلاً صغيراً من أكثر من خمس مئة سنَة، فلم تره بعد ذلك عينٌ، ولم يحسَّ فيه بخبر، ولا أثر، وهم ينتظرونه كل يوم ! يقفون بالخيل على باب السرداب، ويصيحون به أن يخرج إليهم: “اخرج يا مولانا”، ثم يرجعون بالخيبة والحرمان، فهذا دأبهم، ودأبه.” (انظر: المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ص 148 – 155)
والخلاصة أن الإمام الشاطبي رحمه الله قد فهم أن أحاديث نزول المسيح هي التي تتحدث عن المهدي خصوصاً وَإِنَّهُ يؤيد مذهب الإمام مالك رحمه الله في موت المسيح عَلَيهِ السَلام وحقيقة أن لا مهدي غير المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الاحمدية هم الجنون الحقيقي هذا ما توصلت اليه بهد الدراسة العميقة
عندما تسمع أن أحاديث رسول الله صل الله عليه وسلم وشرح السلف الصالح أصبحت جنون فتذكر قول النببي ﷺ: بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء
والله ماهو بجنون بل هو الحق كما انتم تنطقون فسوف تعلمون.
والله ما هو بالجنون بل هو الحق المبين فسوف تعلمون