عندما يرسل الله تعالى نبيا أو مبعوثا، فهو يهيئ لقبوله من خلال حاجة العصر والظروف والأحداث التي يحركها الله تعالى والتي تسبق أحيانا بعثته بمئات السنين. وهذا ما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم الذي بدأ التمهيد لبعثته قبل ما يقارب 2200 عام منها؛ عندما وضع إبراهيمُ إسماعيلَ وأمَّه عليهم السلام في مكة، ثم أقام البيت الحرام ودعا الناس إلى الحج إليه ليأتوا يوما ويجدوا ذلك المبعوث الموعود عنده، ثم وجَّه الله الأحداث والقلوب لهذه البعثة وجدَّد الحماس لها -كما حدث مع قصي بن كلاب وجمعه لقريش مجددا في مكة قبل قرنين من البعثة ثم بدئهم رحلة الشتاء والصيف – بل وتدخل مباشرة وأنقذ البيت الحرام من بطش أبرهة وأهلكه في العام الذي وُلد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ليكون إشارة وبشارة. أما بعد بعثته فقد أثبت أنه هو من أرسله بتسخير الظروف كلها لخدمته وبإنجاح مهمته وتحطيم عواصف المعارضة العاتية على صخرتها.
وبنفس الطريقة فإن بعثة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام قد جاءت مواكبة للعصر تماما ووفقا لحاجته، ومهَّد لها الله وهيَّأ بأن حرك القلوب والعقول والأحداث لإنجاحها، وهزم أمامها المعارضة وخذلها، وهذا الأمر إنما هو من أكبر الدلائل على صدق حضرته عليه الصلاة والسلام. فعن هذه البعثة جاء في الحديث الشريف:
{يُوشِكُ مَنْ عَاشَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِمَامًا مَهْدِيًّا وَحَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (مسند أحمد، كتاب باقي مسند المكثرين)
وقد ثبُت أن المسيح النازل لن يكون عيسى بن مريم عليه السلام نفسه؛ فرغم أنه يثبت من الأحاديث تواتر خبر نزول المسيح في آخر الزمان – وهذا لأنها رويت عما يقارب الثلاثين صحابيا، وإنكارها لا يعدُّ كفرا وإلحادا بالنسبة لمن يدعي الإسلام فحسب، بل لا يمكن لعاقل أن يجرؤ على رفضها لأنه لا يمكن أن يتضافر الصحابة على الكذب في مسألة واحدة – إلا أن القرآن الكريم يقطع بأن المسيح عيسى مريم عليه السلام قد توفي وأنه لن يعود بنفسه ليقوم بهذه المهام. ومع أن الأدلة القرآنية عديدة على ذلك إلا أن آية واحدة تغلق المسألة برمَّتها وهي قوله تعالى:
{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } (المائدة 118)
فهنا يؤكد عيسى عليه السلام أنه فارق قومه بالوفاة التي هي الموت ولم يشهد بنفسه فسادهم – وإن كانت بذرته قد بدأت في حياته أيضا- ولم يُعد لإصلاح هذا الفساد وفقا لما جاء في الحديث، وورد في حديث الحوض أو حديث الردة الشهير أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استدل بالآية نفسها ليؤكد المشابهة في أنه فارق قومه بالموت ولم يشهد بنفسه ردتهم. فمسألة أن المبعوث هو شخص آخر مثيل له أمر لا بد منه، فكيف إذا كان الحديث نفسه قد أكَّد أنه هو الإمام المهدي والحكم العدل وأنه من الأمة الإسلامية كما جاء في البخاري ومسلم:
{كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ } (صحيح مسلم، كتاب الإيمان)
{كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ } (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء)
وفيما يتعلق بالعصر ومهامه التي سيقوم بها ورد أنه سيأتي لكسر الصليب وقتل الخنزير ووضع الجزية وعندما تضع الحرب أوزارها. فهذه المهام يجب أن يقوم بها من ناحية، ويجب أن يكون الله تعالى قد هيأ الظروف لها أيضا وجعل جوانب منها أمرا واقعا.
++++++++++++++++++++
فأما الصليب، فقد كان في وقت بعثته قد استشرى وتقوَّى، وأصبحت القوى المسيحية هي المسيطرة على العالم دون منازع. والعجيب أن الله تعالى قد مهّد وهيَّأ لهذه المهمة قبل قرون بأن بدأ إيمانُ المسيحيين بالعقائد المسيحية يتزعزع مما ألقى الذعر في الكنيسة الكاثوليكية التي لجأت إلى أساليب القسوة والبطش والإكراه ومحاكم التفتيش لترغم الناس على الإيمان، مما أدى إلى ثورة ضد الكاثوليكية انتهت بانتصار كبير للبروتستانتية، ولكنها ولَّدت مسيحية جديدة ارتباطها بالهوية والمصالح هو الأساس وليس المعتقدات التي ثبُت بطلانها والتي أدرك العقلاء أنه لا سبيل للدفاع عنها. فأخذت تروِّج من ناحية إلى اساطير الكتاب المقدس واستحقاق بني إسرائيل والمسيحيين من بعدهم السيادة على الأرض لتكون دافعا جديدا للحركة الاستعمارية الأوربية الجديدة ومن ناحية ثانية بدأت حملة منظَّمة لمهاجمة الإسلام بالشبهات والأباطيل – بصفته الدين الذي يمتاز بمعتقدات صلبة راسخة لا بد أن تنهزم المسيحية أمامها – من خلال عمل ضخم قام به المستشرقون سوغوا وزوروا العقائد وحاولها ترويجها تحقيقا لهذه المصالح ولأجل الدفاع عن المعتقدات المسيحية المتهالكة التي انهار الإيمان بها في أوروبا نفسها. والعجيب أن السلاح الأقوى الذي ظن المسيحيون أنهم قد عثروا عليه، ألا وهو نزول المسيح في آخر الزمان واعتقاد بعض المسلمين بحياته في السماء، كان بنفسه السلاح الذي أدى إلى كسر الصليب وإبطاله وتدمير هذه الخطة. فلم يُثبت حضرته فقط بأن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام قد توفي من القرآن الكريم ومن أناجيلهم وكتبهم فحسب، بل بيَّن بأن المقصود بنزوله هو بعثة مثيل له في الأمة المحمدية والذي كان هو بنفسه. فلم تعد المسألة مجرد نقاش عقدي، بل أصبحت أمرا واقعا لا مجال لدحضه إلا بما يعادله بأن ينزل مسيحهم المزعوم من السماء. وبذلك فقد فشلت خطتهم في استدراج المسلمين إلى الاعتقاد المسيحي أو على الأقل زعزعة إيمانهم. وكان من عجائب قدرة الله تعالى أن يزداد المسيحيون منذ ذلك والوقت وما قبله إلى اليوم ابتعادا وأنفة من العقائد المسيحية وألوهية المسيح ليكونوا مهيئين لقبول الحق عندما ينكشف لهم. فمن ناحية زعزع الله تعالى إيمان المسيحيين بألوهية المسيح وغيرها من المعتقدات المسيحية، ومن ناحية ثانية أثبت حضرته للمسلمين وغيرهم أن المسيح توفي وأن نزوله إنما هو نزول حضرته وألا حقيقة لحياته في السماء ولا نزوله منها، ولم يترك الأمر معلقا.
+++++++++++++++++++++
أما قتل الخنزير فمع أن معانيه أن بعض القائمين على هذه الدعوة المسيحية الباطلة سيهلكون مقابله بدعائه وبنصرة الله له – وهذا ما حدث مع من تحدوه كعبد الله آثم ودوئي وغيرهم، وهنا التحمت قدرة الله تعالى بدعواه وتجلَّى القدر لإثبات صدقه – إلا أن من معانيها أيضا أنه يعيد الناس إلى الأخلاق والفضيلة التي عملت الشعوب المسيحية على ترويجها لأجل التجارة والمكاسب كما يحدث إلى يومنا هذا من خلال وسائل المواصلات والاتصال. فمن عجائب قدرة الله تعالى أن جعل الوسائل التي تشيع بها الفاحشة وتنتشر هي نفسها الوسائل التي تنتشر بها دعوة المسيح الموعود التي تعيد الناس إلى الفضيلة وتجذب قلوبهم نحوها بعد أن رأوا مرارة اتِّباع العادات الخنزيرية وأثرها على سلامهم النفسي والمجتمعي.
++++++++++++++++++++
أما وضع الجزية، فقد بيَّن حضرته بأن الجزية حُكم عقابي مرتبط بالحرب الدينية، وأنها حُكم توراتي بالأساس، وأن الإسلام إنما جاء لاجتثاثها وليس لترسيخها وذلك بمعاقبة من يحاربون المسلمين لإكراههم على ترك الإسلام ويفرضونها عليهم، فلذلك هي تفرض على هؤلاء المعتدين الظالمين الذين ينسبون هذا الحكم إلى الله تعالى كذبا وافتراء معاملةً بالمثل لكي ينتهوا عنها. وبما أن الشعوب المسيحية لم تعد تحارب المسلمين لإكراههم على ترك الإسلام أو لفرض المسيحية عليهم، وبما أنهم تخلوا عن عادة فرض الجزية على المسلمين بعد هزيمتهم، لذا لا يمكن أن تُطبَّق الجزية وفقا لظروف اليوم على أحد. فمن ناحية فقد هيَّأ الله تعالى الظروف الملائمة لوضع الجزية بأن جعل هذه الشعوب تتخلى عن الحروب الدينية وفرضها على المسلمين أو غيرهم، ومن ناحية أخرى جاء حضرته ليبين حقيقة هذا الحكم وتطبيقه إذ أصبح غير قابل للتطبيق الآن بسبب تغيُّر الظروف. فالله تعالى قد وضع الجزية بتهيئة الظروف، وحضرته قد وضعها بتبيان حكمها الصحيح.
+++++++++++++++++++++++
أما ما يتعلق بالحرب، فمن ناحية قد وضع الله تعالى الحرب الدينية التي يريد فريق فيها إكراه فريق آخر في دينه ولم تعد هذه الحرب قائمة، ومن ناحية ثانية أزال حضرته من الفكر الإسلامي الخطأ الذي شاع بأن الإسلام يطلب حرب الكفار حتى يُسلموا وفرْض الجزية على أهل الكتاب منهم. بل قد بلغ الفساد في هذه العقيدة لدى بعض المسلمين مبلغا أن أَوَّلوا وضع الجزية في زمن المسيح الموعود بأنه إنما يعني أنه لن يقبل الجزية مجددا من أحد، أي أنه يلغيها رغم كونها حكما إسلاميا، وإنما سيخيرهم بين الإسلام أو القتل! وبذلك ينسخ حكما قرآنيا في ظنهم! فبيَّن حضرته حقيقة الجهاد في الإسلام، وأكَّد أن القتال إنما أذن به الله تعالى دفاعا، وأخذ العهد على المسلمين عندما أعطاهم هذا الإذن بأن يحموا الحرية الدينية ويحافظوا عليها للآخرين قبل أنفسهم، إذ يقول تعالى:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (40) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (الحج 40-41)
وتأكيدا على أنه هو المسيح الذي جاء لوضع الحرب فقد نزع الله تعالى من المسلمين القوة للقيام بهذا العمل الخاطئ من ناحية، ومن ناحية أخرى جاء حضرته ليبين حقيقة القتال وأن ما يحلمون به إنما هو وهمٌ بعيد عن حقيقة الإسلام ويسيء إليه أيما إساءة، وخاصة ما يتعلق به من أحكام ظنوها أحكاما إسلامية كالسبي والاسترقاق والتي الإسلام بريء منها، والتي لم يطبِّق شيء منها إلا من باب المعاملة بالمثل أيضا وبصورة رحيمة للغاية، وأنها الآن محرَّمة أيضا لأن الآخرين المعتدين لا يقومون بها.
والواقع أن إنجازات المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام وخاصة في تخليص الفكر الإسلامي من إشكاليات الجزية والحرب التي ما زالت المؤسسات الدينية تقف عاجزة وواجمة أمامها، وكذلك إنجازه بأن خلَّص العقيدة الإسلامية من الشرك والشبهات المرتبطة بالمسيح والمسيحية تكفي وحدها لإثبات أنه المسيح الموعود المبعوث من الله تعالى، وهذا بسبب تفرُّده في هذه الإنجازات واستمرار وقوع المسلمين في وحل أخطائها.
أخيرا نقول، إنه بالنظر إلى ما تقدَّم نجد أن حاجة العصر وظروفه التي هيأها الله تعالى قد تطابقت تماما مع دعوى حضرته وبعثته، وكان بحق وفقا لما قال بنفسه عن نفسه في كتاب الاستفتاء: “فهو يدعو الزمانَ والزمانُ يدعوه“، وثبت أن الله تعالى الذي هيأ هذا الظروف وهذه الأحوال هو من أرسله في وقته تماما، وأنه لا مسيح نازلا غيره، ولا زمان بعد زمانه تنطبق عليه هذه الأنباء.