لنقرأ النص التالي في سفر إرميا من الكتاب المقدس:
“ثُمَّ أَوْحَى الرَّبُّ إِلَى إِرْمِيَا بِهَذِهِ النُّبُوءَةِ. «أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَهُ ذَلِكَ الشَّعْبُ: قَدْ نَبَذَ الرَّبُّ الْعَشِيرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اخْتَارَهُمَا؟ كَذَلكِ احْتَقَرُوا شَعْبِي وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعُودُوا أُمَّةً. وَهَذَا مَا يُعْلِنُهُ الرَّبُّ: إِنْ كُنْتُ لَمْ أَعْقِدْ مِيثَاقاً مَعَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَلَمْ أَسُنَّ أَحْكَاماً لِلسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فَإِنِّي أَرْفُضُ ذُرِّيَّةَ يَعْقُوبَ وَدَاوُدَ عَبْدِي، فَلاَ أَصْطَفِي مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَحْكُمُ عَلَى نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَلَكِنِّي سَأَرُدُّ سَبْيَهُمْ وَأَرْحَمُهُمْ».” (إرميا 33:23-26)
فالوحي الذي تلقاه إرميا عبارة عن نبوءة وهو أمر يخص مستقبل إسرائيل، وفيه أن الله تعالى سوف لن يصطفي منهم أحداً بالنبوة مما يعود بنا إلى نبوءة التثنية ١٨:١٨ التي بيّن الله تعالى فيها بأنه سوف يقيم للأمم نبياً مثل موسى من إخوة يعقوب إسرائيل أولاد إسحق وهم بنو إسماعيل وكلهم من إِبْرَاهِيمَ عَلَيهِم السَلام (فلا يحكم على نسل ابراهيم) وبالتالي فالذي سيحكم على نسل ابراهيم ليس من أمة موسى عَلَيهِ السَلام بل من إخوتهم بني إسماعيل كما في النبوة من التثنية. وقد تعهد الله كما في النص أعلاه بأن يرحمهم ويعيدهم من السبي والشتات دون أن يصطفي منهم أحدا.
نبوءة التثنية:
“لِهَذَا أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَضَعُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُخَاطِبُهُمْ بِكُلِّ مَا آمُرُهُ بِهِ.” (التثنية 18:18)
والمماثلة بين موسى وهذا النبي عَلَيهِم الصَلاة وَالسَلام هي الشريعة وليس الطول ولون العينين وغير ذلك مما لا يمكن التأكد والاستفادة منه كما لا يمكن أن يتكرر إلا في نبي مشرّع! يقول تعالى في القرآن الكريم:
{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} (المزمل15)
أما عن الكلام الذي يكون في الفم فهو دليل أن النبي الموعود لن ينطق عن الهوى أبدا بل كل ما يقوله هو قول الله ﷻ ولا تجد مصداق هذا إلا عند سيدنا محمد ﷺ الذي خاطبه الله ﷻ في القرآن الكريم بـ “قُلْ” عشرات المرات وأمر أن يطاع في كل ما يقول !
وفي ذلك يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام مفسراً قوله تعالى: [وإنه لعلم للساعة] ما يلي:
“ومن عقائدنا أن عيسى ويحيى قد وُلدا على طريق خَرْقِ العادة، ولا استبعادَ في هذه الولادة. وقد جمع الله تلك القصتين في سورة واحدة، ليكون القصةُ الأولى على القصة الأخرى كالشاهدة. .. وأما سرّ هذا الخَلق في يحيى وعيسى فهو أن الله أراد من خلقهما آية عظمى. فإن اليهود كانوا قد تركوا طريق الاقتصاد والسداد، ودخل الخبث أعمالَهم وأقوالهم وأخلاقهم وفسدت قلوبهم كل الفساد، وآذوا النبيين وقتلوا الأبرياء بغير حق بالعناد، وزادوا فسقا وظلما وما بالَوا بَطْشَ ربّ العباد . .. فإذا آلتْ حالتهم إلى هذه الآثار، لعنهم الله وغضب على تلك الأشرار، وأراد أن يسلب من جرثومتهم نعمةَ النبوة، ويضرب عليهم الذلة، وينزع منهم علامة العزة. .. فأولُ ما فعل لهذه الإرادة هو خلق عيسى من غير أب بالقدرة المجردة. فكان عيسى إرهاصاً لنبينا وعَلَماً لنقل النبوة، بما لم يكن من جهة الأب من السلسلة الإسرائيلية. .. ثم بعد ذلك نقل النبوة من ولد اسرائيل إلى إسماعيل، وأنعم الله على نبينا محمد وصرَف عن اليهود الوحيَ وجبرائيلَ. ” (مواهب الرحمن، ٥٦-٥٨)
وكذلك:
“إن مريم ولدت ابنا ما كان من بني إسرائيل، ثم قيل فيها ما قيل وعذبوها بأقاويل، فكان هذان الأمران عِلمًا لساعة نقل النبوة، وعَلمًا لتعذيب هذه الفرقة. فلأصاب اليهود ذلة بإخراجهم من هذا البستان، ونقل النبوة إلى بني إسماعيل غضبا من الله الديّان. ثم أصابهم ذلة أخرى وقارعة من ملوك الزمان، بل من كل ملك إلى هذا الأوان. وإن فيها لآية لأهل العلم والعرفان“. (الخطبة الإلهامية، الخزائن الروحانية، مجلد 16 ص 79-80)
وفي كلام حضرته عَلَيهِ السَلام أعلاه شرح واف لنبوءة إرميا التي تنص على أن الله تعالى لن يصطفي من نسل يعقوب (إسرائيل) أحدا مع أنه سوف يكرمهم ويرحمهم ويكثرهم.
وهؤلاء هم العشيرتين المذكورتين في النص الأول من إرميا التي قال الرب بأنه نبذهم ولن يصطفي منهم نبيا حيث مضى ما يقرب إلى ٣ آلاف عام منذ أن تم تقسيم مملكة إسرائيل إلى اثنتين عندما ثار عشرة أسباط من ١٢ سبط لإسرائيل ضد الملك رحبعام ابن الملك سليمان وحفيد الملك داود وفق ما تذكر التوراة والمفسرون. ويشير الكتاب المقدس إلى هذه القبائل العشر كإسرائيل بينما يطلق على القبيلتين الأخريين (يهوذا وبنيامين) التي بقيت موالية لنسل داود بـ مملكة يهوذا أو اختصارا بـ يهوذا. وبالتالي فقد انقطعت النبوة من إسرائيل خصوصاً من هذين السبطين بعد المسيح الناصري عَلَيهِ السَلام كما بين المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام ولم تُشمل الأسباط الباقية بهذا النبذ الإلهي ببساطة لأن الأسباط العشر الأخرى انصهرت في أمة الإسلام والنبي الموعود هو منها أي أمة محمد خاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهو ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حول ابن مريم القادم: “وإمامكم منكم“.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ