يصر المعارضون على البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، ويرفضون سنة الله التي خلت، رغم الأدلة القاطعة الكثيرة.
فلا يقبل المعارضون أن يبعث الله نبيا متأخرًا باسم نبي سابق متقدم، ويصرون على عقيدة نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام بنفسه من السماء- مع كل ما تتضمنه هذه العقيدة من إشكالات ومساس بصلب العقيدة الإسلامية وبخاتمية نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع تصادمها مع القرآن الكريم والسنة – علما بأن بعث نبي على اسم نبي آخر سنة إلهية، ونزول نبي من السماء بدعة.
والواقع أنهم- بموقفهم هذا- قد وقعوا في البدعة، وإن صح أنهم يتبعون سنة فإنما يتبعون سنن من قبلهم في تكذيبهم وعصيانهم، إذ يطابقون بهذه العقيدة المبتدعة اليهود في موقفهم هذا تماما، وبذلك يصدق عليهم نبأ النبي صلى الله عليه وسلم : {لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ} (صحيح البخاري, كتاب أحاديث الأنبياء)
فاليهود رفضوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وما زالوا يرفضونه إلى اليوم بهذه الحجة؛ إذ رفضوا أن يكون إلياس ظلا أو بروزا ليحيى عليه السلام، لأنهم موعودون بنزول إلياس بنفسه من السماء قبل بعثة المسيح الموعود عندهم، حسب ظنهم.
فماذا كان رد المسيح عيسى بن مريم عليهم؟
كان رده:
{وَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«فَلِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» 11فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. 12وَلكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا. كَذلِكَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضًا سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ». 13حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلاَمِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ.} (إِنْجِيلُ مَتَّى 17 : 10-13)
وبهذا فقد فسَّر المسيح عيسى بن مريم الأمر بكل وضوح.
ولم يكتف المسيح عيسى بن مريم عليه السلام بذلك، بل قال نافيا فكرة أن يكون أحد قد صعد إلى السماء فعليا أو أنه سينزل منها قال:
{وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ} (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 3 : 13)
وبذلك فسر النزول بأنه نزول معنوي، وأنه هو قد نزل من السماء بهذا المعنى.
ولعل اليهود معذورون نسبيا بتمسكهم بفكرة أن إيليا قد صعد إلى السماء، وهذا بسبب أن لديهم نصًّا واضحا يقول ذلك:
{وَفِيمَا هُمَا (إيليا وأليشع) يَسِيرَانِ وَيَتَكَلَّمَانِ إِذَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ وَخَيْلٌ مِنْ نَارٍ فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَصَعِدَ إِيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ.} (اَلْمُلُوكِ الثَّانِي 2 : 11)
ولكن النص الذي جاء فيه ذكر مجيء إيليا لا يسعفهم، فلم يتضمن نزولا، بل جاء فيه أن الله سيرسله قبل بعث المسيح:
{هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ} (مَلاَخِي 4 : 5)
أما المعارضون من إخواننا المسلمين، فلا أدنى عذر لديهم، إذ أن القرآن الكريم يخلو تماما من نصٍّ يذكر صعود المسيح إلى السماء، بل إن الأحاديث تخلوا من ذلك أيضا؛ فليس هنالك حديث واحد، ولو موضوع، يذكر أن المسيح قد صعد إلى السماء!
المؤسف أنهم ليس في أيديهم سوى أقصوصة ذكرها ابن اسحاق يقول فيها: “حدثني رجل كان نصرانيا فأسلم!!” وهذا يدل بوضوح على أن هذه العقيدة دخيلة من المسيحية.
والواقع أنهم لو رجعوا إلى القرآن لما وقعوا في هذه المفسدة العقدية مطلقا. فقد أعلن القرآن الكريم بوضوح وفاة المسيح واستحالة عودته إلى الدنيا مجددا في مواضع كثيرة، ومنها أواخر سورة المائدة التي يعلن فيها المسيح أن الله قد توفاه قبل فساد قومه، وأنه لم يعد مرة أخرى إلى الأرض ليصلح ما فسد، وأن الله كان هو الرقيب عليهم حينها:
{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المائدة 118)
ومن منَّة النبي صلى الله عليه وسلم علينا هو أنه قد فسَّر هذا الآية في حديث الردة الشهير، إذ استخدم نفس نص هذه الآية ليفسر أنه كما فارق صلى الله عليه وسلم قومه بالوفاة ولم يعلم ماذا أحدثوا بعده، كذلك كان حال عيسى عليه السلام:
{وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فَيُقَالُ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ} (صحيح البخاري, كتاب تفسير القرآن)
فهل بقي بعد الله آياته وبيان رسوله بيان؟
والقرآن الكريم لا يكتفي فقط بإعلان وفاة المسيح ونفي أن يكون حيا في السماء وبالتالي تعذُّر نزوله بنفسه، بل يذكِّر أيضا بأن سنة البروز والظل ستأتي على هذه الأمة؛ إذ يقول تعالى:
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } (الصافات 130-131)
و”إل ياسين” هي جمع إلياس، وهذا يدل على أن نموذج إلياس في ظهور نبي بروزا لنبي آخر سيكون في الآخرين، كما كان يحيى عليه السلام بروزا له.
فنحن إذ نؤمن بأن المسيح النازل في آخر الزمان لا بد أن يكون مثيلا للمسيح وظلا وبروزا له، كما كان يحيى ظلا وبروزا لإلياس عليهما السلام، وأنه لم يصعد أحد إلى السماء ولن ينزل من السماء، يكون إيماننا موافقا تماما للقرآن والسنة والحديث وسنة الله في الذين خلوا من قبلنا التي لن تجد لها تبديلا ولا تحويلا.
أما معارضونا الذين يصرون على أن المسيح حي في السماء، وسينزل بنفسه في آخر الزمان، فهم يخالفون القرآن والسنة، وسنة الله التي خلت في الأمم السابقة، ويأتون ببدعة ما أنزل الله بها من سلطان. والمؤسف أنهم يتبعون سنة اليهود في موقف مشابه جعله الله درسا لهم فلم يتعظوا. فإيماننا سنة وإيمانهم بدعة؛ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟