نبدأ باسم الله تعالى مع أمهات التفاسير ثم نتطرق إلى الحديث فأقوال المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام

يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لمعنى الجهاد الأكبر بأنه جهاد الكلمة واحتمال أدى المنافقين:

يقول تعالى: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا} يدعوهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ، ولكنا خصصناك يا محمد بالبعثة إلى جميع أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن {لأنذركم به ومن بلغ}، {قل يا أيها الناس إني رسول اللّه إليكم جميعا}، وفي الصحيحين: “بعثت إلى الأحمر والأسود“، وفيهما “وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة“، ولهذا قال تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به} يعني بالقرآن، قاله ابن عباس {جهادا كبيرا}، كما قال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} الآية.” (تفسير ابن كثير)

وينفي القرطبي جهاد السيف موافقاً ابن كثير رحمة الله عَلَيهِما:

قوله تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } أي رسولاً ينذرهم كما قسمنا المطر ليخف عليك أعباء النبوّة، ولكنا لم نفعل بل جعلناك نذيراً للكل لترتفع درجتك فاشكر نعمة الله عليك. { فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ } أي فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم. { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } قال ابن عباس بالقرآن. ابن زيد: بالإسلام. وقيل: بالسيف؛ وهذا فيه بعدٌ؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال. { جِهَاداً كَبيراً } لا يخالطه فتور.” (تفسير الجامع لاحكام القرآن/القرطبي ت 671 هـ)

كذلك يوضح الزمخشري في كشافه بأن الجهاد الحقيقي والأعظم هو الصبر على الأذى:

يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم { وَلَوْ شِئْنَا } لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى. و { لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ } نبياً ينذرها. وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك به، وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالتشدد والتصبر { فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } فيما يريدونك عليه، وإنما أراد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم { بِهِ } والضمير للقرآن أو لترك الطاعة الذي يدلّ عليه: { فَلاَ تُطِعِ } والمراد: أن الكفار يجدون ويجتهدون في توهين أمرك، فقابلهم من جدّك واجتهادك وعضك على نواجذك بما تغلبهم به وتعلوهم، وجعله جهاداً كبيراً لما يحتمل فيه من المشاق العظام. ويجوز أن يرجع الضمير في { بِهِ } إلى ما دلّ عليه: { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } من كونه نذير كافة القرى، لأنه لو بعث في كل قرية نذيراً لوجبت على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهدات كلها، فكبر جهاده من أجل ذلك وعظم، فقال له: { وَجَـٰهِدْهُمْ } بسبب كونك نذير كافة القرى { جِهَاداً كَبيراً } جامعاً لكل مجاهدة.” (تفسير الكشاف/ الزمخشري ت 538 هـ)

وهو أيضاً قول الإمام الشوكاني رحمهم الله:

والضمير في قوله: { وَجَـٰهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً } راجع إلى القرآن أي: جاهدهم بالقرآن، واتل عليهم ما فيه من القوارع والزواجر والأوامر والنواهي.” (تفسير فتح القدير/ الشوكاني ت 1250 هـ)

ولا يكتفي الإمام البيضاوي رحمه الله بذلك بل يؤكد على أن جهاد النفس والصبر والدعوى ورد الحجة بالحجة أعظم من جهاد القتال والسيوف:

{ فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } فيما يريدونك عليه، وهو تهييج له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين. { وَجَـٰهِدْهُمْ بِهِ } بالقرآن أو بترك طاعتهم الذي يدل عليه فلا تطع، والمعنى أنهم يجتهدون في إبطال حقك فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم. { جِهَاداً كَبيراً } لأن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف.” (تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي ت 685 هـ)

وهو قول الإمام الرازي أيضاً رحمه الله مع التأكيد على نفي السيف في تفسير الجهاد الأكبر:

وأما قوله: { وَجَـٰهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً } فقال بعضهم: المراد بذل الجهد في الأداء، والدعاء وقال بعضهم: المراد القتال، وقال آخرون: كلاهما، والأقرب الأول لأن السورة مكية، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان.” (تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي ت 606 هـ)

وذلك هو المعنى من الجهاد عند ابن عربي رحمه الله من المتصوفة:

{ فلا تطع } المحجوبين بموافقتهم في الوقوف مع بعض الحجب ونقصان بعض الصفات { وجاهدهم } لكونك مبعوثاً إلى الكل { جهاداً كبيراً } هو أكبر الجهادات كما قال: ” ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت ” ، أي: ما كمل نبيّ مثل كمالي.” (تفسير القرآن / ابن عربي ت 638 هـ)

وتتفق تفاسير الشيعة مع أمهات تفاسير السنّة أيضاً حيث يقول الطبرسي في تفسيره:

● “{ فلا تطع الكافرين } فيما يدعونك إليه من المداهنة والإجابة إلى ما يريدون { وجاهدهم } في الله { به } أي بالقرآن عن ابن عباس { جهاداً كبيراً } أي تاماً شديداً وفي هذا دلالة على أن من أجلّ الجهاد وأعظمه منزلة عند الله سبحانه جهاد المتكلمين في حلّ شبه المبطلين وأعداء الدين ويمكن أن يتأول عليه قوله: ” رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “.” (تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي ت 548 هـ)

الأحاديث

ورد في الأحاديث الشريفة ما يؤيد أن الجهاد الأكبر أو الأعظم في الإسلام هو جهاد النفس والقلب واحتمال الأذى في سبيل الله تعالى والصبر في مجال الدعوى حيث أن حياة المسلم هي الدعوة إلى الله ﷻ:

● سُئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم “أيُّ الجهادِ أفضلُ ؟ قال : كلمةُ حقٍ عندَ سلطانٍ جائرٍ.” (رواه النسائي عن طارق بن شهاب وصححه الألباني: 4220)

● عن جابر قال : قدم على النبى – صلى الله عليه وسلم – قوم غزاة فقال قدمتم خير مقدم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر مجاهدة العبد هواه (الديلمى) [كنز العمال 11779] [أخرجه أيضًا : البيهقى فى كتاب الزهد الكبير (2/165 ، رقم 373)] (36961 ، جامع الأحاديث ، جلال الدين السيوطي)

● “وقال إبراهيم بن أبي علقمة لقوم جاءوا من الغزو قد جئتم من الجهاد الأصغر فما فعلتم في الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر قال جهاد القلب، ويروى هذا مرفوعا من حديث جابر بإسناد ضعيف .” [جامع العلوم والحكم – ابن رجب الحنبلي، دار المعرفة – بيروت ، الطبعة الأولى ، 1408هـ ، 1/196]

ويذكر الطبري رحمه الله في التهذيب حديثاً أو اثنين مع الشرح الذي يؤكد ما تقدم:

● حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : قال لي خالد بن نزار : عن سفيان : « الشهوة الخفية ، الذي يحب أن يحمد على البر . وقال آخرون : هو شهوة النفس لما قد حرمه الله عليها من شرب خمر أو ركوب فاحشة من امرأة لا تحل له ، وما أشبه ذلك من الأشياء المحرمة . وحكي عن ابن عيينة ، أنه كان يقول : هو الرجل يصبح صائما صوما تطوعا ، ثم يصيب طعاما يشتهيه فيفطر من أجله . وقال آخرون : هو كل شيء من المعاصي يضمره صاحبه ويصر عليه ، فإنما هو الإصرار ، وإن لم يعمله . والصواب من القول عندنا أنه شهوة النفس الباطنة لما حل وحرم ، وإنما قال شداد : إن شاء الله ، ما قال من ذلك ، لأن في الرياء ما قد بينت قبل ، وأن الشهوة الخفية إذا أفرطت حملت صاحبها على ركوب ما لا يحل له ركوبه من الزنا ، وشرب الخمر ، والسكر ، والسرق ، وغير ذلك من المحارم . وإنما خاف شداد من الشهوة الخفية ، ما يحدث عن الشهوة من ركوب الأمور التي حرمها الله على عباده ، وذلك أن من الشهوة ما إذا لم يركب صاحبها ما دعته إليه نفسه من المحارم ، ولم تتعد إلى ما حظر عليها من المآثم ، فغير ضائرة ، بل إلى أن تكون لصاحبها إذا ترك التقدم على ما دعته إليه من المحارم حذار العقاب عليها ، إلى رضى الله مقربة أقرب منها إلى أن تكون له من الله مبعدة ، لأن إماتتها بتحذير النفس عقاب الله ، وخوف وعيده حتى يقمعها أو يردها عن باعث هواها ، وما اهتاج فيها إلى تقويمها على أمر الله تعالى ذكره الذي أمرها به ، هو الجهاد الأكبر الذي لا جهاد أعظم منه ، وقد كان الحسن يقول : ليس عدوك الذي إن قتلته استرحت منه ، ولكن عدوك نفسك التي بين جنبيك ، فقد بين الحسن بقوله هذا أن رد النفس عن بواعث شهواتها وقمعها عن هياج طلباتها المحرم عليها ركوبها إلى ما يحل لها ويزيل ذلك عنها هو جهاد أعدى الأعداء للمرء ، وذلك لا شك أعظم أجرا عند الله من جهاد أهل الشرك الذين إلى قتلهم السبيل » (919، تهذيب الآثار للطبري ، 3/160)

________

نفهم مما تقدم بأن الجهاد الذي يقصده القرآن الكريم كأعلى مستوى إنما هو جهاد النفس أو القلب أو الشهوات والصبر على الأذى وتقديم الدعوة على رد العدوان، وفي أقل مستوياته يكون في رد العدوان والقتال في سبيل دفع ذلك سيفا بسيف وحجة بحجة. فمن يقول بأن الجهاد في الإسلام هو في القتال ونشر الدين بالقوة والسنان فقد جار واعتدى على القرآن كتاب الله العلام الذي يؤكد بأن القتال ليس إلا لرد العدوان ودفع الأذى وأن لا إكراه في الدين بل أمر المسلمين بالدفاع عن حرية معتقَد الآخرين مقدما إياها على مساجد المسلمين:

﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ الحج٤٠-٤١

ولم يكتب القتال إلا لرد العدوان ومع ذلك فقلوب المسلمين تكره الحرب وقتل الآخرين:

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة٢١٧

﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ البقرة١٩١

_______

معنى [يضع الحرب وضع الجهاد] عند المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:

يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام موضحاً معنى الجهاد الحقيقي ومتى يصح القتال في الإسلام:

والمبدأ الثاني الذي بُعثتُ من أجله هو إصلاح تلك النظرية الخاطئة للجهاد التي اشتهرت بين بعض المسلمين الجاهلين. فقد فهّمني الله سبحانه وتعالى أن الأساليب التي تُعتبر اليوم جهادًا تتعارض كلية مع التعاليم القرآنية. لا شك أنه قد ورد في القرآن الكريم أمرٌ بالحرب، وكان أكثرَ منطقًا وحكمةً من حروب سيدنا موسى وكان أدعى للقبول من حروب يوشع بن نون، لأن هذه الحرب كانت مبنية على مبدأٍ أن الذين حملوا السيوف لقتل المسلمين بدون مبرر، وسفكوا الدماء بغير حق، وأوصلوا الظلم إلى منتهاه، فليُقتَلوا هم الآخرون بالسيوف“. (تحفة قيصرية، الخزائن الروحانية مجلد 12، ص 262)

يبين عَلَيهِ السَلام هدف الجهاد الحقيقي:

هدفي من تأليف هذا الكتاب هو أن أردّ على تلك الأفكار الخاطئة والخطيرة التي هي متفشية في معظم فِرق المسلمين والمسيحيـين حول أوائل حياة المسيح عليه السلام وأواخرها؛ وذلك ببيان الحوادث الصحيحة والشواهد التاريخية الكاملة المحقَّقة بمنتهى الدقة، بالإضافة إلى الوثائق الأجنبية القديمة.. أعني أن أردّ على تلك الأفكار التي من شأن نتائجها المروِّعة أن تهدم بناءَ التوحيد الإلهي؛ وليس ذلك فحسب، بل ما زال تأثيرها السيِّئ والسامُّ جدًّا ملحوظا في الحالة الخُلُقية للمسلمين في هذه البلاد. وبسبب الاعتقاد بهذه الأساطير الخرافية والقصص الواهية، فإن كثيرًا من الأمراض الروحانية، كسوءِ الخُلق وسوء الظن وقسوة القلب والجفاء، لآخذةٌ في الانتشار في معظم فِرق الإسلام؛ بينما أخذت الصفاتُ الإنسانية النبيلة، كالمؤاساة والتراحم والإنصاف والتواضع، تتلاشى فيهم يومًا بعد يوم، بحيث أوشكت أن تغادرهم نهائيًّا. وبسبب هذه القسوة والانحراف الخُلقي، نجد كثيرًا من المسلمين وكأنهم لا يختلفون عن السباع إلا قليلاً… ففي حين نرى … أتباعِ البوذية يتجنبُ حتى قَتْلَ بعوضة أو برغوث، نجد معظم المسلمين مع الأسف الشديد لا يخشون، عند سفكِ دمٍ بغير حق أو إزهاقِ نفسٍ بريئةٍ، أَخْذَ ذلك العزيزِ المقتدر الذي اعتبر نفسَ الإنسان أغلى بكثير من سائر حيوانات الأرض.

فما هو سبب هذه القسوة والهمجية والغلظة يا تُرى؟! إنما السبب هو أن مثل هذه القصص الخرافية والنظريات الخاطئة حول الجهاد تُصَبّ في مسامعهم وتُرسَّخ في قلوبهم منذ طفولتهم؛ الأمر الذي يجرفهم شيئًا فشيئًا إلى الانهيار الخُلقي، حتى إن قلوبهم لم تعد تشعر ببشاعة هذه الأعمال المنكرة؛ بل إن الذي يقتل شخصًا بريئًا على حين غفلة منه، دافعًا أهلَه وعيالَه إلى هوّة الويل والهلاك، يحسب أنه قد أتى عملاً عظيمًا يُثاب عليه، بل يظن أنه قد أحرز مفخرة عظيمة لقومه!

وبما أن المواعظ الرادعة عن هذه السيئات لا تُلقى في بلادنا، وإن حصل منها شيء فإنما يكون من باب المصادفة، فلذا نجد أفكار عامّة الناس مائلةً إلى هذه الأعمال المثيرة للفتن ميلاً شديدًا. وقد سبق أن ألَّفتُ، شفقةً على قومي، كتبًا عديدة باللغات الأردية والعربية والفارسية صرّحت فيها بأن فكرةَ الجهاد (العدواني) لدى المسلمين اليوم وانتظارَهم لإمام سفّاك للدماء، وبُغْضَهم للأمم الأخرى، كلّ ذلك ليس إلا بسبب خطأ وقع فيه بعض العلماء قليلي الفهم. أما الإسلام فلا يأذن برفع السيف إلا في حرب دفاعية، أو في محاربة الظالمين المعتدين عقابًا لهم، أو في الحرب التي تُشَنُّ حفاظًا على الحريات المشروعة. والحروبُ الدفاعية إنما هي تلك التي يُلجأ إليها لردّ عدوان العدو الذي يهدد حياة الناس. هذه هي الأنواع الثلاثة للجهاد المشروع، وإلا فإن الإسلام لا يُجيز شنَّ الحرب لنشر الدين، بأية صورة كانت.

وخلاصة القول إنني قد وزَّعتُ كثيرًا من الكتب بهذا الموضوع ببذل أموال كثيرة في هذه البلاد وفي بلاد العرب والشام وخراسان وغيرها. وبفضل الله تعالى قد وجدتُ الآن، لاستئصال مثل هذه العقائد الباطلة الزائفة من القلوب، أَدلّةً قويةً وشواهدَ بيِّنةً وقرائنَ يقينيةً وشهاداتٍ تاريخيةً، تُبشّرني أشعّةُ صدقِها بأن انتشارها سوف يؤدّي عن قريب إلى تغيّر مدهش في قلوب المسلمين ضد هذه العقائد الباطلة. وهناك أمل قوي أنه بعد تفهُّم هذه الحقائق سوف تنفجر من قلوب أبناء الإسلام السعداء عيون باهرة الجمال عذبة المياه من الحلم والتواضع والرأفة، وإن تغيُّرهم الروحاني هذا سوف يجلب لهذه البلاد سعادة وبركة كبيرتين. وكذلك فإنني على يقين بأن علماء المسيحية وغيرهم الذين يتطلّعون إلى الحق ويتعطّشون له، سيستفيدون جميعهم أيضًا من كتابي هذا.

….ومن السهل جدًّا أن يدرك كلُّ عاقل أن مثل هذه العقيدة مدعاة لطعن شديد، أعني أن نُكره الشعوب الأخرى على قبول الإسلام، وإلا فمصيرهم القتل! إن الضمير الإنساني ليدرك بسهولة أن إجبار إنسان وإكراهه على قبول عقيدة ما بتهديده بالقتل قبل أن يَعِيَ حقيقتَها ويتبيّنَ تعاليمَها الخيّرةَ ويطّلعَ على مزاياها الحسنة لهو أسلوبٌ مستنكَرٌ للغاية. وكيف يمكن لدين أن يزدهر بهذا الأسلوب، بل على العكس، فهو سيعرّضه للانتقاد من قِبل كل معارض. وإن مثل هذه المبادئ لتؤدي، في نهاية المطاف، إلى خلو القلوب من مؤاساة الإنسان نهائيًّا، كما أنها تقضي على الأخلاق الإنسانية العظيمة كالرحمة والعدل قضاءً تامًّا؛ وتحل محلَّها الضغينةُ والبغضاء المتزايدتان؛ وتنمحي الأخلاقُ الفاضلة، ولا تبقى إلا الهمجية. وحاشا أن تصدر مثل هذه التعاليم الظالمة عن الله الذي لا يؤاخذ أحدًا إلا بعد إقامة الحجّة عليه.

علينا أن نفكر هل من الحق في شيء أن نقتل، دون تروٍّ أو تريُّث، شخصًا لا يؤمن بدين حقّ بسبب عدم اطلاعه على دلائل صدقه وسمو تعاليمه ومزاياه؟ كلا، بل إن مثل هذا الشخص أحقُّ بالترحم، وأجدر أن نوضّح له بكل رفق ولين صدقَ ذلك الدين وفضائله ومنافعه الروحية، لا أن نُقابل إنكارَه بالسيف أو الرصاص. ولذلك فإن عقيدة الجهاد لدى هذه الفرق الإسلامية في عصرنا – بالإضافة إلى زعمهم بأنه يوشك أن يأتي زمان يُبعث فيه مهدي سفّاح باسم الإمام محمد وأن ينـزل المسيح من السماء لنصرته وأنهما سيقومان معًا بقتل الشعوب غير المسلمة جمعاء لكفرها بالإسلام – لأمرٌ يُنافي المقتضى الأخلاقي منافاةً شديدة. أفلا تعطّل هذه العقيدةُ في أصحابها جميعَ المواهب الإنسانية الطيبة، وتثير فيهم النـزعات الهمجيةَ السبُعيةَ، وتجعلهم يُعاشرون كلَّ شعب بالنفاق….” (المسيح الناصري في الهند، ص 1-7)

فهل الحرب هي الأصل مع الآخرين أم السَلام؟

يجيبنا عَلَيهِ السَلام:

وقد بيّنّا لك أن الحرب ليس من أصل مقاصد القرآن ولا من جذر تعليمه، وإنما هو جوّز عند اشتداد الحاجة وبلوغ ظلم الظالمين إلى انتهائه واشتعال جور الجائرين. ولكُمْ أسوة حسنة في غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف صبر على ظلم الكفار إلى مدة يبلغ فيه صبي إلى سن بلوغه، فصبر. وكان الكفار يؤذونه في الليل والنهار. ينهبون أموال المؤمنين كالأشرار، ويقتلون رجالهم ونساءهم بتعذيبات تتحدر بتصورها دموع العيون وتقشعر قلوب الأخيار، وكذلك بلغ الإيذاء إلى انتهائه حتى همّوا بقتل نبي الله، فأمره ربه أن يترك وطنه ويهرب إلى المدينة مهاجرا من مكة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه بإخراج قومه. ومع ذلك ما كان الكفار منتهين، بل لم يزل الفتن منهم تستعِرُّ، ومحجّة الدعوة تَعِرُّ، حتى جلبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلَهم ورَجِلَهم، وضربوا خيامهم في ميادين بدر بفوج كثير قريبا من المدينة، وأرادوا استئصال الدين. فاشتعل غضب الله عليهم ورأى قبح جفائهم وشدة اعتدائهم، فنزل الوحي على رسوله وقال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، فأمر الله رسولَه المظلوم في هذه الآية ليحارب الذين هم بدأوا أول مرة بعد أن رأى شدة اعتدائهم وكمال حقدهم وضلالهم، ورأى أنهم قوم لا يرجى بالمواعظ صلاح أحوالهم“. (نور الحق، ص 37-38)

ويركز حضرته عَلَيهِ السَلام على المبدأ القرآني الثابت “لا إكراه في الدين”:

إن القرآن لناطق في قوله كرّةً بعد أخرى بأن لا إكراهَ في الدين، ويبيّن بوضوح أن الغزوات التي كانت قد حصلت في عهد صلى الله عليه وسلم لم تكن بقصد الإكراه في نشر الدين، وإنما كانت من قبيل العقاب؛ أي كان الهدف منها معاقبة أولئك الذين كانوا قد قَتلوا من المسلمين جمعًا كثيرًا، وأخرجوا بعضهم من وطنهم، وظلموهم ظلما شديدا كما يقول الله تعالى: (أُذِن لِلذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصْرهم لقدير)؛ أي أن المسلمين الذين يحاربهم الكفار يؤذَن لهم الرد بالمقابل، لكونهم مظلومين، وإن الله قادر على أن ينصرهم. أو كانت تلك الغزوات من قبيل الدفاع أي كانت الحرب تُشنّ ضد أولئك الذين كانوا يتقدمون للقضاء على الإسلام أو كانوا يمنعون قسرًا نشرَ الإسلام في بلادهم، وذلك صيانةً للنفس، أو كانت من أجل تعميم الحرية في المملكة، وبدون هذه الوجوه الثلاثة لم يَشُنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه المقدسون الغارةَ عليهم مطلقا، بل إن الإسلام نفسه تعرّض لظلم الآخرين بما لا مثيل له في الأمم الأخرى. فمَن عيسى المسيح هذا والمهدي اللذان سيبدآن بقتل الناس بُعيْد ظهورهما ولن يقبلا من أيٍّ من أهل الكتاب الجزية وينسخان آية: (حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهُمْ صاغرون)“. (سفينة نوح، الخزائن الروحانية، مجلد 19 ص 74-75)

وكذلك يقول عَلَيهِ السَلام:

وأما ما ذكر هذا الواشي قصة جهاد الإسلام وتظنَّى أن القرآن يحثُّ على الجهاد مطلقًا من غير شرط من الشرائط، فأيُّ زورٍ وافتراءٍ أكبرُ من ذلك إن كان أحد من المتدبرين. فليعلم أن القرآن لا يأمر بحرب أحد إلا بالذين يمنعون عباد الله أن يؤمنوا به ويدخلوا في دينه ويطيعوه في جميع أحكامه، ويعبدوه كما أُمِروا. والذين يقاتلون بغير الحق، ويخرجون المؤمنين من ديارهم وأوطانهم، ويُدخلون الخلق في دينهم جبرًا وقهرًا، ويريدون أن يطفئوا نور الإسلام، ويصدّون الناس من أن يسلموا، أولئك الذين غضب الله عليهم ووجب على المؤمنين أن يحاربوهم إن لم ينتهوا.” (نور الحق، ص 36)

ويقول أيضا عَلَيهِ السَلام:

ومن الاعتراضات التي أثارها المحاضر أن القرآن الكريم يأمر بإكراه الناس على الإسلام. ويبدو أن هذا المحاضر ليس عنده شيء من العقل والعلم، وإنما يردد ما قاله القسيسون. فقد افترى هؤلاء القسيسون في كتبهم – حسدًا وبغضًا منهم كما هو دأبهم – أن الإسلام يأمر المسلمين بقهر الناس على اعتناقه، فردد المحاضر وإخوانه الآخرون، وبدون أي فحص وتحقيق، نفس التهمة التي لفقها القسس كذبًا وزورًا. مع أن القرآن الكريم يقول في إحدى آياته صراحة (لا إكراهَ في الدين قد تبيّنَ الرشد من الغيّ). أليس من الغريب أنه برغم أن القرآن الكريم قد نهى بهذه الصراحة والوضوح عن ممارسة الإكراه والقهر في أمور الدين، ومع ذلك يتجاسر هؤلاء القوم، الذين قد اسودّت قلوبهم بغضًا وعداء، على الافتراء على وحي الله تعالى بأنه يأمر بممارسة الجبر والإكراه. ونقدم الآن آية أخرى من القرآن الكريم ونرجو من المنصفين أن يخبرونا – خائفين من الله تعالى – ما إذا كانت هذه الآية تجيز الإكراه في الدين أم أنها تنهى عن الإكراه صراحة. وهذه الآية هي قول الله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُون)، بمعنى أن من الواجب عليك أن تعامل هؤلاء بهذه المعاملة اللينة لأنهم قوم لا يعملون حقيقة الإسلام. ومن الواضح أن القرآن الكريم لو كان يعلّم الإكراه في الدين لما أمر أن الكافر الذي يريد أن يسمع القرآن فيجب أن تمكّنه من سماعه، ثم إذا سمعه ومع ذلك لم يعتنق الإسلام فعليك أن توصله إلى المكان الذي يجد فيه الأمان، بل لأمرَ القرآن الكريم أن مثل هذا الكافر إذا وقع في قبضتك فعليك بإكراهه على الإسلام“. (?شمه معرفت، الخزائن الروحانية المجلد 23 ص 232-233)

وفي ذلك يقول أيضا عَلَيهِ السَلام:

لما ساءت تصرفات أهل الكتاب والمشركين العرب إلى حدّ أنهم أخذوا يظنون أنهم يحسنون صنعًا رغم ارتكابهم هذه السيئة، وما ارتدعوا عن اقتراف الجرائم والإخلال بأمن البلاد، عند ذلك أراد الله تعالى أن يحمي الضعفاء من ظلمهم، فوضع زمام الحكم في يد رسوله صلى الله عليه وسلم. وبما أن بلاد العرب كانت تسودها الحرية المطلقة، وما كان أهلها خاضعين لحُكم مَلِكٍ من الملوك، لذلك فكانت كل طائفة منهم تعيش دون وازع ولا رادع. وبما أنه لم تكن ثمة قوانين تجرّمهم وتعاقبهم، فكانوا مع كل يومٍ يزدادون جرمًا. فرحم الله هذه البلاد… فلم يبعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم رسولًا فحسب، بل جعله مَلِكًا أيضا. وأنزل عليه القرآن الكريم كشريعة مكتملة تشمل جميع القوانين والأحكام التي تتعلق بالقضايا المدَنية والجنائية والاقتصادية. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكمًا على كل الفئات بصفته ملِكًا، وكان أصحاب الأديان المختلفة يتحاكمون إليه في قضاياهم. فمن الثابت من القرآن الكريم أن يهوديًا ومسلمًا احتكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بعد التحقيق لصالح اليهودي وأدان المسلم. ولكن بعض المعارضين الجهلاء الذين لا يقرؤون القرآن بتدبر وإمعان يصنّفون كل أمرٍ صادر من النبي صلى الله عليه وسلم ضمن الأعمال التي قام بها بصفته رسولا. كلا، بل إن مثل هذه العقوبات كانت تصدر عنه صلى الله عليه وسلم بصفته حاكمًا أو ملِكًا. ذلك لأن الأنبياء في بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام كانوا يُبعثون منفصلين عن الملوك الذين كانوا يسوسون أمور بلادهم، ولكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع الله تعالى هذين المنصبين (أي النبي والحاكم) في شخصه الكريم، فعاملَ صلى الله عليه وسلم الناسَ – دون المجرمين منهم – بحسب الآية الكريمة (وَقُلْ لِلذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمّيّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلوْا فَإِنمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد). ولم يقل الله هنا أن من واجبك (يا محمد) أن تحاربهم، بل أوضح أن المحاربة لم تكن إلا ضد المجرمين المعتادين على قتل المسلمين والمخلّين بأمن البلاد بأعمال السطو والنهب. وكانت هذه الحرب مشروعة له صلى الله عليه وسلم لكونه حاكمًا وليس بصفته رسولا، كما قال الله عز وجل: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْـتَدُوا إِن اللهَ لا يُحِب الْمُعْـتَدِينَ).” (?شمه معرفت (ينبوع المعرفة، الخزائن الروحانية مجلد 23 ص 242- 243)

وهنا يبين عَلَيهِ السَلام المعنى من قوله ﷺ “يضع الحرب”:

اعلموا، أرشدكم الله، أن الأمر قد خرج من أن يتهيأ القوم للجهاد…. فإنا نرى المسلمين أضعف الأقوام، في ملكنا هذا والعرب والروم والشام، ما بقيت فيهم قوة الحرب، ولا عِلْمُ الطعن والضرب، وأما الكفار فقد استبصروا من فنون القتال، وأعدوا للمسلمين كل عدَّة للاستئصال، ونرى أن العِدا من كل حدب ينسلون، وما يلتقي جمعان إلا وهم يغلبون. فظهر أن الوقت وقت الدعاء، والتضرع في حضرة الكبرياء، لا وقت الملاحم وقتل الأعداء. ومن لا يعرف الوقتَ فيُلقي نفسه إلى التهلكة. ولا يرى إلا أنواع النكبة والذلة……

وإن الحرب نهبت أعمارهم، وأضاعت عسجدهم وعقاره، وما صلح بها أمر الدين إلى هذا الحين، بل الفتن تموجت وزادت، وصراصر الفساد أهلكت الملة وأبادت، وترون قصر الإسلام قد خرَّت شَعَفاته، وعفِّرت شُرَفاته، فأي فائدة ترتّبت من تقلّد السيف والسنان، وأي مُنية حصلت إلى هذا الأوان، من غير أن الدماء سُفكت، والأموال أُنفدت، والأوقات ضُيِّعت، والحسرات أضعفت. ما نفعكم الخَميس، ووُطِئتم إذا حمِى الوطيسُ.

فاعلموا أن الدعاء حربةٌ أُعطيت من السماء لفتح هذا الزمان، ولن تغلبوا إلا بهذه الحربة يا معشر الخلان. وقد أخبر النبيون من أولهم إلى آخرهم بهذه الحربة، وقالوا إن المسيح الموعود ينال الفتح بالدعاء والتضرع في الحضرة، لا بالملاحم وسفك دماء الأمة“. (تذكرة الشهادتين، الخزائن الروحانية مجلد 20 ص 81-82)

وأيضا:

ليس وقتنا وقتَ الجهاد، ولا زمنَ المرهَفات الحِداد، ولا أوانَ ضرب الأعناق والتقرين في الأصفاد، ولا زمانَ قَوْدِ أهل الضلال في السلاسل والأغلال، وإجراءِ أحكام القتل والاغتيال. فإن الوقت وقت غلبةِ الكافرين وإقبالهم، وضُرِبت الذلّة على المسلمين بأعمالهم. وكيف الجهاد ولا يُمنَع أحدٌ من الصوم والصلاة، ولا الحج والزكاة، ولا من العفّة والتقاة، وما سَلَّ كافر سيفًا على المسلمين، ليرتدّوا أو يجعَلهم عِضِينَ. فمِن العدل أن يُسَلُّ الحُسام بالحُسام، والأقلام بالأقلام. وإنّا لا نبكي على جِراحات السيف والسنان، وإنما نبكي على أكاذيب اللسان، فبالأكاذيب كُذِّبَ صحفُ الله وأُخفيَ أسرارُها، وصِيلَ على عمارة المِلّة وهُدّمَ دارها.” (إعجاز المسيح، الخزائن الروحانية مجلد 18 ص 156-157)

ويوضح عَلَيهِ السَلام سبب القتال في زمن النبي ﷺ:

كانت حروب نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه إما لحماية أنفسهم من هجمات الكفار، أو لإرساء السلام، أو لدفع عدوان الذين يريدون القضاء على الدين بالسيف؛ ولكن مَن مِن المخالفين اليوم يرفع السيف من أجل الدين، ومن ذا الذي يمنع أحدًا من الدخول في الإسلام، ومن ذا الذي يمنع من رفع الأذان في المساجد ومن الصلاة فيها؟” (ترياق القلوب، الخزائن الروحانية مجلد 15 ص 158-159)

وكذلك يقول عَلَيهِ السَلام:

فما كانت غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تهدف إلى قتل الناس بدون داعٍ، وإنما لأن الظالمين أخرجوه وأصحابه من ديار آبائهم، وقتلوا الكثيرَ من رجال المسلمين ونسائهم بدون جريمة، ومع ذلك كانوا لا يكفون عن الظلم، وكانوا يمنعون تعاليم الإسلام من الانتشار.. لذلك اقتضى القانون الرباني لحفظ الأمن أن يحفظ المظلومين من الفناء، فتمّ القتال بالسيف ضد من شهروا السيف. فلم تكن حروبه صلى الله عليه وسلم إلا قمعا لفتنة القتلة السفاكين.. ودفعا لشرهم عن المظلومين. ولقد قامت الحرب حين كان الظالمون يبغون القضاء على أهل الحق. ولو لم يتخذ الإسلام حينئذ تلك الوسائل حفاظا على النفس، لهلك آلاف الأبرياء من أطفال ونساء بغير حق.. ولقُضي على الإسلام.

وليكن معلومًا أنه لَتعنّتٌ كبير من قِبل معارضينا إذ يزعمون بأن هديَ الوحي الرباني ينبغي أن يتسامى عن حض الإنسان على مقاومة العدو في كل الظروف والأحوال.. ويجب أن يحضه دائما وأبدا على التحلّي بالحلم والرفق حبا ورحمةً للعدو. ويحسب هؤلاء الناس أنهم بحصر صفات الله الكاملة كلها في الحلم والرأفة يعظمونه – جل شأنه – تعظيما كبيرا! ولكن المتفكرين في الأمر بإمعان وتدبر.. سوف يدركون بسهولة أن هؤلاء واقعون في خطأ فاحش واضح.

إذا أجَلنا النظر في نواميس الطبيعة تبينَ لنا جليًّا أن الله – بلا شك – رحمةٌ خالصة للدنيا، إلا أن رحمته هذه لا تظهر دائما وفي كل حال بصورة اللطف والرفق، بل إنه بسبب رحمته الواسعة يسقينا – شأن الطبيب الحاذق – شرابًا حلوًا في بعض الأحيان، ويسقينا دواءً مرا أحيانا أخرى. إن رحمته – سبحانه وتعالى – ببني آدم تُشبه رحمةَ أحدنا ببدنه كله. لا شك أن كُلا منا يحب جسده كله، ولئن أراد أحد أن ينتزع منه شعرة واحدة لأبدى له غضبا شديدا. وعلى الرغم من أن حُب أحدنا لجسده موزع على كل أعضائه، إذ كل عضو منه محبب إليه، ولا يريد الضرر بأي منها، إلا أن هذا الحب ليس موزعا على كل الأعضاء بشكل متساوٍ، بل تغلب فينا محبةُ الأعضاء الرئيسة الشريفة التي نعتمد عليها إلى حد كبير في حياتنا. كذلك نحب الأعضاء في مجموعها أكثر من حبنا لعضو واحد بمفرده، ولذلك إذا أصبحت سلامة عضو شريف متوقّفةً على جَرح عضو آخر أدنى منه، أو حتى على كسْره أو بتره.. فأننا نُقدِم على ذلك بلا تردد.. إبقاءً على الحياة. نعم، إن قلوبنا تعاني الألم حينئذ لأننا نجرح أو نقطع عضوا عزيزا من أعضائنا.. ولكن رغم ذلك نُضطر إلى هذا مخافة أن يسري فساده إلى عضو شريف آخر فيتلفه معه.

ومن هذا المثال يمكن أن نفهم أن الله تعالى حين يرى أن عباده الصالحين موشكون على الهلاك بأيدي أرباب الباطل، وأن الفساد في ازدياد.. فأنه يتخذ تدابير ملائمة.. إما من السماء وإما من الأرض.. إنقاذا لأوليائه، وحسما للفساد. فإنه كما هو حكيم، كذلك هو رحيم. والحمد لله رب العالمين“. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 147-149)

يبين حضرته عَلَيهِ السَلام وجوب التأسي بجهاد الصحابة  ؓ:

ما أُمر المؤمنون للحرب والقتال إلا بعدما لبثوا عمرًا مظلومين ومضروبين، وذُبحوا كالمعز والجِمال، وطال عليهم الجور والجفاء، وتَوالى الظلم والإيذاء، حتى إذا اشتد الاعتداء، وسُمع عويل المستضعَفين والبكاء، فأُذن للذين قتلَ الكفرةُ إخوانَهم والبنين وقيل: اقْتُلوا القاتلين والمعاونين، ولا تعتدوا فإن الله لا يحب المعتدين. هنالك جاء أمر الجهاد، وما كان إكراه في الدين وما جبرٌ على العباد. وما بُعث نبي سفّاكًا، بل جاءوا كالعِهاد، وما قاتَلوا إلا بعد الأذى والكثير والقتل والنهب والسبي من أيدي العدا وغُلُوِّهم في الفساد. فرُفعت هذه السنة برفع أسبابها في هذه الأيام، وأُمرنا أن نُعِدَّ للكافرين كما يُعِدُّون لنا، وأن لا نرفع الحُسامَ قبل أن نُقتَل بالحُسام. وترون أن النصارى لا يقتلوننا في أمر الدين ولا قوم آخرون من البعيد والقرين. فهذه السيرة عار للإسلام أن نترك الرفقَ لقوم رفقوا، فأَمعِنوا يا معشرَ الكرام“. (حقيقة المهدي الخزائن الروحانية مجلد 14، ص 454-455)

وكذلك:

وما بُعث نبي سفّاكًا، بل جاءوا كالعِهاد، وما قاتَلوا إلا بعد الأذى والكثير والقتل والنهب والسبي من أيدي العدا وغُلُوِّهم في الفساد. فرُفعت هذه السنة برفع أسبابها في هذه الأيام، وأُمرنا أن نُعِدَّ للكافرين كما يُعِدُّون لنا، وأن لا نرفع الحُسامَ قبل أن نُقتَل بالحُسام. وترون أن النصارى لا يقتلوننا في أمر الدين ولا قوم آخرون من البعيد والقرين. فهذه السيرة عار للإسلام أن نترك الرفقَ لقوم رفقوا، فأَمعِنوا يا معشرَ الكرام“. (حقيقة المهدي، باقة من بستان المهدي ص 176)

ويقول أيضا عَلَيهِ السَلام:

سبحان الله، كم كانوا أتقياء! وكم كانوا يحظَون بروح الأنبياء أولئك القومُ الذين إذا أمرهم الله في مكة بألا يواجهوا الشر بالشر ولو مُزّقوا إربًا، فإنهم فورَ تلقيهم هذا الأمر تواضعوا وضعفوا كأطفال رضّع وكأنهم ما بأيديهم ولا في أرجلهم من قوة. فقُتل بعضهم بحيث رُبطت بقوة إحدى رجليه ببعير ورجله الأخرى ببعير آخر، ثم أُركِض البعيران في اتجاهين معاكسين، فقُطعوا جزءين في لمح البصر كما تُقطع الخُضار مثل الجزر وغيره. ولكن للأسف أن المسلمين، ولا سيما المشايخ منهم، صرفوا أنظارهم عن كل هذه الأحداث، فيزعمون الآن أن أهل الدنيا كلهم صيدٌ لهم، وكما أن الصياد عندما يطّلع على الغزال في فلاة يتسلل إليه في الخفاء ويتحين الفرصة لإطلاق الرصاص عليه، كذلك هو حال معظم المشايخ. إنهم لم يقرؤوا حرفًا واحدًا من دروس الرفق والعطف على بني الإنسان، بل يزعمون أن إطلاق الرصاص على شخص بريء على حين غفلته منه هو الإسلام فقط. أين فيهم الذين يمكن أن يصبروا بعد أن يُضرَبوا كالصحابة رضوان الله عليهم؟ هل أمرنا الله تعالى أن نفاجئ رجلًا، لا نعرفه ولا يعرفنا، على حين غفلة منه، دون أي سبب أو جريمة ارتكبها، فنقطّعه بالسكين إربًا أو ننهي حياته بالرصاص؟ هل يعقل أن يكون من الله تعالى دينٌ يقول أنِ اقتُلوا عباد الله الأبرياء دون أن يرتكبوا جريمة وبدون أن يتم تبشيرهم، تدخلوا الجنة. من المؤسف بل المخجل أن نصادف إنسانًا – ليس بيننا وبينه عداوة أو معرفة سابقة – يشتري بعض الحاجيات لأولاده في إحدى المحلات أو كان مشغولا في بعض أعماله الشرعية الأخرى، فنطلق عليه النار بدون سبب أو مبرر، فنجعل زوجته أرملة وأولادَه أيتامًا وبيته مأتمًا. في أية آية من القرآن الكريم أو حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ورد مثل هذا الأمر؟ هل من المشايخ أحد يستطيع أن يجيب على هذا؟ الواقع أن هؤلاء الجهال سمعوا اسم الجهاد، ثم أرادوا أن يتخذوه ذريعة لتحقيق أغراضهم النفسانية“. (الحكومة الإنجليزية والجهاد، الخزائن الروحانية مجلد 17 ص 12- 13)

ثم يبين عَلَيهِ السَلام طبيعة مهمته كمسيح موعود للأمم:

وأُمرتُ أن أقتل خنازير الإفساد والإلحاد والإضلال، الذين يدوسون دُرَرَ الحقّ تحت النعال، ويُهلِكون حرث الناس ويخرّبون زروع الإيمان والتورع والأعمال. وقتلي هذا بحربة سماوية لا بالسيوف والنِّبال. كما هو زعم المحرومين من الحق وصدق المقال، فإنهم ضلّوا وأضلّوا كثيرًا من الجهّال. وإن الحرب حُرّمتْ عليّ، وسبق لي أن أضع الحرب ولا أتوجه إلى القتال. فلا جهادَ إلا جهاد اللسان والآيات والاستدلال“. (لخطبة الإلهامية، الخزائن الروحانية، مجلد 16 ص57-59)

يتحدث حضرته عَلَيهِ السَلام حول إشهار السيوف للجهاد في زمن المسيح المهدي فيقول:

وقالوا إن المهدي يُفحِمُ الكفرة بالتعزيرات السياسية لا بالآيات السماوية، ولا يترك في الأرض بيت كافر، ويضرب عنق كل مقيم ومسافر، إلاّ أن يكونوا مؤمنين. ويُحارب النصارى وكل من قبل الملة النصرانية، ويؤم بلاد الهند وغيره وينال الفتوح العظيمة، ويقتل وينهب ويغنم ويسبي الرجال والنسوة، والمسيحُ ينـزل من السماء ليعاونه كالخدماء، ولا يقبل الجزية ولا الفدية، ويُحبّ أن يقتل من في الأرض من الكفار أجمعين، وكذلك يطأ أفواجهما أرض الله سفاكين غير راحمين. وقالوا هذه عقائد اتفق عليها أمم من العلماء، ونقلها خَلَفُهَا من سَلَفِهَا وحاضرُها من غابرِها وكثير من الكبراء.

وأما نحن يا عباد الله الرحيم، فما وجدنا هذه العقائد صحيحة صادقة، بل وجدناها سقطا ورديّا لا من الرسول الكريم، وعلّمني ربي أنه خطأ، وما أتى رسولنا شيئا من مثل هذا التعليم، وإنهم من الخاطئين.

فالمذهب الذي أقامنا الله عليه هو مذهب حلم ورفق وتؤدة، لا قتلٍ وسبيٍ وأخذ غنيمة، وهذا هو الحق الواجب في زماننا وإنّا من المصيبين. فإن أمر الجهاد كان في بدء الإسلام، وكان حفظ نفوس المسلمين موقوفا على قتل القاتلين والانتقام، بما كانوا قليلين وكان الكفار غالبين كثيرين سفاكين، وما أُمِرَ المؤمنون للحرب والقتال، إلاّ بعدما لبثوا عُمُرًا مظلومين مضروبين وذُبِحوا كالمعز والجمال، وطال عليهم الجور والجفاء، وتوالى الظلم والإيذاء، حتى إذا اشتد الاعتداء، وسُمِعَ عويل المستضعفين والبكاء، فأُذِنَ للذين قَتَلَ الكفرةُ إخوانَهم والبنين، وقيل اقتلوا القاتلين والمعاونين، ولا تعتدوا فإن الله لا يُحب المعتدين.

هنالك جاء أمر الجهاد، وما كان إكراهٌ في الدين وما جُبرَ على العباد، وما بُعِث نبي سفّاكًا بل جاءوا كالعهاد، وما قاتلوا إلاّ بعد الأذى الكثير والقتل والنهب والسبي من أيدي العدا وغلوهم في الفساد. فرُفعت هذه السُنّة برفع أسبابها هذه الأيام، وأُمِرنا أن نُعِدّ للكافرين كما يُعدّون لنا، ولا نرفع الحسام قبل أن نُقتل بالحسام. وترون أن النصارى لا يقتلوننا في أمر الدين، ولا قوم آخرون من البعيد والقرين، فهذه السيرة عار للإسلام، أن نترك الرفق لقوم رفقوا، فأمْعِنوا يا معشر الكرام. وقد جاء في صحيح البخاري أن المسيح الموعود يضع الحرب، يعني لا يستعمل الطعن ولا الضرب، فما كان لي أن أخالف أمر النبي الكريم، عليه سلام الله الرؤوف الرحيم. وقد جرت سُنّة نبيّنا خاتم النبيين، فأي أمر أفضل منه يا معشر الطالبين؟ ويكفي لكم ما قال سيدنا خاتم النبيين، عليه صلوات الله والملائكة والصالحين من الناس أجمعين.

ثم مع ذلك ثبت أن الأحاديث التي جاءت في المهدي الغازي المحارب من نسل الفاطمة الزهراء، كلها ضعيفة مجروحة بل أكثرها موضوعة ومن قسم الافتراء، وما وُثّق رُواتها، وأُشكِل على المحدثين إثباتها، ولأجل ذلك تركها الإمام البخاري والمسلم والإمام الهمام صاحب الموطأ وجرّحها كثير من المحدثين. فمن زعم أن المهدي المعهود والمسيح الموعود رجلان يخرجان كالمجاهدين، ويسلاّن السيف على النصارى والمشركين، فقد افترى على الله ورسوله خاتم النبيين، وقال قولا لا أصل له في القرآن ولا في الحديث ولا في أقوال المحققين. بل الحق الثابت أنه لا مهدي إلا عيسى، ولا حرب ولا يؤخذ السيف ولا القنا. هذا ما ثبت من نبينا المصطفى، وما كان حديثًا يُفترى، وشهد عليه الصحيحان في القرون الأولى، بما تركا تلك الأحاديث وإن في هذا ثبوتا لأولي النهى، وتلك شهادة عظمى، فانظر إن كنت من أهل التقى.” (حقيقة المهدي، باقة من بستان المهدي ص 175-177)

وهذا بالضبط ما عناه النبي ﷺ بأن مواجهة الدجال تتم بالحجة لا بالسيوف:

فلا سيفَ في هذا الزمان إلا سيف قوة البيان، ولا أجد في هذا العصر تأثير القناة إلا في البراهين والأدلّة والآيات، فإمام هذا العصر امرؤ كان فارس مضمار العرفان، والمؤيد من الله بآي وغيرها من طرق إتمام الحجة وأنواع البرهان، وكان أعرفَ مِن غيره بكتاب الله الفرقان، ليُرهِب به أعداءَ الله ويشفي صدور الطالبين.” (حقيقة المهدي، باقة من بستان المهدي ص 182)

ثم يتحدث عليه السلام عن أن هذا وقت جهاد القلم والدعاء، فيقول :

السيف أنفاسي ورمحي كلمـتي  ما جئتكم كمحارب بسنانِ
(نور الحق، ص 165)

وكذلك قوله عَلَيهِ السَلام:

إن الجهاد في هذه الأيام قد اتخذ صبغةً روحانية. فالجهاد في زمننا هذا إنما هو بذل المساعي لإعلاء كلمة الإسلام. اِسعَوا لإعلاء كلمة الإسلام، ورُدّوا على تهم المعارضين وانشروا محاسن الدين المتين، وبيِّنوا صدق سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم للعالم. هذا هو الجهاد إلى أن يُحدث الله بعد ذلك أمرًا في الدنيا“. (مكتوبات أحمدية، مكتوب إلى حضرة مير ناصر نواب، نقلا عن نشرة “درود شريف” بقلم المولوي محمد إسماعيل ص 67)

وهذا الذي أكده عَلَيهِ السَلام حول الجهاد الحقيقي:

إن هذا البلد دار الحرب لمواجهة القساوسة لذا يجب علينا ألا نجلس عاطلين. ولكن تذكَّروا أنه يجب أن تكون حربنا كحربهم. يجب أن نخرج إلى الساحة لمواجهتهم متسلحين بمثل أسلحة خرجوا بها، وذلك السلاح هو القلم. ولذلك فقد خلع الله عليّ أنا العبد الضعيف لقبَ “سلطان القلم”، وسمّى قلمي بـ “ذو الفقار علي”. والسرُّ في ذلك هو أن الزمن الراهن ليس زمن الحرب والقتال وإنما هو زمن القلم“. (الملفوظات، مجلد 1 ص 232)

فمواجهة الحجة لا تتم إلا بالحجة وإلا فالذي يسل السيف أمام الحجج فهو من المعتدين:

“ولذلك ليس من شأن المؤمنين، أن يقتلوا القسّيسين، فإنهم ما تقلّدوا أسلحة، وما قتلوا للدين مسلمًا أو مسلمة، فليس من البرّ أن تسلّوا سيوفا بحذائهم، أو تثقفوا أسنّة لإيذائهم، بل أعدّوا كمثل ما أعدّوا، وذلك حكم القرآن فافهموا وجدّوا، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.

سيصول عليّ شرير أو ضرير ويقول ويحك أتحرّم الجهاد، وإنّا ننتظر المهدي الذي يسفك الدماء ويفتح البلاد، ويأسر كل من أرى الكفر والعناد. فالجواب أن هذه القصص ما ثبتت بالقرآن، بل ياتي المهدي بوقار وسكينة، لا كمجنون بالسيف والسنان. أيقبل عقل سليم، وفهم مستقيم، أن يخرج المهدي بسيف مسلول ويقتل الغافلين؟ وما كان الله أن يُعذّب أمّة قبل أن يُفهّم بالآيات والبراهين. وإن هذا أمر لا نجد نموذجه في سُنن المرسلين. ولا يصدر كمثل هذا الفعل إلاّ من المجانين. فعدّلوا ميزان العقل، ولا تميلوا كل الميل، إلى سمر النقل. واتّقوا طعن العقلاء وانبذوا السيف الذربَ، ولا تؤثروا الطعن والضربَ، ولا تنسوا حديث “يضع الحرب”. ما لكم لا تأخذون حظا من المقة، كإخوان الصدق والثقة؟ أليس عندكم إلاّ المرهفات، واللهذم والقناة، أو برأتم من سبل الحصاة؟” (الهدى والتبصرة لمن يرى، الخزائن الروحانية 18 ص 319)

فالقتال أمام البيان هو العجز وعدم القدرة على الرد حيث يقول عَلَيهِ السَلام:

ثم إذا كان مدار الرحم والشفقة إزالةَ آفة قد أحاطت وكثرت، فكيف يجوز علاج مفاسد الأقلام بالسيوف والسهام؟ بل هذا إقرار صريح بأننا لا نقدِر على الجواب، وليس عندنا جواب الأدلّة المضلّة إلا ضرب السيف البتّار وقتل الكفّار. وكيف يطمئن قلب المعترض الشاكّ الغافل بضرب من السيف أو السوط أو جرح من الرمح والسهم، بل هذه الأفعال كلها تزيد ريب المرتابين“. (حمامة البشرى، ص 85)

وفيما يلي يؤكد عَلَيهِ السَلام بأن العدوان ليس من شريعة الإسلام ولا من الجهاد في شيء:

ثم اعلموا أن قتل الناس من غير تفهيمٍ وتبليغٍ وإتمامِ حجّةٍ أمرٌ شنيع لا يرضى به أهل فطنة، ولا نورُ فطرة، فكيف يُعزَى إلى الله العادل الرحيم، والمنّان الرؤوف الكريم؟ ولو كان هذا جائزًا لكان أحقَّ به سيدُنا خير البريّة، وقد سمعتم أنه صبَر مدّةً طويلة على تطاول الكَفَرة الفَجَرة، ورأى منهم كثيرا من الظلم والأذيّة، وأنواع الشدّة والصعوبة، حتى أخرجوه من البلدة، ثم أهرعوا إليه متعاقبين مُغاضبين بنيّة القتل والإبادة، فصبر صبرًا لا يوجد نظيره في أَحدٍ من رُسل حضرة العزّة، حتى بلغ الإيذاء منتهاه، وطال مَداه، فهناك نزلت هذه الآية من الله السميع الخبير: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).. فانظروا كيف صبر رسول الله وخير الرسل على ظلم الكَفَرة إلى برهة من الزمان، ودفَع بالحسنة السيئةَ حتى تمّتْ حُجّة الله الديّان، وانقطعت معاذير الكافرين. فاعلموا أن الله ليس كقصّاب يعبِط الشاةَ بغير جريمة، بل هو حليم عادل لا يأخذُ من غير إتمام حجّة، وهو الذي أرسلني من حضرته العليّة، فإياكم وحُجُبَ الجهل والعصبية“. (مكتوب أحمد، ص 36-37)

وكذلك:

إن قلتم إنه كان مسموحا أن يُجعل العربُ مسلمين عنوة، فلا يثبت هذا الزعم من القرآن المجيد مطلقا، وإنما يثبت منه أن الذين ارتكبوا منهم جريمة القتل أو الذين ساعدوا عليها استحقوا عند الله السفك بالسفك، إذ آذى العرب النبيَّ صلى الله عليه وسلم إيذاء شديدا وقتلوا كثيرا من أصحابه رجالا ونساء وأخرجوا البقية من أوطانهم بحد السيف، وكانوا يستحقون سفك الدم مقابل سفك الدم، لذلك فكان القتل قصاصهم بالحق، ولكن أرحم الراحمين قد تسامح معهم في مجازاتهم على جريمتهم التي كانوا قد استوجبوا عليها عقاب الموت، فأذن بالعفو عمن اعتنق منهم الإسلام. فأين هذه المرحمة من ذلك الإكراه؟” (سفينة نوح، الخزائن الروحانية مجلد 19 ص 74 الحاشية)

ويقول عَلَيهِ السَلام بخصوص القتال والجهاد حسب القرآن الكريم عند نزول المسيح الموعود:

لقد ورد في صحيح البخاري بخصوص المسيح الموعود عليه السلام حديث صريح بأنه “يضع الحرب”.. بمعنى أنه لن يحارب. فالعجب كل العجب أنكم من ناحية تقولون بأفواهكم إن صحيح البخاري أصحُّ كتاب بعد القرآن الكريم، ومن ناحية أخرى تبنون عقيدتكم على أحاديث تعارض صراحة الحديثَ الوارد في صحيح البخاري.” (ترياق القلوب، الخزائن الروحانية المجلد 15 ص 159)

ثم يبين حضرته عَلَيهِ السَلام بأن العدوان باسم الجهاد ليس من شرع الله تعالى:

على أيّة الفِرَق يسلُّ سيفه مسيحُكم ومهديكم الخياليّان في زمن الشقاق والتفرقة بين المسلمين يا ترى؟ أليست الشيعة -في رأي أهل السنة- تستوجب أن يُسلَّ السيفُ عليهم، كما أن أهل السنة -عند أهل الشيعة- يستحقون أن يُمحَوا ويُبادوا عن بكرة أبيهم؟ فأيًا تجاهدون ما دامت فِرَقُكم الداخلية هي نفسها مستوجبةً العقاب حسب معتقداتكم؟ ألا فاعلموا أن الله لا يحتاج إلى السيف، وسينشرنَّ سبحانه وتعالى دِينه في الأرض بآيات سماوية، ولن يقدر أحد على منعه“. (سفينة نوح، الخزائن الروحانية ج 19 ص76)

ولحضرته عَلَيهِ السَلام قصيدة منها الأبيات التالية حول الجهاد:

وَأُقْسِــمُ أَنَّني يَـا ابْـنَ الْكِرَامِ      لَقَـْـد أُرْسِلْتُ مِن رَّبِّ الْعِبَادِ
وَقَــدْ أُعْطِيتُ عِـلْمًا بَعْدَ عِلْمٍ   وَكَأْسًا بَعْدَ كَأْسٍ مِنْ جَـوَادِي
وَحِــبٍّ كُـلَّ حِـينٍ يجتَبِيني           وَيُـدْنِيني وَيُـعْطِيني مُـرَادِي
فَمَــا أَشْقَى بِلَعْـنِ الـلاَّعِنِينَا     وَصِدْقِي سَـوْفَ يُذْكَرُ في الْبِلاَدِ
وَكَـأْسٍ قَـدْ شَرِبْنَا في وِهَـادٍ   وَأُخْـرَى نَشْرَبَنْ فَوْقَ الْمَصَادِ
وَلَسْتُ أَخَافُ مِنْ مَـوْتِي وَقَتْلِي     إِذَا مَـا كَانَ مَـوْتِي في الْجِهَادِ
وَآثَــرْنَا الْحَبِيبَ عَلَى حَيَـاةٍ     وَقُـمْنَا لِلشَّهَـادَةِ بِــالْعَتَادِ
وَمَا الْخُسْـرَانُ في مَوْتٍ بِتَقْـوَى  وَخُسْـرُ الْمَرْءِ في سُبُلِ الْفَسَادِ
(تحفة بغداد، باقة من بستان المهدي ص19)

ثم يتحدث حضرته عليه السلام عن الجهاد والإنجليز، فيقول:

اِسمعوا أيها الأغبياء، إني لا أداهن هذه الحكومة أبدًا، وإنما الأمر الواقع بأن أية حكومة لا تعتدي على دين الإسلام، والشعائر الإسلامية، ولا تشهِّر السيف في وجوهنا لنشر دينها.. فإن القرآن الشريف يحرّم علينا أن نحاربها حربًا دينية، لأنها أيضا لا تحاربنا حربًا دينية“. (سفينة نوح، الخزائن الروحانية مجلد 19 ص 75 الحاشية)

وكذلك:

وأنت تعلم أن زماننا هذا زمان لا يسطو أحدٌ علينا للمذهب بالسيف والسنان، ولا يُجبِر أحدٌ لنتّبع دينه ونترك دين الله خير الأديان، فلا نحتاج في هذه الأيام إلى الحرب والانتقام، ولا إلى تثقيف العوالي وتشهير الحسام، بل صارت هذه الأمور كشريعةٍ نُسختْ، وطُرقٍ بُدّلت. فلما ما بقي حاجة إلى الغَزاة والمحاربة، أُقيم مقامَ هذا إتمامُ الحجّة بالدلائل الواضحة القطعية وإثبات الدعاوي بالبراهين الصادقة الصحيحة، وكذلك وُضعت موضعها الآيات المنيرة والخوارق الكبيرة، فإن الحاجة قد اشتدّت في وقتنا هذا إلى تقوية الإيمان، ونزول الآيات الجليّة من الرحمن، ولا يُفيدهم سفك الدماء وضرب الأعناق، بل يزيد هذا أنواع الشكوك والشقاق. فالمهدي الصدوق الذي اشتدّت ضرورته لهذا الزمان ليس رجلا يتقلّد الأسلحة ويعلم فنون الحرب واستعمال السيف والسنان، بل الحق أن هذه العادات تضر الدين في هذه الأوقات، ويختلج في صدور الناس من أنواع الشكوك والوسواس، ويزعمون أن المسلمين قوم ليس عندهم إلا السيف والتخويف بالسنان، ولا يعلمون إلا قتل الإنسان. فالإمام الذي تطلبه في هذا الزمان قلوبُ الطالبين، وتستقريه النفوس كالجائعين، رجلٌ صالح مهذّب بالأخلاق الفاضلة، ومُتّصفٌ بالصفات الجليلة المرضية، ثم مع ذلك كان من الذين أُوتوا الحكمة والمعرفة، ورُزقوا البراهين والأدلّة القاطعة، وفاق الكلَّ في العلوم الإلهية“. (حقيقة المهدي، باقة من بستان المهدي ص 180-181)

ومعنى ذلك باختصار كما نصت الآيات والتفاسير والأحاديث أعلاه وضحه المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام قائلا:

نظرا لانعدام شروط الجهاد بالسيف: اعلموا أني قد أتيتكم بأمر هو أن الجهاد بالسيف قد انقطع من الآن، غير أن جهاد تطهير النفوس مستمر، ولم أقل لكم هذا الأمر من تلقاء نفسي، بل هذا ما أراد الله.” (الحكومة الإنجليزية والجهاد، الخزائن الروحانية مجلد ١٧)

وأخيرا فالجهاد الذي تحول إلى عدوان يحمل اسم الجهاد الجميل فشوه معنى الجهاد الذي ذكره القرآن الكريم والحديث وأكده المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام والذي ليس هو الجهاد الحق قد ذكر بأنه مع كل سبب له وسبب للحرب الدفاعية أيضا سينقطع عند نزول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:

.. وباع المسلمون أسلحتهم، وقالوا: انقطع الجهاد. فقال عليه الصلاة والسلام: «لا ينقطع الجهاد حتى ينزل عيسى بن مريم عليه السلام».” لفظ ابن حبان: “.. وكان المسلمون يقولون: لا جهاد بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينقطع الجهاد حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام»“. (الواقدي في المغازي ٣/ ١٠٥٧، وحكاه ابن الجوزي في التلقيح/٤٦/عنه، وانظر السيرة النبوية لابن حبان ج ١، ٣٧٢/. وكذلك: الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفا، للحافظ علاء الدين مغلطاي، ج ١، ص ٣٤٤)

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد