بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

*سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ*

تتحدث هذه الآية الكريمة -بإجماع الآراء- عن موضوع الإسراء المحمدي العظيم. ولكن مسألة الإسراء في حد ذاتها تعتبر إحدى المعضلات التي اختلف المفسرون القدامى والمحدَثون حولها، وذلك لكثرة الأحاديث والروايات وتضارب الآراء حولها. ولقد جرت عادة غالب المسلمين أن يجمعوا بين واقعة إسراء الرسول وواقعة عروجه صلى الله عليه وسلم فيحتفلون بذكراهما في وقت واحد باسم “ذكرى الإسراء والمعراج”.. اعتماداً على بعض روايات جمعت بينهما. والحقيقة تحتاج إلى تدبر حتى تنكشف للعقول.

حادثان منفصلان

إن موضوع العروج مذكور في القرآن الكريم في موضع آخر غير هذه السورة، ومستقل عن الإسراء تماما، وذلك في سورة النجم حيث يقول عز وجل:

{ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفُتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم:5-19)

تشير هذه الآيات إلى عروج المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ويُستخلص منها ما يلي:

(1) إن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان قاب قوسين أو أدنى،
(2) أوحى الله له هناك،
(3) رؤية الرسول (صلى الله عليه وسلم) لله عز وجل وآياته الكبرى،
(4) وصوله (صلى الله عليه وسلم) إلى سدرة المنتهى،
(5) رؤية الجنة عندها،
(6) غطى السدرة شيء ما.

فإذا تأملنا الأحاديث المتعلقة بالمعراج نجدها تتحدث عن كل هذه الأمور.. فمثلا:

(1) في رواية عن أبي سعيد الخدري قال النبي (صلى الله عليه وسلم) “فكان
بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى”.

(2) وفي رواية عن أبي هريرة “أنه لما بلغ عند سدرة المنتهى فكلمه الله
تعالى عند ذلك”. وعن أنس بن مالك: “ثم إني رُفعتُ إلى سدرة المنتهى
فقال الله لي: يا محمد..” (الخصائص الكبرى).

(3) عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما ذكر سدرة
المنتهى قلت: ماذا رأيت هنالك يا رسول الله؟ قال: “رأيت هنالك ما رأيت”. وذكرَت كان يعني الله عز وجل (خصائص ابن مردويه). وعن ابن عباس قال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى} أنه (صلى الله عليه وسلم) رأى ربه بفؤاده مرتين. أما رؤيته (صلى الله عليه وسلم) للآيات الربانية في المعراج فلا خلاف فيه، فلا داعي لذكره.

(4) في حديث أبي هريرة السابق قال “ثم انتهى إلى السدرة”، ولا سبيل لإنكاره، إذ رواه عنه ستة من الحفاظ هم: ابن جرير، ابن أبي حاتم، ابن مردويه، البزار، أبو يعلى، البيهقي، ابن عساكر. عن أبي سعيد الخدري الذي يذكر فيه وصوله (صلى الله عليه وسلم) إلى سدرة المنتهى بعد رفعه إلى السماء والتقائه بالأنبياء. وعن مالك بن صعصعة في مسند ابن حنبل والبخاري ومسلم وابن جرير في حديث المعراج “ثم رُفعتُ إلى سدرة المنتهى”.

(5) في حديث أبي سعيد الخدري، “ثم إني رفعت إلى الجنة” (ابن جرير).

(6) في حديث أبي هريرة عن المعراج “فغشيها نور الخلاق عز وجل” (خصائص ابن مردويه).

وعن أنس: “فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت؛ فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها” (صحيح مسلم). من كل ذلك يتضح على الوجه القطعي أن آيات سورة النجم نزلت في أحداث المعراج وحده وليس لها دخل بالإسراء أو غيره من الأحداث. كما أن آية الإسراء لم تتناول شيئا مما وقع في المعراج، بمعنى أن سورة الإسراء تحدثت عن موضوع الإسراء وحده، وسورة النجم تناولت موضوع العروج وحده.

زمن نزول سورة النجم

التحقيق يدل على أنها نزلت حوالي السنة الخامسة من البعثة المحمدية الشريفة، أو قبلها بقليل. يتفق كل المؤرخين على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر بعض أصحابه في هذه السنة بالهجرة إلى بلاد الحبشة بعد أن اشتد إيذاء كفار مكة لهم، حيث يجدون الأمان عند ملك لا يُظلم عنده أحد. فهاجروا إليه في شهر رجب من السنة الخامسة، وكان فيهم سيدنا عثمان وزوجته رقية بنت المصطفى (صلى الله عليه وسلم) (الزرقاني). وفشل وفد قريش المكون من عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعه في تحريض النجاشي ملك الحبشة على طردهم.

وفي مقابلة مع جماعة من كفار قريش قرأ الرسول (صلى الله عليه وسلم) سورة النجم، ولما وصل إلى موضع السجدة عند قوله تعالى:

{ أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا} (النجم:60-63)

سجد النبي (صلى الله عليه وسلم) وسجد معه الجميع بما فيهم من حضر من كفار قريش.. ذلك من جلال الموقف ورهبة الآيات. فشاع أن زعماء قريش قد أسلموا، وذلك مكرا وخديعة لاستدراج المهاجرين للعودة من الحبشة. فلما عاد هؤلاء وجدوا أن الخبر كاذب. وقد علل كفار مكة سجودَهم مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بفرية باطلة.. إذ زعموا أنه تلا بعد قوله:

{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم:20-21)

كلاما يمدح فيه آلهتهم. وقد وقع للأسف الشديد في هذا الفخ السخيف بعض المؤرخين فزعموا أن الشيطان -معاذ الله- ألقى على لسان المصطفى (صلى الله عليه وسلم) عبارات عن الأصنام تقول: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لتُرْتَجَى. وهو قول فاضح الكذب؛ ولا مجال لدحضه هنا.

وإذن من هذه الواقعة الشهيرة الواردة في أكثر كتب التاريخ والحديث.. يتضح أن سورة النجم التي تتناول موضوع (المعراج) قد قرأها الرسول في السنة الخامسة. أي أنها نزلت عندئذ أو قبلها بقليل.. أي قبل شوال من السنة الخامسة التي عاد فيها مهاجرو الحبشة.

وجدير بالذكر أن بعض الأحاديث تبين أن عروج الرسول (صلى الله عليه وسلم) حدث أكثر من مرة. ففرضية الصلاة الواردة في بعض أحاديث المعراج قد حدثت في الفترة الأولى من البعثة المحمدية الشريفة.. أي في أوائل السنة الثانية أو منتصفها، كما أن آية النجم {ولقد رآه نزلةً أخري} تشير إلى أن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) رأى ربه عز وجل أكثر من مرة.

زمن الإسراء

نعود بعد ذلك إلى واقعة الإسراء. يقول المؤرخون أنها وقعت في أواخر الفترة المكية على أقوال منها: إنها حدثت في السنة الثانية عشرة بعد البعثة (المستشرق وليم) أو ربيع من السنة الحادية عشرة (الزرقاني) أو في ربيع قبل الهجرة بسنة (ابن مردوية عن ابن عمر، والبيهقي وابن سعد عن أم سلمة) و(الخصائص الكبرى).

كما أن هناك شهادة السيدة عاتكة بنت أبي طالب أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يبيت عندها ليلة الإسراء وأنها أول من رَوَى له المصطفى (صلى الله عليه وسلم) رؤياه. وقد رَوَى عدد من الصحابة ما يؤيد ذلك. لقد ذهب الرسول عند السيدة عاتكة بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجته أم المؤمنين السيدة خديجة.. وكل ذلك كان بعد السنة العاشرة من البعثة. أي أن الإسراء كان في السنة الحادية أو الثانية عشرة.

فاصل زمني بين الإسراء والمعراج

إذن هناك فاصل زمني بين المعراج والإسراء لا يقل عن خمس سنوات، وقد يصل إلى سبع سنوات. وأن المعراج هو الذي وقع أولاً وفيه فرضية الصلاة، ورؤية الله تعالى، والوصول إلى سدرة المنتهى والجنة. وأنه ذكر في سورة النجم التي لم يرد فيها أي ذكر للإسراء. أما الإسراء فقد وقع قُبيل الهجرة، وقد ورد في سورة الإسراء التي لم يرد فيها أي ذكر للمعراج. فهل يُعقل أن يجتمعا في رحلة واحدة؟ ولو كان بينهما ارتباط.. فهل يجوز ذِكر أحدهما في سورة دون إشارة تبين الرابطة بينهما؟

ثم نظرةٌ إلى حديث أم هانئ الذي رواه محمد ابن إسحاق، والذي جاء في سيرة ابن هشام، وقد رواه عنها سبعة من المحدِّثين بمتون مختلفة تدور جميعها حول رحلة الإسراء، ويتبين أنه لم يرد فيه أي ذكر للمعراج. وإذا كانت السيدة أم هانئ هي أول من سمع الخبر من الرسول (صلى الله عليه وسلم).. فهل يمكن أن يحكي لها الرسول (صلى الله عليه وسلم) جزءا من رحلته ويغفل أو يخفي عنها الجزء الأكبر والأهم؟ قالت: ما أُسريَ برسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا وهو في بيتي – نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا.

فلما كان قُبيل الفجر أهَبَّنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: “يا أم هانئ: لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيتِ بهذا الوادي، ثم جئتُ بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت الغداء معكم الآن كما ترين. ثم قام ليخرج، فأخذت بطرف ردائه فتكشف عن بطنه -كأنه قبطية مطوية- فقلت له: يا نبي الله، لا تحدث بهذا الناسَ فيكذبوك ويؤذوك. قال: (والله لأحدثنهم)… إلخ الحديث.

وهنا لم يرد أي ذكر على لسان المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ولا على لسان أم هانيء عن وقائع المعراج. أليس هذا دليلا على أن العروج كان في مناسبة أخرى؟! وهل من المعقول أن ينسَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو تنسَى أم هانئ هذه الواقعة العظيمة؟ اللهم لا.. وإنما شتان ما بين الواقعتين.
وعندما سمع أهل مكة حكاية الإسراء من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ماذا حدث؟ تقول السيدة عائشة: لما عرف الناس خبر إسراء النبي (صلى الله عليه وسلم) ذهبوا إلى أبي بكر فقالوا: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة إلى بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه؟ فقالوا: بلى! هاهو ذلك في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق. فما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدّقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه! (سيرة ابن هشام)

أليس في هذا الحديث ما يدل على أن العروج إلى السماء لم يرد في تلك المناسبة على لسان الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأن القوم لم يتحدثوا عنه وهو الأعجب والأبعد حسب قول أبي بكر الصديق، وهو الأدعى إلى التكذيب والسخرية من جانب الكفار!، واستدلال أبي بكر كان عن الخبر يأتي من السماء. فإذن موضوع العروج النبوي إلى السماء لم يكن واردا عندئذ.. وإلا لكان استدلال أبي بكر غير مناسب للمقام.

أما وقد تبين بجلاء أن الإسراء شيء والمعراج شيء آخر ولم يجتمعا في رحلة واحدة بل ولا في سنة واحدة، وإنما يفصلهما عدد من السنوات يبلغ ستا أو سبعا.. فقد يتساءل البعض: لماذا إذن جمع بينهما بعض الرواة؟ مع أن القرآن الكريم لم يجمعهما في سورة واحدة ولو بمجرد الإشارة أو التلميح؟

سبب خلط الحادثين

لقد اختلط الأمر على بعض الرواة والمفسرين القدامى فأدخلوا روايات أحَدِهما مع الآخر وظنوا أنهما مرحلتان من رحلة واحدة للأسباب الآتية:

(1) وقعت حادثتا العروج والإسراء في الليل، ولما كان الإسراء يطلق على السير في الليل استعمل بعض الصحابة والرواة والمحدثين كلمة الإسراء للرحلتين، وصار الناس لا يفرقون بين هذا وذاك بما جعل الرواة يخلطون بينهما، وظنوا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) عرج به إلى السماء من بيت المقدس في نفس الليلة.. ولنتأمل الرواية التالية مثالا لذلك:

روى ابن حنبل في مسنده عن مالك بن صعصعة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حدثهم عن ليلة (أسريَ به) قال: بينما أنا في الحطيم -وربما قال في الحجر- مضطجعا إذ أتاني آتٍ فجعل يقول لصاحبه: الأوسط بين الثلاثة.. فأتاني فشق ما بين هذه وهذه- يعني من نحره إلى أسفل بطنه- فاستخرج قلبي. فأُتِيتُ بطستٍ من ذهب مملؤة إيمانا وحكمة، فغسل قلبي ثم حُشيَ ثم أعيد. ثم أُتيتُ بدابة دون البغل وفوق الحمار يقع خطوه عند أقصى طرفه، فحُملتُ عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى بي السماء الدنيا.. الحديث

ترى الراوي يذكر عبارة (أسريَ بي) مع أنه لا يتحدث عن رحلة الإسراء المعروفة إلى بيت المقدس، وإنما يحكي رحلة العروج السماوي. ولقد بدأت هذه الرحلة حسب هذه الرواية من مكة وليس من بيت المقدس، ومن جوار الحرم وليس من بيت السيدة أم هانئ.

وروى البخاري وابن جرير أن النبي (صلى الله عليه وسلم) عرج ليلة الإسراء إلى السماء الدنيا. وبذلك يثبت جليا أنهم يذكرون كلمة الإسراء في الرحلتين. وهذا ما جعل بعض الرواة يسهون ويجمعون بين الرحلتين وأحداثهما.

(ب) اعتقد بعض الرواة أن الرحلتين شيء واحد بسبب وجوه المشابهة بين بعض الأحداث فيهما، ومنها.. سفر الليل، ركوب البراق، لقاء الأنبياء، أداء الصلاة، رؤية الجنة والنار، صحبة جبريل.. فهي كلها أمور مشتركة بين الرحلتين، ساعدت على وقوع بعض الرواة في خلط أجزاء عن العروج مع أجزاء من رواية عن الإسراء، ولم يستطيعوا الاحتفاظ بأصول أحاديث كل منهما على حدة.

ولو أننا تصفحنا الروايات التي تجمع بين الأمرين وتقول بعروج النبي (صلى الله عليه وسلم) من بيت المقدس بعد إسرائه ولقائه الأنبياء وصلاته معهم.. ظهر لنا أنها اختلطت في بعضها واضطربت اضطرابا شديدا، فمثلا يقول الرواة أن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) لقي الأنبياء ومنهم آدم وموسى وعيسى، وصلى بهم في بيت المقدس، وبعد فترة وجيزة صعد إلى السماء ولقيهم، ولكنه لم يتعرف عليهم وأخذ يسأل جبريل: من هذا؟ فيجيبه جبريل. وهذا أمر لا يسيغه الوجدان ولا يتقبله العقل. فكيف يغيب عن ذهنه وينسى وجوه أشخاص من أمثال هؤلاء الأنبياء العظام، قابلهم وصلى بهم منذ فترة قصيرة؟ وهذا، وإن كان دليلا واضحا على خلط الرواة بين الأحداث المتشابهة فهو أيضا دليل على الفارق الزمني بين المعراج والإسراء.

إن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) رأى الأنبياء أولا في عروجه ولم يكن يعرف حليتهم فسأل عنهم، لكن لم يرد سؤاله عنهم عند لقائه بهم في رحلة الإسراء..

وخلاصة القول إن ما سقناه من شهادات وأدلة نقلية وعقلية من داخل الروايات وخارجها لفيه الكفاية للدلالة على أن العروج رحلة بعيدة في زمنها عن رحلة الإسراء. وكل منها مستقل وقائم بذاته.

تفاصيل عن المعراج

والآن نتناول موضوع المعراج بشيء من التفصيل..

إن واقعة المعراج لم تكن انتقالا جسديا من الأرض إلى ما وراء عالم الأفلاك والمجرات -إن كان له في تصورنا وراء- ولم تكن انتقالا روحيا بمعنى أن الروح الشريفة غادرت الجسد وانتقلت إلى هذا المجال.. لأن الأرواح لا تفارق أجسادها مادام المرء على قيد الحياة.. ولم تكن حلما يمر برأس نائم يغط في فراشه. وإنما هي من قبيل الوحي الإلهي الذي يكلم به المولى تبارك وتعالى من يصطفيه من عباده.. إنه الكشف. والكشف أو الرؤيا.. تحدث للإنسان المصطفى وهو في حالة اليقظة الكاملة… يرى الشيء ويعي أحداث الكشف.. وحده في خلوة بعيدا عن الناس، أو أمام الناس ولا يدرون بما يجري معه، أو أمام الناس ومعهم ويشتركون معه.

أنــواع الكشــف

الكشف.. أو الرؤيا.. أو الوحي.. كلها أسماء لنفس التجربة، إنها درجات تختلف كثافة ولطفا حسب درجة الموحَى إليه. وهي بالنسبة للرسول (صلى الله عليه وسلم) أعلى درجات الكشف بحيث لا يدانيه فيها مخلوق آخر من الأنبياء وغير الأنبياء. وتجدر الإشارة هنا إلى ما ورد في بعض الروايات (تنام عينه ولا ينام قلبه) [البخاري وأبو داود]

ومن الكشوف التي اشترك فيها الحاضرون مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما رَوته كتب الحديث عن الغريب الذي أتى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو بين جمع من صحابته، وجلس إليه يسأله عن الإسلام والإيمان ويصدقه بعد كل إجابة، وعجب الصحابة من أمره، يسأله ويصدقه. فلما انصرف أخبرهم المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إنه جبريل أتى ليعلمهم أمر دينهم.

ومن الكشوف التي وقعت للرسول (صلى الله عليه وسلم) في حضور صحابته ولكنهم لم يشاهدوها معه، ما حدث يوم غزوة الخندق، عندما حاول بعض الصحابة من جند المسلمين كسر صخرة تعترض طريق الخندق، وقد حضر الرسول (صلى الله عليه وسلم) يشجعهم، وتطايرت الشرارات من المعول، وكَبَّرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وكبر معه صحبه الكرام. وبعد أن زالت الصخرة أخبرهم المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أنه مع لمعان الشرر أضاءت له قصور ملوك اليمن وكسرى وقيصر.

ومن الكشوف التي وقعت للرسول (صلى الله عليه وسلم) في خلوته بينه وبين ربه عز وعلا.. رؤيا المعراج ورؤيا الإسراء ورؤيا دخول المسجد الحرام ورؤيا مصارع رؤوس الكفر يوم بدر.

فكل هذه الرؤى من أنواع الوحي الإلهي.. أو الكلام الرباني.. الذي يختلف في شكله عن وحي القرآن.. لأن الأخير له صورة لفظية محددة.. تَوَلى تبارك وتعالى حفظها، أما الوحي الكشفي فهو يتسم بقدر من الرمزية، يزيد أو ينقص حسب حالة صاحب الكشف، ويحتاج إلى تأويل وتفسير وفهم بقدر ما فيه من مجاز.

فرؤيا الرجل الغريب الذي جاء ليسأل الرسول (صلى الله عليه وسلم)وحي تعليمي، ويتضمن قدرا من الرمزية تفيد أن المصطفى (صلى الله عليه وسلم)إنما يتلقى العلم الروحاني من الله تعالى وأنه صادق فيما يقول، حافظ ذاكر لكل ما نزل عليه. هذا بالإضافة إلى ما تحمله من معاني التعليم والتأييد والتصديق. وقد تمت هذه في حضور الناس.

ورؤيا يوم الخندق كانت تحمل أنباء غيبية عظمى، شاهدها الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأخبر بها الحاضرين.. في وقت عصيب.. تحدى فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) كل الأخطار المتوقعة، وقدم البشرَى لجنود الإسلام.. ينفخ في أرواحهم قبسا من أنوار الطمأنينة والثقة واليقين بمستقبل الإسلام المشرق، في ظروف تدعوا إلى الخوف بل إلى اليأس. ولقد تحققت رؤياه (صلى الله عليه وسلم) أصدق ما يكون التحقق.. وأضاءت أنوار الإسلام كل تلك البقاع التي رأى شرر المعول يضيئها. وهكذا تحول الرمز إلى حقيقة، وكان تأويل الرؤيا واضحا عندما سمعوها من فمه الشريف، وكان واقعها صادقا مع ما سمعوه منه، وشهدها الكثيرون منهم بعد سنوات قلائل.

وهناك العديد من الرؤى أو الكشوف، التي هي بحق من أعظم المعجزات التي جرت على يديه (صلى الله عليه وسلم) .. تُثبت أمام العالم صدقه في نبوته ورسالته وعلاقته برب هذا الكون الذي يدبر أموره ويدير أحداثه.. سبحانه وتعالى. وواقعة الإسراء من هذا القبيل، تحمل من أخبار الغيب -الذي استأثر الله بعلمه- ما كان مقدرا له أن يتحقق، ويعلن أمام العالم كله.. يشهدونه بأعينهم وحواسهم، ويعيشونه حقيقة وواقعا، أن محمد (صلى الله عليه وسلم) قد جاء من الله عز وجل، وتحدث باسم الله عز وجل، وصدق فيما قال عن الله عز وجل. وبذلك يزداد الذين آمنوا إيمانا، ويعذر الذين تعاموا أو عموا عن الحق.

المعجـــزة

وينبغي أن نشير هنا إلى أن لفظة (المعجزة) ليست مصطلحا قرآنيا أو نبويا، وإنما هي من وضع رجال العلم، وقد عرّفوها بأنها: (العمل الخارق للعادة الذي يجريه الله على يد مدعي النبوة ليكون دليلا أمام قومه على صدقه في دعواه).

وهذا يقتضي أن يتم هذا العمل أمام قومه، يشهدونه وهو يقع، ويلمسون نتائجه بأنفسهم. وإلا فهو ليس بأمر معجز. فإذا ادعى شخص أن أمرًا حدث له وهو في خلوته -وكان ما يدعيه بعيدا عن المألوف وعما جرت به العادات كان ذلك مدعاة لتكذيبه، وللمكذبين عذرهم في ذلك.

وأود أن أبين من الآن، أن تكذيب واقعة وردت في القرآن الكريم أو في الحديث الشريف لأمر ما، يوقع المكذب في غيابه الجهل وظلمات الكفر. أما تكذيب أحداث الواقعة استبعادا لحدوثها بسبب غرابتها أو صعوبتها فربما كان ذلك أشد جهالة وأعظم كفرا.. لأن المولى تبارك وتعالى إذا أراد شيئا فلا راد لما أراد..

فلنترك هذا الافتراض ولا شأن لنا الآن بمن يكذب الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو يستبعد على الله -عز وجل- أمرا أراده. ولكن جدير بنا أن نضع في أذهاننا أن أعمال الله -جل وعلا- كلها هي من المعجزات.. بدءًا من جناح البعوضة إلى أعظم المجرات. فماذا بالله عليكم في هذا الكون ما هو ليس بمعجز لكل الكائنات؟ هل هناك شيء في هذا الكون هو أبدع من خلق الله؟ إن من يرى في ما يسمونه “خوارق” شيئا أكبر من شيء آخر فهو لا يعرف لله قدره. إن كل صغيرة أو كبيرة في هذا الكون معجزة كاملة بالنسبة لكافة المخلوقات.. وعجْزُ الناس عن خلق خلية أو ذرة واحدة هو مساوٍ بنفس القدر عَجْزَهم عن خلق بحر أو جبل أو قمر.

ولا بأس من أن نكرر مرة أخرى أن الآية الإلهية أو ما يسمونه “معجزة” لا يكون لها أي مغزى أو قيمة إذا كان شاهدها من جرت على يديه وحده، ذلك لأن المكذبين له سيمعنون في تكذيبه، والمصدقون له قد يفتن بعضهم ويقع في التكذيب، أما الموقنون به فهم يصدقونه من قبلها ومن بعدها ولا معنى لها بالنسبة لهم إذ أنهم لم يشاهدوها بأنفسهم لتترك أثرا ما.

كما أن المعجزة -أو ما يعتبرها البعض معجزة- إذا لم تكن عاملا بنَّاء في بيان صدق المدعي فإنها تكون عملا لا يتسم بالحكمة، لأنها عندئذ تعتبر عقبة في سبيل المدعي وفتنة شديدة لقومه. إنها لا تكون دليلا واضحا بل عاملا مربكا محيرا.

ومما يشار إليه هنا ما يزعمه بعض رجال الدين من أن هناك أمورا خارقة للعادة تشبه المعجزات، يسمونها (استدراجا)، لأنها تقع على يد الكاذب ليتمادى في كذبه. الحق إن مثل هذا القول افتراء على الله الرحمن الرحيم، الذي يعامل الناس بالرأفة ولا يريد بهم التضليل والكيد. كما أن مثل هذا الاستدراج يوقع الأبرياء في خطأ لا حيلة لهم في اجتنابه.

يقول كثير من العلماء بأن القرآن الكريم هو معجزة رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) الكبرى، وهذا قول صحيح لأن القرآن -وإن كان بلسان العرب- إلا أنهم لم يستطيعوا ولم يقدروا.. وإلى اليوم عاجزون.. أن يأتوا بمثله في نظمه وأسلوبه وجماله البياني. ولكن الأهم من ذلك، لهم ولغيرهم، أن العالمين جميعا لا يستطيعون أن يأتوا بما في سورة واحدة من سوره -طويلة أو قصيرة- من تشريع كامل أو حكمة بالغة أو تعليم رشيد أو مثل دقيق أو عقيدة طاهرة أو تعريف بصاحب الملك والملكوت أو نبأ غيبي لا يتخلف.. أو.. أو.. مما نعلمه اليوم، وما يتكشف لنا في الغد، من كنوز القرآن التي لا تفنَى، وخزائنه التي لا تبلى.

هذه هي المعجزة الحقة.. تغيب الشمس وتشرق، ولكن شمس القرآن باقية تملأ الدنيا هداية وسعادة، لمن أراد الهداية، ولمن طلب السعادة. إن حادثة الإسراء أو المعراج لو كانت بالجسد ما أضفت على مغزى الإسراء أو معنى المعراج مزيدا من الإعجاز.. ذلك لأن تحقق ما أشارت إليه أحداث المعراج، وتأويل ما ورد في واقعة الإسراء، تطَلَّبَ عَمَلَ آلاف مؤلفة من جند الله. إن روايات الحادثتين تحكي لنا أن جبريل وملكا أو اثنين هم الذين اشتركوا في واقعة شق الصدر ورحلة السماء ورحلة الأرض، ولكن الأحاديث تحكي لنا أن سبعين ألف ملك نزلوا مع سورة الكهف وعلى رأسهم ملك الوحي، يحرسون السورة حتى يتحقق ما أشارت إليه من أنباء الغيب. بل إن آلافًا من الملائكة نزلوا في معركة بدر الكبرى، ووعد الله المؤمنين بتأييد خمسة آلاف من الملائكة بعد معركة أحد. وفي هذا ما يكشف لنا عن أحداث تطلبت مددا سماويا أعظم بكثير مما تطلبته حادثة الإسراء أو حادثة المعراج.

وإذن فالمسألة ليست مسألة صعوبة أو غرابة أو إمكان حدوث، فحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) زاخرة كل يوم بأحداث جسام، لا يمكن لإنسان أن يحققها وحده، ما لم تكن جنود العالم العلوي في ركابه. فمعركة الإصرار على كون الرحلتين بالجسد، أو إنكار الرحلة كليةً، باطلة بين طرفين لم يدركا حقيقة المعراج وحقيقة الإسراء، ومن ثم راحا يضربان بعضهما بالأدلة والبراهين التي قامت على مقدمات بعيدة تماما عن واقع الأمر وحقيقة الأحداث.

إننا نقول لمن ينكر هذه الواقعات: إنها ليست أحداثا جسدية مادية فلا تتسرع بالإنكار، ولكنها إشارات روحانية تحمل إعجازا أعظم بكثير مما تنكره من حركات المادة. ونقول لمن يلمح على أنها رحلات بدنية: رويدك فإنك لا تضفي على محمد المصطفى (صلى الله عليه وسلم) كرامة ولا سموا، لأن ما تتوهمه ليس في الواقع شيئا يذكر بجانب ما استحقه (صلى الله عليه وسلم) من كرامة ومنزلة، وليس من شأن هذه الحركات الجسدية أن ترفع منازل المصطفين الأخيار، وإنما هي شيء كبير في عين أصحاب النظرة السطحية والهمم الضعيفة.

وقفة بالأحداث

ولنتجول معا في بعض هذه الأحداث، ونتأمل ما فيها من تكريم حسب فهم أصحاب النظرية الجسدية. وإنا لا نعيب على هؤلاء إلا أنهم لفرط محبتهم للرسول (صلى الله عليه وسلم) يريدون أن يخلعوا عليه من فهمهم ما يجعله على المستوى الذي ترسمه لهم مخيلتهم.. متناسين أنه بشر.. وإن كان أكرم البشر، ومتغافلين عن وظيفة الرسالة التي يحملها بكونه رسول، وإن كان أعظم الرسل (صلى الله عليه وسلم).

ولنبدأ بحادثة شق الصدر.. إذا كانت هذه حادثة جسدية مادية حقا، فما يكون فضل الرسول (صلى الله عليه وسلم) على سائر البشر في مقاومة الشيطان.. واكتساب الحكمة والعلم؟ لقد أزالت الملائكة حظ الشيطان منه وغسلوا باطنه، وملأوا قلبه حكمة وعلما دون كسب أو جهد من جانبه، فهل هذا يُكسبه فضلا على أتباعه الذين جاهدوا حق الجهاد لاكتساب التقوى؟

عفوا يا رسول الله.. فإنك أطهر وأنقى وأحكم مَن ولدته أُم بحسن عملك وجميل اتباعك لهدى ربك. بذلت من دمك وجسمك وروحك وملكاتك ما استحققت به أعظم شهادة حصل عليها أحد من خَلق الله تعالى، فكان قوله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} شهادة يحفظها لك القرآن المجيد وسُنتك الطاهرة وسيرتك العبقة، وترويها الأجيال جيلا بعد آخر. إن حكمتك وعلمك وطهرك لا يكفيها طست أو بحر، ولكنها جهاد عمرك لحظة بلحظة ويوما بيوم وحركة بحركة، صلى الله عليك حق الصلاة.

ويقول المفسرون المحدثون.. إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد أن ماتت زوجته السيدة خديجة عليها السلام ثم عمه أبو طالب، وبعد اشتداد قريش له، وبعد رحلته إلى الطائف التي لقي فيها منهم أسوأ استقبال وأسوأ رد.. أراد الله تعالى أن يُطيب خاطره ويجبر كسره، فأخذه إلى رحلة في الملكوت الأعلى بصحبة جبريل، حيث اجتاز السموات السبع ولقيَ بعدها ربه.

أين الترفيــه؟

إنه لقول طيب، يترك في نفس المسلم أثرا رائعا، ويتضمن في ذات الوقت حقيقة واقعة.. ولكنها غير ما أراده المفسرون بقولهم. فإن الرحلة الجسدية ترضي الإنسان العادي، الذي يجد متعته في تغيير المكان، ومشاهدة أماكن جديدة، ورؤية مناظر الطبيعة التي تريح بصره، وترفِّه عن مَلَلِه وتعبه، كما يذهب أحدنا إلى المصيف أو المشتى. ولو كان المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من هذا الصنف من الناس -وحاشا له أن يكون منهم- فما أحسبه رأى في هذه الرحلة لو كانت رحلة جسدية – أي نوع من الترفيه. فقد شاهد مناظر تقشعر لها الأبدان، من عصاة أمته الذين تُقرض ألسنتهم بالمقاريض، ومن يأكلون اللحم النيئ الخبيث، ومن يأكلون الضريع والزقوم الخ.. فأيُّ ترفيه في هذا؟

وإذا كانت الرحلة للتكريم، فمن رأى؟ جبريل؟ إنه يلقاه كل يوم. الأنبياء السابقين؟ إنهم هم الذين يُكرَمون برؤيته. رب العزة تبارك وتعالى؟ وهل هناك مكان أو موقع للقاء لله ورؤيته أيها الناس؟ إننا لا يليق بنا أن نقول إن محمدا (صلى الله عليه وسلم) يلقى الله تعالى، بل إنه معه في كل حين.. متى غاب عنه حتى يراه؟ فأين التكريم وهو ينهل منه في لحظات حياته المباركة بلا حساب.

يقولون كانت الرحلة لترضيته! وهل لا بد من مغادرة الأرض لبضع ساعات أو لحظات ليرضي الله محمدا (صلى الله عليه وسلم)؟ هل نسيتم أيها الناس علاقة محمد بربه؟ هل تذكرون دعاءه: (إذا لم يكن بك علي غضب فلا أبالي). إن محمدا (صلى الله عليه وسلم) لا يأبه لكل مصاعب الدنيا وإهانات الغوغاء وجهل الجاهلين، ما علم أن الله تعالى راض عنه. ولقد علم ذلك في التو واللحظة. ألا تذكرون ملك الجبال عندما جاءه يبلغه التحية من الله جل وعلا، ويعرض عليه تدمير قرية الشرك.. قرية الطائف؟ هل تذكرون جوابه..

ورحمته ورجاءه في أن يؤمن قومه؟ هل تنبهتم إلى معدن هذه النفس الطاهرة؟ هل ترضيها رحلة ليلية يرى أثناءها بعض المشاهد الرمزية؟
والحقيقة أن الرحلة السماوية كانت فعلا للتكريم والترفيه والترضية، لا لمحمد (صلى الله عليه وسلم) وحده وإنما لأمته.. لمن معه ولمن بعده. لقد كانت آية سماوية له يشهد صدقها بنفسه، ويشهد صدقها صحابته ومتبعوه عبر الدهور. كانت معجزة رائعة، لا لأنها حركة بدنية لجسد واحد من البشر بين الأجرام الهائلة العدد تعبر أغوار الكون المحكم العظيم.. بل لأنها جاءت حقا وصدقا وواقعا ملموسا في محلها وتفصيلها، وسيتضح لنا ذلك عندما نتناول أحداث المعراج.

نعود إلى موضوع الكشوف والرؤى.. التي هي وحي الله في هيئة صور ومرائي، وهى على ثلاثة أنواع:

الأول: ترى الأشياء والأمور مثلما تكون في العالم المادي بغير تبديل.
الثاني: تكون بعض المشاهد بحاجة إلى تأويل وتعبير.
الثالث: تكون كل المشاهد بحاجة إلى تأويل وتعبير.

ضرورة تأويل الأحداث

وسترى من تدبر ما ورد في أحاديث العروج والإسراء أن الحادثتين كانتا من قُبيل الكشف، لأن الكثير من تفاصيلهما تستلزم التأويل حتما. رُويَ عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: فُرِج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطستٍ من ذهب ممتلئ حكمةً وإيمانا، فأفرغهما في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء. (مسلم)

ورُويَ أيضا عن أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمهُ ثم أعاده إلى مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعنى ظئره- فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون – قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره. (مسلم)

لندع جانبا الخلاف الثانوي بين الروايتين، ولنتدبر النقطة الجوهرية، أعني واقعة شق الصدر والطست. وهنا نتساءل: ما هي تلكم العلقة، وما علاقتها بحظ الشيطان؟

إن الشيطان كما نعلم ونفهم من القرآن يأمر بالفحشاء ويسعى لتضليل الناس ويزين لهم العداوة والبغضاء وما إلى ذلك من الشرور. وكل هذه الأمور ليست بالأشياء المادية التي تشغل جانبا من قلب الإنسان العضوي، وليست مما يُزال بالغسيل من ماء زمزم. وهكذا نقول عن الحكمة والإيمان الذين كانا في طست من ذهب وأُفرغا في قلبه (صلى الله عليه وسلم) . ولا مناص من الإقرار بأن هذه الواقعة كانت كشفا يرمز إلى معنى سام، إذ يصور لنا مدى ما توفر للرسول (صلى الله عليه وسلم) من حفاظة محكمة من أية مؤثرات أو نوازع سيئة بفضل ما أُوتيَ من حكمة سماوية وإيمان ثابت قويم.

ومما يسترعى الانتباه أن الروايتين السابقتين لشخص واحد؛ هو أنس بن مالك (رضي الله عنه)، وأن شق قلب الرسول (صلى الله عليه وسلم) في إحدى الروايتين حدث وهو صغير يلعب، وفي الرواية الأخرى وهو ببيته في مكة، مما جعل بعض العلماء مثل الحافظ الذهبي يرى أن هذا الأمر حدث مرتين.
وقد رُويَ عن أنس بن مالك أيضا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (أُتيتُ، فانطلقوا بي إلى زمزم، فشرح عن صدري، ثم غسل بماء زمزم، ثم أُنزلت) (مسلم). وهنا لا ذكر للطست الذهبي؛ كما أن الغسل تم عند بئر زمزم.

كذلك تعرضت الروايات العديدة لكيفية الانتقال. فقيل إن جبريل أتى بالبراق إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، حافره عند منتهى طرفة (البخاري ومسلم). وفي روايات أخرى اكتفى بأنه دابة بيضاء.

ورُويَ عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن جبريل أخذ بيده فعرج به إلى السماء الدنيا (البخاري ومسلم)؛ وهنا يبدو أنه مضى دون حاجة إلى دابة يركبها. وكذلك اختلفت الروايات في وصف جبريل.. فعن ابن الزبير عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: إنه رأى جبريل يشبه دُحْية أو ابن رمح دحية بن خليفة (مسلم).

ورُويَ أن ذر بن حبيش سئل عن قول الله تعالى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فذكر أن ابن مسعود قال: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) رأى جبريل له ستمائة جناح، وفي رواية أخرى: رآه في صورته له ستمائة جناح (البخاري ومسلم).

ورُويَ عن عائشة عليها السلام أنها سُئلت عن قوله تعالى {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى.. الآية} فقالت: إنما ذلك جبريل. كان يأتيه في صورة الرجال، وأنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسد أفق السماء (مسلم).

وجدير بنا ألا نفهم من اختلاف الروايات أنها باطلة يمكن طرحها جانبا، أو إنكار كل ما جاء فيها عن المعراج أو الإسراء. فهذا تسرع في الحكم دون تبصر، فإن من الممكن التوفيق بين بعض هذه الاختلافات، كما أن رواتها جماعة من المشهود لهم بالعلم والخلق، والمعروفين بالحرص الشديد على الاستقصاء والتدقيق. وغاية ما يمكن قوله عن تلكم الأحاديث التي وردت في المراجع الرئيسة بصفة عامة أن الذاكرة قد تخون راويًا من سلسلة الرواة فينسَى جزءا من تفاصيلها، أو يقدم أو يؤخر ترتيب بعض جزئياتها، فيحدث في الرواية نوع من القلب، أو قد يخطئ الناسخ في النقل.. وهذا أمر نجده في الكتب المطبوعة في عصرنا هذا على الرغم من توافر أسباب الضبط والتصحيح والمراجعة. ولا ننسى أن هذه الروايات كانت تُرْوَى ويتناقلونها في أغلب الحالات بالمعنى لا بالنص.

ولنلق نظرة أخرى على ما رُويَ عن المطية التي ركبها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في سفره الروحاني. فبالإضافة إلى ما رويناه من الروايات عن البخاري ومسلم والحافظ الذهبي فقد رُويَ في تفسير الدر المنثور: (أُتيتُ ليلة أُسْرِيَ بي بدابةٍ فوق الحمار ودون البغل، خَطْوُها عند منتهَى طرفها، كانت تسخَّر للأنبياء قبلي).

وأخرج البيهقي عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) قالوا له: يا رسول الله، أخبِرْنَا عن ليلة أُسرِيَ بك.. وقال فيه.. (فإذا أنا بدابة يقال له البراق وكانت الأنبياء تركبه قبلي. يضع حافره مد بصره، فركبته).

ورَوَى البيهقي أيضا في حديث طويل قال فيه… ثم أُتيتُ بالمعراج الذي تعرج عليه الأرواح، فلم تر الخلائق أحسن من المعراج (تاريخ ابن عساكر).
فحمل واقعة ركوب البراق على المعنى الظاهر يعني أن الأنبياء أيضا عرج بهم بالجسد العنصري، وكانت الدابة تحمل المؤمنين الصالحين بأرواحهم!! وهذا نوع من الخلط يبعث على التساؤل ويثير الاعتراضات.

وأخرج ابن حنبل وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل وأيضا المختار بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (ليلة أُسرِيَ برسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل الجنة، فسمع في جانبها حسا، فقال لجبريل: ما هذا؟ فقال: هذا بلال المؤذن. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) حين جاء إلى الناس: قد أفلح بلال، رأيت كذا) (الدر المنثور).

هذا وقد روَى البخاري ومسلم وغيرهما حديثا مشابها يتضمن وجود بلال رضي الله عنه في الجنة وإن لم يرد فيه ذكر المعراج.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لبلال عند صلاة الفجر: (يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام.. فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت ما كتب لي أن أصلي). [دف نعليك، رواية البخاري، خشف نعليك، رواية مسلم، والمعنى تحرك مشيك وصوته].
فلو سلمنا جدلا بأن المعراج كان بالجسد العنصري، فكيف ذهب بلال المؤذن إلى الجنة مع أنه كان نائما في مكة؟ وهل عُرج به هو أيضا إلى السماء ليلة معراج الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؟

الواقع إن تصور حدوث الإسراء أو المعراج بكيفية مادية يتعارض تماما مع ما تضمنته الروايات العديدة من وقائع وصِفات تنطق من نفسها بأن الحادثتين كانتا كشفا روحيا.

وقد أورد ابن كثير في تفسيره نقلا عن ابن جرير ما يلي:

لما جاء جبريل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالبراق، فكأنها حركت ذنبها فقال، لها جبريل: مه يا براق، فو الله ما ركبك مثله. وسار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فإذا هو بعجوز على جانب الطريق، فقال: ما هذه ياجبريل؟ قال: سِرْ يا محمد. فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق، فقال: هلم يا محمد، فقال له جبريل: لا تلتفت إليه. فسار ما شاء الله أن يسير، قال: فلقيه خلق من خلق الله فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: أردد السلام يا محمد، فرد السلام…. حتى انتهى إلى بيت المقدس، فعُرض عليه الخمر والماء واللبن، فتناول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اللبن، فقال له جبريل: أصبتَ الفطرةَ، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغويت أمتك..

ثم قال جبريل: أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا كما بقيَ من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام).

وفي رواية أخرى قيل إن ما قُدم للرسول (صلى الله عليه وسلم) كان خمرا ولبنا وعسلا، وقيل كذلك أنهما اللبن والعسل، وفي روايات أخرى: خُيِّر النبي (صلى الله عليه وسلم )بين اللبن والخمر. وبعض هذه الروايات قدم فيها ذكر الخمر على العسل (راجع البخاري وابن حنبل وابن كثير ودلائل النبوة للبيهقي)، ولكن الثابت في هذه الروايات المختلفة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) اختار اللبن.

ويبدو أن الحديث الأول – الذي ذكر الأشربة الثلاثة، وبترتيبها الوارد فيه الماء فالخمر فاللبن- هو الأولى بالاعتبار، ذلك لأن هذه الرواية تتضمن ثلاثة أشربة تقابل ثلاثة أمور رآها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في طريقه إلى بيت المقدس؛ فالمرأة العجوز أوّلها جبريل بالدنيا وقرب نهايتها، وكذلك الماء يُعبر عن الدنيا إذ أن حياة كل شيء حي فيها يتوقف على الماء وتؤدي ندرته إلى القحط والهلاك، كما قال تعالى:

{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِكُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء 31)

وذلك الذي نادى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أوّلَهُ جبريل بأنه إبليس. وكذلك عبر جبريل عن امتناع الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن شرب الخمر بأنه نجى نفسه وأمته من الغواية.. فإبليس والخمر مشتركان في الغواية، وقد قال تعالى:

{ إِنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة 91}

أما اللبن فهو شراب فطري طاهر، وغذاء رئيسي للإنسان يشربه الطفل مدفوعا إليه بفطرته النقية التي برأه الله عليها؛ لونه البياض مَثَل للصلاح والفلاح… وقد عبر جبريل عن شربه بأنه إصابة للفطرة، ويناسب ذلك لقاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) للأنبياء وسلامهم عليه ورده عليهم. وفي ذلك إشارة إلى أن أمته (صلى الله عليه وسلم) سوف تُصان من الهلاك، ولا يقطع عنها غذاء العلوم الإلهية الروحانية الطاهرة.

وللرد على من يعرض أن جبريل بدأ تعبيره بالحديث عن اللبن وقد ذُكر آخرا.. نقول بأن تأويل اللبن يحمل خبرا سارا فبدأ به ليبشر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ويطمئنه على أمته قبل أن يذكر له تأويل الخمر والماء..
ومن الشواهد الدالة على أن رحلة الإسراء لم تكن بالجسد العنصري تلك المشاهد التي احتاجت إلى التعبير.. والتي قَبِلَ بها الرسول (صلى الله عليه وسلم) دون اعتراض.. فلم يقل لجبريل مثلا: كيف تفسر لي العجوز بأنها الدنيا مع أني أراها بعيني رأسي امرأةً عجوزًا.. لقد اقتنع (صلى الله عليه وسلم) بتفسير جبريل لأنه يعلم بأن ما يراه ليس من قبيل الرؤية الحسية بالعينين، وإنما أمر روحي من عالم الكشف.

ولو قلنا غير ذلك.. لكان التعبير – لا سمح الله- لغوا لا معنى له، فلم نسمع ولم نقرأ في كتب الله مثلا أن الدنيا امرأة عجوز، وليس من المعقول أن من يشرب الماء يغرق أو يُقضى عليه بالغرق. لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك يشرب الماء ولم يحرمه على أتباعه، ولم يغرق (صلى الله عليه وسلم) ولم يغرق أتباعه. وهل اللبن هو الفطرة والهداية؟ الكفار يشربون اللبن ربما أكثر من المؤمنين، ومع ذلك لم يهتدوا. ولا أعتقد أن أحدًا يختلف معنا في أن هذه المشاهد كلها كانت من قبيل الكشف الروحي ولم تكن واقعا ماديا. ومن ثَم فكيف تكون الرحلة بالجسد المادي وكل ما يجري فيها من قبيل الرؤَى والكشف؟

وما معنى أن يتحرك الجسد أو ينتقل من موضعه إذا كان في عالم الرمز، ولن يكون للجسد المادي دور ما فيما يجري من أحداث؟

ثلاثة أنواع من الكشوف

ونكرر ما سبق من أن الكشوف تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم تُرى فيه الأشياء والأمور كما هي عليه في العالم المادي دون تبديل.. (مِثْلَ تجلية بيت المقدس للرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو جَالس عند الكعبة، يروي رؤيا الإسراء)، وقسم يحتاج جميع ما فيه من وقائع إلى التأويل والتعبير.. (رحلة المعراج إلى السماوات العلا)، وقسم يجمع بين سابقيه.. أي أن بعض أحداثه تحتاج إلى تعبير والبعض الآخر يمثل الأمور كما هي في عالم المادة.. وواقعة الإسراء من هذا القسم الأخير..

ولإيضاح ذلك نضرب مثلا بما رواه ابن الأثير في تاريخه (أنه بعد الإسراء قعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المسجد الحرام وهو مغموم خشية ألا يصدقه الناس، فمر به أبو جهل، فقال له كالمستهزئ: هل استفدت الليلة شيئا؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : نعم، أُسرِيَ بي الليلة إلى بيت المقدس. فقال أبو جهل: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! فقال: نعم. فقال أبو جهل: يا معشر كعب بن لؤي، هلموا؛ فأقبلوا؛ فحدثهم النبي (صلى الله عليه وسلم).

فمن بين مصدق ومكذب ومصفق وواضع يده على رأسه؛ وارتد الناس ممن كان آمن به وصدقه.. وقالوا: فَانْعَت لنا المسجد الأقصى. قال (صلى الله عليه وسلم): فذهبت أنعت حتى التبس على.. فجيء بالمسجد وإني أنظر إليه فجعلت أنعته. قالوا: فأخْبِرنا عن عيرنا؟ قال: مررت على عير بني فلان بالروحاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبها، فأخذت قدحا فيه ماء فشربته، فسلهم عن ذلك. ومررت بعير بني فلان وفلان فرأيت راكبا وقعودا بذي مر، فنفر بكرهما مني، فسقط فلان فانكسرت يده فسلوهما. ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان، تطلع عليكم من طلوع الشمس.
فخرجوا إلى الثنية فجلسوا ينتظرون طلوع الشمس ليكذبوه، إذ قال قائل: هذه الشمس قد طلعت، فقال آخر: والله هذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق كما قال. فلم يفلحوا، وقالوا: إن هذا سحر مبين) (الخصائص، سيرة ابن هشام، مسند ابن حنبل).

فهذه الرواية تبين لنا أن ذلك الجزء من أحداث الإسراء من النوع الجلي الذي لا يحتاج إلى تأويل. ومعنى ذلك أن الإسراء كان كشفا، ولو كان بالجسد ورؤية العين البصرية ما اختلط الأمر على الرسول (صلى الله عليه وسلم) وما اشتبه عندما أخذ يصفه للكفار، مع أنه لم يمض على عودته من هناك سوى مدة وجيزة.

ورُويَ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: رُفعتُ إلى سدرة المنتهَى في السماء السابعة، نَبْتُها مثل قلال هجر؛ وورقها مثل آذان الفيلة، يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان. فقلت: يا جبريل؟ ما هذه؟ قال: أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات (ابن حنبل).

هذا الحديث يدل كغيره على أن المعراج النبوي لم يكن رحله جسدية، والسبب واضح كل الموضوح. فهل غير الله الموقع الجغرافي لأنهار المنطقة، وجعل النيل والفرات ينبعان أو يصبان في أصل شجرة النبق ولا تدري بذلك الشعوب العديدة التي تسكن حولهما؟

أرأيتم أن فهم الحادثة على أنها من أعمال الجسد العنصري يجعل منها مجموعة من الخزعبلات والعياذ بالله. ولو سلمنا بأن هذه الأحداث إنما أمور رمزية مجازية، فما معنى أن يكون الجسد قد انتقل إلى هذا المكان الرمزي، وما معقولية هذا الفعل، وما مغزاه؟

مغــزى المعــراج

الواقع أن هذا الكشف الروحاني العظيم يتضمن الإشارة الإعجازية إلى ما سيقابل الإسلام من الانتشار خارج الجزيرة العربية، وسيبدأ ذلك في المنطقة بين نهري الفرات والنيل. وأن ازدهار الأمة الإسلامية ورفعة شأنها سيكون على يد هذه الشعوب، وأن الخير الخلقي والروحاني سوف يعم أهل المنطقة وهو نابع من ظلال الدوحة الروحانية العظيمة التي ارتقى إليها نبي هذه الأمة العظيم (صلى الله عليه وسلم) ويربطهم بالفلاح الأخروي والازدهار الدنيوي.

إن إدراك أحداث المعراج إدراكا صحيحا يمكننا من تصور عظمة المعراج وحكمته ومغزاه ومراميه القريبة والبعيدة، وكل ذلك يصعب على من يظنون أن المعراج أو الإسراء كان رحلة بالجسد المادي؛ فضلا عما يثيره ذلك من اعتراضات يتعذر الإجابة عليها..

فمثلا يقال لأصحاب نظرية الرحلة الجسدية المادية: هل كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) بحاجة إلى رؤية النيل والفرات ليتحقق من آيات ربه الكبرى؟ أليس الأجدر بذلك جماعة من الكفار.. إذ أن إيمان الرسول (صلى الله عليه وسلم ) ما كان يشوبه أي نقص أو ضعف.. وما قيمة أن يرى المصطفي (صلى الله عليه وسلم) سدرة المنتهى على صورة تخالف شجر النبق المألوف من حيث ضخامة الثمار وكبر الأوراق؟

مغزى سدرة المنتهى

إن الإجابة على كثير من التساؤلات التي من هذا القبيل لا تتأتى إلا إذا لجأنا إلى التأويل وسلمنا بأن سدرة المنتهى ليست نباتا دنيويا ماديا وإنما هي رمز إلى أمور أخرى روحانية.

ولفظة سدرة مشتقة من (سدر). يقال سدر الشعر أي سدله، وسدر الثوب أي أرسله طولا، وسدر الرجل أي تخير، والسدر شجر النبق، والسدر البحر.
والمقصود من تجلي رب العزة تبارك وتعالى للمصطفى (صلى الله عليه وسلم) عند سدرة المنتهى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قريب إلى الله تعالى قربا يعجز الإنسان عن تصوره، أو يعني أن الوحي الإلهي للرسول (صلى الله عليه وسلم) بحر لا ساحل له يذخر بالمعارف والحقائق الإلهية، أو أن المعارف والعلوم الإلهية التي كشفت للرسول (صلى الله عليه وسلم) هي كالدوحة العظيمة التي يستظل الإنسان بظلها فتحميه من شدة الحر؛ وينشد سالك الطريق الروحانية في جانبها الراحة ويطرح عن أطراف جسمه التعب والعناء.

كما أن من خصائص أوراق السدرة أنها تُستعمل في تحنيط جثة الميت للمحافظة عليها من الفساد، فالمعنى أن التعاليم التي جاء بها المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من وحي الله تعالى لا يتطرق إليها الضياع أو النسيان أو التلاعب في نصوصها لأنها في حفاظة الله تعالى مصونة من التحريف.. ومن ثم فهي بدورها تحفظ المتمسك بها من الفساد الخلقي والانحطاط الروحاني؛ وهى صالحة لذلك على مر العصور.

كما أن (سدرة المنتهى) تتضمن إشارة غيبية إلى صلح الحديبية الذي انتهى به الصراع الشديد بين المصطفى (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين من جانب، وبين قريش من جانب آخر.

إن (سدرة المنتهى) التي ترمز إلى ما تفضل الله تعالى به على المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وأمته من تعاليم وإرشادات وحكم وشريعة إنما هي الطريق إلى الجنة.. جنة الدنيا من فلاح وازدهار وسعادة وارتقاء، وجنة الآخرة التي يعجز اللسان والبيان والتصور عن وصف ما أعده الله تعالى فيها من أسباب النعيم والسعادة. وكلما ازداد المؤمنون استمساكا وعملا بشريعة الله تعالى ازدادت حياتهم جمالا وكمالا ووجدوا من الله تعالى تغيرات وترقيات تجل عن الوصف.

وتقرر الآيتان:

ٍ{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم:18-19)

أن الكشف كان كشفا جليا، لم تكل بصيرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ولم تخطيء ولم تنحرف عن رؤيته. لقد كان كشفا يتضمن آيات ربانية عظيمة، بل هي العظمى بين الآيات.. لأنها تكشف له وللناس جميعا عن حقيقة محمد ورسالته؛ ومنزلته عند الله تعالى؛ ومكانة شريعته وكتابه بين الشرائع والكتب، ومستقبل دعوته ومصير أمته.

آيات سيشهدها الناس؛ ويراها الأعداء قبل الأتباع.. سيرى الجميع صدق رؤياه. وتبين لهم كماله الخلقي.. كمال تشريعاته.. كمال أتباعه.. فوزه والمعاصي التي تقع من بعض المنتسبين إلى أمته، العلاج الرباني لكل الشرور بإقامة الصلاة التي وإن قل عدد مراتها فإنها مباركة الأثر في ترقية أمة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وصيانتهم من الزلل إن واظبوا عليها، وجعلوا منها صلة مستمرة مع رب العزة تبارك وتعالى..

نعم هذه هي الآيات الكبرى والدلائل العظمى على أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) له حديث وشأن مع الله تعالى.. لا يضاهيه فيهما إنس ولا جان.

تعبير لأحداث أخرى

هكذا الحال أيضا بالنسبة للأحاديث العديدة الخاصة بوصف الإسراء والمعراج علينا أن نفهم حقيقتها ومعانيها على ما يوافق تعبير الرؤيا..

فمثلا قد تعني رؤية بيت حصول الرائي على العز والفلاح؛ وتعني الدابة (أي البراق) أن الراكب سينال مرتبة عالية بعد سفره، ويعني الصعود إلى السماء الأولى أن حياة الرائي تمتد إلى الشيخوخة وأرذل العمر، وبلوغ السماء الثانية يرمز إلى أن الرائي يكون عالما حكيما، وتعني السماء الثالثة العزة والإقبال في الحياة الدنيا. وتعني السماء الرابعة قرب السلطان والحصول على السُلطة؛ وتعني السماء الخامسة الفزع والاضطراب والمخالفة والحرب، وتعني السماء السادسة حصول الرائي على الجاه العريض والسعادة الدائمة؛ ويرمز بلوغ السماء السابعة أن الرائي يبلغ درجة عالية من القدر والمنزلة الرفيعة بحيث لا يدانيه أحد. وعلى العموم فإن فتح أبواب السماء يدل على قبول ا لدعاء والبركة والخير.

وقد تحققت فعلا كل هذه الأمور والأنباء للرسول (صلى الله عليه وسلم).
أما المشاهد الأخرى فهي لا تحتاج إلى تأويل، إذ أنها تصور بعض الخطايا التي سوف يقع فيها الضعفاء من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم)، أو التي يقع فيها معارضوه فعلا، أو التي ستقع من أعداء أمته في المستقبل.
وقد عُرضت المشاهد بطريقة رائعة تبين مدى ما تمثله هذه الخطايا من قبح في سلوك الإنسان، ومدى ما ينتظر مرتكبها من عقوبة دنيوية إذ ينفر منهم ذوو الطباع السليمة؛ ومدى ما يستحقونه من عقاب أخروي بسبب استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير.

الإســـراء رؤيا

وفيما يتعلق بالإسراء.. فقد سماه القرآن المجيد في نفس سورة الإسراء (الرؤيا) حيث قال:

{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء:61)
وإذا ادعى بعض المفسرين أن (رؤيا) تعني أيضا رؤية العين فان القرآن المجيد استعملها بمعنى الكشف في مواضع عدة:

{لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} (يوسف:6)

{وَقَالَ يَآ أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (يوسف:101)

{وَنَادَيْنَاهُ أَن يَآ إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (الصافات:105)

وجاء في لسان العرب وأقرب الموارد: الرؤيا ما رأيته في منامك. وفي مجمع البحار: الرؤيا ما رأيته في المنام. وقد ذهب بعض الصحابة رضى الله عنهم وعلماء الحديث إلى أن الإسراء كان كشفا ورؤيا فقط لا رؤية عين. وقد رَوَى ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية إذ سُئِلَ عن مسرَى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (كانت رؤيا من الله صادقة) (المنثور ج 4).

ورَوَى ابن إسحاق قال: حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: (ما فُقد جسد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكن الله أسرَى بروحه) (التفسير الكبير).

أما كون هذه الرؤيا فتنة فقال ابن إسحاق: قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن إسلامه لذلك – أي الإسراء:

{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (سيرة ابن هشام ج 1).

ويقول البعض: لو كان الإسراء روحيا لما اعترض كفار قريش الذين حكى لهم الرسول (صلى الله عليه وسلم)؟ ولكن فات هؤلاء الظروفُ التي حكى فيها المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وطبيعةُ الكشف. إن ما رآه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) كما ذكرنا من قبل ليس من قبيل الرؤيا المنامية التي يراها النائم.. وما كان له ليحكي ما يراه في منامه، وإنما ما رآه النبي (صلى الله عليه وسلم) كان كشفا رآه وهو كامل الحواس.. لأنه وحي إلهي.. فهو أقوى في حقيقته مما يقع لغيره من الناس. كل ما في الأمر أنه لا تصحبه حركة مادية؛ وأن مشاهده رمزية تستلزم التعبير والتأويل.

ثم إن أم هاني رضي الله عنها.. وهي المرأة المؤمنة الحصيفة.. فهمت ما قاله الرسول (صلى الله عليه وسلم)؛ ولم تجد فيه ما يدهشها. لكنها كانت تعرف عقلية كفار مكة وتلمُّسهم الأسباب للتهكم والسخرية، لذلك لما عزم على الخروج أمسكت بردائه، وقالت له تحذره من أن يحكي لهم رؤياه، لأنهم لن يدركوا مغزَى ما رأى، وسيتخذونه مادة للاستهزاء: “يا نبي الله! لا تحدث الناس -أي الكفار المعارضين، بهذا الحديث فيكذبوك ويؤذوك قال: والله لأحدثنهم”.

وبينما المصطفى (صلى الله عليه وسلم) عند الكعبة.. يمر به عدو الله أبو جهل فيسأله في سخرية هل من نبأ جديد؟

والآن لنتسائل فيما بيننا.. ما هي الأنباء التي كان يرويها الرسول (صلى الله عليه وسلم) للناس ويتوقع سماعه أبو جهل؟! كانت أنباء الأمم السابقة وما حل بهم من عقاب إذا خالفوا أنبياءهم، وأنباء مستقبل الإسلام الباهر وما يحيق بأعدائه من عقاب.

وها هو الرسول (صلى الله عليه وسلم) يروي لهذا الساخر المستهزئ ما أراه له الله تعالى.. بلهجة الواثق مما رأى.. المطمئِن لوعد الله تعالى.. يروي بأسلوب من يحكي الأمر الواقع.. وحي الله تعالى: فقال (صلى الله عليه وسلم): نعم، أسريَ بي الليلة.. ولم يدعه عدو الله يكمل حديثه؛ بل أسرع يدعو الناس ليكونوا شهودا معه ويشتركوا معه في السخرية والتكذيب من أصدق البشر (صلى الله عليه وسلم) ولكنه لم يكن حلما، ولو قال ذلك -حاشا له أن يتهرب من الحق- لزادت سخريتهم وتمادوا في تهكمهم. إنه (صلى الله عليه وسلم) يحكي ما رآه حقيقة وصدقا.. وهم لا يدركون تجربة الرؤيا التي يريها الله لعباده.. ويكشف لهم فيها كثيرا من عجائب آياته.

فلا بد وأن يروي لهم الكشف الذي رآه.. وليكذبه من يكذب.. فهذا دأبهم يكذبونه منذ أن قال لهم إنه رسول أمين من رب العالمين.. وليرتد ذوو الإيمان الضعيف الذين جمعوا بين الوهن وسوء الإدراك. أما المؤمنون.. من أمثال الصديق ومن على شاكلته وما أقلهم.. فقد أدركوا وصدقوا واطمأنوا إلى ما تحمله رؤيا رسولهم الكريم من خير عظيم.. تحقق بعد شهور قليلة.. وما انفك يتحقق حتى يومنا هذا.

نعم يا رسول الله، ما كان لك أن تخاف دهشة أبي جهل وأضرابه، فتجعل من الكشف الصادق والرؤيا الحقة حلما يراه النائمون منهم.. ولكنك رويت.. وكان حقا أنك رأيت.. وكان حقا تأويل ما رأيت.. ولقد أسرعت السماء لتكمل لك صدق رؤياك.. وتكرر لك مشهدا لم تركز عليه انتباهك.. وأنت منهمك في صلاتك ولقاء إخوانك.. فمن ينظر إلى الجدران ويذكرها وأمامه هذه المتعة الروحية العظمى..

نعم أسرعت السماء لتكشف لك ما سبق أن كشفته لك منذ ساعات قلائل.. ولتنبه أولئك الذين يظنون أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد ذهب بجسمه ورأى بعين بدنه بيت المقدس.. ثم تختلط عليه الصور المادية بعد فترة وجيزة لأمر بعيد الاحتمال. هذا، وإنّ طَلَبَ المعارضين من المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أن يصف لهم بيت المقدس لأمر يدل على الغباء.. لأن الرحلة تمت في الليل.. ولا يتوقع من زائر الليل لفترة قصيرة أن يلاحظ مثل هذه الأمور.. فكان وصفه لها دليلاً آخر على أن ما رآه كان في حالة الكشف الصادق.. سواء فيما رآه النبي (صلى الله عليه وسلم) ليلا؛ أو رآه أثناء حكايته لأحداث الرحلة.

كما أن وصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لِمَا شاهده من القافلة والعير ليس من الأمور التي يراها الإنسان ليلا وهو يمضى بسرعة البرق.. ولكن هذه التفاصيل الدقيقة تدل على أنه رآها فعلا في عالم الكشف.. وأن ما سمعه أصحاب البعير الضال، أو أصحاب الماء المشروب، هو أيضا على سبيل الكشف وإن لم يدركوه.

وجدير بالملاحظة أن جبريل لم يمنع الرسول (صلى الله عليه وسلم) من شرب مائهم مع أنه أخبره أنه لو شرب الماء لغرق وغرقت أمته، كما أن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ما كان ليشرب من ماء أو يكشف إناء دون أن يستأذن من أصحابه.

ولقد جاء قدرٌ من كشف الإسراء من القسم الذي تُرى فيه الأمور كما هي في دنيا الواقع.. وهو ما رواه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من مروره بعير بأحد الوديان ودلهم على جمل ضل، ومثل هذا القدر لا يحتاج إلى تأويل، وقد جعله الله تعالى برهانا فوريا على صدق رؤيا المصطفى (صلى الله عليه وسلم) .

أنباء في هذا الكشف

أما المقصد الرئيسي من هذا الكشف والغرض منه فأمر عظيم. فقد أراد الله تعالى أن يخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ويريه المخرج القريب من تكذيب قريش ومعارضتها وتعذيبها لأتباعه من المؤمنين.. وذلك بهجرته (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة المنورة؛ وما يتعلق بهذا الانتقال من ظفر وانتصار للإسلام.

والمراد من رؤية بيت المقدس هو المسجد النبوي الشريف الذي بناه في المدينة المنورة.. التي بارك الله فيها وما حولها، وأعطاها من المجد والسلطان والعلو في الدنيا والآخرة أكثر من بيت المقدس، ولقد رفع مسجده فيها على كل مساجد الأرض غير المسجد الحرام.
أما لقاؤه الأنبياء وصلاتهم جميعا خلفه فتعبيره أن شريعته ودينه ينسخان كل ما سبق من شرائع الأنبياء؛ وأنه سيكون رسولا وهاديا ومبشرا ونذيرا لكل أمم الدنيا؛ وفيه إشارة إلى أن دعوته تنتشر في أطراف الأرض من أقصاها؛ وأن هجرته إلى مهجره ستكون سببا ومفتاحا لذلك. وفيه النبأ بأنه (صلى الله عليه وسلم) سيملك بيت المقدس وسيكون سيد ملوكها وعلمائها وأهلها أجمعين..

ولو اطلعنا على ما كتبه صاحب “تعطير الأنام” لوجدنا أن تأويل كشف الإسراء يتفق وما ذكرناه، فقد ورد فيه: (تدل رؤية كل مسجد على جهته والتوجه إليها كالمسجد الأقصى والمسجد الحرام ومسجد دمشق ومسجد مصر وما شاكل ذلك. وربما دلت على علماء جهاتهم أو ملوكهم أو نواب ملوكهم).

أنباء تحققت بالهجرة

ومن المناسب أن نطبق هذا التعبير في واقعة الهجرة ونتائجها على الآيات والواقعات:
لقد بدأ الله تعالى قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى}. وقوله {سُبْحَانَ} يُبيّن أن الإسراء ليس إلا رؤيا تتضمن نبأ عن أمر يكون في المستقبل ويظهر سبوحية الله عز وجل. وطبعا لا تثبت سبوحية الله بمجرد إسراء الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى بيت المقدس، ولكنها تتجلى في الهجرة بصورة أعلى وأجلى.. إذ يتم هذا النبأ بواقعة الهجرة وكونها مدعاة لإتمام الأنباء القرآنية الأخرى، من جهاد وقتال وفوز ونجاح للإسلام، ودخول الناس في دين الله، وقيام حكومة ودولة إسلامية، وتأسيس مدنية دينية، واكتساح للشرك من جزيرة العرب.. فحصول كل هذه الأمور يدل على كون الله تعالى (سبوحا). وليس ثمة عاقل يداخله شك في أن أساس الفتوحات الإسلامية كلها هو الهجرة النبوية الكريمة.

أننا لو أمعنا النظر فيما جرَى ليلة الهجرة لتبين لنا أن الله حقا سبوح منزه من كل نقص وعيب؛ ينصر عباده المخلصين. فرغم ما دبره المشركون لقتله (صلى الله عليه وسلم) من حصار لبيته؛ فلقد نبه الله تعالى رسوله إلى الخطر المحدق به، وسهل له الطريق دون معرفة أعدائه، وأعمى عيونهم عنه، بل وحمَى عليًّا رضي الله عنه إذ عرَّض نفسه لخطر القتل لأيام في فراش النبي (صلى الله عليه وسلم) من أجل محبتة له. ولقد غشَّى الله أبصارهم عندما وصلوا إلى الغار، فلم يتمكنوا من رؤية الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه، مع أنهما كانا على قيد شبر منهم. أليست هذه من آيات الله الكبرى؟ أليس الله الذي أجرَى ذلك كله سبوحا؟ أليس لسان حالنا دائما يقول: سبحان الله رب العالمين!

أما قوله (ليلا) فمن المعروف أن المصطفى هاجر ليلا من مكة إلى المدينة، لقد كان جبريل مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في الإسراء، وكذلك كان أبو بكر رضي الله عنه مع المصطفى في هجرته، وهذا إشارة إلى رفعة شأن أبي بكر عند الله تعالى إذ أقامه مقام جبريل (عليه السلام) .. كصاحب ومعين للرسول (صلى الله عليه وسلم) .

وما يجب ذكره أن موسى (عليه السلام) في رؤياه تلقى وحيا يشبه ما قاله الله تعالى عن إسراء الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد قيل:

{ فَلَمَا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل:9)

وقيل في الإسراء:

{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}

فكما بارك الله لموسى في الأرض التي ستكون فيها شريعته، بارك لمحمد (صلى الله عليه وسلم) في الأرض التي تقوم فيها شريعته.. وكلا الأمرين مصداق لسبوحية الله تعالى.
فبيت المقدس كان مركزا وسببا لتأسيس حكومة إسرائيل وقيام الشريعة الإسرائيلية، كذلك كانت المدينة المنورة والمسجد النبوي مركز الحكومة المحمدية ومهبط الشريعة الإسلامية التي أقامت دولة بني إسماعيل في العالم؛ لذلك نعتها الله.. أي المدينة المنورة.. بالمسجد الأقصى من حيث القدسية والبركة.

ولقد تم النبأ الإلهي {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} في حق المسجد النبوي والمدينة المنورة، إذ أن الله باركها. فقد بارك المدينة المنورة وما حولها، وجعلها حرما بفضل دعاء نبيها (صلى الله عليه وسلم) إذ قال: (إن إبراهيم حرَّم مكة ودعا لأهلها، وإني حرَّمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لمكة). صحيح مسلم.

ثم قال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا) صحيح البخاري. وقال: (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة). صحيح البخاري.. وقال عن مسجده: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) (صحيح البخاري). وقال أيضا: (أنا آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد -أي أفضلها-) (صحيح البخاري. وهكذا بارك الله في المسجد النبوي ومدينته كما بارك بيت المقدس في زمن بني إسرائيل، بل إنه بارك في المدينة المنورة عاصمة للإمبراطورية الإسلامية فكان الإسلام دائما آخذا في الرقي والانتشار.
ولكن لما غير الخلفاء المسلمون عاصمة الإسلام توقف رقي الإسلام وبدأ في الضعف والاختلال، وظهرت الاختلافات الذاتية والحروب الداخلية ولم تنته حتى يومنا هذا.
ومن مظاهر البركة التي نزلت بالمدينة بهجرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إليها ما رَوته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (كان وباء الحمَّى بالمدينة قبل قدوم النبي (صلى الله عليه وسلم)- قيل في كتب اللغة أن المدينة كانت تسمى يثرب ومعناه البكاء والصراخ لكثرة بكاء أهلها على موتاهم من مرض الحمى – فلما قدم (صلى الله عليه وسلم) إليها زال وباء الحمى بدعائه فسماها المدينة المنورة).

وأما قوله {لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا} فكما سبق أن أشرنا من كثرة الآيات والمعجزات الباهرات والغزوات القاهرة للشرك وأهله التي وقعت بعد الهجرة.. وظهور الإسلام على أعدائه وإعلاء كلمته في جزيرة العرب وغيرها.. أكبر آية من آيات ربه (صلى الله عليه وسلم) ودونها الآيات الأخرى.

ولقد كشف الله كل هذه الآيات باختصار وجمال على طريق المثال في كشف الإسراء.. ولكنه ذكر أن وقوعها في عالم الحقيقة والواقع سوف يتم في المستقبل بالتفصيل والوضوح الذي رآه في الكشف، وسيكون ذلك بطريقة تدفع الدنيا إلى الأقرار بأن الله تعالى (سبوح).. وتحقق له {لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا} ولن يعمَى عن هذه الآيات إلا المعاند أو المتعصب.

والقسم الأخير من آية الإسراء {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أيضا يؤيد رأينا لأن مشاهدة بيت المقدس وحده في اليقظة أو في المنام أو في الكشف، لا يدل على كونه تعالى سميعا بصيرا، وهذا يوجب الاعتراض على أن القرآن يأتي بألفاظ في غير محلها.. ولكن هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهي الدليل الأكبر على أنه تعالى هو السميع البصير.

لقد سمع دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) وتضرعاته هو وأصحابه لخلاصهم من كيد الكفار وظلمهم، ولإعلاء كلمة الله وانتشار الإسلام.. ففتح لذلك باب الهجرة، وجعلها أساسا وأكبر ذريعة لنشر رسالة التوحيد والحضارة الإسلامية، وسمع أيضا دعاء أبيه إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) من قبل إذ قال:

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} (البقرة:129)

إن الهجرة هي التي يسرت للرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يتلو على أتباعه آيات الله تعالى، ويزكي المؤمنين، ويعلمهم الكتاب والحكمة بحرية تامة. وهو -جل وعلا- بصير لأنه حمَى الإسلام والنبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين.. في المدينة وفي كل المواقع.. وحفظهم من مكائد الكفار في كل موطن، وهو حافظ ومازال حافظا للإسلام والقرآن. وكل هذا هو الدليل على أنه بصير يحيط بصره بكل شيء. فليعلم الذين لا يؤمنون بالحق حتى وبعد ظهور الآيات الكبرى، وليعلم المنافقون والضعفاء في الإيمان بأنه سوف يجازيهم حسب آثامهم ويحاسبهم حسابا شديدا.

والمسجد الأقصَى يشير أيضا إلى بيت المقدس نفسها، وتأويل ذهاب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إلى هناك يحمل نبأ غيبيا بأنه (صلى الله عليه وسلم) سيملك تلك البلاد، وسوف تكون من مراكز الإسلام الهامة.

ولقد تحقق هذا النبأ بعد سنوات معدودة.. وعلى يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل الإسلام بيت المقدس ومكث في أيديهم ثلاثة عشر قرنا. ورغم أنها ذهبت اليوم إلى أيدي النصارى واليهود.. إلا أن ذلك قد تم حسب نبأ أنبأه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) .. ولسوف تعود هذه البلاد المقدسة إلى أيدي المسلمين، إن عاجلا أو آجلا حسب نبوءته (صلى الله عليه وسلم) .

وإذا أخذنا بتعبير رؤية المسجد، وهو علماء البلاد التي بها المسجد، فقد تحقق ذلك أيضا لأن بيت المقدس كانت مركزا عظيما لعلماء المسلمين ومحققيه. خرج منها الكثيرون من مشاهير الإسلام ومحدثيه.

هذا وإن إسراء الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى المسجد الأقصى يشير أيضا إلى أنه عندما تضعف شوكة الإسلام، وتغطي الأرض ظلمة الهجران لكتاب الله ودينه وشرعه، وعندما يلقي المسلمون بأنفسهم تحت سيطرة الغرب الصليبي.. تسري بركات المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إلى رجل من أمته.. هناك في أقصى بلاد الإسلام، ليكون مسجده مركزا لبركات العلم المحمدي، ومنارة لإشاعة الإسلام الصحيح، فينير العالم بفيوض الإسلام والقرآن، ليفيق المسلمون من غفلتهم ويرجعوا إلى الدين الصحيح، ويحوزوا نفس البركات والأنوار والمجد والحياة التي أعطيت لأتباع أنبياء بني إسرائيل؛ والتي أعطيت للمهاجرين والأنصار. وهناك يتحقق قول الله تعالى:
{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتُلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الجمعة:3)

وسوف تبدو عزة الله تعالى وحكمته في إحياء الإسلام وتجديده ببركة محمد صلى الله عليه وسلم في بعثته الثانية وعلى يد الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام.

About الخليفة الثاني للمسيح الموعود المصلح الموعود مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه

View all posts by الخليفة الثاني للمسيح الموعود المصلح الموعود مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه