يقول الله تعالى في القرآن الكريم:

فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ (النساء: 70)

عندما يتقدَّم المؤمنون يدخلون جماعة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. فمن هذه الآية تتبيَّن أربع درجات لتقدُّم الإنسان. أولا: الصلحاء، ومَثلهم كمَثل رعية صالحة وخادمة مخلصة للملك الذين يرضى بهم الملك بسبب طاعتهم له ويفكِّر في إراحتهم وإسعادهم. فمعنى الصالح في اللغة مَن يؤدي واجباته كلها. والدرجة الثانية لتقدُّم الإنسان هو الشهيد الذي معناه الحاضر والشاهد الصادق. الشاهد الصادق يُسمّى شهيدًا لأن الشهادة الصادقة تقتضي حضور الشاهد مقام الحادث. والشاهد الصادق مَن لا يشهد بناء على ما سمعه من هنا وهناك. فقد أشار الله تعالى في كلمة “الشهيد” إلى جماعة من الناس الذين يُدعون “الحاشية” في البلاطات الدنيوية. والمراد من ذلك أن الإنسان عندما يُبدي كمال الإخلاص في أداء حقوق الله وحقوق العباد يُدخَل في الشهداء أي الحاضرين على عتبات الله فينال معرفة الله كأنه يراه بأم عينيه في كل حين وآن. والمعلوم أن الحاضر يسمع الكلام أيضا لذا يكون الشهيد محدَّثًا أيضًا أي يكلِّمه الله تعالى. فكان سيدنا عمر ؓ محدَّثًا وقد صنّفه الله تعالى في الشهداء بل أكرمه بشهادة ظاهرية أيضًا. فالمراد من الشهداءِ الحاضرون عند الله دائمًا، أي يُطالعون جلال الله وعظمته بأعين قلوبهم دائمًا ويتقرَّبون إليه وترتفع درجتهم من الصالحين العاديين لأن الناس العاديين من الرعية يحضرون البلاط الملكي أحيانا ولكن هؤلاء الناس يبقون في بلاط الله دائمًا. ولأن هؤلاء الناس لا ينالون العلم بالكسب بل ينالونه من الله تعالى لذا يكون علمهم صائبًا تمامًا. ولأن كل ما يُبيِّنونه عن الله تعالى وعن دينه ينالونه نتيجة فيض من الله لذا يكون صحيحًا وصائبًا تمامًا وتكون الدقائق التي لا تبلغها عقول الناس أمورًا عادية جدًا عندهم، ويُعطَون نظرًا دقيقًا. ولأن بيانهم يكون صادقًا تمامًا لذا يُسمَّون “شهيدًا” ويعني الشاهد الصادق أيضا. والذي يُضحي بحياته في سبيل الله يُسمَّى شهيدًا لأنه بالتضحية بحياته يُثبت صدق شهادته بأن ما كان يدّعيه في إيمانه وما كان يبيّنه عنه كان صادقًا فيه ولم يكن كاذبًا. إذًا، الإنسان يتقدَّم على مرتبة الصالح وينال مرتبة الشهيد. وهذه المرتبة هي مرتبة المحدَّثية. وعندما يبلغ الإنسان هذه الدرجة ويطيع أكثر يُصبح أحب وأقرب إلى الله أكثر من ذي قبل ويُعطى مرتبة خاصة من بين الشهداء أيضًا ويُصبح من عباد الله الذين ينظر الله إليهم برحمة خاصة منه ويجري الحقُّ على لسانهم كالأنبياء. ويحقق الله تعالى ما يجري على لسانهم. كذلك يصبح هؤلاء الناس صديقين أي يبلغون الكمال في الصدق ويُسمَّون صديقين لأن بصرهم يكون أكثر حدة من الشهداء نتيجة ازدياد معرفتهم، ولا يبلغ علم الشهداء مبلغ صدق بيانهم عن الله تعالى، والحقائق الدقيقة التي يبيّنونها لا يمكن أن يبيّنها الشهداء.

لقد ورد في الأحاديث أنه عندما قربت وفاة رسول الله جاء إلى المسجد وخطَبَ النَّاسَ وَقَالَ إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللهِ، قَالَ: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ فما الذي يُبكي أبا بكر؟ ولكن الصدق الذي ناله والحق الذي فهمه أبو بكر لم يدركه عمر ولا غيره من الصحابة y. الحق أن سيد الكونين أخبر في ذلك عن قرب وفاته فلم يتمالك بسماعه قلبُ صادقِ القول (أبي بكر) نفسه الذي شهد على قوله بعمله والذي كان يُطالع بكل إمعان كل قول من أقوال هاديه وكل عمل من أعماله وكأنه كان قد أفنى وجوده في النبي .

باختصار، إن الصدِّيق يفوق الشهيد ويؤيد أعمالَه بأقواله، وتماثل طبيعته طبيعة الأنبياء وتشبه أعماله أعمال الأنبياء ولكنه يُمنع من نيل درجة النبوة نتيجة نقص ما وإلا يكون بالغًا درجة يكاد يكون نبيًّا بل يكون حائزًا على النبوة الجزئية ويُكلّفه الله تعالى بتجديد الدين. فقد قام أبو بكر أيضًا الذي كان صديقا بمهمة تجديد الدين إذ ارتدت جزيرة العرب بعد وفاة النبي ولكنهم اهتدَوا نتيجة مساعي أبي بكر ؓ الجميلة وبذلك قد جدّد الدين نوعًا ما وإن كان هناك فرقٌ إلى حد ما أن النبي أسس جماعة جديدة أما أبو بكر فقد أصلح جماعة فاسدة. فالصدِّيق هو الذي يثبُت على الصدق أكثر من الشهيد ويُبدي صدقًا إلى درجة أن يستحق فيها سماع كلام الله تعالى. فيُنـزل الله تعالى على شخص مثله كلامَه كالمطر، وهذه هي الدرجة الأخيرة للمحدَّث. ولقد نال هذه الدرجة مئات بل آلاف الناس في الأمة المحمدية. فهؤلاء الناس أيضًا حائزون على نصيب خاص من حيث سماع كلام الله تعالى ولكن لا يحظون بكثرة منه تؤهلهم لبلوغ مرتبة النبوّة. وفوق هذه الدرجة هناك درجة النبي أو الرسول التي بيّنها الله تعالى في نهاية الآية المذكورة آنفًا. إنهم أناس كأصحاب أسرار الملوك، وبواسطتهم يُظهر الله تعالى غيبه على العالم. لذلك يقول الله تعالى:

فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ (الجن: 26-27)


من كتاب حقيقة النبوة

About الخليفة الثاني للمسيح الموعود المصلح الموعود مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه

View all posts by الخليفة الثاني للمسيح الموعود المصلح الموعود مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه

One Comment on “في تفسير آية “فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين””

Comments are closed.