يقول حضرة الخليفة الرابع (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) رداً على استدلال بعض المشايخ ببعض التفاسير نقلاً عن الإسرائيليات محاولين بذلك إثبات قتل المرتد :

” التوراة تقول بأن جميع بني إسرائيل كانوا آثمين، وأن أول الآثمين الذي حضّ على ارتكاب هذا الإثم هو هارون.. وليس السامري. ولما زجَر موسى هارون (عَلَيهِما السَلام) على هذا الشرك (والعياذ بالله).. ردَّ عليه بأنني كنت مضطرا لذلك، فإن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. فرواية التوراة تقرر أن بني إسرائيل تغلبوا على هارون، واضطروه للاشتراك معهم في الجريمة. فلجأ إلى حيلةٍ بأن جَمَعَ حُلِيهم، وألقاها في النار وصنع منها العجل. وعندئذ، كما تقول التوراة، قام موسى بهذا الإجراء العادل المنصف، (والعياذ بالله).. فدعا بني لاوي.. وهم عشيرته، قائلا: إن كنتم صادقين في وفائكم وولائكم لي، فتعالوا لنُصرتي. مع أنهم كانوا أول المجرمين، وأصحاب أكبر دور في الجريمة.. وأمَرَهم بقتل الآثمين. وهكذا قُتِل من القوم ثلاثة آلاف في ذلك اليوم. ( سفر الخروج 32:2 إلى 28).

هذا هو (الدليل العثماني [نسبة للمولوي العثماني]) الذي يقدِّمونه في زعمهم.. كدليلٍ قرآني على جواز قتل المرتدين، على الرغم من أن القرآن الكريم يرفضه رفضا صريحا، لدرجة أن من كان في قلبه مثقال ذرة من تقوى الله وخشيته.. لن يجترئ بعده أن يجيز بهذه الآية قتل المرتدين. ذلك أن السامري الذي كان صاحب فكرة هذا الظلم العظيم، والذي تَولَّى كِبْرَه حسب النص القرآني.. لم يُقتَل، بل قيل له: [فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ..] (طه 98). بمعنى أننا سنعزلك ونقاطعك مقاطعة اجتماعية، أو أنك ستصاب بمرض يُفسد بدنك، فيكرهك الناس وينفرون منك، أو أنك بنفسك تقول: لا تقربوا مني ولا تمسُّوني، بل ابتعدوا عني لأني نجس. وهكذا لم يرد في القرآن الكريم أي ذكر لقتله.

… أقول : حتى إذا افترضنا أن كل الأديان الموجودة في زمن الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) كانت تأمر بمعاقبة المرتدين، فاعلموا أن الزمن قد تغير الآن، والوضع قد انقلب تماما.. فاليوم بدأ اليهود أيضاً يعارضون فكرة قتل المرتدين، ويقولون إن ذلك ظلم عظيم، وإهانة شديدة للإنسانية، ووصمة عار على جبين الدين. كما أن المسيحيين أيضا أخذوا يعلنون بأن ما فعلناه في ماضينا الأسود.. من قتل فئات من المسيحيين بحجة الارتداد، فقد كان ذلك منا جهالة منكرة وظلما عظيما.. نحن نادمون جدا على ذلك التاريخ، ورؤوسنا تنحني خجلا عندما نقرأ تاريخ المظالم والعنف الديني الذي مارسناه في أسبانيا، وإن جبيننا ليتصبب عرقاً عندما نتصفح تاريخ القمع والتعذيب الذي مارسناه بحجة الارتداد في انجلترا.

فكلهم قد تابوا اليوم.. لقد تاب البُوذيون، وتاب الجَينيّون، وتاب المشركون الأرواحيُّون أيضا.. نعم، لقد تاب الهنادك العابدون للوثن (مَنُوسَمَرتي)، والذين كانوا بالأمس القريب يأمرون بتعذيب المرتدين أشد العذاب.. إذ كانوا يصبون الرصاص المغلي في أُذن (الشودر [وهي أحط الطبقات الأربع في الدين الهندوكي]) الذي يتجرأ على سماع كتابهم الديني. قد تاب هؤلاء أيضا عن هذا الاعتقاد الآن.

فما بال الوضع قد انقلب تماما ؟ وما هذه المفاجأة المؤلمة.. فلا ترى اليوم أحدا يطالب بقتل المرتدين إلا الذين ينتمون إلى سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ! ؟ فهل يمكن أن يُتصور مشهد مأساوي أشد من هذا ؟ !

إن للجهل حدودا، ولكنهم تجاوزوا كل حدود الجهل والحمق والسفاهة، وحالتهم عندما تثير عواطفي بشدة، يتملكني غضب شديد، ومن جهة أخرى يصيبني حزن عميق وألم شديد، ومن جهة ثالثة أضحك على جهلهم متسائلا: ماذا أصابهم حتى أفقدهم الوعي.. فلا يشعرون ماذا يفعلون.. وأنى يؤفكون.. وكيف يعتدون على دين الله الإسلام.. ويظلمون سيدنا خير الأنام محمدًا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم).. وكيف يشوهون دينه أمام العالم. ويحضرني برؤية حالتهم هذه طريفة حدثت بانجلترا : كان هناك نادٍ للعراة.. (وهي بدعة شائعة في هذه الأيام، حيث يجتمع أعضاء هذه النوادي عراةً تماماً).. وفي يوم من الأيام دعا هؤلاء العراة أستاذاً من جامعة (أكسفورد) ليقضي يوما في صحبتهم. فحضر الأستاذ إلى النادي مرتديا لباسا جميلا. وعندما اجتمع معهم على مائدة الغداء وجد جميع الحاضرين الجالسين حول المائدة عراةً، وكان هو المسكين الوحيد من بينهم الذي يرتدي لباسا.

وكان من ضمن البرنامج أن يُلقي الأستاذ خطابا في المساء. فقال في نفسه : لا يليق بي هذا الشذوذ ! يجب أن أفعل في روما كما يفعل الرومان.. أي حرج لو تعريت أنا أيضا اليوم، فلن يراني إلا العراة !

وأما هؤلاء العراة فهم أيضا فكروا وتشاوروا بأن الرجل على أية حال ضيف علينا.. فأي بأس لو أرتدينا الثياب ليوم واحد تكريما واحتراما له.

ولما حان المساء شهدت أرض النادي وسماؤه مشهدا غريبا جدا.. إذ جاء جميع أعضاء النادي وقد ارتدوا الثياب، وكان الأستاذ المسكين هو الوحيد الذي حضر عاريا ! !

فقسماً بالله العظيم، لقد لبس كل عراة التاريخ ثيابهم في عصرنا هذا، ولم يبق أحد عاريا إلا هؤلاء المشائخ والمولويون المتعصبون وحدهم. نعم، تالله، لم يبق أحد عاريا إلا هؤلاء المشائخ والمولويون وحدهم.

… مهما يكن من أمر، فليس موقفنا من القوم إلا كموقف النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم)، ولا أسوة لنا إلا أسوته الحسنة، صدَّق ذلك أحد أم لم يصدق. ولن نزال متمسكين بالسُنّة المحمدية الطاهرة.. طبقا لقوله تعالى :

[فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ] (الغاشية 22-23).

فنحن ما جئنا إلا لنداوي جروح العالم.. ولا شك أننا بتوفيق الله تعالى نسعى جاهدين لتصحيح أخطاء الدنيا وتقويم عِوَجها، بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالبرهان والمحبة.. ولكنا لسنا بمصيطرين. فإذا لم ينتصح أحد فهو حرٌّ مختار.. من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وما علينا إلا البلاغ. “.

( من خطاب لحضرة مرزا طاهر أحمد (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) خليفة المسيح الرابع بتاريخ 27/7/86 بمناسبة الاحتفال السنوي لجماعة بريطانيا)

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد