يعترض بعض المشايخ على حديث النبي ﷺ “اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ” بحجة أن الحديث لا أصل له ولا سند وأن المرسل منه ضعيف لا يعتد به، وفي ما يلي بيان الرد على الاعتراض.

إن القول بعدم وجود سند للحديث أو ضعفه ليس بصحيح ألبتة، فالحديث رواه البيهقي بسند صحيح في السنن الكبرى كما يلي:

أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، أنبأ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ، ثنا أَبُو دَاوُدَ، ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنا سَلامُ بْنُ مِسْكِينٍ، ثنا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ “أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ سَرَّحَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْخَيْلِ، وَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اهْتِفْ بِالأَنْصَارِ، قَالَ: اسْلُكُوا هَذَا الطَّرِيقَ، فَلا يُشْرِفَنَّ لَكُمْ أَحَدٌ إِلا أَنَمْتُمُوهُ، فَنَادَى مُنَادٍ: لا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَخَلَ دَارًا فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَعَمَدَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، فَدَخَلُوا الْكَعْبَةَ فَغُصَّ بِهِمْ وَطَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ، ثُمَّ أَخَذَ بِجَنْبَيِ الْبَابِ، فَخَرَجُوا فَبَايَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلامِ، زَادَ فِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ سَلامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، قَالَ : ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ، فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيِ الْبَابِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ؟ قَالُوا: نَقُولُ: ابْنُ أَخٍ وَابْنُ عَمٍّ حَلِيمٌ رَحِيمٌ؟ قَالَ: وَقَالُوا ذَلِكَ ثَلاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقُولُ كَمَا، قَالَ يُوسُفُ: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ سورة يوسف آية 92″، قَالَ: فَخَرَجُوا كَأَنَّمَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ، فَدَخَلُوا فِي الإِسْلامِ، أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، أنبأ أَبُو سَعِيدٍ الرَّازِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنبأ الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ، فَذَكَرَهُ، وَفِيمَا حَكَى الشَّافِعِيُّ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ: مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ، قَالَ الشَّيْخُ: وَإِنَّمَا أَطْلَقَهُمْ بِالأَمَانِ الأَوَّلِ الَّذِي عَقَدَهُ عَلَى شَرْطِ قَبُولِهِمْ، فَلَمَّا قَبِلُوهُ، قَالَ: أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ، يَعْنِي بِالأَمَانِ الأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.” (16809 السنن الكبرى للبيهقي» كِتَابُ الأَشْرِبَةِ وَالْحَدُّ فِيهَا، بَابُ جَوَازِ انْفِرَادِ الرَّجُلِ وَالرِّجَالِ بِالْغَزْوِ)

● أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ: ثقة.
● أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ: ثقة.
● أَبُو دَاوُدَ: ثقة حافظ.
● مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: ثقة مأمون.
● سَلامُ بْنُ مِسْكِينٍ: ثقة رمي بالقدر.
● ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: ثقة.
● عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الأَنْصَارِيِّ: ثقة.

(انظر: تهذيب الكمال)

فالحديث مروي بسند صحيح ورجاله ثقات.

وهذا يبطل قول المدعي بأن الحديث لا سند له ولا أصل.

الحديث رواه النسائيُّ بسنده أيضاً في (السنن الكبرى 10/ 11234/ الرسالة). كذلك ورد الحديث من طريق ابن هشام والطبري في التاريخ والسيرة وفيه ضعف في الإسناد. هذا عدا عن روايته بطرق أخرى مرسلاً كما في السيرة، وفي هذه يقول ابن تيمية رحمه الله:

والمرسل إذا روي من جهات مختلفة لا سيما ممن له عناية بهذا الأمر ويتبع له كان كالمسند، بل بعض ما يشتهر عند أهل المغازي ويستفيض أقوى مما يروى بالإسناد الواحد.” (الصارم المسلول لابن تيمية الحراني ص: 143)

يقول ابن عبد البر رحمه الله:

هذا الحديث لا أعلمه يتصل من وجه صحيح وهو حديث مشهور معلوم عند أهل السير وابن شهاب إمام أهل السير وعالمهم وكذلك الشعبي وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده إن شاء الله.” (التمهيد لأبي عمر ابن عبد البر، رد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم صفوان إلى امرأته بالنكاح الأول 12/ 19)

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:

وعند بن إسحاق بإسناد حسن عن صفية بنت شيبة قالت لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتح له فدخلها ثم وقف على باب الكعبة فخطب قال بن إسحاق وحدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فذكر الحديث وفيه ثم قال يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم قالوا خيرا أخ كريم وبن أخ كريم قال اذهبوا فانتم الطلقاء ثم جلس فقام علي فقال أجمع لنا الحجابة والسقاية فذكره“. (فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 8/18)

وَالْمُرَادُ بِالطُّلَقَاءِ جَمْعُ طَلِيقٍ مَنْ حَصَلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنُّ عَلَيْهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعُهُمْ.” أهـ

إضافة لما سبق فإن الحديث تدعمه الآيات الدالة على الفعل كما في قوله تعالى:

{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران:134

أي: يحب اللهُ من كان بهذه الصفة من العفو عن الناس.

فهل النبي ﷺ والعياذ بالله لم يكن ممن يتصفون بما يحبه الله من العفو والإحسان؟

قال الإمام الشنقيطي في تفسيره للآية {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} من سورة النور:

وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام وهو من أخبار السير أيضاً أنه (لما فتح الله عليه مكة وقام عليهم فقال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم -قال بعض العلماء: لولا أن قريشاً تعلم منه الحلم والرحمة والإحسان ما قالت له ذلك، ولكنه كان على ذلك الخلق- فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وقال في الرواية الأخرى: لا تثريب عليكم! اذهبوا فأنتم الطلقاء) فكان عليه الصلاة والسلام على السماحة واليسر.” أهـ

وقد أجمع المفسرون على حديث الطلقاء كالإمام الرازي في مفاتيح الغيب عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وغيره ولم يوردوا ما ذهب إليه المعترض من ضعف الحديث وعدم الاعتداد به بل العكس هو الثابت حيث أورده المفسرون في جلّ تفاسيرهم ناهيك عن كونه مروي بسند صحيح كما تقدم.

ورد أيضاً في الحديث الصحيح في صحيح مسلم في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، أنه لما لحق بالقوم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (مَلَكْتَ فأسجح) أي: اعف وسامح، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.

فهل يقول النبي ﷺ ما لا يفعل والعياذ بالله؟ كبر مقتاً عند الله وتعالى عما تصفون وحاشا لنبيه الأكرم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ما تنسبوه إليه جهلاً كان أو تعمدا. فلا يصح ما ذهب له المعترض من عدم وجود أصل للحديث أو سند أو أنه ضعيف ونحوه فهو مسند كما سلف وسنده صحيح برجال ثقات والمرسل منه أيضاً قوي بشهادة المفسرين وأهل التحقيق وفوقهم شهادة القرآن العظيم.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد

One Comment on “الرد على شبهة ضعف حديث الطلقاء”

  1. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
    ولماذا يعترضون على العفو والصفح خصوصا في حق من بعث رحمة للعالمين
    وكأنهم يقولون والعياذ بالله بأنه صلى الله عليه وسلم ليس عفوا ولا كريما ولا يمت لهذه الأخلاق بصلة
    إنما هو جبار ومنتقم يأخذ بثأره ولا يسامح ولا يعف

Comments are closed.