المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..310
التعبير: “الذي يوجد” وعلاقته بالكون العام والكون الخاص
قرار مجمع اللغة العربية المؤيد لكلام المسيح الموعود عليه السلام
الاعتراض:
يدّعي المعارضون وقوع الركاكة والعجمة في استعمال المسيح الموعود عليه السلام، للتعابير التالية: “الذي يوجد”، “التي توجد” كما في الفقرات التالية:
1:فلو كانت هذه الأمور وغيرها التي يوجد ذكرها في القرآن والأحاديث … (حمامة البشرى)
2:ويقول إن عيسى هو الروح الذي يوجد ذكره في جميع مقامات القرآن. (نور الحق)
3:العلوم التي توجد في مفردات اللسان العربية، تشهد بالشهادة الجليّة، أنها ليست فِعْلَ أحدٍ من البريّة. (منن الرحمن)
4:والطيور التي توجد في هذا العالم تنحصر في القسمين. (نور الحق)
5:وأما لفظ التوفي الذي يوجد في القرآن. (نور الحق)
وغيرها من الفقرات الأخرى المشابهة والمماثلة.
الردّ:
كنا قد رددنا على هذا الاعتراض في مقال مفصل (يُنظر: مظاهر الإعجاز 190) ، يمكن الرجوع لذلك المقال الذي أثبتنا فيه ان هذه التعابير من صُلب اللغة العربية، وواردة في أمّات المراجع اللغوية والدينية عن جهابذة اللغة والدين.
ولنا هنا أن نضيف عليه ما يلي:
إن للناظر في هذه الجمل كلها – أو معظمها- أن يجد كلمة “يوجد” متبوعة بشبه جملة من الظرف او الجار والمجرور ، وهذا ينقلنا إلى موضوع في النحو تكلّم فيه النحاة، وهو مسألة: “متعلَّق الظرف من الكون العام والكون الخاص”، وتقسيم الظرف بناء عليه إلى نوعين الأول: مستقَر والثاني: لغو.
وخلاصة هذا الموضوع أن كل شبه جملة لا بدّ لها من متعلَّق تتعلق بهن كالفعل أو ما في معنى الفعل. فعندما نقول: أنعمتَ عليهم، فإن الظرف “عليهم” متعلِّق بالفعل (أنعم)، وعندما نقول: غير المغضوب عليهم، فإن الظرف (عليهم) متعلِّق باسم المفعول (مغضوب)؛ لأنه في معنى الفعل أو شبيه بالفعل. وبناء على هذا التعلُّق يُقسم الظرف إلى القسمين المذكورين أعلاه.
فالظرف اللغو، هو ما يكون متعلَّقه كونا خاصا يضفي على الكون العام معنى إضافيان وهذا يكون مذكورا في الجملة، فالأصل فيه أن يكون مذكورا، ويجوز حذفه إذا دل عليه دليل، كمثل قولنا: جاء الولد راكبا على الحصان، وفيها كلمة راكبا هي متعلَّق الظرف وهو كون خاص لانه يضفي على الكون العام معنى غضافيا وهو الركوب، ويجوز حذفها فنقول: جاء الولد على الحصان.
أما الظرف المستقَر، فهو ما يكون متعلَّقه كونا عاما، وهو الذي يدل على الوجود المطلق، أي غير المقيَّد بشيء، وذلك كالحدوث والحصول والاستقرار والوجود والكون والوقوع وما اشتق من ذلك فعلا أو صفة. وهذا القسم يجب حذف متعلَّقه على الاختيار كما يقول الشمني. وقالوا: إنما سُمي مستقَرا لاستقرار الضمير فيه بعد حذف المتعلَّق، وقيل سمي بذلك لاستقرار معنى المتعلَّق العام فيه بحيث يُفهم بداهة عند سماعه.
ومثال هذا الكون العام قولنا: الولد في الدار ، وهو بحذف الكون العام في أحد معانيه، والأصل: الولد موجود أو يوجد أو مستقر يستقر أو كائن أو يكون في الدار. وقد غلب على النحاة القول بأن المتعلَّق في هذا النوع من الظرف المستقَّر أو الكون العام، أنه لا بد من حذفه؛ فلا بد من حذف كلمة موجود أو يوجد أو مستقر أو يستقر.
وعلى ما يبدو أنه بناء على هذا، فقد راجت الصيغ العربية غير متضمنة لذكر الوجود أو الكون العام. ولذا قد تبدو فقرات المسيح الموعود عليه السلام المذكورة آنفا، لا تسير وفق الرائج في هذه التعابير. كل هذا رغم أننا في المقال الاول كنا قد أوردنا الكثير منها من المراجع اللغوية.
إلا أنه ورغم كل هذا، فإن ما راج عن النحاة في منع ذكر الكون العام بألفاظه المختلفة، ليس هو بامر قطعيّ، بل هنالك من النحاة من قال بغيره، وأجاز ذكر الكون العام وجعله في عداد الجائز، مما حدى بمجمع اللغة العربية المصري ان يصدر قرارا بجواز ظهور الكون العام وذكر ألفاظه المختلفة، مثل: يوجد وتوجد ومستقر وغيرها ، ونص القرار على ما يلي:
“يرى جمهرة النحاة أن حذف الكون العام واجب، ونُقل عن ابن جني جواز إظهاره، كما نقل عن ابن مالك أن حذفه أغلبي .. وترى اللجنة أن ما ورد من تعبيرات علمية مثل: هذا الحمض يوجد في عسل الشمع، وهذه الكلمة موجودة في المعجم الوسيط- صحيح، وهو باب من الكون الخاص.” [ في أصول اللغة، ج2، ص 122]
وقد دعم مجمع اللغة قراره هذا ببحث للأستاذ الشيخ عطية الصوالحي، نقلنا بعض ما جاء فيه ونزيد على ذلك ما يلي:
ذكر الباحث أن من الحالات التي حصر فيها النحاة ورود الظرف المستقَر المتطلب للكون العام، هو مجيء الظرف صلة للموصول، كقوله تعالى: “وله من في السماوات والأرض…”. وهذا ما هو حاصل في الفقرات المذكورة أعلاه من كلام المسيح الموعود عليه السلام، حيث جاء فيها الظرف بعد الاسم الموصول ولكنه مع ذكر الكون العام.
وفي تقدير الكون العام بعد الاسم الموصول، يقول أنه لا خلاف بين النحاة في تقديرها فعلا وليس صفة، أي لا بد من تقدير الصلة والكون العام بعد الاسم الموصول بالفعل: يوجد أو استقر وليس بالصفة موجود ومستقر. وهذا بالفعل ما نراه في فقرات المسيح الموعود عليه السلام، حيث بإظهاره لهذا الكون أظهره على أنه فعل وليس صفة.
وقد أورد الأستاذ عطية أقوال العلماء المختلفة التي تجيز ذكر الكون العام، ومثّل لذلك بالآية القرآنية من سورة النمل { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ } (النمل 41) ؛ حيث جاء فيها لفظ الكون العام “مستقرا” ، وخلص الباحث إلى ما يلي:
“فأقوال هؤلاء العلماء تدل قطعا على أن حذف الكون العام في ثلث المواضع غير مجمع عليه، فقد ذكر المغني أن وجوب الحذف مختار ، وقال ابن مالك : إنه أغلبي، وصرح ابن جني بجواز الإظهار، كما صرح ابن عطية بظهوره في آية النمل، وأجاز ابن يعيش ذكره قبل الظرف، وأعربه ابن ام قاسم حالا مؤكدة في مثال ابن مالك. واعتمادا على هذه الأقوال يجوز ذكر الكون العام وبخاصة في مصطلحات العلوم، والله أعلم” [ في أصول اللغة، ج2، ص128].
وبناء على كل هذا، نرى أن مجمع اللغة العربية المصري، واستنادا على آراء العديد من النحاة، يؤيد ويؤكد صحة وفصاحة ما جاء في كلام المسيح الموعود عليه السلام، من ذكر الكون العام صلة للاسم الموصول، ولا خطأ في ذلك ولا ركاكة ولا عجمة، بل وأكدت لجنة المجمع على حاجة هذا الإظهار ودلالاته بقولها:”لأنه يريح الجملة ويكسبها رخاوة وسَعة، ولأن حذفه يقتضبها اقتضابا لا يُطمأن إليه في التعبير العلمي” (في أصول اللغة، ج2، ص122). وفي كل هذا غنى عن الزيادة في التفصيل.