المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..238
التوسع في الكلام في (لما الحينية) ووقوع شرطها ماضيا منفيا بما
الاعتراض:
يدّعي المعارضون وقوع الخطأ في الفعل الواقع بعد لما الحينية، في كلام المسيح الموعود عليه السلام التالي:
_ فلَمّا ما بقي حاجة إلى الغَزاة والمحاربة (حقيقة المهدي).
والصحيح وفق زعم المعارضين القول: فلما لم يبقَ.
الرد:
نقول: بأن لما الواقعة في الفقرة المذكورة من كلام المسيح الموعود عليه السلام هي لما الحينية أو التوقيتية او الظرفية أو الوجودية، فهذه أسماؤها المختلفة، ويلخص لنا النحو الوافي أحوال لما الحينية، لا سيما أحوال الفعل الواقع بعدها ويقول:
” (لما) تكون ظرف زمان، بمعنى: حين، فتفيد وجود شيء لوجود آخر. …
والأغلب الأكثر شيوعًا في الجملتين ولا سيما الثانية أن تكونا معًا
ماضيتين لفظًا ومعنى؛ نحو: قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} ، أو معنى فقط كقول المعري يصف خيلًا سريعة:
ولما لم يسابقهن شيء … من الحيوان سابقن الظلالا
وقول المتنبي:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا … فلما دهتني لم تزدني بها علما” [ النحو الوافي (2/ 297-296)]
وجاء في أوضح المسالك عن لما الحينية ما يلي:
“ومنها: ما يختص بالجمل الفعلية، وهو “لما”، عند من قال باسميتها؛ نحو: “لما جاءني أكرمته” .
وفي الهامش جاء:
القائل باسميتها: الفارسي وابن جني وابن السراج والجرجاني وآخرون، وقالوا: هي ظرف بمعنى “حين”؛ ولذا تسمى “لما الحينية”؛ وقيل: بمعنى “إذا” ورجحه ابن مالك في المغني؛ لأنها مختصة بالماضي، وفيها معنى الشرط. ويجب أن يكون شرطها وجوابها ماضيين عند الأكثرين، وتضاف إلى شرطها، وتنصب بجوابها. وعند سيبويه؛ هي حرف وجود لوجود لا محل لها.” [أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (3/ 106)]
فخلاصة الكلام أن الرأي الغالب والشائع في أحوال لما الحينية هو أن يكون فعل الشرط الذي يليها وجواب الشرط ماضيين، إما بفعل ماض مثبت أو بفعل مضارع منفي بلم.
إلا أنه رغم هذا الرأي، فقد أثبتنا في المقال السابق جواز وقوع فعل الجواب لها فعلا مضارعا أيضا، على رأي الفراء وابن عصفور والنحو الوافي ومجمع اللغة المصري. (ينظر: مظاهر الإعجاز 237 على الرابط التالي: https://wp.me/pcWhoQ-5n4 )
أما فعل الشرط الذي يلي لماّ مباشرة، فرغم رأي النحاة الغالب، والذي يُلزم أن يكون هذا الفعل ماضيا لفظا أو معنى، إلا أن بعض النحاة وعلى رأسهم عباس حسن ومجمع اللغة العربية المصري، أجاز وقوعه فعلا مضارعا، وفي هذا جاء في النحو الوافي ما يلي:
” قال الأشموني في الجزء الثالث، أو باب: “إعراب الفعل” عند الكلام على أنواع: “أن” ومنها الزائدة، ما نصه: “الزائدة هي التالية لمـّا”، نحو قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} . ا. هـ، كلام الأشموني، وهنا قال الصبان: “قوله: نحو: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} … وتقول: “أكرمك لما أن يقوم زيد، برفع المضارع، فارضى“. ا. هـ، كلام الصبان نقلًا عن الفارضي، وهذا النص صريح في أنها قد تدخل على المضارع قياسًا إذا كان مسبوقًا بأن الزائدة، والعجيب أن الصبان يأتي به هنا جلبًا واضحًا، ليكمل ما فات الأشموني ثم ينسى هذا في الجزء الرابع أو باب الجوازم عند الكلام على: “لما” الجازمة حيث يصرح “الأشموني” بأنه استغنى كبعض من سبقوه بقوله: “لما” أخت “لم” عن أن يقول: “لما” الجازمة، وأنه احترز بكلمة: “أختها” من “لما” الحينية، ومن “لما” الاستثنائية؛ لأن هاتين لا يليهما المضارع، فيقول “الصبان” تعليقًا على هذا، وتأييدًا له ما نصه: “أي: كلامه فيما يليه المضارع، فلا حاجة إلى الاحتراز منهما”. ا. هـ، فهو يكتفي بهذا ساكتا عما قيل من أن المضارع لا يجيء بعد “لما” الحينية، و “لما” الاستثنائية، وكما نسي هذا في “باب الجوازم” نسيه أيضًا في باب “جمع التكسير” جـ 4 عند الكلام على صيغة: “فعول” واطرادها، حيث قال الأشموني عنها في ذلك الباب: “ظاهر كلام المصنف هنا موافقة التسهيل فإنه لا يذكر في هذا النظم غالبًا إلا المطرد، ولما يذكر غيره يشير إلى عدم اطراده غالبًا بقد، أو نحو: قل، أو ندر … “. ا. هـ، وهنا قال الصبان ما نصه:
قوله: ولما يذكر غيره … إلخ تركيب فاسد؛ لأن “لما” الحينية لا تدخل إلا على ماض … ا. هـ، كلام الصبان.
فما المراد في كل ما سبق في أن المضارع لا يجيء بعد “لما”؟ أيكون المراد أنه لا يجيء بعدها مباشرة بغير فاصل بينهما؟ لا دليل يوضح المراد.
فبأي الرأيين نأخذ؟
بالأول؛ لأنه نص صريح، فيه تيسير، ولكن حظه من القوة والسمو البلاغي أقل كثيرًا من الآخر الذي منعه أكثر النحاة حتى الصبان في بعض تصريحاته.
.. ومن الخير ترك الأول الضعيف.” [النحو الوافي (2/ 297-296)
ومن هذا النص الذي نقله عباس حسن في النحو الوافي يتضح ما يلي:
1: أن الأشموني يجوّز دخول لما الحينية على الفعل المضارع، إذا كان مسبوقا بأن الزائدة ويؤيده الصبان في ذلك.
2: يجوّز الأشموني دخول لما الحينية على المضارع مباشرة دون أن يسبقه أن الزائدة، ويظهر ذلك من استعماله هذه الصيغة بقوله: “ولما يذكر غيره يشير إلى عدم اطراده”، غير أن الصبان يخطّئ هذا الاستعمال .
3: يوافق عباس حسن على رأي الأشموني في جواز دخول لما الحينية على المضارع، سواء مباشرة أو بوقوع أن الزائدة بينهما، فهو يرجح هذا الرأي لما فيه من التيسير ويقول أن الخير بتركه.
وممن يجوّز دخول لما الحينية على المضارع مباشرة، معجم الصواب اللغوي؛ حيث جاء فيه:
“مثال: لَمَّا يجيئُك فلان أكرمه
الرأي: مرفوضة عند بعضهم
السبب: للخطأ في التركيب بمجيء المضارع بعد «لَمَّا» الرابطة.
الصواب والرتبة: -حِينما يجيئك فلان أكرمه [فصيحة] “ [معجم الصواب اللغوي (1/ 642)]
وقد أجاز مجمع اللغة العربية المصري دخول لما على الفعل المضارع بناء على بحث خاص أجراه خبير المجمع الدكتور محمد حسن عبد العزيز ، إذ كان من بين ما جاء في بحثه ما يلي:
“يقرر النحاة أن ما يلي (لما) فعل ماض مثبت لفظا ومعنى نحو: (فلما آسفونا انتقمنا منهم) أو مضارع منفي بلم مثل: ولما لم يصدع الجبل بأمره أدرك ان جهاده عبث….. أما مجيء المضارع بعدها شرطا فلم يذكره النحاة، ويبدو لي أن المحدثين حين قالوا :لما يطول الوقت يزداد الاهتمام” ، وضعوا لما موضع (حين) حيث يجُوز معها أن يقال : حين طال الوقت ازداد الاهتمام ، وحين يطول الوقت يزداد الاهتمام، ولست أجد ما يمنعه، لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار أنه أسلوب شائع على الألسنة متردد في الكتابة العلمية والأدبية.
وأقترح على اللجنة الموقرة : أن تجيز وقوع المضارع في جواب لما مستأنسة بقول الفراء وابن عصفور، وأن تجيز وقوعه بعدها شرطا، توسعا في التعبير. ” إهـ، [ في اصول اللغة، ج4، ص 466-467]
وقد أقر مؤتمر المجمع توصية الدكتور محمد حسن، و أجاز وقوع المضارع بعد لما توسعا في التعبير؛ وذلك في نصّ قرار خاص منشور في نفس الكتاب :(“في أصول اللغة، ج4، ص 458”).
ومن هنا نرى بأن مجمع اللغة العربية قد أجاز التوسع في الكلام ودخول لما على الفعل المضارع، رغم قرار النحاة بعدم جوازه. وبناء على هذا التوسع أقول:
إذا جاز التوسع في الكلام ودخول لما على الفعل المضارع، فمن باب أولى التوسع في إدخالها على الفعل الماضي المنفي أيضا، نظرا لاختصاصها بالماضي وفق رأيهم هم. فقد قرر النحاة أن لما تدخل على الماضي المثبت والمضارع المنفي (الذي هو ماض زمانا)، وجاز التوسع في المضارع ليشمل غير المنفي، فعلى نفس المنطق يمكن في التوسع دخولها على الماضي المنفي. وذلك للأسباب التالية:
1: لا يوجد ما يمنع هذا الدخول لا لغويا ولا نحويا
2: دخول على الماضي المنفي أولى من دخولها على المضارع المثبت نظرا لتخصصها بالماضي.
3: ما دام من الممكن دخول لما على الفعل المضارع المنفي الذي هو بمعنى الماضي المنفي، فلا مانع من دخولها على الماضي المنفي نفسه.
4: اذا كان المانع عند النحاة في دخول لما على الماضي المنفي هو عدم السماع من العرب، نقول بأن هذه ليست حجة قطعية، لأن أغلب اللغة قد ضاع؛ فلعل دخولها على الماضي المنفي لغة ضائعة من لغات لعرب.
5: أما إذا كان المانع من دخول لما على ما النافية هو كون ما النافية حرف له الصدارة في الجملة، فلا يجوز أن يعمل ما بعده فيما قبله – ولما الحينية تُنصب بجوابها الذي يلي ما النافية – فهذا الرأي متكلَّم فيه ومنقوض عند الكوفيين الذين يجيزون عدم تصدرها، حملا لها على منزلة أخواتها من أحرف النفي (لم، لا ، ولن) التي لا صدارة لها. (وهذا سنفرد له مقالا خاصا بإذن الله تعالى) . حيث جاء في هذا :
“كذاك سبق خبر ما النافية
يعني أنه يمنع تقديم خبر المقرون بما النافية على “ما” لأن “ما” لها صدر الكلام، فلا يجوز أن يقال: “فاضلا ما كان زيد” “ولا جاهلا ما زال عمرو”.
وقال في شرح الكافية: وكلاهما جائز عند الكوفيين؛ لأن “ما” عندهم لا يلزم تصديرها،.” [توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (1/ 496)]
6: أما إذا كان المانع من دخول لما على ما النافية هو اجتماع لفظين لهما الصدارة في الكلام ، حيث إن لما تحمل معنى الشرط، وأدوات الشرط لها الصدارة وكذا ما النافية، وأن أساس هذا المنع هو عدم السماع عن العرب كما يصرح بذلك النحو الوافي؛ قلنا ما قلناه أعلاه بأن ما النافية على الرأي الكوفي لا يلزم صدارتها، وأن نقص الاستقراء لا يمنع أن يكون كل هذا من لغات العرب الفصحاء التي لم تصل إلينا. وهذا ما يقوله النحو الوافي متعلقا باجتماع لفظين لهما الصدارة:
“لكيلا يجتمع شيئان لكل منهما الصدارة، فيقع بينهما التعارض، ولا يمكن تفضيل أحدهما على الآخر.. و “ما” النافية من الأدوات التي لها الصدارة – كما سيجيء في رقم من هامش الصفحة الآتية – فلا يجوز تقديم الخبر ولا غيره من جملتها عليها. وكذا كل ما له الصدارة، كالاستفهام، وأسماء الشرط، وغيرهما.
هذا ما يقوله النحاة. ولكن السبب الحقيقي هو عدم استعمال العرب الفصحاء للأسلوب المشتمل على أداتين لهما الصدارة. [النحو الوافي (1/ 571)]
ومن هذه الاعتبارات كلها، لا نجد مندوحة من الإقرار بجواز التوسع في الكلام ووقوع الماضي المنفي بما النافية شرطا للما الحينية. ليتضح بعدها صحة قول المسيح الموعود عليه السلام : “فلَمّا ما بقي “، ولتضح انفراد المسيح المسيح الموعود عليه السلام بمثل هذه اللغة التي قد تندرج تحت العذراوات اللغوية التي لم يطرقها قبله أحد، رغم عدم امتناعها عقلا ومنطقا، وقياسا على تجويز غيرها توسعا في الكلام.
والسؤال الذي نسأله : من يجرؤ على هذا التفنن اللغوي الذي لا يخرج عن إطار اللغة الصحيحة والفصيحة، غير من يعلمه الله تعالى هذه اللغة بوحيه وإلهامه وإعجازه.