المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية..270
الفعل (أحاط) المتعدي بنفسه
الاعتراض:
ادعى المعترض أن المسيح الموعود عليه السلام يخلط بين الفعل اللازم والمتعدي، أو قل يحوّل الفعل اللازم إلى متعد والعكس كذلك. وقد عرَض المعترض الكثير من الفقرات التي ورد فيها هذا الخلط أو الخطأ وفق زعه، وعزَا كل ذلك إلى العُجمة في كلام المسيح الموعود عليه السلام وتأثير اللغة الأردية عليه. ومن بين هذه الفقرات كانت الفقرات التالية:
1: أأنتم تحيطون أسراره أو تجادلونه معترضين؟ (مكتوب احمد)
2: ولله دقائق في أسراره، واستعارات في أخباره، أأنتم تحيطونها أو تنكرون كالمستعجبين؟ (مكتوب احمد)
وموضع الخطأ فيها وفق زعم المعترض أن الفعل (أحاط) تعدى بنفسه، رغم كونه فعلا لازما لا بدّ أن يتعدى بحرف الجر. وكل هذا هو عجمة بتأثير اللغة الأردية.
الرد:
كنا قد رددنا على هذا الاعتراض في مقالات سابقة، ووجهنا هذه الفقرات مع أخواتها من الفقرات المشابهة على توجيه أساسي ألا وهو “التضمين”، وفي أحد تلك المقالات قلنا بإمكانية توجيه هذه الفقرت أيضا على ” الحذف والإيصال” وهو ما يعرف بالنصب على نزع الخافض.
ولكن قلنا في ملحوظة هامة في أحد تلك المقالات ما يلي:
“كما أنه ليس من البعيد أن تكون هذه الأفعال التي استعملها المسيح الموعود عليه السلام بصورها غير المألوفة في التعدية واللزوم ، هي هكذا في صلب اللغة وواردة في تضمينات العرب السماعية التي لم تجمع ولم تصل إلينا.
فإن أخذنا بالتضمين وصحته قلنا بأن عبارات المسيح الموعود عليه السلام تخرّج على التضمين في التعدية واللزوم. وإن قلنا بأن أصل التضمينات هو ورود هذه الأفعال متعدية ولازمة في نفس الوقت في أصل اللغة ، تكون عبارات المسيح الموعود عليه السلام أيضا متعدية ولازمة في أصل اللغة كما هي في عباراته عليه السلام. وهذه الأفعال قد تكون مما سمع عن العرب ولم يجمع أو مما لم يُسمع وضاع مع نصيب اللغة الضائعة. ”
وما قصدناه في هذه الملحوظة، أن ما يُظن على أنه تضمين في الأفعال المتعدية واللازمة، قد يكون في الأصل عند العرب الفصحاء ليس تضمينا. فالفعل اللازم الذي يُظن انه متضمن معنى فعل متعد على التضمين، قد يكون في أصل اللغة العربية متعديا بنفسه أيضا، إلا أننا لم تصلنا هذه اللغة عنه بشكل كاف ليثبت أنه يتعدى بنفسه أيضا.كذلك فالفعل المتعدي بنفسه والذي قد يُظن أنه متضمن معنى فعل لازم فعُدي بحرف الجر على التضمين، قد يكون في أصل اللغة أيضا فعلا لازما بنفسه ويتعدى بحرف الجر نفسه، إلا أنه لم تصلنا هذه اللغة بشكل كاف ليتقرر بشكل واضح أنه لازم أيضا.
وهذا ما تأكد لنا في الفعل (أحاط) بعد المزيد من الفحص والتحري، فرغم أن المعروف عن هذا الفعل أنه لازم يتعدى بحرف الجر، ويُمنع تعديته بنفسه لعدم وروده متعديا في المعاجم العربية، إلا أنه يثبت أن هذا الفعل في أصل اللغة هو متعد بنفسه أيضا، وقد أوردته بعض المراجع متعديا بنفسه، وبناء على ذلك أقر مجمع اللغة العربية المصري جواز استعماله متعديا بنفسه، وفيما يلي ما أقره مجمع اللغة العربية في هذا الشأن:
” أحاطه الله بعنايته، احتاطوا القرية من جميع جوانبها، أحاطوا المحاصرين، أحطته علما بقصتي؛ يخطئ بعض الباحثين مثل هذه الأساليب الأربعة ويرون أن الصواب أن يقال: حاطه الله بعنايته، واحتاطوا بالقرية من جميع جهاتها، وأحاطوا بالمحاصرين، وأُحيط بقصتي علما) على أن “بقصتي” نائب فاعل. وقد احتجوا لذلك بما يأتي: حاطه حوطا وحيطة وحياطة: حفظه وصانه وتعهده، كحوّطه وتحوّطه، وحوط حائطا: عمله، وكل من بلغ أقصى شيء وأحصى عليه فقد أحاط به وحاط به (شرح القاموس)، حاط وأحاط به بمعنى، فالفعل (حاط) يستعمل متعديا إذا كان للحفظ والرعاية، كما أن صاحبي اللسان والمصباح يجيزان استعماله متعديا إذا كان بمعنى لاستدراه والإحداق بالشيء، على أن شارح القاموس يجيز استعمال الفعل (حاط) لازما في هذا المعنى أيضا.
وبعد استيعاب هذه النصوص نرى أن الممنوع استعماله متعديا في هذا المعنى هو الفعل الرباعي (أحاط)، فلا يُستعمل إلا لازما: فيقال: أحاط به علما، ومن المجاز أحاط به عالما: أتى على أقصى معرفته- كقولك قتلته علما، وعلمه علم إحاطة، إذا علمه من جميع وجوهه لم يفته شيء منها (الأساس).
وترى اللجنة أن التعبيرات الواردة صحيحة، فقد ورد في كتاب “شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل” تأليف شهاب الدين الخفاجي ص84 ما يأتي: (أحاط) يكون لازما وهو المعروف، كقوله تعالى “ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء؛ ويكون متعديا أيضا ولم يعرفه كثير، فوقعوا في أمور غريبة وتعسفات عجيبة، وقد ورد في كلام سيدنا علي رضي الله عنه في نهج البلاغة، كذا في قوله في خطبة بعدما ذكر الله تعالى :ألبسكم الرياش وأرفع لكم المعاش، وأحاط بكم الإحصاء… إلخ)”.[ القرارات المجمعية في الألفاظ والأساليب من 1934 إلى 1987م/ ص87 ]
وبناء على هذا نرى أن مجمع اللغة العربية يرد رأي الباحثين، الذين يمنعون استعمال الفعل (أحاط) متعديا بنفسه، ويجيز ذلك بناء على ما جاء في نهج البلاغة وخطبة لسيدنا علي رضي الله عنه، وشفاء الغليل للخفاجي.
وبورود هذا الفعل متعديا على لسان سيدنا علي رضي الله عنه من عصور الاحتجاج اللغوي، وتأكيد الخفاجي على تعديته، دليل واضح أن هذا الفعل متعد بنفسه في أصل لغة العرب الفصحاء، حتى دون حمله على التضمين أو الحذف والإيصال.
ومن هنا يثبت من وجه آخر صحة فقرات المسيح الموعود عليه السلام، التي استعمل فيها هذا الفعل متعديا، وهذا الوجه وهو بناء على فصيح لغات العرب الأصيلة. وليس من البعيد أن نصل في المستقبل، إلى هذه النتيجة بالنسبة لبعض الأفعال الأخرى التي ذهبنا في توجيهها على التضمين فيما يتعلق بلزومها وتعديتها.