المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..259
فنون التذكير والتأنيث الإعجازية ..32
التذكير والتأنيث بناء على الارتباط الإعرابي الوثيق
حمل المبتدأ على الخبر في التذكير والتأنيث
الاعتراض:
يدعي المعارضون وقوع الخطأ في العبارات التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام.
1: وقد عرفتَ أن الحقيقة المحمدية هو مظهر الحقيقة الرحمانية (إعجاز المسيح)
2: أن الفاتحة حصنٌ حَصين، ونور مبين، ومعلِّم ومُعين …. ومن عجائب هذه السورة أنها عَرَّفَ اللهَ بتعريف ليس في وُسْع بشرٍ أن يزيد عليه. (إعجاز المسيح)
3: وحاصل الكلام أن الفاتحة حصنٌ حَصين، ونور مبين، ومعلِّم ومُعين. وإنها يحصّن أحكامَ القرآن من الزيادة والنقصان (إعجاز المسيح)
4: وقال بعضهم أن آية: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَني} حقٌّ، ولا شك أنها يدلّ على وفاة عيسى – عليه السلام – بدلالة قطعية. (حمامة البشرى)
5: وفهِم أن الرجوع إلى الدنيا موتة ثانية، وهي لا يجوز على أهل الجنة. (حمامة البشرى)
6: وإنّ كلماتِهم هذه ليس إلا بهتانٌ عليَّ. (الخطبة الإلهامية)
7: وهل هذا إلا المكيدة التي لا يُنسب إلى الله المنان؟ (إعجاز المسيح)
8: وقال بعض الناس إن دابة الأرض التي ذكرَه القرآن هو اسم الجنس لا اسم شخص معين. (حمامة البشرى)
وموضع الخطأ وفق زعمهم هو في تذكير الضمير في الكلمات المشددة بخط تحتيّ، وحقها أن تكون مؤنثة، لأن الضمائر فيها تعود على ألفاظ مؤنثة.
الردّ:
لا خطأ واقع في كل هذا! وتوجيه ذلك على أمرين:
1: حمل اللفظ على معنى ما يتصل به اتصالا إعرابيا وثيقا.
2: جواز تأنيث وتذكير المبتدأ حملا له على الخبر. أو جوزا تذكير وتأنيث ما يُخبر عنه لتذكير وتأنيث الخبر.
وفي التوجيه الأول يقول النحو الوافي ما يلي:
“إن كان مرجع الضمير متقدمًا، ولكنه يختلف فى التذكير أو التأنيث مع ما بعده مما يتصل به اتصالا إعرابيًّا وثيقًا – جاز فى الضمير التذكير أو التأنيث، مراعاة للمتقدم أو للمتأخر، مثل: الحديقة ناضرة الزرع، وهى منظر فاتن، أو: وهو منظر فاتن، ومثل: الزرع رعايته مفيدة، وهو باب من أبواب الغنى، أو: وهى باب من أبواب الغنى. وأسماء الإشارة تشارك الضمير فى هذا الحكم “كما سيجئ فى بابها، وفى باب المبتدأ … ” نحو: الصناعة غنى وهذه مطلب حَيَوىّ أصيل، أو: وهذا … ” [النحو الوافي (1/ 266-265)]
وفي الهامش من نفس الصفحة يستثني المتضايفين من هذه القاعدة ويقول:
” وهذا في غير المتضايفين. وقد سبق حكم الضمير العائد على أحدهما في رقم 2 من هامش ص 256 وفي “ز” من 261.”
وخلاصة كلام النحو الوافي أن الضمير إن عاد على لفظ أول، مرتبط ارتباطا اعرابيا وثيقا بلفظ ثان متأخر عن اللفظ الأول ومختلف عنه في التذكير والتأنيث؛ فيجوز في الضمير العائد على الأول أن يُراعى فيه أحد اللفظين فيذكر أو يؤنث، إلا إن كان اللفظان مضافا ومضافا إليه. وما يفهم من النحو الوافي أن هذا الحكم سار سواء كان اللفظان متقدمان عن الضمير العائد، لأنه استثنى المتضايفين اللذين لا يمكن أن يفصل الضمير بينهما- أو أن يكون اللفظ الثاني متأخرا عن الضمير كما في الأمثلة التي أوردها.
ولا شك أن هذا التوجيه مرتبط بشكل مباشر في التوجيه الثاني، وذلك لكون المبتدأ والخبر متصلان ببعضهما اتصالا إعرابيا وثيقا. فإن عاد الضمير على المبتدأ المختلف عن خبره في التذكير والتأنيث جاز تذكير وتأنيث المبتدأ، حملا له على معنى الخبر.
وفي هذا التوجيه الثاني يقول النحو الوافي:
“وقد يُذَكَّر المبتدأ لمراعاة الخبر؛ كقوله تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ} والإشارة المثناة راجعة إلى اليد والعصا قبل هذه الآية، وهما مؤنثتان، ولكن المبتدأ هنا مذكر لتذكير الخبر، ومثله قوله تعالى: {فَلَماَّ رَأَى لشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ} … فاسم الإشارة: “هذا” مذكر، مع أن المشار إليه – وهو: الشمس – مؤنث، فحق الإشارة إليها أن تكون باسم إشارة للمؤنث مثل: “هذه”. قال الزمخشرى: “فإن قلت: ما وجه التذكير؟ قلت: جعل المبتدأ مثل الخبر، لكونهما عبارة عن شىء واحد؛ كقولهم: “ما جاءت حاجتَك”؟ أى: ما صارت حاجتَك؟ – ومن كانت أمَّك؟ … – ومثل هذا ينطبق على الآية السابقة وهى: “هذا ربى”. على أن التذكير فى هذه الآية واجب لصيانة “الرب” عن شبهة التأنيث لوقيل: “هذه ربى”. ألا تراهم قالوا فى صفة “الله”: “علاّم”، ولم يقولوا: “علاّمة” – وإن كان “العلاّمة” أبلغ -؛ احترازًا من علامة التأنيث. اهـ ببعض اختصار.
ومن تأنيث المبتدأ المذكر مراعاةً لتأنيث الخبر قراءة من قرأ قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} بالتاء فى أول المضارع: “تكنْ” لتأنيث اسم الناسخ؛ وهذا الاسم هو المصدر المنسبك المتأخر، وهو فى أصله مذكر، ولكنه أنَّث موافقة للخبر المتقدم، وبسبب تأنيث هذا الخبر أنَّث الفعل “تكن”.” [النحو الوافي (1/ 458)]
وفي هذا جاء أيضا:
“[حكم فعيل بمعنى مفعول – تذكير المؤنث وعكسه]
قال ابن مالك: … وقد يذكّر المؤنّث ويؤنّث المذكّر [حملا على المعنى]، ومنه تأنيث المخبر عنه لتأنيث الخبر)….
المسألة الثالثة:
أن المؤنث قد يذكر والمذكر قد يؤنث أي يستعمل كلاهما استعمال الآخر حملا على المعنى، فمن تذكير المؤنث قولهم: ثلاثة أنفس، وذلك لمراعاة المعنى فكأنه قال: ثلاثة أشخاص، ومن تأنيث المذكر قولهم: «جاءته كتابي» فاحتقرها حملا للكتاب على معنى الصحيفة، قال ومنه يعني، ومن التأنيث حملا على المعنى، تأنيث المخبر عنه لتأنيث الخبر، وذلك نحو قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا (2) في قراءة من قرأ لم قرأ (لم تكن) بالتاء أنث المصدر المنسبك من أن والفعل وهو المخبر عنه؛ لأنه اسم يكن لتأنيث الخبر وهو فتنتهم، وكذلك قوله تعالى:
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً (3) في قراءة لمن قرأ (إلا أن تكون) بالتاء، فإن في تكون اسمها وهو ضمير مذكر يعود على قوله: مَيْتَةً فأنث لتأنيث خبره وهو ميتة.” [تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد (9/ 4624-4623)]
وجدير ذكره هنا، الإشارة إلى فرق بسيط بين التوجيه الأول والثاني، حيث إن الأول يتحدث عن عَود الضمير على ما قبله، وهذا قد يندرج تحته أيضا عود الضمير على مبتدأ أو مخبر عنه؛ أما في التوجيه الثاني فمن الممكن للضمير أو اللفظ أن يكون سابقا أيضا، كما في القراءات التي أوردناها حيث أنث الأفعال (كانت) و(تكون).
وما أوردناه مكتفٍ لتبيين الأمر وإثبات أن كلام المسيح الموعود عليه السلام في الجمل السابقة، كله صحيح على النحو التالي:
1: وقد عرفتَ أن الحقيقة المحمدية هو مظهر الحقيقة الرحمانية (إعجاز المسيح)
التوجيه: ذكّر الضمير (هو) العائد على المخبَر عنه المؤنث (الحقيقة) لتذكير الخبر (مظهر)؛ هذا على اعتبار (هو) ضمير فصل وعماد. أو ذكّر الضمير (هو) المبتدأ رغم عوده على (الحقيقة) المونثة، لتذكير خبره (مظهر). أو جاز تذكير الضمير (هو) العائد على (الحقيقة) المؤنثة لارتباطها الإعرابي الوثيق بكلمة (مظهر) المذكر.
2: أن الفاتحة حصنٌ حَصين، ونور مبين، ومعلِّم ومُعين …. ومن عجائب هذه السورة أنها عَرَّفَ اللهَ بتعريف ليس في وُسْع بشرٍ أن يزيد عليه. (إعجاز المسيح)
التوجيه: عاد الضمير مذكرا في (عرّف) على (الهاء) العائد على(الفاتحة) المؤنث، لتذكير خبرها (حصن)، فحمل الفاتحة على معنى هذا الخبر المذكر؛ أو لارتباط (الفاتحة) بــ (الحصن) و(النور) و(المعلم) ارتباطا إعرابيا وثيقا. وفي قوله (إنها عرّف) حمل على اللفظ أولا حيث أنثّ الضمير (ها)، ثم انتقال إلى الحمل على المعنى حيث ذكّر الضمير في (عرف) .
3: وحاصل الكلام أن الفاتحة حصنٌ حَصين، ونور مبين، ومعلِّم ومُعين. وإنها يحصّن أحكامَ القرآن من الزيادة والنقصان (إعجاز المسيح)
التوجيه: كالسابق.
4: وقال بعضهم أن آية: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَني} حقٌّ، ولا شك أنها يدلّ على وفاة عيسى – عليه السلام – بدلالة قطعية. (حمامة البشرى)
التوجيه: عاد الضمير في (يدل) مذكرا على (الهاء) العائد على (آية) اسم أنّ المؤنث، حملا لها على معنى الخبر (الحق) والذي هو مذكر؛ أي لارتباطها الإعرابي الوثيق به. وفي قوله: (أنها يدل) حمل على اللفظ أولا حيث أنث الضمير ، ثم انتقال إلى الحمل على المعنى فذكر الضمير.
5: وفهِم أن الرجوع إلى الدنيا موتة ثانية، وهي لا يجوز على أهل الجنة. (حمامة البشرى)
أنث الضمير (هي) العائد على (الرجوع) اسم أن المذكر، حملا له على معنى الخبر (موتة)؛ أي لارتباطه الإعرابي الوثيق بالخبر. وفي قوله: (وهي لا يجوز) حمل على المعنى أولا حيث أنث الضمير ثم انتقال للحمل على اللفظ حيث ذكّر الضمير حملا على لفظ (الرجوع).
6: وإنّ كلماتهم هذه ليس إلا بهتانٌ عليَّ. (الخطبة الإلهامية)
التوجيه: ذكّر الضمير في ليس والعائد على (الكلمات) المؤنثة حملا لها على معنى الخبر (بهتان) المذكر، أو لارتباط (الكلمات) و (بهتان) ببعضهما البعض ارتباطا اعرابيا وثيقا. كأنه قال: “ليس كلماتُهم إلا بهتانٌ علي” فذكّر المخبَر عنه (كلماتهم) لتذكير الخبر (بهتان) مع إهمال (ليس) إعرابيا على لغة تميم؛ وهذه شبيهة بالقراءة: وما كانت فتنتَهم إلا أن قالوا …والتي أصلها ما كانت إلا قولهم فتنتَهم، حيث أنث الاسم (المبتدأ) لتأنيث الخبر.
7: وهل هذا إلا المكيدة التي لا ينسب إلى الله المنان؟ (إعجاز المسيح)
التوجيه: وفي هذه أيضا جعل المبتدأ والخبر كالشيء الواحد، فبدْءا حمل على لفظ المكيدة في تأنيث الاسم الموصول (التي) ثم انتقل إلى الحمل على معناها المذكر في المبتدأ (هذا) فذكر الضمير في (يُنسب).
8: وقال بعض الناس إن دابة الأرض التي ذكره القرآن هو اسم الجنس لا اسم شخص معين. (حمامة البشرى)
التوجيه: ذكّر الضمائر في (ذكرَه) وفي (هو) العائدة نهايةً على (دابة) لارتباط هذه الكلمة ارتباطا اعرابيا وثيقا بكلمة (اسم) المذكر. وفي قوله (التي ذكره) انتقال من الحمل على اللفظ المؤنث، إلى الحمل على المعنى المذكر.
ومن التوجيهات الأخرى، أن كلمة (دابة) أصلها مذكر (دابّ) ثم دخلتها التاء للمبالغة وليس للتأنيث، فحمل أولا على اللفظ في قوله (التي) ثم حمل على معنى (الدابّ) يتذكير الضمائر . (ينظر: مظاهر الإعجاز258 على الرابط: https://wp.me/pcWhoQ-5oH )
وفي الجملتين الأخيريتن ما يسوغ عود الضمير على (التي) مذكرا هو اعتبار (التي) اسما موصولا مبهما كـ (من) و(ما) فيجوز عود الضمير على معناه لا على لفظه.
ملحوظة: في مسألة الانتقال من الحمل على اللفظ إلى الحمل على المعنى وبالعكس، وما يسوغ اختلاف الضمير العائد على الاسم الموصول في التذكير والتانيث مع الاسم الموصول نفسه؛ يُنظر (مظاهر الإعجاز 249 على الرابط: https://wp.me/pcWhoQ-5o0 )
وكذلك لا بدّ من ذكر أن المسوغ لاختلاف الضمائر العائدة في هذه الجمل في التذكير والتأنيث ما أورده النحو الوافي ونقلناه في موضعه حيث قال:
“إذا كان المرجع لفظًا صالحًا للمذكر والمؤنث -مثل كلمة: “الروح” جاز عود الضمير عليه مذكرًا أو مؤنثًا، فنقول: الروح هي من الأسرار الإلهية لم تعرف حقيقتها حتى اليوم … أو هو من الأسرار الإلهية لم يعرف حقيقته حتى اليوم، وإذا عاد على ذلك اللفظ الصالح للأمرين ضميران جاز أن يكون أحدهما للتذكير والآخر للتأنيث، نحو: الروح هي من الأسرار التي لم يعرف حقيقته.” [ النحو الوافي (1/ 269)]
وقد أشرنا أيضا إلى أن هذا الامر لا بدّ أن يكون ساريا على أساليب الحمل على المعنى كلها، وليس بالضرورة فقط في الألفاظ التي تصلح للمذكر والمؤنث، إذ لا فرق بين هذه الألفاظ والألفاظ التي تحمل على المعنى في التذكير والتأنيث.