المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..251
فنون التذكير والتأنيث الإعجازية ..22
حمل المفرد على معنى الجمع في التذكير والتأنيث
الاعتراض:
يدّعي المعارضون وقوع الخطأ في الفقرات التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام، نعرضها مع تصحيحات المعارضين المزعومة.
1:ودسّوا نفوسهم بهمومها بعدما جلّتْ مطلعَها نورُ الإسلام والإيمان. (لجة النور) الصحيح: جلىّ.
2: والاختلاف في فِرق الإسلام كثيرة (تحفة بغداد، ص 40). الصحيح: كثير، فهي تابعة للاختلاف، لا لفرق.
3: ثم إذا أعان السالكَ الجذباتُ الإلهية والنسيمُ الرحمانية (كرامات الصادقين، ص 76). الصحيح: والنسائم.
الرد:
كل هذه الفقرات لا خطأ فيها، إذ إن توجيهها هو على حمل اللفظ على المعنى، سواء بحمل لفظ المفرد على معنى الجمع، أو بحمل اللفظ على معنى لفظ آخر مشابه له في الدلالة والمعنى. كل هذا وفق التفصيل التالي:
وعن حمل المفرد على معنى الجمع جاء:
“وقوع المفرد بمعنى الجمع يجيء كثيرا في الكلام نثرا وشعرا؛ لأن المفرد يدل على الجنس، وهو أصل للجمع، وإذا كان في الكلام ما يدل على أنه مراد به الجمع جاز الإفراد لأن الغرض الدلالة على الجنس والواحد يحصل به المراد من ذلك. قال ابن جني: ووقوع الواحد موقع الجماعة فاش في اللغة…… [ الحمل على المعنى في العربية 233]
الفقرة الأولى:
كلمة (نور) هي نكرة واسم جنس يدل على الجمع، فحُمل على معنى (الأنوار)، فجاء: جلّتْ مطلعَها نورُ الإسلام؛ أي” جلت مطلَعها أنوارُ الإسلام .
وفي النكرة واسم الجنس يقول النحو الوافي ما يلي:
“والنكرة تسمى أيضا: “اسم جنس” عند جمهرة كبيرة من النحاة لا ترى فرقا بينها وبين اسم الجنس، فإن كان لمــُعيَّن فهي: النكرة المقصودة”، وإن كانت لغير معيّن فهي: “النكرة غير المقصودة” – كما سيجيء في باب “النداء” جـ 4 وفي هذا الرأي تخفيف وتيسير من غير ضرر، فيحسن الأخذ به” [النحو الواف (1/ 288)]
وجاء في كتاب الحمل على المعنى في العربية عن هذه النكرة واسم الجنس ما يلي:
“المفرد النكرة يؤدي معنى الجمع؛ لأن النكرة تفيد الجنس الذي يدل على القليل والكثير، كما أن الواحد يقع موقع الجمع؛لأنه أصل له ولعدم حصول اللبس في الكلام ….
جاء المفرد النكرة مرادا به الجمع في غير التمييز، من ذلك قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (37) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (38) } (الزخرف 37-38) جمع الضمير في إنهم و ليصدونهم حملا على معنى ( شيطان) لأنه بمعنى الجمع، وإن كان لفظه واحد.
وقال تعالى: { وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (5) } (التحريم 5) أي ظهراء، ذكر أبو علي أنه بمعنى الجمع واللفظ مفرد. وقال ابن الشجري:” وفعيل كثيرا ما تستعمله العرب في معنى الجماعة” ، وهو عند الطبرسي “من الواحد الذي يؤدي معنى الجمع”، أما أبو حيان فقدّر حذف موصوف والتقدير: فوج ظهير. والصحيح أن صيغة فعيل مما يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، وجاءت لفظة (ظهير) هنا مرادا بها الجمع. ومن ذلك قوله تعالى : (واجعلنا للمتقين إماما) [الفرقان:74] أي أئمة، وقيل في إفراده وجهان:
أولهما: لأنه مفرد فاكتفى عن الجمع، لأن المراد به الجنس، ولعدم حصول اللبس، ولكونه فاصلة.
والآخر: لأن المعنى: واجعل كل واحد منا إماما.
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (55)} (القمر 55) أي أنهار، وحّد النهر في اللفظ وهو بمعنى الجمع، وذلك لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير كما أنه جاء فاصلة.” (إ.هـ) {( الحمل على المعنى في العربية 250- 244)}
وبناء عليه فقد جاءت كلمة (نور) دالة على الجنس وهو جمع الأنوار المختلفة، فهي دالة على الجمع وتعني (الأنوار)، لذا أنّث الفعل الذي سبقها والمسند إليها وقال: (جلّت)؛ أي” جلت مطلعَها أنوارُ الإسلام .
أو من الممكن أن يكون قد حُملت كلمة (نور) على معنى (الشمس)، التي هي منبع النور.
الفقرات الثانية والثالثة:
وأما كلمة (الاختلاف) و(النسيم) فقد حُملت على معنى الجمع (الاختلافات) و (النسائم)، وذلك لتحلِيَتها وتعريفها بأل الجنسية التي لاستغراق الجنس. وعن هذا جاء:
” أل الجنسية تشمل جميع الجنس والاسم الذي تدخل عليه مفرد اللفظ مجموع المعنى؛ لأنه يشمل جميع جنسه، وهي على ضربين، أحدهما: استغراق الجنس وهي التي يحسن أن تحل محلها لفظة (كل) التي تفيد العموم… فأما التي لاستغراق الجنس فكقوله تعالى : { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء 29) …
وإذا أفرد المعرف بأل الجنسية، جاز فيما له من نعت وغيره- كالحال والخبر- اعتبار اللفظ وهو الأكثر واعتبار المعنى وهو قليل: ومن موافقة المعنى ما حكى الأخفش عن العرب من قولهم: “ذهب به الدينار الحمرُ والدرهم البيض”،فقد وصف الدينار والدرهم بالجمع؛ لأن المقصود بكل منهما الجنس لا دينار واحد ولا درهم واحد.
ومما جاء من الحمل على معنى أل الجنسية قوله تعالى: { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} (النور 32) فقد حمل على معنى (أل) فوصف مصحوبها بالجمع وهو (الذين)؛ لأن الطفل مفرد متصل بأل الجنسية فيعمّ الجنس، غير أن الدماميني ذكر أنه لا دلالة للجنس هنا؛ لأن الطفل يستعمل بأصل الوضع للجمع.
وقال تعالى : { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} (الشورى 49) فالمراد بالإنسان هنا كل الناس؛ لأن (أل) تستغرق جميع الجنس. … وقال تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (الفجر 23) فالملَكُ بمعنى الملائكة والعرب تذكر الواحد بمعنى الجمع. وقال عامر الخصفي:
هم المولى وقد جنفوا علينا وإنا من لقائهم لَزورُ
أخبر عن ضمير الجمع (هم) بالمفرد (المولى)؛ لأن هذا المفرد بمعنى الجمع، ولذلك عاد الضمير إليه جمعا في (جنفوا) و (لقائهم).” [ الحمل على المعنى في العربية 239- 242]
وهذا ما ينطبق على الكلمات (الاختلاف) و (النسيم) فيقصد منها عموم الجنس، وهي بمعنى الجمع على معنى (الاختلافات) و(النسائم)؛ لذا أنّث الخبر (كثيرة) على معنى: والاختلافات في فرق الإسلام كثيرة؛ وكذا أنث النعت (الرحمانية) على معنى: النسائم الرحمانية.
كما ومن الممكن أن يكون قد حمل (الاختلاف) على معنى (الفرقة) أو (الفتنة) فأنّث الخبر بمعنى: الفرقة في فرق الإسلام كثيرة. ومن الممكن أن يكون قد حمل (النسيم) على معنى (الريح) وهي من معانيها حقا؛ حيث جاء في لسان العرب ما يلي:
“والنَّسِيمُ: ابتداءُ كلِّ ريحٍ قَبْلَ أَن تَقْوى؛ عَنْ أَبي حَنِيفَةَ. وتَنَسَّمَ: تنفَّس، يَمَانِيَةٌ. والنَّسَمُ والنَّسِيمُ: نفَس الرِّيح إِذا كَانَ ضَعِيفًا، وَقِيلَ: النَّسِيم مِنَ الرِّيَاحِ الَّتِي يَجِيءُ مِنْهَا نَفَسٌ ضَعِيفٌ، وَالْجَمْعُ مِنْهَا أَنْسَامٌ؛ قَالَ يَصِفُ الإِبل:
وجَعَلَتْ تَنْضَحُ مِنْ أَنْسَامِها، … نَضْحَ العُلوجِ الحُمْرِ فِي حَمَّامِها
أَنْسَامُها: رَوَائِحُ عَرَقِها؛ يَقُولُ: لَهَا رِيحٌ طَيِّبَةٌ. والنَّسِيمُ: الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ. يُقَالُ: نسَمت الريحُ نَسِيماً ” [لسان العرب (12/ 573)]
كما ليس من البعيد أن تكون (النسيم) مما يذكّر ويؤنث في كلام العرب ولغاتهم التي لم تنقل إلينا.
عدم التطابق في التذكير والتأنيث:
ومما يجدر الإشارة إليه في سياق حديثنا عن الحمل على المعنى في الإفراد والجمع والتذكير والتأنيث، أن عدم المطابقة في التذكير والتأنيث والتي بيّناها في هذا البحث وأثبتنا جوازها على غير ما هو رائج في الكتابات العصرية، فعدم المطابقة هذا سائر في كل ما يستدعي المطابقة مثل: الفعل وفاعله، الحال وصاحبها، المبتدأ وخبره ، النعت والمنعوت، الاسم الموصول واسم الإشارة. وقد بين النحو الوافي صحة عدم التطابق هذا في العديد من المواضع منها:
1: في سياق حديثه عن المؤنث تأويلا حيث قال:
“وحكم هذا النوع: أنه يصح مراعاة صيغته اللفظية، من ناحة عدم تأنيث فعلها المسندة إليه، وكذلك مراعاة تذكيرها اللفظي عند نعتها، والإشارة إليها … و … كما يصح مراعاة معناها الذي تؤول به” [النحو الوافي (4/589)]
2: في سياق عدم مطابقة الضمير العائد في جملة الصلة مع الاسم الموصول، حيث قال:
“وكما يراعي هذا في رابط جملة الصلة يراعي بصورة أقوى في رابط جملة الخبر، “وسيأتي هنا في باب المبتدأ والخبر”، كما يراعى في جملتي الحال والنعت “- جـ 2 و 3” وقد سبق بعض منه في باب: “الضمير، عند الكلام على موضوع: تطابق الضمير ومرجعه “ص 262”. [النحو الوافي (1/ 382)]
3: في سياق الحديث عن التطابق بين الضمير ومرجعه حيث قال:
“عرفنا أن ضمير الغائب لا بد له من مرجع. وبقي أن نعرف أن التطابق واجب بين ضمير الغائب ومرجعه. على الوجه الآتي: وهذا يراعى في التطابق المطلوب في صور كثيرة؛ كالتي بين المبتدأ وخبره، والنعت ومنعوته، والحال وصاحبها … ونحو هذا مما يقتضي المطابقة.”
وفي الهامش يقول:
“كما يراعي اللفظ أو المعنى في الضمير يراعي أيضا في كل ما يحتاج للمطابقة أحيانا، مثل: الخبر، والصفة ونحوهما -كما أشرنا في الصفحة الماضية- وكما يجيء في باب التوكيد ج3 م116 ص415.” [النحو الوافي (1/ 263-262)]
4: في سياق الحديث عن اسم الجنس الجمعي حيث قال:
“هذا النوع الذي يفرق بينه وبين واحده بالتاء المربوطة إذا وصف -وكذلك إن أخبر عنه، أو عاد عليه ضمير، أو إشارة … – جاز في صفته: إما الإفراد مع التذكير على اعتبار اللفظ، لأنه جنس، أو: معنى التأنيث على تأويل معنى الجماعة… والضمير العائد عليه” [النحو الوافي (1/ 22)]
وبناء على كل هذا يتضح صحة الحمل على المعنى تأنيثا، في الفقرات المذكورة أعلاه من كلام المسيح الموعود عليه السلام، حيث جاء فيها حمل المبتدأ أو المنعوت أو الفاعل على معنى المؤنث، فجاء الفعل والنعت والخبر وفقا لهذا المعنى مؤنثا أيضا. ولا خطأ واقع فيها قط!