المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..269

نكتة الكلمات العربية – الأردية ..3

كلمة حِفاظة

الاعتراض:

يقول المعترض في أحد مقالاته تحت عنوان: “جهل الميرزا بمعاني المفردات العربية والمشتقّات .. ح 33 .. كلمة “حفاظة” يقول:

“مصدر الفعل حَفِظَ هو: حِفْظ. أما في الأردو فهو حِفاظة

فحفاظة في الأردو تعني: حفظ وحماية وأمن وسلامة. (القاموس الجديد، ص 394، ومعجم الألفاظ، ص 232)

وقد استخدم الميرزا هذه الكلمة الأردية ظانا أنها عربية، فقال:

ولا معنى لحفاظة القرآن من غير حفاظة عطره عند شيوع نتن الطغيان. (سر الخلافة، ص 58)

فإن القرآن محفوظ بحفاظة الله وعصمته. (حمامة البشرى)

وإن الأحاديث كلها آحاد … وما كفَلها الله وما ضمن وما وعَد لعصمتها وحفاظتها كوعده لحفاظة القرآن. (حمامة البشرى)

ويتخذون تقواهم كوخًا لحفاظة تلك الزراعة. (تذكرة الشهادتين): [(إ،هـ) النقل عن المعترض]

ولم يكتف المعترض بكتابة مقال في هذا الصدد، بل ضمّن اعتراضه هذا في رسالة دكتوراة مزعومة، والطامة الكبرى أن صادق له عليها أساتذة لغة عربية في جامعات عربية.

الرد:

 

نعم، إنها فضيحة جديدة من فضائح المعترض، حيث يثبت على نفسه جهله بأبجديات الصرف واللغة، ويثبت جهله بقواعد الاشتقاق باللغة العربية. فكلمة (حِفاظة) رغم عدم وجودها بالمعاجم العربيةـ، إلا أنها كلمة عربية صحيحة فصيحة، تسير وفق قواعد اشتقاق المصدر من الفعل الثلاثي المتعدي؛ فهي مصدر الفعل المتعدي (حَفِظ) الذي قد يحمل في سياقات معيّنة معنى الصناعة أو ما يشبه الصناعة أو يفيد الملازمة والمصاحبة.

ووفق قواعد اشتقاق المصدر من الفعل الثلاثي المتعدي، إن كان فيه معنى الصناعة والحرفة، يكون مصدره القياسي على وزن (فِعالة) كالقول: صنع صِناعة، كتب كِتابة، حرس حِراسة؛ وما شابه. وفي هذا يقول النحو الوافي ما يلي:

 

 

 

“أ- أوزان المصدر الأصلي؛ “وهو المصدر الحقيقي الذي يراد عند الإطلاق؛ أي: عند عدم التقييد ببيان نوع معين من أنواعه:

المصدر الأصلي إما أن يكون لفعل ماضٍ ثلاثي، أو غير ثلاثي؛ علمًا بأن الفعل -ماضيًا وغير ماض- لا تتجاوز صيغته ستة أحرف. وأن الثلاثي لا بد أن يكون مفتوح الأول. أما ثانيه فقد يكون مفتوحًا، أو مضمومًا، أو مكسورًا، فأوزانه ثلاثة فقط؛ هي: فَعَلَ، فَعِلَ، فَعُلَ.

والأساس الأول في معرفة مصادر الثلاثي، وإدراك صيغها المختلفة إنما هو الاطلاع على النصوص اللغوية الفصيحة، وكثرة قراءتها، حتى يستطيع القارئ بالدربة والمرانة أن يهتدي إلى المصدر السماعي الصحيح الذي يريد الاهتداء إليه. أما الأوزان والصيغ القياسية الآتية فضوابط أغلبية صحيحة تفيد كثيرًا في الوصول إلى المصدر القياسي؛ فيكتفي به من شاء، ولكن الاطلاع والقراءة أقوى إفادة، وأهدى سبيلًا. وفيما يلي أوزان المصادر القياسية للفعل الثلاثي المتعدي واللازم:

  • إن كان الماضي ثلاثيًّا متعديًا غير دالٍّ على صناعة؛ فمصدره

القياسي: “فَعْل”، نحو: أخذ أخْذًا، فتح فتْحًا، حمد حَمْدًا، سمع سمْعًا.

فإن دل على صناعة فمصدره الغالب: “فِعالة”، نحو: صاغ الخبير المعادن صِياغة دقيقة -حاك العامل الثوب حِياكة متقنة، ثم خاطه الصانع خِياطة جميلة.

ويلاحظ أن الثلاثي المعتدي لا يكون إلا مفتوح العين أو مكسورها. أما مضمومها فلا يكون إلا لازمًا، نحو: حسن، ظرف، شرف …” [النحو الوافي (3/ 193-194)]

ولا يقتصر الأمر على كون الفعل الثلاثي المتعدي دالا على الصناعة والحرفة، بل إن كان يدل على ما يشابه الصناعة من الملازمة والمصاحبة أيضا، فيجوز صوغ مصدره قياسا على وزن (فِعالة)، وفي هذا أقر مجمع اللغة العربية المصري قرارا خاصا، كنّا قد ذكرناه مفصلا في المقال السابق، وفيه جاء:

” جواز صوغ “فِعالة” و”فَعالة” و” فُعولة”

يُجاز ما يُستحدث من الكلمات المصدرية على وزن الفِعالة – بكسر الفاء- إذا احتملت دلالتُها معنى الحرفة، أو شبهها من المصاحبة والملازمة، وعلى هذا لا مانع من قبول الكلمات الشائعة التالية:

القِوامة، الهِواية، اللِّياقة، العِمالة، العِمادة، النِّيافة، البِداية.

وكذلك يُجاز ما يُستحدث من الكلمات المصدرية على وزن الفَعالة- بالفتح- والفُعولة- بالضم- من كل فعل ثلاثي بتحويله إلى باب فعُل بضم العين، إذا احتمل دلالة الثبوت والاستمرار، أو المدح والذم، أو التعجب.

وعلى هذا لا مانع من قبول الكلمات الشائعة التالية على وزن الفَعالة- بالفتح:

الزَّمالة، القَداسة، الفَداحة، النَّقاهة، العَراقة، السَّماكة.

والكلمات الشائعة التالية على وزن الفُعولة – بالضم-.

السُّيولة، اللُّيونة، المـُيوعة، الخُصوبة، الخُطوبة، الخُطورة، العُمولة ” [ في أصول اللغة، ج 2/ص9- 8]

وفي الهامش من هذه الصفحات جاء ما يلي:

“.. عرض الأستاذ محمد شوقي أمين خبير اللجنة عليها، أن ثمة كلمات مصدرية شاعت في الاستعمال على وزن الفعالة بفتح الفاء وكسرها وعلى وزن الفُعولة، وهذه الكلمات ليست من مسموع اللغة، ولذلك ينكرها النقاد ، بناء على أن صوغ هذه الأبنية غير قياسي في بعض أبواب الفعل أو معانيه…. وعرض خبير اللجنة أن مسموع اللغة حافل بالكلمات المصدرية على هذه الأوزان الثلاثة (الفِعالة، والفَعالة، والفُعولة)، من مختلف أبواب الفعل، وكثرة الوارد على هذه الأوزان يبيح قبول ما استُحدث من الكلمات.”

وبناء عليه، فلو نظرنا إلى سياقات استعمال المسيح الموعود عليه السلام للمصدر (حِفاظة)، وجدناه يتحدث عن حفظ القرآن الكريم، أي عن عملية حفظ القرآن الكريم، والتي هي لو نظرنا إليها بدقة، لوجدناها حرفة وصناعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهي صناعة قام بها المسلمون عبر تاريخ الإسلام كله، متخذين لذلك شتى الوسائل والتدابير، ومن هذه الوسائل ما يلي:

_ حفظ القرآن عن ظهر قلب بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته.

_ تدوين القرآن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وكتابته على الصحائف.

_ جمع القرآن الكريم من الصحائف زمن سيدنا أبي بكر الخليفة الأول رضي الله عنه.

_ توحيد المصاحف على حرف واحد زمن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه.

_ انتشار الحفّاظ والقرّآء عبر التاريخ الإسلامي كله منذ زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، لدرجة أصبح حفظ القرآن عن ظهر قلب عبارة عن حرفة وصناعة لهؤلاء الحفاظ والقراء.

_ انشغال المسلمين بتلاوة القرآن في كل صلاة وفي كل يوم وفي كل عصر .

_  تدوين وكتابة القرآن في كل عصر وطباعته بمليارات النسخ عبر التاريخ كله.

 

كل هذا وغيره الكثير مما يمكن أن نعدده، يجعل من حفظ القرآن الكريم حرفة وصناعة بمعنى العناية والحماية والحفاظ على سلامة القرآن الكريم، فهي حرفة وصناعة بكل ما تحتمله الكلمة من معنى. أو لمن أراد أن يتعنّت نقول له، هي ما يشبه الحرفة والصناعة لما فيها من الاستمرار والملازمة والمصاحبة للمسلمين عبر التاريخ الإسلامي كله.

وبناء على هذا، وبما أن حفظ القرآن الكريم بهذه السبل كلها جاء من الفعل المتعدي (حَفِظ) والذي فيه معنى الحرفة والصناعة، وفيه ما فيه من الملازمة والمصاحبة، يصحّ قياسا وفق قواعد الصرف المعروفة، وقرار مجمع اللغة المصري، أن نشتق المصدر منه على وزن (فِعالة) لنقول (حِفاظة).

وفي استعمال المسيح الموعود عليه السلام، لكلمة حِفاظة دلالات واسعة لا تقتصر على مجرد الحفظ للقرآن الكريم، بل تدل على كل التدابير التي اتخذها الله تعالى لحماية القرآن الكريم عبر التاريخ الإسلامي كله.

وكذلك في الفقرة الأخيرة التي يتحدث بها المسيح الموعود عليه السلام، عن علامات أولياء الله ويقول:

“ومن علاماتهم أنّهم يقومون في ليالٍ كاخٍ ابتغاءَ رضا الحضرة، ويزرعون بذر الحسنات ويتخذون تقواهم كوخًا لحِفاظة تلك الزراعة، فيحصدون في هذه وبعدها ما يزرعون.” [تذكرة الشهادتين (2/ 27)]

فإن حضرته عليه السلام يجعل من حِفظ الأولياء لزراعتهم التي يزرعونها في بذر الحسنات، ويجعل من انهماكهم بهذا الحِفظ، يجعلها كالحرفة والصناعة لما فيها من المداومة والمصاحبة والملازمة؛ فالحفظ هنا أيضا كالصناعة ويحق ويصح اشتقاق المصدر منه على وزن (حِفاظة) كما بيّنا.

وعليه فلا خطأ في كلام المسيح الموعود عليه السلام كله، ولا عجمة ولا خلط بين المفردات الأردية والعربية. فكلمة حِفاظة مصدر يعني بالعربية الحماية والعناية وتوفير السلامة والأمن ، وبهذه المعاني كلها تستعمل في اللغة الأردية أيضا.

فمن الذي يجهل الاشتقاق والمفردات العربية إذن، أهو المسيح الموعود عليه السلام أو المعترض الذي يثبت جهله في كل كلمة يقولها ويكتبها؟!

بقي أن ننوّه إلى أن وجود مصدر آخر سماعي للفعل (حَفِظ) كالمصدر (حِفْظ)، لا يمنع اشتقاق مصدر آخر له قياسا على الأوزان القياسية، وهذا ما صرّح به النحو الوافي في مواضع عدة، مشيرا إلى أن السماع لا يمنع القياس على أوزان أخرى للمصدر واشتقاقه، وهو رأي كبار النحويين لا سيما فحول اللغة من المدرسة الكوفية. [يُنظر البيان الخاص بهذا في هامش الصفحات التالية من النحو الوافي (3/187-193)]