المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..278
نكنة جعْل كان التامة ناقصة
الاعتراض:
يدّعي المعترض أن المسيح الموعود عليه السلام قد أخطأ في الجملة التالية:
_ وذكر أنّ في آخر الزمان يكون قومًا مكّارين مفسدين، (حمامة البشرى)
وموضع الخطأ في أنّ (كان) الوارد في هذه الجملة، لا بدّ ان تكون (كان) التامة التي ترفع فاعلا فقط، فلا بدّ أن يقول: يكون قومٌ مكّارون. بينما كان الناقصة ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، كل هذا وفق زعم المعترض حيث يقول: (كان) الواردة في الجملة أعلاه جاءت ناقصة.
الرد:
لا أدري كيف يجيز المعترض لنفسه أن يعتبر كان الواردة في الجملة أعلاه ناقصة، وهو لا يرى اسما مرفوعا لها ولا خبرا منصوبا. فكان بإمكانه الادعاء مثلا أن الفاعل انتصب خطأ في هذه الجملة؛ أما القول إنها كان الناقصة فهو مجرد إلقاء للاعتراض دون تدبر وتعقل.
وحقيقة الأمر أنّ (كان) الواردة في هذه الجملة، لا هي بكان التامة ولا كان الناقصة! فقد غاب عن المعترض نوع آخر لكان وهو كان الزائدة المهملة، وهي في الحقيقة كان الواردة في الجملة المذكورة. فسواء كانت هذه الـ (كان) تامة او ناقصة، لوجب رفع كلمة (قوم) الواردة بعدها مع النعوت التابعة لها. غير أننا نرى بأن هذه الكان لم تؤثر في الكلمات الواردة بعدها، وذلك لكونها كان الزائدة المهملة، التي لا علمل لها فيما بعدها.
وعليه فيكون إعراب الجملة أعلاه كما يلي:
أنّ حرف مشبه بالفعل .
في آخر الزمان : جملة من الجار والمجروة والمضاف والمضاف إليه في محل رفع خبر أن المقدم.
يكون : زائدة مهملة لا عمل إعرابي لها.
قوما: اسم إن المؤخر المنصوب. مكارين مفسدين : نعوت منصوبة.
فهذه هي حقيقة هذه الجملة، ولا خطأ وارد فيها قطّ.
وقد فصّلنا الحديث عن كان الزائدة في مقال سابق، يُرجى الاطلاع عليه؛ وهو: مظاهر الإعجاز 2 ، على الرابط التالي: https://wp.me/pcWhoQ-2hp .
وهنا لنا أن نضيف ما أوجزه النحو الوافي عن كان الزائدة حيث قال:
“كان” ثلاثة أنواع: تامة، وناقصة، وقد عرفناهما – وزائدة، وقعت فى كثير من الأساليب المأثورة بلفظ الماضى، مع توسطها بين شيئين متلازمين؛ كالمبتدأ والخبر فى مثل: القطار – كان – قادم. أوالفعل والفاعل فى مثل: لم يتكلم – كان – غيرُك، أوالموصول وصلته فى مثل: أقبل الذى – كان – عرفته، أوالصفة والموصوف فى مثل: قصدتُ لزيارة صديقٍ – كان – مريض، أوالمعطوف والمعطوف عليه فى مثل: الصديق مخلص فى الشَّدة – كان – والرخاءِ، أو حرف الجر ومجروره فى مثل: القلم على – كان – المكتبِ، أوبين “ما” التعجبية وفعل التعجب فى مثل: ما – كان – أطيبَ كلامَك، وما – كان – أكرمَ فعلكَ … وقول الشاعر:
ما كان أسعدَ مَن أجابك آخذًا … بهداك، مجتنباً هَوًى وعِنادا
وقد وردت زيادتها بلفظ المضارع قليلا مع توطسه بين شيئين متلازمين فى مثل؛ أنت – تكون – رجلٌ نابهُ الشأن … غير أن هذه القلة لم تدخل فى اعتبار النحاة؛ فقد اشترطوا للحكم بزيادة: “كان” شرطين؛ أن تكون يصيغة الماضي، وأن تكون متوسطة بين شيئين متلازمين، على الوجه السالف.
لكن إذا وقت: “كان” زائدة، فما معنى زيادتها؟ وكيف نعربها؟ وأقياسيه تلك الزيادة، أم الأمر مقصور فيها على السماع؟
أما معنى زيادتها فأمران؛ أولهما؛ أنها غير عاملة، فلا تحتاج إلى معمول من فاعل، أومفعول أواسم وخبر، أو غيرهما؛ إذ ليس لها عمل؛ وليست معمولة لغيرها. وهذا شأن كل فعل زائد.- ولا يتأثر صوغ الأسلوب بحذفها.
وثانيهما: أن الكلام يستغني عنها، فلا ينقص معناه بحذفها. ولا يخفى المراد منه، وكل فائدتها أنها تمنح المعنى الموجود قوة، وتوكيداً؛ فليس من شأنها أن تُحدِث معنى جديداً، ولا أن تزيد فى المعنى الموجود شيئاً إلا التقوية. فحين نقول: الوالد عطوف، فإننا نريد من هذه الجملة نسبة العطف والحنان إلى الوالد، وإلصاقهما بذاته: فلو قلنا؛ والله الوالدُ عطوف. أو: إن الولد عطوف … لم يزد المعنى شيئاً، ولم ينقص؛ ولكنه استفاد قوة وتمكناً؛ بسبب القسَم، أو: “إنّ” وأشباههما. ومثل هذا يحصل من زيادة “كان” حين نقول: الوالد – كان – عطوفٌ. وفرق كبير بين كلمة تنشئ معنى جديداً، أوتزيد فى المعنى القائم، وكلمة أخرى لا تنشئ معنى جديداً ولا تزيد فى المعنى الموجود، ولكنها تقتصر على تأكيده وتقويته. لهذا تجردت كلمة: “كان” عند زيادتها من الحدث الذى يكون فى الفعل؛ فلا تحتاج إلى فاعل، ولا إلى اسم، وخبر، ولا لشئ آخر مطلقاً؛ لأن الذى يحتاج لذلك إنما هوالفعل الذى له حَدَث، ومنه: “كان” التامة أوالناقصة. أما الزائدة فمخالفة لهما فى ذلك؛ فهي مقصورة على نفسها حين تكون بصيغة الماضى.
والراجح أنها تدل على الزمن الماضى إذا كانت بصيغته. ولا سيما إذا توسطت بين “ما” التعجبية وفعل التعجب؛ فى مثل: ما – كان – أحسنَ صنيعك، وما – كان – أرَقّ حديثَك؛ فإنها فى هذه الصورة تدل على الزمن الماضى، إذ المراد أن الحسن والرقة كانا فيما مضى ولا تدل على غيره، ولا تحتاج لفاعل، ولا لشئ آخر، كما لا يحتاج عامل ليؤثر فيها.
أما قياسية استعمالها أو الاقتصار فيها على السماع فالأنسب الأخذ بالرأى القائل بقياسيتها فى التعجب وحده، دون غيره من باقى الحالات؛ منعاً للخلط، وفِراراً من سوء الاستعمال، وهذان عيبان يتوقاهما الحريص على لغته، الخبير بأسرارها.
وقد وردت زيادة بعض أخواتها، كأصبح، وأمسى، فى قولهم: الدنيا ما أصبحَ أبْرَدَها، وما أمسى – أدْفأها. يريدون: ما أبردها وما أدفاها … والأمر فى هذا وأشباهه مقصور على السماع لا محالة.
“ملاحظة عامة”: الأصل في الكلمة – مهما اختلفت أنواعها، وتباينت صيغها أن تكون عاملة، أو معمولة، أو هما معا، وهذا الأصل واجب المراعاة – دائما – عند عدم المانع، والأخذ به مقدم” حين الفصل في أمر الكلمة من ناحية أصالتها، أو زيادتها. فليس من المستحسن الحكم عليها بالزيادة إذا أمكن الحكم لها بالأصالة.” [النحو الوافي (1/ 581-579) ]
ومما نقلناه من النحو الوافي نخلص إلى الأمور التالية:
_ قد تفع كان زائدة بين لفظين متلازمين، وقد فسر النحو الوافي هذا التلازم في الهامش حيث قال:
أي: لا يوجد أحدهما بدون الآخر – ولو تقديرا- إذ لا يمكن أن يستقل بنفسه واحد منهما. وتوسطها بينهما يقتضي أنها لا تقع في أول الجملة أو آخرها، فلا بد أن تكون حشوا بين متلازمين.[ النحو الوافي (1/ 579)
_ في حالة زيادتها فهي لا تدل على حدث، لذا فلا تعمل ولا يُعمل بها. ولذا فهي لا تحتاج لفاعل أو اسم وخبر، ولا يتاثر الكلام بحذفها.
_ زيادتها لم تات عابثة كما يظن المعارضون، بل تأتي لتوكيد الكلام وتمكينه، والدلالة على الزمن فقط.
_ جاءت كان الزائدة على الغالب بصيغة الماضي، ولكن وردت زيادتها أيضا بصيغة المضارع.
_ اشترط النحاة لزيادتها أن تكون بلفظ الماضي، وأن تتوسط بين لفظين متلازمين.
_ وأما بالنسبة لقياسيتها، فذهب النحو الوافي إلى الراي القائل بقياسيتها فقط في أسلوب التعجب.
وما يهمنا في كل هذان ان ورود كان زائدة بلفظ المضارع وارد في لغات العرب، ولسنا مقيّدين في اعتبارات النحاة واشتراطهم كونها بصيغة الماضي وما هو مقيس عندهم أو غير مقيس، نظرا لتعدد واختلاف الآراء بين النحاة في كل هذه الأمور وكون هذه الاعتبارات والمقاييس غير قطعية.
وما يهمنا أنه يثبت من كل هذا، أن زيادة (يكون) بصيغة المضارع هي لغة من لغات العرب، التي تكلم بها المسيح الموعود عليه السلام، ولا خطأ في أقواله هذه ولا في الجملة المذكورة أعلاه.