بسم الله الرحمن الرحيم
{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } (الأنبياء 19)
إعلان 3/ شباط/ 1892 وحديث أبي هريرة، لا ينفيان نبوّة المسيح الموعود عليه السّلام
الحلقة الثالثة عشرة في ردّ اعتراضات النبوة
هذه هي الحلقة الثالثة عشرة في الردّ على الاعتراضات حول نبوّة المسيح الموعود عليه السلام. نبيّن من خلالها المعنى الحقيقي لإعلان 3 شباط 1892 وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الوارد فيه، ونؤكد في هذه الحلقة أن ما ورد في هذا الإعلان من عبارات ينفي فيها المسيح الموعود عليه السلام النبوة الحقيقية عن نفسه، إنما قصد بها نبوة التشريع والاستقلال لا غير، ولم ينف عن نفسه جميع أشكال النبوة وكونَه نبيا من منطلق كثرة إظهاره على الغيب، كما أن بعض العبارات التي وردت في هذا الإعلان من تصنيف نفسه بين المحدّثين فقط، أو وجوب شطب كلمة نبيّ بحقه، ووجوب اعتباره محدَّثا فقط، وأنّه لا يدّعي النبوة الحقيقية، كلها قد نُسِخت بشكل واضح وجليّ في نشرة إزالة خطأ سنة 1901 .
كنا قد بيّنا في الحلقات الماضية حقيقة نبوّة سيدنا أحمد عليه السلام، ورددنا على العديد من اعتراضات المعترضين في هذا الموضوع. أما الآن فنبدأ بعرض النصوص التي يستشهد بها المعترضون لتبرير ادعاءاتهم حول نبوة سيدنا أحمد عليه السلام، ولإثبات أن حضرته عليه السلام لم يدّع النبوة الحقيقية بل لم يدّع النبوة قط.فسنبدأ بهذه الحلقة بعرض هذه النصوص والوقوف عليها وعلى معانيها الحقيقية لدحض الأفكار التي يدلي بها المعترضون بناء عليها.
فأحد هذه النصوص هو الإعلان 3-2-1892 الذي يطنطن عليه المعترضون كثيرا لإثبات ادعاءاتهم:
“الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله خاتم النبيين. أما بعد فأُقول بكل أدب لجميع المسلمين بأن كلَّ الكلماتِ التي وردت في كتبي “فتح الإسلام” و”توضيح المرام” و”إزالة الأوهام” منها أن المحدَّث يكون نبيا من وجه أو أن المحدثية نبوة جزئية أو المحدَّثية نبوة ناقصة، فكل هذه الكلمات ليس محمولة على معناها الحقيقي، بل ذُكرت بكل بساطة من حيث معانيها اللغوية. وإلا حاشا لله، فأنا لا أدّعي النبوة الحقيقية قط. بل كما قلت في الصفحة 137 في “إزالة الأوهام” إني أؤمن بأن سيدنا ومولانا محمد المصطفى ﷺ هو خاتم النبيين.”
“فأريد أن أوضح على الإخوة المسلمين جميعا أنهم إذا كانوا ساخطين من هذه الكلمات أو تشق على قلوبهم فليعتبروها مبدَّلة قليلا وليعتبروا أن كلمة “المحدَّث” من عندي لأني لا أريد الفُرقة بين المسلمين بحال من الأحوال.إن الله جلّ شأنه أعلم بنيتي منذ البداية بأنني لم أقصد من كلمة “نبي” نبوة حقيقية قط بل المراد هو المحدَّثية فقط.”
” وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم معناها بالمكلَّم. فقال عن المحدَّثين: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ (صحيح البخاري) ”
“ فلا مانع عندي من بيان هذه الكلمة بأسلوب آخر مراعاة لقلب إخوتي المسلمين. والأسلوب الآخر هو أن يستبدلوا بكلمة “نبي” كلمة “المحدَّث” في كل مكان، وأن يعتبروا كلمة “نبي” مشطوبة.”
الاعتراض الحادي عشر:
فوفق هذا الإعلان يقول المعترضون :
- إنّ سيدنا أحمد عليه السلام يؤكد على وجوب الإيمان به كمحدَّث وليس كنبيّ، وأنكر نبوته وأنكر جميع أشكال النبوة في حقه، وأكّد أنه فقط محدَّث. وذلك بقوله: “بأنني لم أقصد من كلمة “نبيّ” نبوّة حقيقية قطّ بل المراد هو المحدَّثية فقط.“
- واستشهد حضرته على ذلك بحديث للرسول صلى الله عليه وسلّم، حيث صنّف نفسه وفق هذا الحديث بين محدَّثي الأمة دون أن يكونَ نبيّا.
- وأمر المسيح الموعود عليه السلام بشطب كلمة “نبيّ” وعدم استعمالها في حقه، بل استعمال كلمة “محدَّث” بدلا منها.
الردّ:
هذا الإعلان يعود إلى سنة 1892 وذلك في الفترة التي كان يرى بها أن النبوة الحقيقية الكاملة لا بدّ ان تكون نبوة تشريعية بشريعة جديدة أو نبوة مستقلة، ولذا كان يعتبر نبوته المبنية على كثرة الإظهار على الغيب أنها نبوة غير حقيقية بل تنطبق على نبوة المحدَّثين الناقصة. فليس من الغريب، والحال هذه، أن يصدر من حضرته إعلانات وتصريحات، كهذا الذي أوردناه، ينكر فيها كونه نبيا بنبوة حقيقية – بمعنى أنه ليس مشرعا ولا مستقلا بنبوته- ويؤكد على كونه محدَّثا فقط.
إلا إن كل هذا قد تغيّر سنة 1901 حيث تغيّر فهمه وتأويله لمكانة نبوته هذه، حيث أصبح يعتبرها حقيقية كما سبق، وأسهبنا في توضيحه في الحلقات الماضية.
ثم إن تصريحه عليه السلام باعتبار الكلمات مبدّلة، لا يدل على تخليه هو بنفسه عن هذه الكلمات أو عن كونه نبيّا بنبوة ظلية لكثرة إظهاره على الغيب؛ وإنما يهدف من ذلك أن لا يقع الناس في الفتنة والفرقة، خاصة وأن هذه النبوّة تقتصر على نبوة التحديث الناقصة مثلما كان يراها هو في ذلك الوقت (قبل 1901). فقد جاء هذا التّصريح تواضعا منه وتفاديا أن يفهم الناس نبوته خطأ فيحسبوها نبوة تشريعية ومستقلة.
ولذلك فحضرته عليه السلام لم ينكر في نصّ الإعلان الوارد أعلاه كونه نبيا بشكل كليّ ولم ينف جميع أنواع النبوة عن نفسه، فلم ينكر كونه نبيا وفق المعنى اللُّغوي المبني على كثرة الإظهار على الغيب والذي كان يراه نبوة ناقصة في ذلك الوقت، ثم فيما بعد تغيّر فهمه له بأنه النبوة الحقيقية بالفعل؛ والدليل على ذلك هو تصنيف نفسه بين المحدَّثين والذين كان يراهم بأنهم أنبياء بالقوة أو أنهم أنبياء بنبوة ناقصة، واستشهاده على ذلك بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن هذه العبارات : “فأنا لا أدّعي النبوة الحقيقية قط” أو “لم أقصد من كلمة “نبي” نبوة حقيقية قطّ بل المراد هو المحدَّثية فقط.” تفسرها العبارات الأخرى من إعلان ” إزالة خطأ” حيث قال حضرته: “حيثما أنكرتُ نبوتي ورسالتي فبمعنى أنني لم آت بشريعة مستقلة، كما أنني لست بنبي مستقل؛ ولكن حيث إني قد تلقيت علمَ الغيب من الله تعالى بواسطة رسولي المقتدى ﷺ، مستفيضًا بفيوضه الباطنة، ونائلًا اسمَه؛ فإنني رسول ونبي، ولكن بدون شرع جديد. ولم أنكر قط أنّي نبيّ بهذا المعنى، بل قد ناداني الله تعالى نبيًّا ورسولًا بهذا المعنى نفسه. لذلك لا أنكر الآن أيضًا أنّي نبيّ ورسول بهذا المعنى.” (إزالة خطأ، الخزائن الروحانية، المجلد 18، الصفحة 210-211)
ثم قوله عليه السلام بشطب كلمة “نبي” وإثبات كلمة محدَّث في حقه فينسخه القول التالي من كتاب “إزالة خطأ” بعد أن تغيّر تأويل حضرته لمعنى نبوته حيث قال :” إذا كان الذي يتلقى أخبار الغيب من الله تعالى لا يسمى نبيًّا فبالله أَخبِروني بأي اسم يجب أن يُدعى؟ فلو قلتم يجب أن يسمّى “محدَّثًا” لقلتُ لم يرد في أي قاموس أن التحديث يعني الإظهار على الغيب، ولكن النبوة تعني الإظهار على الغيب. ….ليس شرطًا أن يكون النبي مشرِّعا، فإنها ليست إلا موهبة تنكشف من خلالها أمورٌ غيبية“. ( إزالة خطأ 1901)
فنفى حضرته في هذا النصّ أن يكون كثرة الإظهار على الغيب نبوة ناقصة، وذلك لزوال شرط التشريع للنبوة الحقيقية، ونفى أن يكون كثرة الإظهار على الغيب يعني التحديث وأن المحدَّث نبي، ونفى بذلك كونه محدثا كالذين ذُكروا في حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأقرّ بالنبوة الكاملة؛ ويكون بذلك قد ماز نفسه عن محدَّثي الأمة الذين سبقوه وذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه.
فنرى أن هذا النصّ من “إزالة خطأ” قد نسخ أقوال حضرته عليه السلام في وجوب اعتباره محدَّثا فقط، ووجوب استعمال كلمة “محدَّث” بدلا من “نبي” في حقه، واستشهاد حضرته بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم والذي صنَّف نفسه بناء عليه بين المحدَّثين فقط لا بين الأنبياء.
وقد فسّر حضرته عليه السلام السبب في تمييز نفسه عن باقي محدَّثي الأمة في قوله التالي:
“فمجمل القول إنني أنا الفرد الوحيد الذي خُصَّ من بين الأمة بهذه الكثرة من الوحي الإلهي والأمور الغيبية، وكل من خلا قبلي من الأولياء والأبدال والأقطاب في الأمة لم يعطَوا هذا النصيب الوفير من هذه النعمة، ومن أجل ذلك أنا الوحيد الذي خُصَّ باسم “النبي”، بينما لم يستحقه هؤلاء جميعًا، لأن كثرة الوحي وكثرة الأمور الغيبية شرط لذلك، وهذا الشرط غير متوفر فيهم. وكان لا بد من أن يحدث ذلك لكي تتحقق نبوءة النبي – صلى الله عليه وسلم – بجلاء لأن الصلحاء الآخرين الذين خلَوا من قبلي لو حظُوا بالقدر نفسه من المكالمة والمخاطبة الإلهية والاطلاع على الأمور الغيبية واستحقوا أن يسمَّوا أنبياء لوقعت شبهة في نبوءته – صلى الله عليه وسلم -. لذا فقد منعت الحكمة الإلهية هؤلاء الصلحاء من نيل هذه النعمة كاملة؛ فقد ورد في الأحاديث أن شخصا واحدا فقط سينال هذه المرتبة، وبذلك ستتحقق النبوءة.” ( حقيقة الوحي 1907)
وهنا يصرّح حضرته (عليه السلام) بأفضليته على كل المحدَثين والمكلَّمين من أمة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم )، ومن بينهم عمر (رضي الله عنه ) مبيّنا السبب في ذلك، وهو أن كل هؤلاء الأولياء والمحدَّثين لم يحظَوا بكمية الإظهار على الغيب الذي خصَّه الله تعالى هو بها؛ وقد استشهد حضرته على ذلك بحديث آخر للرسول (صلى الله عليه وسلم) والوارد في صحيح مسلم عن المسيح بأنه نبي، حيث جاء فيه ” {وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمْ الْيَوْمَ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ } (صحيح مسلم, كتاب الفتن وأشراط الساعة). فهذا الحديث في صحيح مسلم يستثني المسيح عن باقي محدَّثي الأمة المحمدية في كونه نبيّا.
و لتأكيد هذا الأمر قال حضرته (عليه السلام) ما يلي:
“ثم انظر إلى كلام ابن سيرين حين سُئل عن مرتبة المهدي .. وقيل أهو كأبي بكر في فضائله؟ قال: بل هو أفضل من بعض الأنبياء” ( حمامة البشرى 1893)
ومن الجدير ذكره ، أن هذه العبارات ( محدّث، اعتبار كلمة نبي مشطوبة، نبوة ناقصة) لم يستعملها حضرته بعد 1901 مما يدل على أنه قد تغيّر فهمه لنبوته بأنها كاملة ولم تعد ناقصة وفق فهمه.
وخلاصة الكلام: إن استشهاد حضرته (عليه السلام) بحديث أبي هريرة لا ينفي عن نفسه جميع أشكال النبوة، بل يثبت عليه نبوة التحديث الناقصة التي كان يراها كذلك في بادئ الأمر ، وبحصول التغيّر في فهم حضرته عليه السلام لمعنى النبوة الكاملة، في عدم اشتراط التشريع والاستقلالية فيها؛ ومع إمتياز حضرته عليه السلام بخصوصية الإطلاع على الغيب بكثافة وغزارة لم يحظ بها المحدثون الآخرون، نال حضرته لقب نبي صراحة، ولم ينله الآخرون من المحدثين المذكورين في حديث أبي هريرة أمثال سيدنا عمر (رضي الله عنه) .
ثم وفق الاقتباس من كتاب إزالة خطأ الآنف الذكر لم يعد أي مجال لشطب كلمة نبي وإثبات كلمة محدَّث بدلا منها في حقه عليه السلام، لأنه قال فيه:” إذا كان الذي يتلقى أخبار الغيب من الله تعالى لا يسمى نبيًّا فبالله أَخبِروني بأي اسم يجب أن يُدعى؟”
بهذا، نكون قد رددنا على مجمل الاعتراضات التي يُدلي بها المعترضون بناء على هذا الإعلان 3-2-1892 ، والذي هو لا يختلف عن باقي الأقوال التي أدلى بها حضرته عليه السلام في تلك الفترة التي كان يؤول نبوته فيها على أنها نبوّة التحديث وليست النبوة الحقيقية، لأنه كان يرى أن النبوة الحقيقية تستلزم التشريع والاستقلال بالنبوة، الأمر الذي تغيّر فيما بعد مثلما أسهبنا في شرحه من قبل.