بسم الله الرحمن الرحيم
{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } (الأنبياء 19)
الحلقة الثالثة في ردّ الاعتراضات على نبوّة المسيح الموعود عليه السّلام
القولُ الثّابت في نبوّة المسيح الموعود عليه السلام، ردّا على:” القول غير الثّابت في النبوّة”
ملخص الحلقة:
ندحض في هذه الحلقة الاعتراض القائل بعدم ثبات حضرته عليه السلام في ادّعاءه النبوة، وعدم ادّعاء حضرته النبوة الحقيقية قطّ. ونثبت فيها ثَبات ادّعاء حضرته عليه السلام النبوّة بناء على الوحي الثابت الذي تلقاه من الله تعالى، وثَبات ادّعائه النبوة غير التشريعية وغير المستقلة؛ أما التغيّر الوحيد الذي طرأ في هذا الصدد، لهو في تأويل حضرته عليه السّلام لمفهوم النبوة الحقيقية من نبوة التشريع والاستقلال إلى نبوة كثرة الإظهار على الغيب التي تندرج تحتها نبوته؛ وهو ما أثبت في النهاية نبوّة حضرته الحقيقية الكاملة وادّعائه النبوّة الحقّة.
الحلقة كاملة:
متابعة في الرد على الاعتراض الأول الذي يقول:
- لم يدّع سيدنا أحمد عليه السلام النبوة الحقيقية قطّ، بل كان قد نفاها في العديد من النصوص، وادّعى النبوة الناقصة المجازية غير الحقيقة، ويقصد بها المحدَّثية فقط، ولم يغيّر موقفه هذا طوال حياته. أو أنه عليه السلام لم يكن ثابتا في إعلان نبوته، فكان يعلن نبوته تارة وينفيها تارة أخرى خوفا من الناس، وكنوع من الخداع والتزييف والعياذ بالله، وهدف المعترضين من كل هذا إثبات أن حضرته لم يعلن النبوة الحقّة ولم يكن نبيّا.
نتابع في تبيين المحكمات في مسألة نبوة حضرته عليه السلام
1- وهنا لا بد أن نبين أن لمصطلح النبوة مفهومين أساسيين وهما:
- أولا: المفهوم التقليدي والذي يعني أن النبي لا بد أن يكون نبيا تشريعيا أي يأتي بشريعة جديدة، أو يكون مستقلا بمعنى أنه تكون له سلطة على الشريعة بحيث يضيف ويغير فيها، ويكون قد تلقى نبوته مباشرة من الله تعالى وليس بفضل اتباعه لنبي آخر قبله.
- ثانيا: المفهوم اللغوي القرآني للنبوة، وهو المنبثق من المعنى اللغوي لكلمة “نبيّ” والتي هي صيغة مبالغة للجذر “نبأ”، والتي تعني كثرة الإنباء بالأخبار والأنباء المهمة ذات الوقع الكبير، وبالذات الأخبار الغيبية الإنذارية والتبشيرية، وهذا هو المفهوم القرآني أيضا “للنبي”، بناء على الآيات القرآنية التالية: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (27) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ….} (الجن 27-28) و الآية: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ …. } (الأَنعام 49)- هذا بشرط أن يحصل النبيّ على هذا اللقب من الله تعالى وليس بأن يسمِّي هو نفسَه نبيا.
2- وقد ظل سيدنا أحمد عليه السلام منذ اليوم الأول الذي ناداه به الله تعالى بأنه نبي ومرسل، يفهم ويُخضع هذه النبوة وفهمها، تحت المفهوم الثاني “للنبوة” وهو المفهوم اللغوي القرآني، وصرّح مرارا وتكرارا أن نبوته هذه مبنية على هذا الفهم من التكليم والتحديث والإظهار على الغيب، وليس وفق المفهوم الأول التقليدي السائد بين الناس، والذي يستلزم التشريع والاستقلالية بالنبوة. فقد أقر حضرته دائما بنبوته وفق المعنى اللغوي وبكونه نبيا تابعا للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ونفى دائما عن نفسه النبوة بالمعنى التقليدي أي أن يكون مشرعا ومستقلا في نبوته. وقد أكدّ على ذلك في العديد من النصوص نورد واحدة منها: حيثما أنكرت نبوتي ورسالتي فبمعنى أنني لست حامل شرع مستقل، كما أنني لست بنبي مستقل؛ ولكن حيث إني قد تلقيت علمَ الغيب من الله تعالى بواسطة رسولي المقتدى (، مستفيضًا بفيوضه الباطنة، ونائلا اسمَه؛ فإنني رسول ونبي، ولكن بدون أي شرع جديد. ولم أنكر أنّي نبيّ من هذا المنطلق قط، بل إن الله تعالى قد ناداني نبيًّا ورسولًا بهذا المعنى نفسه. لذلك لا أنكر الآن أيضا أنّي نبيّ ورسول بهذا المفهوم. (إزالة خطأ سنة 1901).
ومن كل هذا نرى أن الوحي النازل على حضرته كان ثابتا، وفهم حضرته لنبوته على أنها خاضعة للمفهوم اللغوي القرآني كان ثابتا، بحيث لا يسع أحدا أن يتهم حضرته بعدم الثبات في إعلان نبوته.
3- أما السبب في الشبهة التي وقع بها المعترضون، فهي أنه رغم الثبات والاستمرارية والتواتر في الوحي الذي نزل على سيدنا أحمد عليه السلام حتى آخر لحظة في حياته، إلا انه في بادئ الأمر، أي حتى سنة 1901م، وكنوع من التواضع واتباع الحيطة والحذر في تفسير الوحي النازل عليه، وأخذا بالحسبان المفهوم الإسلامي التقليدي للنبوة والذي يستلزم التشريع والاستقلالية بالنبوة والتي هي أمور لا تنطبق عليه، وكما هي سيرة الأنبياء عادة في اعتناق الاعتقاد السائد إلى الانكشاف التام عليهم،أي حتى يكشف الله عليهم غيره، كان يؤوّل هذه النبوة أنها فقط نبوة التحديث والمحدّثية، وعلى أنها نبوة جزئية مجازية، أو ناقصة وليست كاملة، إذ كان يرى أن النبوة الحقيقة لا بد أن تكون خاضعة للمفهوم التقليدي للنبوة العالق في أذهان الناس، والذي يستلزم أن يكون النبي مشرعا أو مستقلا. أي أنه كان يرى أن النبوة الحقيقية هي التي تكون وفق المفهوم التقليدي وليس اللغوي، فكان حضرته يعتبر نبوته ناقصة وأن مكانته هذه هي التحديث، حيث اعتبر حضرته عليه السلام التحديث نبوة جزئية أو نبوة بالقوة أو نبوة ناقصة، مثلما أوضح حضرته (عليه السلام) هذا الأمر حيث قال: “فالمحدَّث نبيٌّ بالقوة، ولو لم يكن سدّ باب النبوة لكان نبيا بالفعل، وجاز على هذا أن نقول: النبي مُحدَّث على وجه الكمال، لأنه جامع لجميع كمالاته على الوجه الأتم الأبلغ بالفعل، وكذلك جاز أن نقول إن المحدَّث نبي بناءً على استعداده الباطني أعني أن المحدَّث نبي بالقوة، وكمالات النبوة جميعها مخفيّة مضمَرة في التحديث، وما حبس ظهورها وخروجها إلى الفعل إلا سدّ باب النبوة“.( حمامة البشرى 1893)
وكان يرى وفقا لكل هذا أن باقي المحدّثين يشاركونه هذه النبوة الناقصة.
4- إلا أنه بعد أن أنبأه الله تعالى بأنه المسيح الموعود، وأن عيسى عليه السلام قد توفي ولن يعود، وذلك في أواخر عام 1890، وبتواتر الوحي النازل على حضرته في أمر النبوة، انكشف على حضرته عليه السلام أن النبوة الكاملة ليست بالضرورة أن تكون خاضعة للمفهوم التقليدي الذي يستلزم التشريع والاستقلال بالنبوة، بل إن التشريع والاستقلال ليسا شرطين لكمال النبوة، وأن المعنى الحقيقي للنبوة الكاملة مبني على المعنى اللغوي للنبوة، ألا وهو كثرة الإظهار على الغيب بالبشارات والإنذارات، بشرط أن الله عز وجل بنفسه يسمي النبي نبيا ويخلع عليه هذا الثوب.
5- فبتواتر الوحي النازل على حضرته والذي يناديه بأنه نبي ورسول وبإمعان النظر في الآيات القرآنية، اتضح لحضرته أن المفهوم القرآني والمفهوم الإسلامي الصحيح “للنبوة الكاملة الحقيقية”، هو ذلك المنبثق عن المعنى اللغوي والذي يشترط أمورا ثلاثة في النبي وهي : كثرة الإظهار على الغيب، وأن يكون هذا الغيب من البشارات والإنذارات وأن يكون الله تعالى هو الذي يسميه نبيا؛ ولم يعد كمال النبوة عنده مندرجا تحت المفهوم التقليدي الذي يشترط التشريع والاستقلال. فعرف حضرته عليه السلام أن نبوته نبوة كاملة حقيقية وليست ناقصة كما كان يؤولها مسبقا.
وهذا ما أقرّه حضرته في كتاب “إزالة خطأ” الذي ألفه سنة 1901، وأكّد فيه على نبوته بأنها نبوة كاملة حقيقية على عكس ما كان يؤوله سابقا بأنها ناقصة مجازية؛ فقد أعلنها في هذا الكتاب متخليا عن ذكر كونها ناقصة، بل أعلن أنها ” النبوة”. وبناء على ذلك فقد أنكر بهذا أن يكون التعريف اللغوي للنبي ينطبق على المحدَّث – كما فسره سابقا وفقا للتعريف التقليدي للنبوة – وأنكر أن يكون المحدّث نبيا، وأنكر أن يكون هو محدثا بل أقر بمكانته بأنه نبي، وبذلك يكون قد أنكر أن باقي المحدثين يشاركونه هذه النبوة، بل اعتبر أنهم يمكن أن يطلق عليهم مجازا بأنهم أنبياء ولكن لا ينبغي تسميتهم بذلك على الحقيقة، أما هو فهو الوحيد الذي يجب أن يسمى نبيا دونا عنهم، لأن تسميته بالنبي وردت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وفي الوحي الذي نزل عليه، وهذا لا يشاركه فيه أحد، حيث قال:
“إذا كان الذي يتلقى أخبار الغيب من الله تعالى لا يسمى نبيًّا فبالله أَخبِروني بأي اسم يجب أن يُدعى؟ فلو قلتم يجب أن يسمّى “محدَّثًا” لقلتُ لم يرد في أي قاموس أن التحديث يعني الإظهار على الغيب، ولكن النبوة تعني الإظهار على الغيب. والنبي لفظ مشترك بين العربية والعبرية، ففي العبرانية يقال له: نابي، وهو مشتق من نابا، والذي معناه مَن يتلقى الأخبار من الله تعالى وينبِئ بها. ليس شرطًا أن يكون النبي مشرِّعا، فإنها ليست إلا موهبة تنكشف من خلالها أمورٌ غيبية. فما دمتُ قد تلقيت إلى هذا الأوان نحو مائة وخمسين نبوءةً ورأيتُ تحققها بكل جلاء بأمِّ عيني فكيف يمكن أن أرفض إطلاق تسميةِ النبي أو الرسولِ على نفسي؟ وما دام الله تعالى بنفسه قد سماني بهذين الاسمين فأنّى لي أن أرفضهما أو أخاف غيره سبحانه وتعالى؟” ( إزالة خطأ 1901)
وأكد ذلك فيما بعد حيث قال:
“ولكن وحي الله – سبحانه وتعالى – الذي نزل عليَّ بعد ذلك كالمطر لم يدعني ثابتًا على العقيدة السابقة، وأُعطيتُ لقب “نبي” بصراحة تامة، بحيث إنني نبيٌ من ناحية، وتابعٌ للنبي – صلى الله عليه وسلم – ومِن أُمته من ناحية أخرى.” (1)( حقيقة الوحي)
6- ونظرا لهذا التغيّر في الفهم، والمبني على الوحي الرباني، ونظرا لكون حضرته عليه السلام قد خُصّ عن دون أقطاب الأمة وأبدالها وأوليائها ومحدَّثيها السابقين بكثرة وغزارة التحديث الإلاهي والإطلاع على الغيب؛ أعلن حضرته عليه السلام، أنه مرسل ونبي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ومن كمالات النبوة، فنبوته الظلية كاملة، غير أنها ليست تشريعية ولا مستقلة.. حيث قال: “فمجمل القول إنني أنا الفرد الوحيد الذي خُصَّ من بين الأمة بهذه الكثرة من الوحي الإلهي والأمور الغيبية، وكل من خلا قبلي من الأولياء والأبدال والأقطاب في الأمة لم يعطَوا هذا النصيب الوفير من هذه النعمة، ومن أجل ذلك أنا الوحيد الذي خُصَّ باسم “النبي”، بينما لم يستحقه هؤلاء جميعًا، لأن كثرة الوحي وكثرة الأمور الغيبية شرط لذلك، وهذا الشرط غير متوفر فيهم. وكان لا بد من أن يحدث ذلك لكي تتحقق نبوءة النبي – صلى الله عليه وسلم – بجلاء لأن الصلحاء الآخرين الذين خلَوا من قبلي لو حظُوا بالقدر نفسه من المكالمة والمخاطبة الإلهية والاطلاع على الأمور الغيبية واستحقوا أن يسمَّوا أنبياء لوقعت شبهة في نبوءته – صلى الله عليه وسلم -. لذا فقد منعت الحكمة الإلهية هؤلاء الصلحاء من نيل هذه النعمة كاملة؛ فقد ورد في الأحاديث أن شخصا واحدا فقط سينال هذه المرتبة، وبذلك ستتحقق النبوءة.” ( حقيقة الوحي 1907)
إجمالا لكل ما تقدم نقول:
تلخيصا لتطور فهم حضرته عليه السلام لمسألة نبوته لا بد من تتبع وتذكر النقاط الأساسية التالية:
- كان حضرته عليه السلام يُدعى بالوحي نبيا منذ بدء دعواه بل منذ زمن تأليف البراهين الأحمدية، ولم يتغير هذا الوحي بل بقي ثابتا طوال فترة دعواه، وبدون تقييد لنبوته أو انتقاص منها ومن قدرها.
- تواضعا من حضرته، وتوخيا للحذر في تأويل الوحي الإلهي، وأخذا بالحسبان أن المفهوم الإسلامي التقليدي للنبوة الحقيقية يستلزم الإتيان بشريعة جديدة أو الاستقلال بالنبوة، فهم حضرته نبوته أنها تندرج تحت المفهوم اللغوي للنبوة وهو كثرة الإظهار على الغيب بالبشارات والإنذارات.
- وأوّل حضرته هذه النبوة وهذا المفهوم اللغوي للنبوة أنها نبوة ناقصة مجازية، وتنطبق على التحديث، ووفق هذا الفهم صنّف نفسه بين المحدَّثين على اعتبار أن نبوته ناقصة مجازية.
- ولذا فكان يعدّ باقي محدثي الأمة أنهم يشاركونه هذا اللقب أي النبوة الناقصة أو المجازية.
- عندما أظهر الله تعالى له بالوحي المتواتر عليه، أن تعريف النبوة اللغوي هو تعريف النبوة الحقيقية وأنه هو التعريف القرآني للنبوة، بيَّن حضرته في “إزالة خطأ” بأن التعريف اللغوي للنبوة لا يعني التحديث، بل بيّن أنه هو النبوة الحقيقية بعينها؛ فأنكر أن يكون المحدَّث نبيا، ونسخ تصنيف نفسه بين المحدثين مع إقرار أنهم أنبياء مجازيون أيضا من حيث المكانة المرتبة وإن لم يسموا أنبياء، وأقر بنبوته الحقيقية الكاملة بشكل فعلي وصريح التي يجب أن تدعى نبوة، ويكون بذلك قد نفى أن يكون باقي محدثي الأمة مشاركين له في هذا التعريف.
- فالوحي كان ثابتا، وتفسير حضرته لنبوته بأنها تندرج تحت المفهوم اللغوي كان ثابتا ولم يتغير، والتغير الوحيد الذي طرأ وفق الوحي المتواتر أن مكانة هذه النبوة أصبحت النبوة الحقيقية، أما الإنكار والإثبات للنبوة فكان لتوخي حضرته الحذر في تفسير نبوته ليفهم الناس قصده من هذه النبوة، أنها نبوة الإظهار على الغيب وليست نبوة التشريع والاستقلال. فلا مكان للصراخ والعويل والاتهام بالقول غير الثابت في النبوة …وهذه هي المحكمات التي لا بدّ أن تردّ إليها كل النصوص والمتشابهات الأخرى في هذا الصدد.