تتَّبع فئة من المنافقين تكتيكا معروفا، وهو التمسك ظاهرا بالادعاء أنهم ينتمون إلى جماعة المؤمنين وهم في الحقيقة لا يؤمنون بها، ثم يبدأون بإثارة الشبهات التي هدفها الإساءة والتهوين من شأن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام والخلافة وذلك بمحاولتهم إثبات أخطاء مزعومة. ورغم سخف ما يقدمونه من أفكار ساذجة تصادم القرآن الكريم والسنة الشريفة بل والتاريخ والمنطق وغير ذلك، إلا أنهم يتطاولون بها ويقدمون كلامهم على كلام المسيح الموعود والخلافة، بل وتصل ببعضهم الوقاحة والخسة إلى طرح فرضيات وأمثلة يتسللون بها لواذا مدعين أنهم يريدون بها توضيخ الأمر ويستهدفون بها الإساءة للخلافة وإيذاء جماعة المؤمنين، وما تخفي صدورهم من حقد وغلٍّ على جماعة المؤمنين أكبر. وهذا التكتيك تكتيك معروف ومكشوف لا يخفى على أحد.
والجماعة ليست ضد حرية التفكير، بل على العكس، فهي التي تفجرها وتوجهها وترعاها وتؤكد عليها، وهي التي قدمت وتقدم فكرا متطورا أذهل خصومها بل وأخضع لها رقاب المنافقين الذين لم يجدوا بدا من القول به، ولكن لا بد أن تكون حرية الفكر في خدمة الجماعة وتحت رعاية الخلافة؛ أما لو ركب كل إنسان رأسه بناء على فكرة طرأت على باله أو تنزلت بها الشياطين عليه، ثم بدأ بمهاجمة الجماعة بسببها، فسيكون واضحا للعيان أن هذه الفكرة ليست إلا أنه ذريعة للتشكيك بالجماعة ومحاربة المؤمنين والتفريق بينهم. فعندما تطرد الجماعة هذه الفئة من المنافقين بقرار الخليفة إنما يكون ذلك بهدف كشف ألاعيبهم كي لا ينخدع بها من لا يعرفهم، وإخلاء مسئوليتها عن أفكارهم وتصرفاتهم، وليس بسبب فكرة معينة أو لأنها ضد الفكر وإعمال العقل كما يدعي هؤلاء المنافقون.
ولكن يجب أن يكون واضحا أنه ليس كل من يُطرد من الجماعة هو منافق، ولكنه بلا شك يكون قد ارتكب جرما يستحق عليه العقوبة، ويكون هذا القرار بمنزلة استنكار الجماعة وبراءتها وإخلاء مسئوليتها من هذا التصرف. ولا يُتخذ هذا القرار من قبل الخليفة نصره الله إلا بعد فحص وتمحيص وتدقيق. والذي لا يكون منافقا يكون الطرد بالنسبة له نوعا من العقوبة التعزيرية الإصلاحية، وينبغي أن تكون له سببا لكي يرجع إلى الله تعالى ويتوب، ثم يطلب العفو والصفح من الخليفة. ولنا في قصة المخلَّفين الثلاثة في القرآن الكريم مثال على ذلك؛ حيث إنهم قد اعتراهم خطأ وضعف طارئ بالتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا منافقين، ورفضوا أن يبرروا تخلفهم بالكذب كما فعل المنافقون، فعاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم بالطرد من جماعة المؤمنين، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، واستغفروا الله تعالى فغفر لهم وأعلن هذه المغفرة في القرآن الكريم. أما المنافقون الذين تعذروا بالكذب، فلم يعاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم ونجوا من الطرد، ولكنهم لم ينجوا بالطبع من عقاب الله تعالى وسخطه، ولو كانوا صدقوا وطردوا لكان خيرا لهم.
لذلك، فالذي يتعرض للطرد عليه أن يثبت بالفعل هل هو منافق حقا أم هو مجرد شخص ارتكب خطأ طارئا. فإن كان منافقا تمادى في غيه وإساءته وأصبح الطرد سببا لكشفه على حقيقته أكثر، فليذهب بعيدا غير مأسوف عليه. أما لو لم يكن، فالطرد سيكون سببا لتوبته ومغفرته.
والواقع ليس هناك موقف أكثر خزيا وأسوأ من النفاق لصاحبه. فالأجدر بالمنافق أن يحسم أمره ويترك الجبن والخسة ويعلن أنه لا ينتمي إلى جماعة المؤمنين ولا يؤمن بها ويؤسس جماعته الخاصة إن شاء أو ينزوي بعيدا، ولكن تأبى هذه الطبائع إلا أن تختار لنفسها الخزي، الذي هو جزء من عذاب الله تعالى في هذه الحياة الدنيا قبل عذاب الآخرة، فيستمرون في عدوانهم ومحاددتهم لله ورسوله ويزدادون خزيا يوما بعد يوم. فليعمل كلٌ على شاكلته، ومن يرد الله أن يضله ويخزيه فلن نملك له من الله شيئا.