أثناء بعثة التبشير التي أرسلها المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلى الدنمارك في خمسينيات القرن الماضي بدأ العديد من أهل الدنمارك يقبلون الإسلام، ومن بين هؤلاء الناس الأستاذ “سڤند أج مادسن Svend Aage Madsen” الذي كان يعمل أستاذاً تدريسياً في اللاهوت وَالذي كان عَلَى وشك أن يصبح قسيساً لإحدى الكنائس. تلقّى الأستاذ مادسن دعوة الجماعة الإسلامية الأحمدية للتعرف على تعاليم الإسلام بجديّة وصدر رحب، ولم يطل الوقت حتى أُعجب السيد مادسن بالإسلام لدرجة أنه مع التعمق بدراسة فكر المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام حول الإسلام ومع مطلع سنة 1955 لم يتردد الأستاذ مادسن في إعلان اعتناقه لهذا الدين العظيم وإرسال بيعته مباشرة إلى خليفة المسيح الثاني حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي أجابه بالقبول، فأخذ السيد سڤند مادسن يطلق على نفسه بعد قبول الإسلام اسم “عبد السَلام مادسن” فأوقف حياته في سبيل الإسلام وصار من أشدّ خُدّام الدين ولاء وحُبّاً له ولم يدّخر جهداً للتعريف والتبشير بالإسلام العظيم.

كان السيد سڤند مادسن أو عبد السَلام مادسن متعمقاً في دراسة الأدب الإسكندنافي وكان تخصصه في اللاهوت في هذا المجال، فاستفاد بعد دخول الإسلام في ترجمة عدد من الكتب والمقالات إلى اللغة الدنماركية وعمل في مجلة الجماعة “Aktiv Islam” في كتابة وترجمة الأدبيات المختلفة، وكانت باكورة أعماله الخالدة هي ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الدنماركية سنة 1967، وقد نالت هذه الترجمة الراقية والفريدة لمعاني القرآن الكريم ثناء واستحسانا عظيماً في البلاد استمر لعقود عديدة لدرجة أن السيد مادسن صار حتى نهاية القرن الماضي هو الرمز الرسمي للمسلمين كافة في الدنمارك.

للحصول على نسخة مجانية لهذه الترجمة الشهيرة يمكن الدخول هنا.

قدّم السيد مادسن خدمات جليلة للإسلام ونشر الدعوة في الدنمارك وأظهر على الدوام التزاماً عظيماً بالخلافة وتطبيق أوامرها في خدمة الخلق وتعريف الغرب بالإسلام، فأصبح الأستاذ مادسن في منتصف الستينيات نائب رئيس الجماعة الإسلامية الأحمدية لفرع الدنمارك وذلك في عهد خليفة المسيح الثالث حضرة مرزا ناصر أحمد رحمه الله، وقد ترأس السيد مادسن وفد الجماعة الإسلامية الأحمدية عند طلب بناء أول مساجد الجماعة بل وأول مساجد المسلمين قاطبة في الدنمارك، فتم الحصول بفضل الله تعالى في 1966 على الإذن بالبناء وذلك بموافقة رئيس وزراء الدنمارك شخصياً لوضع حجر الأساس للمسجد الذي أسسه الخليفة الثالث رحمه الله وافتُتح في العام التالي أي سنة 1967 في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، ألا وهو “مسجد نصرت جهان”.

مسجد نصرت جهان، كوبنهاغن.
مسجد نصرت جهان، كوبنهاغن.

كان السيد مادسن أول المحتجّين على نشر إحدى المجلات الدنماركية الرسوم الكاريكاتورية سيئة الصيت التي تسيء إلى النبي الأعظم سيدنا مُحَمَّد المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد خاطب الجريدة التي نشرت تلك الرسوم الهزلية ووصفها بأنها تريد بث الكراهية والحزن في قلوب المسلمين وخلق فتنة بين الناس لأن عملاً كهذا لا فائدة منه للمجلة على الإطلاق، وانتقد بكل قوة وموضوعية تلك الرسوم الرديئة وكان موقفه فخر للمسلمين جميعا، وقد ذكره أمير المؤمنين أيَّدَهُ اللهُ بِنَصْرِهِ العَزِيز في خطبة الجمعة في 2006 مشيداً به كموقف مثالي للمسلم.

عاش السيد مادسن حياة طويلة وطيبة حافلة بخدمة الإسلام ونشر دعوته حتى وافاه الأجل في 25 يونيو 2007. وقد ذكر أمير المؤمنين حضرة مرزا مسرور أحمد أيَّدَهُ اللهُ بِنَصْرِهِ العَزِيز نبأ وفاة السيد مادسن في خطبة الجمعة بتاريخ 29 يونيو2007 ووصفه بعبارة “أشدّ المؤمنين إخلاصاً” في الدنمارك مع نبذة عن حياته الشريفة.

محادثة طريفة بين مادسن وشيخ الأزهر

دار الحوار التالي بين السيد مادسن من الدنمارك وبين الشيخ محمود شلتوت المفتي العام وشيخ الأزهر الذي نال شهرة واسعة في العام 1962م عندما أفتى في مسألة وفاة عيسى ابن مريم عليه السلام. وقد انتهز السيد مادسن هذه الزيارة التي قام بها إلى القاهرة وتقدم بزيارة فضيلة الشيخ الأكبر محمود شلتوت شيخ الأزهر، ولم يكن هناك موضوع محدد من قبل السيد مادسن غير أنه كتب على البطاقة “رفع عيسى عليه السلام”، وبعد رؤية شيخ الأزهر شلتوت لهذه البطاقة من السيد مادسن بدأت المحادثة كما سجّلها السيد مادسن:

شيخ الأزهر: إنَّ عقيدتنا عن المسيح عليه السلام لهي نفس ما يعتقد به الأحمديون أنه لم يُرفع إلى السماء بجسمه بل كان رفعه روحياً. وأضف إلى ذلك أن معنى ” التوفي” هو رفع الروح بعد الموت، والإستعمال اللغوي أيضاً يُصدّق هذا المعنى. ولا تفريق في قضية بين المسيح وسائر الأنبياء عليهم السلام جميعاً وكما أن روحه في السماء كذلك ان روح سائر الأنبياء والصالحين أيضاً في السماء.

وهنا تدخّلَ بعضُ العلماء الجالسين حول فضيلة الشيخ وألحّوا عليه بأن يوجه إلي بعض الأسئلة. ولقد سمعت خلال حديثهم كلمات مثل “ميرزا غلام أحمد القادياني”، فسألني فضيلة الشيخ:

هل تؤمن بكون محمد عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين؟

السيد مادسن: يقيناً وبكل تأكيد، نحن الأحمديون نؤمن بكونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين. ولمّا كان القرآن المجيد قد أقرّ بكونه ﷺ خاتم النبيين فكيف يمكن لمسلم أن لا يعتقد بذلك.

شيخ الأزهر: هل تؤمن بصحة حديث “لا نبي بعدي؟

السيد مادسن: هذا يتعلق بمعنى النبي، فإذا كان النبي بمعنى الشارع (يعني المشرع) أو صاحب الكتاب فلن يأتي مثل هذا النبي بعد مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام حسب نص القرآن {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. إنَّ الشريعة قد تمّت وكملت وبلغت ذروة كمالها بصورة القرآن المجيد، لا نسخ فيه ولا تبديل ولا نقص فيه ولا زيادة إلى يوم القيامة، لكن النبي بالمعنى اللغوي يُطلق على الشخص الذي يشرّفه اللهُ تعالى بالوحي وعلى أساس ذلك الوحي هو ينبئ بأخبار الغيب، ونظراً إلى المعنى الأخير يمكن أن يكون هناك نبيٌّ بعد سيدنا مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام.

شيخ الأزهر: هل يكون الوحي الى ذلك الشخص مثل الذي أُوحي إلى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟

السيد مادسن: مصدر كل وحي واحد، لأن الله تعالى وحده يوحي إلى من يشاء، غير أن الوحي إلى أحد أفراد الأمة لا يمكن أن يشابه وحي سيدنا مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام لأنه كما سبق أن قلتُ إنَّ الوحي إلى فرد من الأمة لا يكون من الشريعة في شىء ولا يمكن ان يكون ذلك.

شيخ الأزهر: نعم، إنني أعتقد أن الوحي يمكن أن ينزل بعد مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام (وهنا لم يتبين لي أن فضيلة الشيخ يريد بذلك مُطلق الوحي أم نوعاً خاصاً منه، والأغلب أراد بذلك غير وحي الشريعة).

السيد مادسن: إني أريد أن أوجه إليك سؤالاً وهو: هل ترى أن الأحمديين مسلمون؟

شيخ الأزهر: إن كان الأحمديون يعتقدون بكون محمد عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين كما أوضحتم فإنهم مسلمون حقاً. لكن ماذا تعني بالشريعة المحمدية التي ردّدتها مراراً؟

السيد مادسن: مِن المُتعذَّر أن آتي على تفصيل ذلك ببضع جُمل في هذا الوقت القصير، غير أننا المسلمون الأحمديون في الدنمارك نقوم بواجباتنا الدينية حسب الأساس المعروف العام، وهو الشهادة بالتوحيد ورسالة سيدنا مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وأداء الصلوات الخمس المفروضة وصيام رمضان وغيره.

شيخ الأزهر: والحج؟

السيد مادسن: أمنيتي الغالية أن أتمكن من حجَّ بيت الله تعالى وسأقوم بهذه الفريضة إن شاء الله تعالى.

شيخ الأزهر: ماذا ترى في الجهاد؟

السيد مادسن: إنَّ رأيَنا في هذه القضية هو نفس ماصرّح به القُرآنُ الكريمُ بهذا الصدد أنَّ الجهاد الذي أُذِنَ به في آيات سورة الحج إنما هو لردِّ العدوان الذي يهدف إلى القضاء على الحرية الدينية، كما أنَّ الجهاد على عدة أنواع كالجهاد بالسيف والجهاد بالقرآن وغيره وأولها لا يجوز إلا للدفاع عن الحرية الدينية.

شيخ الأزهر: وبماذا تعبّر الدفاع ضد العدوان؟ أفَلَمْ تكن حربنا ضد القوى الثلاث جهاداً؟

السيد مادسن: لا شك أن أحد الشروط هو حصول الهجوم العدواني، غير أن هجوم الأنجليز والفرنسيين لو كان لفرض المسيحية على الناس وإستئصال شأفة الإسلام والقضاء على الدعوة الإسلامية نظرياً وعملياً لكانت محاربتهم عندئذٍ جهاداً. ولكن حربكم هذه لم تكن جهاداً كما تشهد الحقائق، بل إنها كانت دفاعية حقاً.

فابتسم فضيلة الشيخ بجوابي وأقرّ بصحته.

هذا هو الحق والصدق وهذا هو الإسلام الذي يجاهد الأحمديون لإحيائه ونشره والعلماء والشيوخ من المسلمين يعرفونه ومنهم الذين لا يشتغلون بالسياسة لكسب الدنيا الدنية ولا يخافون لومة لائم، هم يصدقون الأحمديين علناً وجهراً ويؤيدونهم، والعلماء السياسيون يكذبون الأحمدية ويكفرون الأحمديين.

فيا أخي أختر لنفسك طريق الصلحاء أو طريق الزعماء السياسيين الماديين .

ثبتنا الله تعالى وهدانا وإياكم الى الطريق القويم .. ٱمين.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

المصادر:

1- Nielsen, Jørgen S. (2012). Islam in Denmark: The Challenge of Diversity. Lexington Books.

2- Jocelyne Cesari. The Oxford Handbook of European Islam. p. 407.

3-كتاب “نسأل المعارضين لنا وعلمائهم” للمبشر الإسلامي الأحمدي فضل إلهي بشير رحمه الله تعالى

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد