إن سورة مريم في القرآن الكريم تتحدث عن المسيحية، وتفنّد عقائدها…

ولكن لماذا استهل الله تعالى هذه السورة بذكر زكريا ؏ وما الحكمة في الحديث عنه قبل التطرق إلى المسيحية؟

هذه مسألة هامة يجب توضيحها

اعلم أن زكريا ؏ هذا هو غير زكريا صاحب الكتاب الموجود في التوراة، والذي جاء في عام 487 قبل الميلاد. إن زكريا هذا الذي جاء قبيل المسيح عليهما السلام، والذي كفَل أُمَّه، فكان أيضًا نبيًّا بحسب القرآن الكريم، بينما تذكره الأناجيل بصفة كاهن فحسب، وليس كنبيّ… ويبدو أن الكتاب المقدس كان يسمّي النبيَ الذي يُبعث لتكميل مهمة نبي آخر كاهنًا…

ولكن التدبر في التوراة يكشف لنا أن الله تعالى كان يبعث رسله حتى في المناطق الصغيرة جدًّا نظرًا إلى حالة اليهود، حتى بُعث أحيانًا مئات الأنبياء في وقت واحد (الملوك الأول 22: 6)، بل جاء بعض الأنبياء الكبار في زمن واحد… على كل حال، فزكريا كاهن عند الإنجيل، ولكن القرآن الكريم يسميه نبيًّا، وزكريا ؏ المذكور هنا هو ذلك الذي كان كفيلاً لأم المسيح ؏ والذي بُعث في زمن قريب جدًّا من ظهور المسيح.

لماذا ذكر زكريا قبل التحدث عن المسيحية؟

إن السبب الأول لورود اسم زكريا في القرآن قبل الحديث المسهب عن المسيحية هو وجود النبوءة الشائعة بين اليهود أنه لا بد من نـزول إيليا قبل ظهور المسيح؛ وبما أنه كان من المقدر أن يرزق زكريا ابنَه يحيى الذي كان إرهاصًا للمسيح.. بمعنى أنه جاء ليمهّد لمجيء المسيح، وبتعبير آخر جاء ليذكّر اليهودَ بمجيء المسيح ويعرّفهم عليه.. فلذلك قد ذكر الله تعالى زكريا قبل الحديث عن المسيح. فإننا نقرأ في التوراة نبوءة ملاخي النبي التالية: “هأنذا أُرسلُ إليكم إيليّا النبيَّ قبل مجيء يوم الرب، اليومِ العظيم والمخوف” (ملاخي 4: 5).

علمًا أن المراد من “يوم الرب، اليوم العظيم المخوف” هو مجيء المسيح الناصري، فإنه ؏ لما أعلن دعواه سأله اليهود السؤال نفسه وقالوا: أين إيليّا المزمَعُ نـزوله؟ فأوضح لهم أنه لم يكن المراد من نـزول إيليا إلا مجيء يوحنا وقال: “وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليّا المزمَعُ أن يأتي” (متى 11: 14).

فبما أن المسيح ؏ ما كان ليُبعث ما لم يأت يحيى -الذي يدعى يوحنا في الإنجيل، والذي كان بُروزًا وظلاًّ لإيليا- فكان لزامًا ذكرُه قبل ذكر ميلاد المسيح عليهما السلام، إشارةً إلى أن نبوءة ملاخي النبي قد تحققت، وأن إيليا الذي نبّأ ملاخيُّ بنـزوله قد جاء، وأن المسيح أيضًا قد ظهر.

والسبب الثاني لورود قصة زكريا هنا، بحسب ما يتضح من القرآن الكريم، هو أن مريم كانت سببًا لولادة يحيى عليهما السلام، حيث قال الله تعالى (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران: 38-39). أي أن زكريا الذي كفل مريم، والذي لم يكن قد رُزِق أولادًا بعد، ذهب مرة إلى مكان عبادته، فوجد عند مريم، الصبية الصغيرة في رعايته، طعامًا، فسألها كما يسأل الكبارُ الصغارَ لطفًا ومداعبة: يا ابنتي مِن أين لك هذا الطعام؟ قالت: هو من عند الله.

يقول المفسرون أن الله تعالى كان يُنـزل لمريم الطعام من السماء (الرازي). ولكن لا ذكر للسماء هنا. إنما الواقع أنها أجابت بهذا الجواب نتيجة التربية الحسنة التي تلقّتْها. فنحن أيضًا نعلّم صغارنا أنه إذا سألهم أحد من أعطاكم هذا الشيء فقولوا: الله تعالى. فلما سمع زكريا من صبية، عمرها ثلاث أو أربع سنوات، أن الله تعالى هو الذي يمنحها كل نعمة، وهو الذي أعطاني هذه النعم كلها، تأثر من جوابها تأثرًا كبيرًا. فقال في نفسه ما دام الله تعالى هو الذي يعطي كل شيء في الواقع، حتى إن هذه البنت الصغيرة أيضًا تدرك ذلك، فما لي، وأنا إنسان عاقل مجرب، لا أوقن بأن الله تعالى هو الذي يمنح كل شيء. (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) (آل عمران: 39).. أي أنه لدى سماع جوابها فكر وقال في نفسه: عندي أيضًا حاجة، لم لا أسأل الله إياها؟ ليس عندي أي أولاد. لو كان عندي ولد مثل مريم، وسألته، أَنَّى لك هذا يا بُنيّ، فقال: هذا من عند الله، لأدخلَ في قلبي السرور كما سرّتني مريم بجوابها.

إذًا فكانت مريم حافزًا دفَع زكريا ؏ إلى الدعاء لولادة يحيى، وهكذا فكما أن يحيى بُعث إرهاصًا للمسيح صارت مريمُ والدةُ المسيح -بطريق غير مباشر- إرهاصًا لولادة يحيى، حيث سُمع دعاء زكريا فوُلد عنده يحيى.

لقد قال الله تعالى هنا (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (مريم: 3) ولم يقل “ذكرُ رحمةِ ربِّك زكريا”. ذلك لأن فيه حكمة بالغة سأذكرها لاحقًا. إنه من مزايا القرآن الكريم أنه ينتقي الكلمات بحيث تأتي كل كلمة بحسب الحاجة، ولا تكون زائدة بلا فائدة. ففي هذه الآية أيضًا استخدم القرآن كلمة (ذِكرُ) التي تقديرها “هذا ذِكرُ”، وهي لا تعني سرد واقعة فحسب، بل تعني أيضًا التذكير بها، بمعنى أن الواقعة التي يسردها القرآن هنا تبلغ من الأهمية بحيث يجب أن يتذكرها الجميع ويؤمنوا بعظمة الله وقدرته ﷻ.

ثم قال الله تعالى (رحمةِ ربِّك).. أي أن هذه القصة آيةُ رحمةٍ من ربِّك.

وهنا ينشأ سؤال

وهو أن هذه الواقعة كانت دليلاً على رحمة الله بزكريا وعلى ربوبيته لمريم، فلمَ قال الله تعالى (رحمةِ ربِّك) بدلاً من أن يقول (رحمة الرب)؟

والجواب أن ضمير الخطاب في (رحمةِ ربِّك) يدل صراحة على أن هذا ذكرٌ لربوبية الله لمحمد ﷺ. ذلك أننا لو أمعنّا النظر لوجدنا أن يحيى كما كان إرهاصًا لعيسى عليهما السلام كان عيسى إرهاصًا لمحمد رسول الله ﷺ. وبيان ذلك أن ولادة المسيح من غير أب كانت إيذانًا بانتهاء الدور الموسوي وابتداء الدور الذي يتحقق فيه الوعد الذي قطعه الله تعالى مع إبراهيم في حق ابنه إسماعيل إذ قال: “ها أنا أباركه وأُثمره وأكثّره كثيرًا جدًّا. اثني عشر رئيسًا يَلِدُ، وأجعله أمّةً كبيرة” (التكوين 17: 20، 21: 18)؛ كما يتحقق فيه الوعد الذي تم على لسان موسى حيث ورد: “يقيم لك الربُّ إلهُك نبيًّا مِن وسطك مِن إخوتك مثلي. لـه تسمعون” (التثنية 18: 15).

فلما كانت واقعة زكريا ؏ حلقةً من سلسلة طويلة الحلقات قال الله تعالى هنا (رحمة ربك)، ليخبر نبيه محمدًا ﷺ أنه من آيات رحمة ربه أنه تعالى قد بدأ يجهّز الناسَ لتصديقه منذ زمن طويل، إذ خلق يحيى أولاً ليكون إرهاصًا لعيسى، ثم خلق عيسى ليمهّد من أجله.

ثم أضاف الله تعالى هنا كلمة (عبدَه)، مع أن الجملة كانت كاملة بدون هذه الزيادة أيضًا! والحكمة في ذلك أن رحمة الله نوعان: رحمة عامة ورحمة خاصة.. أعني أن هناك رحمة تنبع من صفة الله “الرحمن” حيث تشمل المؤمنَ والكافر كليهما؛ وهناك رحمة أُخرى مصدرها صفة الله “الرحيم”، وتنـزل فقط على عباده الذين هم من خدّامه من الطراز الأول جزاءً لهم. وقوله تعالى (رحمةِ ربِّك) لم يكشف ما إذا كانت هذه الرحمة نابعة من مصدر “الرحمانية” أم “الرحيمية”، فجاءت كلمة (عبدَه) لتكشف أن تلك الرحمة ليست من منبع الرحمانية والتي هي عامة وتنـزل بدون أي عمل ولا خدمة، بل هي من منبع الرحيمية.. أي أنها نـزلت نتيجة عمل، إذ كان عبدنا زكريا صالحًا وقام بخدمات جسيمة. وهذه المعاني كلها قد بيّنها الله تعالى بإشارات صرفية ونحوية بسيطة.

وقد علِمنا من ذلك أيضًا أن من الداعين من يستحق رحمة الله تعالى ومنهم من لا يستحقها. ولكن صفة الرحمة الإلهية أيضًا لا تتجلى تلقائيًّا، بل لا بد لإثارتها من بعض الأسباب. فتارةً المصائب، وأُخرى اضطهاد العدو، ومرّةً عجز الإنسان وعدم حيلته، يُحدث في قلب المرء هيجانًا غير عادي للدعاء الذي يستنـزل رحمة الله من السماء. وهذا يعني أن صفات الله تعالى إنما تظهر نتيجة بعض الحوافز المعينة. وأما الحافز الذي كان وراء نـزول رحمة الله على زكريا فقد ذُكر في الآية التالية حيث قال الله تعالى (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) (مريم: 4).. أي أن نداء زكريا ربَّه هو الذي جلب لـه الرحمة الإلهية التي لا تنـزل إلا على الخدام المخلصين.

… علمًا أن الدعاء نوعان: أولهما الدعاء الذي يُشرك فيه المرءُ الآخرين أيضًا، فيردد لذلك كلماتِ الدعاء بصوت عال؛ والثاني الدعاء الذي يقوم به الإنسان على انفراد، ولا يريد أن يُشرك فيه غيره، فيدعو بصوت خافت حتى لا يسمعه غيره. فيكون مثلاً في حالة اضطرار شديد، فيخاف أن يسمع الناس صوته لو تضرع في الدعاء أمامهم، فيدعو على الانفراد حتى لا يطّلع أحد على اضطرابه وابتهاله. فالله تعالى يخبرنا هنا أن زكريا (نادى ربَّه نداء خفيًّا).. أي دعاه ﷻ بصوت خافت، فلم يحب أن يُشرك غيره في دعائه.

لِمَ لم يرد زكريا ؏ أن يُشرك غيرَه في دعائه؟

نعرف سبب ذلك مما ورد في سورة آل عمران، كما نجد هنا أيضًا الإشارة إلى ذلك السبب، وهو أن المرء عندما يعلم، من خلال بعض الإشارات الإلهية، أن الفيض الرباني سينتقل من شعبه إلى غيره فلا بد أن يتألم لهذا الخبر وإن كان هو لا يزال مهبطًا لأنوار الله تعالى. ذلك لأنه لا يريد أن ينتهي هذا الفيض وهذا النور على يده، بل يتمنى أن تتأخر عنه هذه النهاية قليلاً، فلا يكون هو السراج الأخير الذي لا ينـزل بعده على قومه نور من السماء.

يتضح لنا من سورة آل عمران أنه برؤية الحالة الروحانية العظيمة لمريم عليها السلام تنبه زكريا ؏ للخطر القادم، وأدرك أن ذلك الشخص الموعود لبني إسرائيل ربما سيولد من بطنها. فمن ناحية تلقى من الله تعالى إشارات بكفالة مريم ورعايتها. كما أخذت مريم نفسها تأتي، رغم سنّها الصغيرة، بأمور تدل على صلاحها وتقواها وحب الله لها. كما أن الله تعالى بدأ يُظهر لها آيات، وجعَل الناس يعظمّونها لصلاحها وتقواها؛ فكانوا يأتون لها بالهدايا من طعام وثمار وما إلى ذلك. فمن ناحية رأى زكريا أن مريم الصبية زاهدةٌ في الدنيا، وأنها رغم صغر سنها تدرك أن هذه النعم والهدايا إنما هي من عند الله تعالى، ولم تأت إلا نتيجة لفضل الله ومنّته. فبرؤية هذه الأمور والإمارات كلها أدرك زكريا أن ذلك الموعود الذي تنتهي عليه النبوة من بيت بني إسرائيل سيولد من بطن مريم.

هذا من جهة، ومن جهة أُخرى كان ينظر إلى نبوءات ملاخي والأنبياء الآخرين التي كانت تنذر باقتراب موعد انقطاع النبوة عن بني إسرائيل؛ ففهم زكريا أن فيضان النبوة من بني إسرائيل على وشك الانتهاء. فدعا ربه بالدعاء المذكور في هذه الآيات من القرآن الكريم، وقال: يا رب، كانت لي بُغية لم أزل أربّيها في قلبي منذ زمن طويل، وها إني أبوح لك بسريرة قلبي بعد ما غمرني الحزن العميق بسماع قول مريم هذا.

هذا هو معنى قوله تعالى (إذ نادى ربَّه نداءً خفيًّا). إنه بثّ إلى الله تعالى همّه المكنون وعرض عليه ﷻ أمنيته الغالية التي لم يذكرها لـه من قبل، وذلك بعد أن تألم قلبه وتهيّجَ للدعاء بسماع قول مريم. مما لا شك فيه أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، ولكن الدعاء الذي يخفيه المرء في نفسه ولا يدعو به يُعتبر سرًّا مكنونًا في المصطلح. وبهذا المعنى نفسه يقول سيدنا المسيح الموعود ؏ لربه في بيت شعر لـه ما تعريبه: ربِّ أعطِني ما في قلبي، فلساني لا ينطلق خجلاً وحياءً.

إن العظام في الكبر تصبح رِخوةً هشّةً قابلة للانكسار بسرعة، ومن أجل ذلك نجد أن عظم الشباب يُجبَر بسرعة، ولكن عظم الشيوخ لا يقبل الجبر بسهولة. فقول زكريا (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) (مريم: 5) يعني أن عظامه قد ضعفت، فلا يقدر الآن على الصبر والاحتمال لشدة الضعف.

ثم قال (واشتعلَ الرأسُ شيبًا).. ذلك لأن شَعر المرء لا يصاب بالبياض دفعة واحدة، بل عندما يفقد الشعر سواده يميل إلى الاصفرار، ثم إلى البياض، بيد أن ذلك البياض يكون خفيفًا غير بارز. أما إذا أصبح الإنسان شيخًا هرمًا اشتد بياض شعره جدًّا. وعن هذه الحالة نفسها عبّر زكريا ؏ بقوله (واشتعل الرأس شيبًا).

أما قوله (ولم أكُنْ بدعائك رَبِّ شقيًّا) فلفظ (بدعائك) يمكن أن يفسر كالآتي:

“بدعائي إياك”، والمراد أني لم أر الشقاوة والفشل قط بسبب دعائي إياك، أو بسبب الأدعية التي دعوتك بها.

وبالنظر إلى أن زكريا نبيّ فيمكن تفسير لفظ (بدعائك) بطريق آخر، وهو “بدعائك إياي”.. أي لأنك، يا ربِّ، دعوتَني أي خصصتَني بنعمتك وجعلتَني من أنبيائك المقربين الذين تكلّمهم، فلم أر الشقاوة في حياتي، ولم أفشل في مقصدي قط، بل كان النجاح حليفي في جميع مقاصدي دائمًا أبدًا. ذلك أن الشقاوة ضدُّ السعادة، والمراد من السعادة أن تكون نصرة الله حليفةً للإنسان يحرز بها الخير المنشود. لقد عبّر زكريا ؏ في دعائه هذا عن ضرورته الحقّة. إنه لم يكن من أهل المال والثراء، إنما كان نبيًّا، فما كان يخاف بعده على مال ولا ثروة، بل كان يخاف على تعليمه. لقد كان ؏ من عائلة يعمل أفرادها كأحبار، حيث كان أقاربه أيضًا أحبارًا في معبد سليمان في بيت المقدس وغيره من المعابد (لوقا 1: 5). فقال لربه إن هؤلاء الأقارب قد صاروا متكالبين على الدنيا بحيث لا يحركون ساكنًا لإنقاذ دينهم اليهودية. يبدو أن المناصب الدينية عند اليهود حينذاك أصبحت كالإرث الذي ينتقل من الأب إلى الابن، كما حصل بالمسلمين، فإذا مات واحد من أولياء الله تعالى جعلوا ابنه مكانه مهما كان فاسدًا وغافلاً عن الدين، وإذا لم يكن لـه ابن فأخاه. فكانت حالتهم كحالة المتصوفة المسلمين اليوم، الذين يُلقَّبون بالأولياء، ولكنهم، من الناحية العملية، بعيدون عن الدين بعد الأرض من السماء.

على أية حال، فكان اليهود مصابين بمرض البُعد عن الدين مثل ما حصل اليوم بالمسلمين، فإذا كان فيهم رجل صالح تبوأ أولاده مكانه مهما كانوا فاسدين وغافلين عن الدين. وإن زكريا ؏ يشير في دعائه إلى هذا الأمر نفسه ويقول لربه (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) (مريم: 6).. أي أنني يا رب، أخاف أقاربي بعدي لأني أراهم غير مبالين بالدين.

ثم قال (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) (مريم: 6) ..أي أن زوجتي أصبحت غير قادرة على أن تلد. لو كانت شابة، أو لو كنتُ أنا شابًّا، لكانت هناك إمكانية لأن يكون عندنا أولاد. ذلك لأن المرأة الشابة يمكن أن تلد من رجل كبير السن، كما قد تلد المرأة التي قاربت سن الكبر إذا تزوجت من شاب. فيقول زكريا ؏ لربه إن الأسباب المادية لولادة الابن غير متوفرة فيّ أنا ولا في زوجتي. (فهَبْ لي من لدنك وليًّا).. أي أعطِني يا رب، بمحض فضلك ولدًا يحفظ أفراد أسرتنا من الضياع ويثبّتهم على الدين. (يرِثني ويرِث مِن آل يعقوب).. أي يرِث ابني هذا مني الحماسَ لخدمة القوم ونصرة الدين، كما يأخذ أيضًا إرثَ المحاسن والصالحات كلها التي وُجدت في بني إسرائيل منذ موسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء. (واجعلْه رَبِّ رضيًّا).. أي اجعَلْه من المقبولين في حضرتك في الآخرة يا ربِّ.

فيا لـه من دعاء رائع وجامع! ولو أننا بيّنّاه بكلماتنا فهو كالآتي: ربِّ، لقد اضمحلّت قُواي من الداخل، كما قد تشوّهَ منظري أيضًا. بيد أني معتاد على مِننك وألطافك التي لا نهاية لها، فلم أر فشلاً ولا شقاء طيلة حياتي، فصرت بسبب عنايتك أتدلل وأتفاخر بك. إن أقاربي فاسدون ومع ذلك يريدون أن يتبوأوا منصبي الروحاني. أما زوجتي فغير قادرة لأن تلد. ومع كل هذا جئتك للسؤال. وما أريده منك هو أن تهَب لي ولدًا، يكون وليًّا لي وشبيهًا بي تمامًا. ولدًا يحيا بعدي، ويحمي أسرتي. ولدًا يتخلق بأخلاقي وأخلاق آل يعقوب.. فلا يخلّد اسمي فقط بل اسم أجداده. ثم لا يكون مقبولاً في الناس فحسب، بل يكون أيضًا مرضيًّا عندك يا رب.

سبحان الله! ما ألطَفَه مِن دعاء! يقول: لقد فسد جسدي من الداخل، كما تشوه منظري من الخارج. أما زوجتي فأصبحت بلا جدوى. وأما أقاربي فقد عمّهم الفساد. ومع ذلك أسألك أن تعطيني ابنًا. ولا أسألك، رغم شيخوختي، ابنًا عاديًا، بل ابنًا يتحلى بما فيّ وفي أجداده من مزايا ومحاسن، ولا يكون مرضيًّا عندي فحسب، بل يكون مقبولاً ومحبوبًا لديك أيضًا. هذا هو الدعاء الذي دعا به زكريا ؏.

فلا شك أنه ؏ كان يعرف، بناء على النبوءات السابقة، أن نور النبوة على وشك أن يُنـزع من بني إسرائيل، وأن بعثة النبي الذي ستنتهي به النبوة فيهم موشكة، ولكنه فكر أنه قد يكون هناك سبيل لنجاة قومه من الهلاك والدمار، فدعا الله ﷻ أن يهب لـه ابنًا خاصًا -وهو يحيى ؏- ليجهز قومه للإيمان بذلك النبي الموعود لينصروه ويعزّروه كي ينجوا من العذاب الذي ينتظرهم، فيبقى فيهم نور الله، أي النبوة، لمدة أطول.

يتضح من أحوال يحيى المذكورة في الإنجيل أن الغاية الأساسية لمجيئه إنما هي أن يُعدّ القوم للإيمان بالمسيح عليهما السلام. حيث ورد في الإنجيل قول يحيى: “أنا أعمّدكم بماءٍ للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، ولستُ أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمّدكم بالروح القدس ونارٍ” (متى 3: 11).

فالأمر الذي ركّز عليه يحيى ؏ وبذل جهوده كلها من أجله إنما هو أنه ليس هو الغاية، بل قد جاء هو لنصرة المسيح. كما نجد أن زكريا ؏ أيضًا دعا ربه أن يمهّد ابنُه الطريق للنبي الموعود لبني إسرائيل، علّه يتمكن من إقناعهم بتصديق المسيح، حتى يُلغَى العذاب الذي قد اقترب.

هذه هي الخلفية لدعاء زكريا ؏، ولو درسنا المسيحية على ضوئها لم تبقَ المسيحيةُ ذات قيمة. ذلك لأنها تدّعي بأنها الأساس، بينما تؤكد هذه الخلفية أن المسيحية لم تكن إلا آخر لبنة في ذلك البناء. إذ لم تكن الغاية من المسيحية تأسيس دين جديد وشرع جديد، وإنما كانت إيذانًا من الله تعالى بانتهاء نعمة النبوة والوحي والإلهام المستمرة في بني إسرائيل من زمن طويل.

لقد حاول زكريا ؏ أن يستمر نـزول هذا النور في قومه لفترة أطول، فدعا ربه ﷻ أن يهب لـه ولدًا يبذل كل ما في وسعه لكيلا يرفض بنو إسرائيل المسيح. فاستجاب الله دعاءه، وبعث يحيى، الذي لم يدّخر وسعًا في أن يجهز قومه للإيمان بالمسيح، ولكن قدر الله غلَب، وحلّ قضاؤه وحكمه تعالى.

وبالمثل كان ما حصل بزكريا ؏، فلما هاجمه الهم والحزن بأن قومه على وشك الهلاك فكر أنه قد أصبح شيخًا هرمًا، ولا يستطيع حمل هذا العبء الثقيل أكثر، فلو أن الله تعالى وهب له ابنًا نبيًّا يمهّد الطريق للشخص الموعود لبني إسرائيل، ويدعو الناسَ إلى الإيمان به، فقد يزول العذاب المحدق بقومه، ويبقى نور النبوة فيهم لفترة أطول. فقال الله لـه: حسنًا، سنهب لك الابن، وسنجعله نبيًّا أيضًا، ولكن قدرنا يكون هو الغالب، فإن اليهود لن يؤمنوا رغم ذلك، بل سيقتلون ابنك هذا في السجن.

لقد رأيتم أن الذي دعا كان من المصطفَين الأخيار، فدعا دعاء كاملا، فانظروا الآن إلى المستجيب الذي يملك الكمال كله حيث قال الله تعالى لـه: يا زكريا، إنا نبشرك بابن سيبلغ الكهولة ولكنه لن يرى الشيخوخة.

اسمه يحيى

أما قول الله تعالى (اسمه يحيى).. فاعلم أن الأولاد لما كانوا يُسمَّون بعد الولادة لا قبلها، فالمراد من هذه الجملة أنه إذا وُلد لك هذا الابن فسمِّه يحيى. وليس المراد منها أن الله تعالى قال لزكريا إن ولدك سيبدأ بترديد “اسمي يحيى” بمجرد أن يولد.

وليكن معلومًا أن القرآن الكريم قد سمى الولد يحيى، ولكن جاء اسمه في النسخة الأردية للكتاب المقدس يوحنا، أما في النسخ العبرية واليونانية والإنجليزية فجاء اسمه كالآتي: yohanan, Joannes, و John.

وإني لا أعلم معنى يوحنا في العبرية، ولكن الاسم العربي “يحيى” له معنى ومغزى ويعني الشخص الذي يعيش. إذًا فكان في قوله تعالى (اسمه يحيى) إشارة إلى أن هذا الولد سيعيش وعليك أن تسميه يحيى. أو المعنى أن هذا الولد صفتُه “يحيى” وسيُكتب لـه الخلود. ويتضح من القرآن الكريم أن الشهداء يعيشون إلى الأبد، إذًا فكأن في اسم “يحيى” إشارة إلى أن هذا الولد سيُستشهد في سبيل الله تعالى، وينال مقامًا عاليًا في الروحانية بحيث يُكتب له الخلود إلى الأبد. والبديهي أن نبيًّا مثل المسيح لا يمكن أن يموت أبدًا، إذًا فكيف يمكن أن يموت النبي الذي نبوته منوطة بالمسيح. إن المسيح لا يمكن أن يموت لأنه إرهاص لنبي لا يمكن أن يموت أعني نبينَا محمدًا رسول الله ﷺ، وإن يوحنا لا يمكن أن يموت لأنه إرهاص للمسيح الذي لا يمكن أن يموت. وهذا ما قد حصل فعلاً، حيث ترون أن نبينا ﷺ قد أخبرنا أنه قد جاء قبله مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرون ألفًا من الرسل (مسند أحمد، باقي مسند الأنصار رقم الحديث 21257)، ولكنا لا نعرف حتى أسماء مائة منهم. فثبت أن الأنبياء الآخرين قد ماتوا، وأنه ليس بالضرورة أن يعيش كل نبي للأبد، بل إن بعضًا منهم قد كُتب لهم الخلود، وبعضهم قد ماتوا. وكان يحيى ؏ من بين الأنبياء الذين كتب لهم الخلود، لأن نبوته منوطة بالمسيح الذي بدوره خالدٌ، لكون نبوته منوطة بمحمد رسول الله ﷺ الذي هو نبي خالد إلى الأبد.

ثم قال الله تعالى (لم نجعَلْ لـه مِن قبل سميًّا)، والسميّ لـه معنيان: الأول: مَن كان اسمه كاسمك؛ والثاني: مَن كان نظيرَك. لقد ظن المفسرون خطأً أن السميّ هنا جاء بالمعنى الأول، أي لم يوجد قبل يحيى ؏ أحد اسمه يحيى (البحر المحيط). وهذا خطأ. فقد ذكرت التوراة نفسها عدة أشخاص كانوا يُدْعَون يوحنا. فكان أحد أسياد اليهود يسمى يوحنا (الملوك الثاني 25: 23). كما كان أحد أحفاد سليمان ؏ يدعى يوحنا (أخبار الأيام الأول 3: 15)، وكان واحد من الذين رجعوا من إيران مع عزرا النبي لتعمير أورشليم يدعى يوحنا (عزرا 8: 12). فمن الخطأ القول أنه لم يوجد أحد بهذا الاسم قبل يحيى ؏ مطلقًا، لأنه خلاف الواقع.

والمسيحيون الذين هم دائمًا بالمرصاد للطعن في الإسلام وجدوا في رأي المفسرين هذا فرصة سانحة للاعتراض على القرآن الكريم، فأخرجوا من التوراة أسماء هؤلاء، ثم راحوا يؤيدون اعتراضهم بقولهم أن محمدًا -والعياذ بالله- سمع من بعض القوم شيئًا مما ورد في الإنجيل. فكان مما سمعه أن زكريا صار أبكمَ لا يتكلم قبل ولادة يحيى، فلما جاءه أقاربه في اليوم الثامن ليختنوا ابنه، واقترحوا أن يكون اسمه زكريا مثل أبيه، قالت أم الولد: لا، بل يسمى يوحنا. فقالوا لها: “ليس في عشيرتك أحدٌ تَسمَّى بهذا الاسم“. فأشاروا إلى أبيه الأبكم وقالوا: ماذا يريد أن يسمَّى الابن، فطلب لوحًا وكتب قائلا: اسمه يوحنا. وفي الحال انطلق لسان زكريا وتَكلّمَ (انظر لوقا 1: 57-64). فانخدع محمد بقولهم: “ليس في عشيرتك أحدٌ تَسمَّى بهذا الاسم“، حيث لم يستوعبه محمد ﷺ جيدًا، فظن أنه لم يوجد في الدنيا من قبل أحد باسم يوحنا مطلقًا، مع أن ما قال الأقارب لزكريا إنما هو أنه لم يوجد في أقاربه أحد بهذا الاسم. فكتب محمد في القرآن أنه لم يوجد في الدنيا أحد بهذا الاسم قبل يوحنا. (تفسير القرآن لـ “ويري”).

إن القرآن الكريم لم يقل هذا أبدًا. إن كلمات القرآن واضحة تمامًا، وإنما المفسرون هم الذين أخطأوا في تفسيرهم. إن كل ما أعلنه القرآن الكريم إنما هـو (لم نجعَلْ لـه مِن قبل سميًّا).. أي لم نجعل من قبل أحدًا سميًّا لـه. فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل الله تعالى يسمي أولاد الناس أم أن آباءهم هم الذين يسمونهم؟ افحصوا عادات المسيحيين أو الهندوس أو المسلمين؟ الجميع يعرف أن آباءهم هم الذين يسمونهم. ولكن الله تعالى يعلن هنا (لم نجعَلْ لـه من قبل سميًّا).. أي لم نُسمِّ أحدًا يوحنا قبل ذلك. فلو ثبت بعد ذلك وجود آلاف الملايين من الناس باسم يوحنا في الدنيا قبل يحيى، فلن يقدح ذلك في القرآن الكريم أبدًا؛ ذلك لأن القضية لا تتعلق بوجود أشخاص باسم هذا الاسم قبل يحيى، وإنما السؤال: هل وُجد قبله أحد سماه الله نفسه بهذا الاسم؟ فمثلاً يوجد في بلادنا الملايين الذين أسماؤهم محمد، أو عبد الله، أو عبد الرحمن، أو عبد الرحيم، وكل هؤلاء قد سمّاهم آباؤهم ولم يسمهم الله تعالى بهذا الاسم. فلو أن الله تعالى قال بعد ذلك لأحد بالإلهام: لقد سمّينا مولودك القادم عبد الرحمن، فسَمِّه به، ولم نسمِّ أحدًا بهذا الاسم من قبل؛ فسمّى هذا ولده عبد الرحمن، فهل يجوز لأحد بعد ذلك أن يقول له: كلا، أنت كاذب، فهناك الملايين الذين اسمهم عبد الرحمن؟ أفلا يقول هذا الأب: إنهم ليسوا كابني، لأنهم قد سماهم آباؤهم، أما ابني فقد سَمَّاه الله بنفسه. فثبت أن لا اعتراض على قول القرآن هذا. إنما يصح الاعتراض لو قال الله تعالى أنه لم يوجد قبل يوحنا أحد دُعي بهذا الاسم. ولكن ما يعلنه القرآن هو أن الله تعالى قال إنه لم يسم أحدًا بذلك الاسم. وهذا صحيح تمامًا، لأن كل أولئك الذين يشير إليهم هؤلاء المسيحيون إنما سماهم آباؤهم، بينما يعلن القرآن الكريم هنا أن الله تعالى هو الذي أطلق ذلك الاسم  على ذلك المولود. فلا وجه للاعتراض.

هذا، وإن كلمة “السميّ” تعني النظير أيضًا في اللغة العربية، وعليه فقوله تعـالى (لم نجعَلْ لـه مِن قبل سميًّا) يمكن أن يعني: أننا لم نجعل لـه نظيرًا ولا مثيلاً.. أي أن الله تعالى يشير هنا إلى كون يحيى إنسانًا منقطع النظير.

كيف صار يحيى منقطع النظير؟

ولو سُئلنا: كيف صار يحيى منقطع النظير؟ ألم يكن موسى نظيرًا لـه؟ لقلنا: إن الإنسان يمكن أن يكون منقطع النظير في مجاله الخاص. فمثلاً نقول: فلان فارسٌ منقطع النظير، وفلان خطاط لا نظير لـه، وإن فلانًا رسام لا مثيل له، وإن فلانًا مفسر عديم المثال. وهذا لا يعني أن الذي هو منقطع النظير في الفروسية هو بالضرورة عديم المثال في الرسم أيضًا؛ أو أن الذي لا نظير لـه في التفسير هو خطاط منقطع النظير أيضًا. فثبت أن كون أحد عديم المثال في مجال ما لا يعني بالضرورة أن يكون منقطع النظير في كل المزايا والمجالات. تعالوا الآن لنرى المجال الذي فيه كان يحيى ؏ عديم النظير.

يكشف لنا التدبر في الأمر أن يحيى ؏ هو أول نبي جاء حاملاً اسم نبي آخر وصفاته أعني إلياس ؏؛ أي أنه أول الأنبياء الذين جُعلوا إرهاصًا، إذ لا نجد بين جميع الأنبياء السابقين له أحدًا بُعث إرهاصًا لنبي آخر. أما بعد يحيى فجاء عيسى إرهاصًا لنبينا محمد رسول الله ﷺ. ثم جاء حضرة سيد أحمد البريلوي× إرهاصًا لسيدنا أحمد المسيح الموعود ؏.

×  وُلد حضرة سيد أحمد البريلوي – رحمه الله – عام 1201 الهجري الموافق عام 1786 الميلادي في “رائي بريلي” بالهند. كان من أولياء الله الكبار. خرج، بناء على إشارة سماوية، لمحاربة السيخ الحاكمين الذين منعوا المسلمين من القيام بأداء شعائرهم الدينية، وساموهم سوء العذاب. فدارت بين الفريقين معارك ضارية. وأُصيب حضرته في إحدى المعارك بجراح تسببت في استشهاده يوم 24 من ذي القعدة 1246 الهجري الموافق 6 مايو 1831الميلادي. ودُفن في “بالا كوت”. لقد اعتبره سيدنا المسيح الموعود u إرهاصًا لـه ومجددًا للقرن الثالث عشر، وقد انضم بعض مريديه إلى جماعته ؏. (المترجم).

إذن فإن قوله تعالى (لم نجعل لـه سميًّا) يعني أنه تعالى لم يجعل من قبل أحدًا مثيلاً ليحيى، بمعنى أنه أول نبي جاء مثيلاً لنبي آخر. وبالفعل ترون أنه بعد بعثة سيدنا المسيح الموعود ؏ لا بد لنا من ذكر اسم يحيى ؏ مرة بعد أخرى؛ ذلك لأن الأنباء تؤكد أن المسيح الموعود سينـزل من السماء، وعندما يسألنا المعارضون أين المسيح المزمع نـزوله من السماء نرد عليهم ونقول: لقد سُئل المسيح الناصري ؏ السؤال نفسه عندما أعلن دعواه حيث قال لـه القوم: لقد وُعدنا في كتاب ملاخي النبي بنـزول إيليّا ثانية، وأنه سينـزل قبل ظهور المسيح، فأين إيليا المزمع نـزوله؟ فأجاب المسيح: إن يوحنا هو إيليّا، فاقبلوا أو لا تقبلوا (انظر متى 11: 14). كذلك تمامًا لقد بعث الله تعالى في الأمة المحمدية شخصًا آخر باسم المسيح الناصري المزمع نـزوله من السماء. وهكذا فلا بد لجماعتنا من إحياء اسم يحيى ؏ على هذا النحو لأن قضية المشابهةِ لا تنحل إلا بواسطة يحيى.

باختصار إن قوله تعالى (لم نجعَلْ لـه مِن قبل سميًّا) يعني أننا لم نجعل لـه مثيلاً من قبل. وهذه خصوصية لم توجد في أي نبي قبل يوحنا. فليدلّنا أحد على نبي قبل يوحنا جُعل مثيلاً لإيليا. وما دام اليـهود والنصـارى أنفسهم يعتقدون أنه لم يسبق ليحيى ؏ مثيل في هذا المجال فثبت صدق القـرآن الكريم. وإن كون المرء عديم المثال، كما بينتُ، لا يعنى كونه عديم المثال في كل مجال، بل يكفيه أن يكون منقطع النظير في مجال واحد. وكما ذكرنا المجال الذي كان يحيى عديم المثال فيه، فقد يكون فيه خصوصيات أُخرى أيضًا جعلته منقطع النظير. وإن الإنجيل أيضًا قد أشاد به بسبب تلك الخصوصية نفسها، حيث قال المسيح: “أقـول لكم إنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظمَ من يوحنا المعمـدان” (لوقا 7: 28).

وهذا يعني أن الإنجيل أيضًا يعدّه منقطع النظير. بيد أن المثال الذي يذكره الإنجيل هنا غلط. إذ يقول: ليس نبيٌّ أعظمَ من يوحنا؟ فمتى كان يوحنا أعظم من موسى مع أنه تابع لـه؟ وهل كان أعظم من إبراهيم رغم أنه كان تابعًا لـه أيضًا؟ فثبت جليًّا أن هذا المثال غلط، لأن موسى وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء الكثيرين -عليهم السلام- كانوا أعظم من يوحنا.

إذن فقد وجدنا من الإنجيل الدليل على كون يحيى عديم المثال، كما وجدنا البرهان على كون الإنجيل باطلاً مزيفًا. وهذا الأمر يماثل قصة المنافقين في القرآن الكريم، حيث يخبر الله تعالى رسولَه ﷺ أن المنافقين يأتونك فيحلفون لك أنك رسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، ولكن المنافقين كاذبون (المنافقون: 2). فقد ثبت من هذه الفقرة الإنجيلية -من جهة- أن القرآن الكريم محق في إعلانه بكون يحيى عديم النظير، وأن الإنجيل نفسه يقرّ بذلك، كما ثبت أيضًا أن السبب الذي ذكره الإنجيل بهذا الصدد يؤكد صدق القرآن وبطلان الإنجيل، لأنه يتنافى مع معتقدات المسيحيين أنفسهم حيث لا يعتقدون بأن يوحنا كان أفضل من جميع الأنبياء والرسل.


لمتابعة التفسير نرجو الضغط على الرابط التالي: قصة سيدنا زكريا و سيدنا يحيى عليهما السلام – أحوال النبي يحيى ومعنى السلام عليه