ما هو مفهوم الجن والإنس عند مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية مرزا غلام أحمد؟
قبل قراءة المقال ننوّه إلى أن الموضوع خاص بالجن المقترن بالإنس أي العاقل المكلّف بالعبادة من طاعة ومعصية وليس الجن بعمومه الذي يفسره السياق.
للذهاب إلى موضوع الجن الشامل يرجى قراءة كتاب “الجن حقيقة أم خرافة” الذي يثبت أن الجن حقيقة وليس خرافة كما يعتقد عامة الناس، وفيه تفصيل ماتع.
نستعرض في ما يلي فهم حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام لمعنى الجن المقترن بالإنس في القُرآن الكَرِيم.
الجن والإنس المكلف بالعبادة هما نوعان من الناس
يقول المسيح الموعود عليه السلام:
“إنَّ الناس مع اختلاف طبائعهم قد عيّنوا لحياتهم -بسبب قلة فهمهم أو ضعف همتهم- أهدافاً متباينة.. لا تتجاوز الجريَ وراء الأغراض الدنيوية والأماني المادية. ولكن الغاية التي ذكرها الله في كتابه العزيز هي: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات: 57 .. أي ليعرفوني ويعبدوني. فبِناء على هذه الآية كان المقصد الحقيقي للحياة البشرية عبادةَ الله ومعرفته، وأن يصير الإنسان لله وحده. من البيّن الواضح أن الإنسان لا يملك خيارا لكي يقرر غايةَ حياته من تلقاء نفسه، لأنه لا يأتي إلى هذا العالم بإرادته .. ولا هو تاركه بمرضاته، فما هو إلا مخلوق.” (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 112)
ويكمل حضرته:
“لقد خُلق الإنسان مفطورًا على أن يصير لله تعالى، وذلك كما قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾. فقد أودع اللهُ فطرةَ الإنسان شيئا لنفسه هو وخلَقه لنفسه هو بأسباب خفية جدًّا، مما يدل على أن الله تعالى قد جعل عبادته هي الغاية من خلق الناس.” (فلسفة تعاليم الإسلام، ص 112)
فالناس المكلّفين هم الجن وليس الأشباح.
ويقول حضرته:
“حيث قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ .. أي قد خلقتُ الجن والإنس لعبادتي الدائمة. ثم قال لروح الإنسان الكامل في وقتها الأخير: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ .. والواضح من هذه الآيات الجامعة للبركات أن العبودية لازمة لروح الإنسان لزومًا دائما، وقد خُلق الإنسان من أجل هذه العبودية.” (نفس المصدر)
نلاحظ أن المسيح الموعود ؑ دائماً يفسّر قول الحق (الجن والإنس) بالإنسان أو بالبشر أو الناس.
الأمانة لم يحملها غير الإنسان
وقد سبق أنْ وضّحَ المُصْلِحُ المَوْعودُ ؓبناء على كلام أبيه المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام بأن الأمانة لم يحملها غير الإنسان، إذ يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“لقد ذُكر أمر غريب جواباً على سؤالٍ مُقدَّر، أي ما هو ملخص ومغزى كل هذه التفاصيل المذكورة. (فهناك تفاسير عديدة وتفاصيل كثيرة، وهناك أحكام وأوامر كثيرة في القرآن الكريم، ولكن ما هو ملخصها ومغزاها) فقال: ﴿أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللهَ﴾، والحق أن الغاية المتوخاة من خلق الإنسان هي العبادة. (هذا هو الهدف الأساسي من خلق الإنسان) كما يقول الله تعالى في آية أخرى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات 57. المراد الحقيقي من العبادة هو أن يتخلى الإنسان عن كل قسوة واعوجاج وينـزه أرض قلبه كما ينـزه المزارع الأرضَ (قبل الزرع). يقول العرب: مَوْرٌ مُعبَّدٌ: أي كما يُجعل الكحلُ دقيقا جدا لكحل العيون كذلك عندما لا يبقى في أرض القلب حجر أو اعوجاج وتكون مستوية تماما وكأنه لم تبق فيه إلا الروح فقط .. فهذا ما يسمَّى العبادة. فلو صُقلت المرآة وجُعلت نقية بهذه الطريق لظهرت الصورة فيها، ولو عولجت الأرض على الأسلوب نفسه لنبتت فيها أنواع الثمار. فالإنسان الذي خُلق للعبادة إذا طهّر قلبه ولم يبق فيه حجر أو حصاة أو اعوجاج لتجلى الله عليه. فالعبادة هي أن تصوِّبوا كلَّ ما لكم تجاه الله تعالى. ويجب أن تُسَوُّوا أرض القلب كما يفعل المزارع قبل الزرع. اصقلوا قلوبكم كما تُصقَل المرآة النقية التي يرى فيها المرء وجهه. عندما يكون الأمر على هذا المنوال ستحمل روح الإنسان ثماراً طيبة كما تحملها الأرض المعبَّدة … ما لم تزيلوا الحصوات والحجارة من أرض القلب وما لم تجعلوها نقية وليّنة مثل الكحل، وما لم تجعلوا حالتكم على هذا النحو يجب ألا تهدأوا وألا يستقر لكم بال.” أهـ
إذن الجن المكلّفون عند المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام هم الإنسان أو البشر والنَّاس وليسوا أشباحاً مُكلَّفة.
نار الجن ليست مادية
يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“فلا يمكن الاعتراض أنه ما دامت الجِنّة قد خُلقت من النار فأيّ ضرر يصيبها من النار؟ لأن الحقيقة أنَّ تضرّر الجِنّة برمي الشهب ليس سببه النار المادية، بل النور الملائكي الذي يرافق الشهب، وهو محرق للشياطين بطبيعته.” (مرآة كمالات الإسلام، ص 473)
إذن الجن والإنس هم الإنسان والناس عند المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام.
ويقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. … إنَّ هذه العبادة والقيام بحضرة الله بتوجه تام ليس ممكناً أبداً بدون المحبة الذاتية ! وليس المراد من المحبة محبة من جانب واحد فقط، بل المحبّتان: محبّة من الخالق ومحبّة من المخلوق، لتحرقا -كنار الصاعقة التي تسقط على المصعوق والنار التي تخرج عندئذ من باطنه- ضعف البشرية وتستوليا على الوجود الروحاني كله. هذه هي المرتبة الكاملة التي يستطيع فيها الإنسان أداء الأمانات والعهود … بصورة تامة كاملة على مواضعها.” (معارف القرآن، المجلد 10، العدد 7 و 8 )
ويكمل المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام فيقول:
“وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾، وإن هذين اللفظين (ظلوما وجهولا) قد وردا في محل مدح الإنسان لا في محل الذم! ومعناهما أن فطرة الإنسان قد أودعت خلقاً بأن يظلم نفسه ويجهدها ويشدد عليها لله تعالى ويخضع ويقْنت لله تعالى بحيث ينسى نفسه ويجهلها في سبيله! فلذا إنَّ الإنسان قد قَبِلَ بأن يتلقى نفسه ووجوده من الله كالأمانة ثم ينفقها في سبيله ويرد هذه الأمانة بتمامها وكمالها إليه!!” (معارف القرآن، المجلد 16، العدد الثاني)
المسيح الموعود لا يعترف بالجن الذي يتلبس الناس
فالجن والإنس كما يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام هم الإنسان، ولا يعترف عَلَيهِ السَلام بالجنِّ الذي يتلبس الناس ويخرب بيوتهم، لنقرأ ما يلي:
“كتب بير سراج الحق النعماني: جاءت رسالة شخص من ماروار، قال فيها: تندلع النار في بيتنا تلقائيا وتصدر أصوات مهيبة جدا، ونمرض نحن وأولادنا في كثير من الأحيان. فأرجو أن تكتب لنا رقية بيدك لنتخلص من هذه المشكلة سواء أكان من الجِنّ أو من شيء خبيث آخر. فقال عليه السلام لي: أكتبْ أنت من عندك. أنا لا أعترفُ بالجِنّ. فكتبتُ بأمر منه عليه السلام: أذِّن في زوايا البيت الأربع كل مساء. ثم عرضتُ هذه الرسالة على المسيح الموعود عليه السلام فقال: جيد، أرسلْ الرسالة. ثم وصلت من ذلك الشخص بعد أسبوعين أو ثلاثة قال فيها بأن النار لم تعد تندلع ولا نرى الكوابيس أيضا، وقد شفانا الله تعالى شفاء كاملا. ثم قلتُ له عن كتابة الرقية فقال: نعم سنكتبها. ثم كتب ذات يوم سورة الفاتحة وقال: أرسلْها.” (البدر، العدد 21/8/1903م، ص 242)
ويستعرض الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام عقائد العرب والكهّان حول الجن أي الشياطين في ذلك الزمن مُبيّناً أنَّ اللهَ تعالى عاملهم بحسب عقولهم وأقام الحجة عليهم بما كانوا يفهمون ويلزموا به أنفسهم، فيقول حضرته:
“فباختصار، كان راسخاً في أذهان العرب أنه عندما يُبعث نبيّ أو يولَد إنسان عظيم تسقط النجوم بكثرة، فبناء على ذلك وتماشياً مع أفكار العرب أقسم الله تعالى بسقوط الشهب؛ والمراد من ذلك أنكم تعترفون بأنفسكم ويعترف به كهانكم أنه كلما سقطت الشهب بكثرة بُعث نبي أو مُلهَم من الله، فما السبب لإنكاركم إذًا؟ ولأن سقوط الشهب بكثرة كان في نظر الكهّان العرب دليلا قاطعا على إثبات بعثة نبي أو مُلهَم من الله، وكان العرب يتبعون الكهّان كما يتبع المُريد مرشده؛ لذا قدّم اللهُ تعالى مُسَلمَتَهم هذه أمامهم ليتنبهوا إلى حقيقة أنَّ كُلّ ذلك إنما هو من عند الله، وليس من صنع الإنسان وكيده.” (مرآة كمالات الإسلام، ص 464)
الجن المكلف هو الإنسان
ثم يكمل المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“ليس صحيحاً على الإطلاق أنه كلما ذُكر الإحياء بعد الممات كان المراد هو الإحياء بعد الموت الحقيقي، بل من معاني الموت اللغوية؛ النوم، وكل نوع من الإغماء أيضا. فما الحاجة إلى تعريض الآيات للتعارض دون مبرر؟ وإذا عادت أربعة حيوانات إلى الحياة بعد الموت على سبيل الافتراض، فهذا لا يُعَدُّ “عودة الروح”، لأنه لا بقاء لروح الحشرات أو أي حيوان سوى الإنسان. فلو أُحيَتْ لكانت خُلقتْ مجددا. فقد ورد في بعض جرائد عجائب المخلوقات أنه لو سُحقت العقارب وأُغلقت في إناء بطريقة معينة، فإن الحيوانات التي ستتولد من هذه الخميرة تكون عقارب حصرا. فهل لعاقل أن يتصور أن العقارب الميتة نفسها أُحيَتْ من جديد؟ بل المذهب الحقيقي الذي يتبين من القرآن الكريم هو أنه لم يعطَ أي مخلوق أرضي -سوى الجِنَّة والناس- روحا أبدية.” (إزالة الأوهام، ص 659-662)
المقصود برجم الشيطان
ثم يتحدّث عَلَيهِ السَلام عن المقصود برجم الشيطان مبيّناً بأن المقصود من الجن هنا هم الشياطين وأضلالهم من الكهنة والمشعوذين الذين أرادوا تشويه الوحي السماوي فاُتبِعوا بشهاب ثاقب أحرق كفرهم ونسبتهم الولد إلى الله ﷻ. فيقول عَلَيهِ السَلام:
“لا بد أن يكون وراءه هدف معين يفيد المصالح الدينية والدنيوية، ولكن فهم الأهداف وراء أفعال الملائكة ليس ممكناً إلا بواسطة الملائكة. فبواسطة الملائكة أيْ جبريل قد كُشف على آخر الرسل ﷺ أن الغاية المتوخاة من فعل الملائكة هذا أيْ رمي الشهب؛ هي رجم الشياطين. أما كيف تهرب الشياطين بسقوط الشهب، فإن سرّه يُكشف عند التأمل في السلسلة الروحانية؛ وهو أن بين الشياطين والملائكة عداوة طبعية. فالملائكة عند إطلاقهم الشهب -التي يُلقون عليها تأثير حرارة النجوم- ينشرون في الجوّ قوتهم الروحانية، وكلما تحرك شهاب رافقه نور ملائكي؛ لأنه يأتي نائلا البركة من يد الملائكة، وفيه قوة لحرق الشيطان. فلا يمكن الاعتراض أنه ما دامت الجِنّة قد خُلقت من النار فأيّ ضرر يصيبها من النار؟ لأن الحقيقة أن تضرر الجِنّة برمي الشهب ليس سببه النار المادية، بل النور الملائكي الذي يرافق الشهب، وهو محرق للشياطين بطبيعته.” (مرآة كمالات الإسلام، ص 473)
وقد جاء ذكر هذا كله مفصّلاً في التفسير الكبير للمُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
تمثل الجن بالبشر
يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“أيها الأعزة.. إنَّ حضرة الله تعالى حضرةٌ عجيبةٌ، وفي أفعال الله أسرار غريبة، لا يبلغ فهم الإنسان إلى دقائقها أصلا. فمن تلك الأسرار تمثُّل الملائكة والجن” (التبليغ، ص 42)
يتحدث النص ببساطته عن تمثّل أي تجلّي وتشكّل المخلوقات التي ليست من عالمنا كالملائكة والجن أي كل مخلوق يحمل صفة الاستتار مغاير للملائكة لا علاقة له بالتكليف الذي نحصره بالإنسان وإنما يشمل كل مخلوق في بُعد آخر لا صلة لنا به ولا تكليف عليه، ذلك لأن قرينه أي الملائكة أصلاً ليسوا قادرين على ارتكاب المعصية وبذلك لا يقع عليهم التكليف ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾. إذن حسب النص من كتاب “التبليغ” فإن الإنسان وحده هو المكلّف وله القدرة على الطاعة والمعصية معا.
وقد ذكر المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تفسير عرش بلقيس بأن الجن المقصودين هم من البشر وقال حضرته بأن هذا التفسير هو في الحقيقة للمسيح الموعود عَلَيهِ السَلام. (انظر: إنجازات المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام، الصفحة 70-72)
وتفسير المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام كالتالي:
“وردَتَ في القرآن الكريم قصة ملكة اسمها “بلقيس” كانت تحكم بلدها وكانت تعبد الشمس. ثم حدث أنْ هدّدها نبيُّ عصرها قائلاً بأن تَحضر إليه وإلا سيغزوها بجيشه وذلك لن يكون خيراً لها. فخافت وانطلقت من مدينتها لتحضر إلى ذلك النبي. وقبل حضورها أعدَّ النبيُّ صَرْحاً أرضيّته مُمرَّدةً من القوارير وأعدَّ تحتها خندقاً واسعاً على غرار قناة يجري فيه الماء وتسْبح الأسماك. عندما وصلت الملكة قيل لها: ادخُلي الصرح. فحين اقتربت رأت أن الماء يجري بكل قوة وفيه أسماك، تأثّرَت بهذا المشهد بحيث كشفَت عن ساقيها لئلا تبتلّ ثيابها بالماء. عندها نادى النبيُّ الملكةَ التي كان اسمها “بلقيس” وقال إنك مخطئة في ذلك. وما كشفتِ عن ساقيك خشية منه ليس بالماء بل هي أرضية زجاجية والماء يجري من تحتها. لقد جاء هذا الذكر في القرآن الكريم في آية: {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} أي يا بلقيس لا تنخدعي فإنها قوارير مرصَّع بها سطح أرضية الصرح، أما الماء فيجري من تحت القوارير، وأن القوارير ليست ماء بحدِّ ذاتها. ففهمت الملكة أنها قد نبِّهت إلى خطأها الديني، وأدركت أنها كانت مخطئة في الحقيقة إذ قد سلكت مسلك الجهل بعبادتها الشمس. فآمنت بالله الواحد الذي لا شريك له وفُتحت عيناها واستيقنت أن تلك القوة العظمى التي يجب عبادتها هي غير التي كانت تعبدها، وأنها كان مخطئة إذ اتخذت الأشياء السطحية معبوداً لها. وكان بيان النبي يتلخص في أنَّ الدنيا كمثل صرْحٍ من القوارير، وما تنجزه الشمس والقمر والنجوم وغيرها من العناصر لا تنجزها بقوتها الذاتية بل هي بمنـزلة القوارير، وأنَّ هناك قوة كامنة تحتها وهو الله تعالى. وكل هذه الأعمال إنما ينجزها اللهُ تعالى بنفسه. فبرؤية هذا المشهد تابَت بلقيسُ توبة صادقة عن عبادة الشمس وفهمت أن هناك قوة أخرى تستخدم الشمس وغيرها. أما هذه الأشياء الظاهرية فليست إلا كالقوارير فقط. هذا ما بيّنته عن الشمس، والحال نفسها تنطبق على القمر. أي الصفات التي تُنسب إلى القمر هي صفات الله في الحقيقة. فالقمر يضيء الليالي الحالكة والمخيفة، وعندما يسطع القمر تزول ظلمة الليل فورا. ففي بعض الأحيان يبدأ بالسطوع منذ البداية وأحيانا أخرى يطلع بعد انتشار بعض الظلام. إنه لمشهد رائع إذ لا يبقى للظلام أيّ أثر قَط عندما يطلع القمر. كذلك عندما يسطع الله تعالى أيضاً على أناس قذرين ومظلمين ينيبون إليه ينيرهم كما يُنير القمرُ الليلَ. ومن الناس مَن يأخذ نصيباً من ضوء القمر في المرحلة الأولى من حياته ومنهم مَن يأخذه في النصف من عمره ومنهم من يأخذه في المرحلة الأخيرة. وهناك بعض الأشقياء الذين هم كليالي السَّلْخِ أي يعمّهم الظلام مدى عمرهم، ولا يُكتب لهم أن ينالوا نصيباً مِن ضوء هذا القمر الحقيقي. فملخص الكلام أن هذه السلسلة لضوء القمر تشبه كثيراً ضوء ذلك القمر الحقيقي.” (نسيم الدعوة)
وكان المسيح الموعـود ؑ قد أشر إلى أن جِنّ سليمان ؑ هُم بشر من أعدائه الذين سُخروا للعمل عنده. وقد ورد قوله عَلَيهِ السَلام هذا في بيـت شِعر بالعربية .. ففي كتابه “سـّر الخلافـة” نظَم المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام قصيدة سمّاها “القــصيدة في مدح أبي بكـر الـصديق وعمـر الفـاروق وغيرهمـا مـن الـصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعـين” .. قال فيها عن أبي بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وإني أرى الصدّيق كالشمس في الضحى
مآثـــره مقبولـــة عـنـد هـوجـرٍ
ثم تحدّث حضرته عن أبي بكر في عدد من الأبيات، ثم تحدّث بعد ذلك عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فقال:
وشابـهه الفاروق في كل خطّة
وساسَ البرايا كالمَـليك المُدبِّـر
ثم بعد عددٍ من الأبيات قال حضرته واصفاً حُكم الفاروق عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وفي وقته أفراسُ خيـلِ مُحَمَّدٍ
أثرَنَ غباراً في بـلادِ التنصّـر
وكسّرَ كسرى عسكر الدين شوكةً
فلم يبق منهم غير صور التصوّر
وكـان بشوكتـه سليماَن وقتــه
وجُعلت له جِنَّ العِدا كالمُسَخَّـرِ
أي أنَّ مُلك عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كان مثل مُلك سليمان ؑ، حيث سُخرت له جِنّ الأعداء. ومعلوم أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَم تُسخّر له أشباح الفرس، بل إنَّ أعدادا كبيرة من الأعداء الغرباء صاروا عُمّالاً عنده رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كما صار أعداء غرباء عُمّالاً عند سليمان عَلَيهِ السَلام. فالحقّ أنَّ حضرته يقصد بالجِنّ في العبارة السابقة (أي تمثل الجن) الشيطانَ الذي يوسّوس للناس.
فلا يوجد تنكير لعرش بلقيس بمعنى اقتلاع الأشباح له بل قام النبي ؑ بإعداده أي استخدم مَن تحت إمرته لإعداد صرْحٍ من الزجاج والقوارير فقط. هذا فضلاً عن التفسير الحقيقي للقصة والعبرة منها المذكورة في التفسير الكبير للخليفة الثاني رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ