ورد لفظ النزول في الكتاب المقدس 300 مرة تقريبا وفي العشرات منها كان المعنى “الإقامة” و “المجيء” و “البعثة” وليس النزول المادي من جهة علوية إلى جهة أخرى أسفل منها. هذا ما درجت عَلَيهِ لسان العرب وتعارفوا عَلَيهِ، ولم يكن عندهم ما عند ناطقي العربية اليوم من تمسك بالمعنى المادي الصرف للـ”نزول”، بل كان المعنى المتبادر عند ذكر نزول أحد هو الإقامة والمجيء وللنبيين البعثة. أحد هذه النصوص كان بلسان المسيح الناصري عَلَيهِ السَلام نفسه حين خاطب الجموع قائلاً:

فَقَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَا لأُتِمَّ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. [يوحنا 6:38]

وفي مكان آخر يقول:

أنا هو الخبز الذي نزل من السماء. [يوحنا 6:41]

ويبين لتلميذه نيقوديموس معنى ذلك أنه جاء بأمر الله تعالى وبأمر الله تعالى يرحل وأن لا أحد يأتي من السماء إلا بإذن الله وهكذا هو حال المسيح أو ابن الإنسان فيقول:

ليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء. [يوحنا 3:13]

أي أن النزول من السماء حسب فهم المسيح عَلَيهِ السَلام نفسه هو البعثة الإلهية وليس النزول المادي من الفضاء أو السماء المادية التي يتشبث بها الحرفيون اليوم. وللتأكيد على أن المسيح عَلَيهِ السَلام لم ينزل نزولاً مادياً بل ولد من امرأة نقرأ من إنجيل متى:

هَذَا سِجِلُّ نَسَبِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ.. فَقَدْ تَمَّتْ وِلادَتُهُ هكَذَا: كَانَتْ أُمُّهُ مَرْيَمُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ؛ وَقَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا مَعاً، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.. وَلَمَّا نَهَضَ يُوسُفُ مِنْ نَوْمِهِ، فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ مَلاكُ الرَّبِّ؛ فَأَتَى بِعَرُوسِهِ إِلَى بَيْتِهِ. وَلكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْناً، فَسَمَّاهُ يَسُوعَ. [متى 1:1-24]

ورد لفظ النزول في الكتاب المقدس 300 مرة ولم يعني في أي منها غير المجيء والإقامة والبعثة أو النزول المادي بمعنى العقاب كالمرض والكوارث وغيرها، ومنه النصوص التالية :

  • وَقَالَ: «يَا سَيِّدَيَّ، انْزِلاَ فِي بَيْتِ عَبْدِكُمَا لِتَقْضِيَا لَيْلَتَكُمَا، وَاغْسِلاَ أَرْجُلَكُمَا، وَفِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ تَمْضِيَانِ فِي طَرِيقِكُمَا». لَكِنَّهُمَا قَالاَ: «لاَ، بَلْ نَمْكُثُ اللَّيْلَةَ فِي السَّاحَةِ». (التكوين 19:2)
  • وَلَكِنَّنَا حِينَ نَزَلْنَا فِي الْخَانِ وَفَتَحْنَا أَكْيَاسَنَا عَثَرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى فِضَّتِهِ بِكَامِلِ وَزْنِهَا فِي فَمِ كِيسِهِ، فَأَحْضَرْنَاهَا مَعَنَا لِنَرُدَّهَا. (التكوين 43:21)
  • وَهُمُ الَّذِينَ يُنْزِلُونَ الْمَسْكَنَ عِنْدَ ارْتِحَالِهِ وَيَنْصِبُونَهُ عِنْدَ حُلُولِهِ، وَأَيُّ وَاحِدٍ آخَرَ غَيْرَهُمْ يَقْتَرِبُ مِنْهُ يُقْتَلُ. (العدد 1:51)
  • ثُمَّ تَرْتَحِلُ خَيْمَةُ الاجْتِمَاعِ وَسِبْطُ اللاَّوِيِّينَ فِي وَسَطِ الْمُخَيَّمِ. كَمَا يَنْزِلُونَ كَذَلِكَ يَرْتَحِلُونَ. كُلٌّ يَنْزِلُ فِي مَوْضِعِهِ مَعَ رَايَاتِهِ. (العدد 2:17)
  • وَبَعْدَ ذَلِكَ ارْتَحَلَ الشَّعْبُ مِنْ حَضَيْرُوتَ وَنَزَلُوا فِي صَحْرَاءِ فَارَانَ. (العدد 12:16)
  • بَعْدَ أَنْ نَزَلَ يَعْقُوبُ دِيَارَ مِصْرَ، وَاضْطَهَدَ الْمِصْرِيُّونَ ذُرِّيَّتَهُ، اسْتَغَاثَ آبَاؤُكُمْ بِالرَّبِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى وَهروُنَ فَأَخْرَجَاهُمْ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ وَقَادَاهُمْ لِلإِقَامَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. (صموئيل الأول 12:8)
  • ثُمَّ نَزَلَ ضَيْفٌ عَلَى الرَّجُلِ الْغَنِيِّ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَذْبَحَ مِنْ غَنَمِهِ وَمِنْ بَقَرِهِ لِيُعِدَّ طَعَاماً لِضَيْفِهِ، بَلْ سَطَا عَلَى نَعْجَةِ الْفَقِيرِ وَهَيَّأَهَا لَهُ». (صموئيل الثاني 12:4)
  • الْمَحْبُوبَةُ: نَزَلْتُ إِلَى حَدِيقَةِ الْجَوْزِ لأَرَى ثَمَرَ الْوَادِي الْجَدِيدَ، وَأَنْظُرَ هَلْ أَزْهَرَ الْكَرْمُ وَنَوَّرَ الرُّمَّانُ؟ (نشيد الأنشاد 6:11)
  • قَدْ نَزَلَ شَعْبِي أَوَّلاً إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ، ثُمَّ جَارَ عَلَيْهِ الأَشُورِيُّونَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ. (إشعياء 52:4)
  • فَيَحُلُّ بِهَا الرُّعَاةُ مَعَ قُطْعَانِهِمْ، وَيَضْرِبُونَ حَوْلَهَا خِيَامَهُمْ، وَيَرْعَى كُلٌّ مِنْهُمْ حَيْثُ نَزَلَ. (إرميا 6:3)
  • فَلَمَّا سَمِعَ مِيخَايَا بْنُ جَمَرْيَا بْنِ شَافَانَ كُلَّ كَلاَمِ الرَّبِّ الْمُدَوَّنِ فِي الْكِتَابِ، [12] نَزَلَ إِلَى قَصْرِ الْمَلِكِ إِلَى قَاعَةِ الاجْتِمَاعِ حَيْثُ كَانَ الرُّؤَسَاءُ كُلُّهُمْ مُجْتَمِعِينَ: أَلِيشَامَاعُ الْكَاتِبُ، وَدَلاَيَا بْنُ شِمْعِيَا، وَأَلْنَاثَانُ بْنُ عَكْبُورَ، وَجَمَرْيَا بْنُ شَافَانَ، وَصِدْقِيَّا بْنُ حَنَنِيَّا، وَسَائِرُ الرُّؤَسَاءِ. (إرميا 36:11-12)
  • وَلَمَّا نَزَلَ يَسُوعُ إِلَى الشَّاطِئِ، رَأَى جَمْعاً كَبِيراً، فَأَخَذَتْهُ الشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ وَشَفَى مَرْضَاهُمْ. (متى 14:14)
  • وَلَمَّا عَبَرُوا إِلَى الضَّفَّةِ الْمُقَابِلَةِ مِنَ الْبُحَيْرَةِ، نَزَلُوا فِي بَلْدَةِ جَنِّسَارَتَ. (متى 14:34)
  • وَانْزِلُوا فِي ذلِكَ الْبَيْتِ تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مِمَّا عِنْدَهُمْ: لأَنَّ الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ. لَا تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. (لوقا 10:7)
  • فَأَلَحَّا عَلَيْهِ قَائِلَيْنِ: «انْزِلْ عِنْدَنَا، فَقَدْ مَالَ النَّهَارُ وَاقْتَرَبَ الْمَسَاءُ». فَدَخَلَ لِيَنْزِلَ عِنْدَهُمَا. (لوقا 24:29)
  • وَبَعْدَ هَذَا، نَزَلَ يَسُوعُ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى مَدِينَةِ كَفْرَنَاحُومَ، حَيْثُ أَقَامُوا بِضْعَةَ أَيَّامٍ. (يوحنا 2:12)
  • فَقَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَا لأُتِمَّ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. (يوحنا 6:38)

وهنالك نصوصاً لا حصر لها كلها تشير إلى معاني المجيء والإقامة والحلول والبعثة لا النزول المادي من الفضاء وإن ورد لفظ السماء.

من المعلوم أن إيليا النبي رفع إلى السماء عند اليهود بنص واضح صريح في الكتاب المقدس:

وَفِيمَا هُمَا يَسِيرَانِ وَيَتَجَاذَبَانِ أَطْرَافَ الْحَدِيثِ، فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ تَجُرُّهَا خُيُولٌ نَارِيَّةٌ، نَقَلَتْ إِيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ. (الملوك الثاني 2:11)

ولكن اليهود والنصارى جميعا لا يقولون بأن إيليا سينزل نزولا مادياً من السماء بل يبعث ويأتي:

اذكُرُوا شَرِيعَةَ مُوسَى عَبْدِي وَسَائِرَ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي الَّتِي أَعْطَيْتُهَا فِي جَبَلِ حُورِيبَ لِجَمِيعِ شَعْبِ إسْرَائِيلَ. هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ يَوْمُ قَضَاءِ الرَّبِّ الرَّهِيبُ الْعَظِيمُ. (ملاخي 4:4-5)

فمقابل الرفع إلى السماء ورد المجيء ولو ورد النزول ما عنى غير المجيء وقد فسره المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بنفسه:

فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ: «لِمَاذَا إِذَنْ يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا لاَبُدَّ أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» فَأَجَابَهُمْ قَائِلاً: «حَقّاً، إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيُصْلِحُ كُلَّ شَيْءٍ. عَلَى أَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: قَدْ جَاءَ إِيلِيَّا، وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ فَعَلُوا بِهِ كُلَّ مَا شَاءُوا. كَذَلِكَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضاً عَلَى وَشْكِ أَنْ يَتَأَلَّمَ عَلَى أَيْدِيهِمْ». عِنْدَئِذٍ فَهِمَ التَّلاَمِيذُ أَنَّهُ كَلَّمَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ. (متى 17:10-13)

بل إن لفظ النزول استخدمه المسيح عَلَيهِ السَلام عن نفسه والكل يعلم بأن المسيح لم ينزل بل ولد. يقول المسيح الناصري عَلَيهِ السَلام:

فَقَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَا لأُتِمَّ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. (يوحنا 6:38)

وهذا معنى الحديث المنسوب لرسول الله ﷺ:

ثم ينزل عيسى بن مريم عليه السلام من السماء فيؤم الناس. (مجمع الزوائد عن أبي هريرة ؓ 7\ 352)

وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:

إذا نزل الرجلُ بقومٍ فلا يصومُ إلا بإذنِهم.” (2865 أخرجه ابن ماجه عن عائشة ؓ 1/560 ، رقم 1763، جامع الأحاديث، للسيوطي، 4/101)

فالمعنى إذن من النزول كما يجب أن يُفهم ببساطة النص وتلقائيته هو الإقامة أو البعثة بأمر الله تعالى والسماء إشارة لعلو وسمو المقام الإلهي لا مكان الله والعياذ بالله فالله ﷻ لا يحده مكان أو زمان تبارك وتعالى عن ذلك. والخلاصة هي أن نص الرفع أو النزول حتى إذا ورد مع لفظ “السماء” فلا يجب أن يُفهم منه إلا السمو والبعثة الإلهية لا النزول المادي من السماء التي نشاهدها فوق رؤوسنا وهي في الواقع محيط متغير بالنسبة لدوران الأرض، فما تراه الآن فوقاً يكون في المساء أسفلاً ولا يصح القول بأن فلاناً سينزل من هذه الجهة أو تلك فلا جهة عند الله تبارك وتعالى.

والخلاصة أن النزول في الكتاب المقدس لا يعني إلا المجيء والإقامة والبعثة وليس الهبوط من الفضاء الخارجي.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد