خطبة عيد الأضحى

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 31/7/2020م

في مسجد مبارك في إسلام آباد ببريطانيا

******

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.

اليوم عيدُ الأضحى الذي يسمى عيد القربان، ويحتفل به المسلمون اليوم ببالغ الفرح والسرور في العالم كله، وسيحتفلون به  غدًا  في بعض المناطق بسبب فارق التوقيت.

ما زال المسلمون يحتفلون بعيد القربان هذا منذ فجر الإسلام تخليدًا لذكرى ذلك القربان أو تلك الواقعة التي وقعت قبل أكثر من أربعة آلاف عام، ورغم مرور هذه المدة المديدة لم ولن تقلّ أهمية ذلك القربان وذكراه في قلب المؤمن. لا شك أن هناك كثيرا جدا من الناس الذين يتذكرون هذا العيد وينتظرونه ويحتفلون به باعتباره مناسبة سارة فحسب، ويقدمون قرابين الأنعام رياءً وتعبيًرا عن فرحتهم فقط، لكن المؤمن يتذكر ذلك القربان وأهميته وروحه، ويتذكره كما ينبغي وكما هو حقه.

إن واقعة القربان هذا الذي قام به أب وابن قبل آلاف السنين تجعل قلب المؤمن يفيض بالعواطف والمشاعر. ينسى المرء بعد مدة ما عاناه من كرب وغم بعد خروجه منه، ولا يتذكر ما قاساه من الأذى والهم مشغولا بأمور الدنيا ثانية، ولكن الله تعالى قد سجل هذه الواقعة، وهكذا أقام معيارًا أبديًّا للتضحية والقربان، ثم أمر المؤمنَ بجعل هذا المعيار نصب عينيه دائما، وهكذا أرسى الله تعالى ذكرى هذا القربان من أجل المؤمن والمسلم إلى يوم القيامة. فما أسماه مِن معيار للقربان بحيث إننا عندما نسمع هذه الواقعة اليوم ونتدبرها تفيض قلوبنا بالعواطف والمشاعر. إنه ليس بأمرٍ هيّنٍ أن يُرزَق شخص في شيخوخته ابنًا، وعندما يبلغ التسعين أو قريبا من ذلك، يأمره الله في المنام أن يذبح ابنه هذا، فيستعدّ لذبح ابنه الوحيد عملاً برؤياه حرفيا.

فيا له من معيار للانقياد لرضا الله وأمره، ويا له مِن مقام سام تبوأه إبراهيم عليه السلام، إذ تلَّ هذا الابنَ مستعدا لذبحه بالسكين كما فهم من أمر الله تعالى. ولم يستعد الأب فقط لهذا القربان، وهو يتبوأ مكانة روحانية عالية من قرب الله تعالى، بل إن الابن أيضا استسلم لأمر الله تعالى رغم كونه طفلاً صغيرا حيث قال: ما دام الله تعالى قد أمر بذبحي فأنا حاضر. لقد سجل الله تعالى جواب الابن هذا أيضا في القرآن الكريم حيث قال: يا أبتِ افعلْ ما تُؤْمَرْ ستجدني إن شاء الله من الصابرين.

وصار جواب الابن هذا نموذجًا يحتذى به للذين يقدمون القرابين والتضحيات ويقدمونها ببشاشة ويؤمنون بالله تعالى إيمانا كاملا، كما صار تعليما للشباب بأنه هكذا يجب أن يكون جواب ومعيار الذين يؤمنون بالله إيمانا كاملا ويظلون جاهزين للقربان دائما. فمن منا لا يتأثر من هذا الجواب إن كان من المتدبرين. فأما العجائز فقدم لهم عجوزٌ يبلغ التسعين مثالا للتضحية والقربان، وأما الصغار والشباب فقدم طفلٌ صغير مثالا للتضحية والقربان. لا شك أن قلوبنا تفيض بالمشاعر والعواطف، وأن عيونَ معظمِنا تغرورق بالدموع عند سماع هذه الواقعات وقراءتها، ولكن هذا لا يكفي، بل علينا أن نعاهد على أننا سنظل مستعدين لكل تضحية. علينا فحص أنفسنا من هذه الناحية أيضا. إن استعداد إبراهيم عليه السلام لذبح ابنه بأمر الله تعالى، وليس مجرد الاستعداد فقط بل إن إلقاءَه ابنَه على الأرض ووضْعَه السكينَ على رقبته بالفعل، يكتسب أهميةً أكثرَ حين نرى أن إبراهيم كان لين الطبع جدا حتى كان قلبه يرفق ويشفق على الأعداء أيضا، وكان لا يطيق أذى العدو. وقد بلغ من رقة قلبه وحلمه أن عدّ الله تعالى هذا من خصائص إبراهيم وسجلها في القرآن الكريم حيث قال تعالى: ]إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ[ (التوبة: 114). وما دام إبراهيم عليه السلام رقيق القلب لهذه الدرجة أفلم يتألم قلبه لابنه؟

لا بد أن يكون قد تألم لابنه، ولكنه لم يبالِ بألمه وحبه لابنه، مؤْثرا رضا الله وحبه على كل شيء سواه. وهذا هو الأمر الذي قد جعله مميزًا عن الآخرين، وهذه الميزة وهذا المعيار من الوفاء والحب والتضحية لله تعالى هي السبب وراء أن المسلمين عندما يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم فسوف يذكر إبراهيم أيضا إلى يوم القيامة حتما.

ثم إن هذه التضحية ليست من إبراهيم عليه السلام فحسب، بل كما يخبرنا القرآن الكريم كان إسماعيل عليه السلام أيضا قد استعد لهذه التضحية ببشاشة القلب، وقد مرّ ذكر ذلك آنفًا، ومعيار التضحية هذا قد ميّز إسماعيلَ عن الآخرين. لماذا استعد لهذه التضحية؟

لقد استعد لها لأنه كان لديه إدراك خاص لحب الله تعالى، وبسبب هذا الإدراك فكّر الأب والابن أن هذه التضحية سبب لرقينا. فحین تتغلب علينا العواطف نتيجة سماعنا وقائع سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتغرورق عيوننا فذلك لأن تصور هذه الوقائع تُحدث فينا كيفية عاطفية. ولعل قلوب الأغلبية منا لا تصل إلى الكُنهِ والمستوى الذي تحلى به سيدنا إبراهيم u حينذاك، إذ كان في باله أن الله تعالى قد اصطفاه لنفسه وطلب منه تضحية، وعوضًا عن كل ذلك سينال قرب ربه الحبيب، فلم تكن في باله u فكرة إلا أن الله تعالى يقترب منه. ثم لم يقتصر الأمر على الفكرة فقط بل يعلم كل مسلم وكل من يقرأ القرآن الكريم وكل من يردد الصلاة الإبراهيمية أن الله تعالى خلّد ذكر هذه التضحية وجعلها أبدية إلى يوم القيامة، وجعلها فريدة من نوعها لأن إبراهيم u جعل الشعور بمنّة الله تعالى غالباً على مشاعر الألم والحزن لأن الله U اصطفاه للتضحية، وكان في باله u أن التضحية بابنه ليست مِنّة منه، ولا هي منّة من ابنه، إذ استعد لتقديم التضحية في سبيل الله بل هي منة من الله تعالى على أنه اختاره وابنه لهذه التضحية. فاستحضر إبراهيم u عند تقديمه للتضحية فكرة جعلها تغزو ذهنه وتسيطر على مداركه أنه لا أهمية لتلك التضحية التي يقدمها، بل إنها منة خالصةٌ من الله تعالى إذ جعله أهلا لتقديمها.

إذًا، حين نتعهد نحن بأننا مستعدون لتقديم كل تضحية يجب أن نحاول لجعل الفكرة نفسها غالبة على أذهاننا أي أنه لا أهمية لتضحيتنا بل هي منة الله أن طلب منا التضحية، وسننال قربه I نتيجة لها. والحقيقة أنه لا أهمية لتضحياتنا مقابل التضحية التي استعد لها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقدّماها.

كلما نعمل- ولو قليلا- لتنفيذ عهدنا بتقديم الدين على الدنيا يُكرمنا الله تعالى بما لا يُعَدّ ولا يُحصى، وهذا ما جرّبه الكثيرون من الأحمديين. تأتيني رسائل كثيرة جدا بهذا الشأن يقول أصحابها كيف شرَّف الله تعالى تضحيتهم البسيطة بالقبول بحيث قدموا تضحية مالية مثلا وفي غضون بضع ساعات نالوا الأجر عليها. وهناك أمثلة كثيرة من هذا النوع. فيجب ألا تكون هذه العاطفة مؤقتة بل يجب أن تكون دائمة.

لا تكتفوا بنوال أفضال الله تعالى ومننه مرة واحدة فقط بل يجب أن تكون أمنية الحصول على قرب الله والسعي إليه جزءا دائما من حياتكم، عندها يمكننا القول بأننا نسعى لتنفيذ عهد قطعناه. ثم يظل هذا السعي ينتقل إلى الأجيال المستقبلية فتتراءى فيهم آثاره، ثم تبقى الأمنية لنيل قرب الله تعالى قائمة إلا فيما شذر وندر. فتدرك الزوجة والأولاد أيضا أن نوال مرضاة الله وقربه هو الهدف من حياتهم. فلخلْق هذه الأجواء في البيوت هناك حاجة ماسة إلى الدعاء والعمل.

إن استعداد إبراهيم u لإطلاق السكين على عنق ابنه كانت عاطفة عظيمة جدا وقد قدّرها الله تعالى وقبِلها، ثم قال لمنعه من إطلاق السكين على عنق ابنه عمليا: ] قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ[  (الصافات 106) ، أي أننا نجزي المحسنين من عندنا، وذلك الجزاء هو أننا وهبنا لك ولابنك مكانة عليا من قربنا. ولكن لم تنته سلسلة التضحيات بعد مقام القرب هذا، بل بدأت سلسلة جديدة لمزيد من التضحيات ليرى كلاهما بسبب تلك التضحية مزيدا من مشاهد قرب الله تعالى، وليس ليراها هما الاثنان فقط بل ضُمّت إلى هذه القائمة زوجة إبراهيم أي أُمّ إسماعيل عليهم السلام أيضا. وذلك ليكون مثالا للرجال أنه يجب ألا تقتصر الحسنات على أنفسهم فقط، بل يجب أن يُرى أثرها على زوجاتهم أيضا. وبضمّ المرأة إلى هذه التضحية ضرب الله U مثلا للنساء أن المرأة الصالحة تتوكل على الله تعالى وتخضع أمامه U وتنال قربه ولا يخذلها الله تعالى. فنرى أنه I طلب من العائلة كلها (الأب والأم والابن) تضحيةً أكبر حتى من إطلاق السكين. إن إطلاق السكين تضحية مؤقتة أي كانت تضحية بالعواطف مرة واحدة ولكن التضحية التي طُلبت من هؤلاء الثلاثة كانت مبنية على الهجر والانفصال والخوف بصورة دائمة.

باختصار، فقد طُلبت التضحية من الثلاثة وقبلوها. فانطلق إبراهيم مع السيدة هاجر وإسماعيل عليهم السلام ووصل إلى مكان لم تكن هناك منطقة سكنية إلى عدة أميال، بل كانت المنطقة قفراء لا ماء فيها ولا كلأ، ولا طعام من أي نوع، فترك إبراهيم عليه السلام زوجته وابنه في ذلك المكان مع قِربة ماء وكيس من التمور فقط. لم یكن إبراهیم u یعلم كیف سیعیش ابنه وزوجته عندما ینتهی الماء الموجود في القِربة، والتمرُ الموجود في الوعاء، ذلك لأنه بعد ذلك لن يتوفر لهما الماء ولا شيء للأكل. ولكن بما أن الله تعالى كان قد أمره بهذه التضحية لذلك كان يقوم بها ابتغاء مرضاة الله تعالى. على أية حال، لما أراد إبراهيم الانصراف تاركًا وراءه زوجته وابنه في ذلك المكان مع قليل من الماء والطعام دون أن يخبر زوجته بأنها ستبقى هنا مع ابنها. شعرت هاجر بأنه ليس فراقًا مؤقتا بل هو مستديم، وإنهما سيضطران للبقاء في هذا المكان بشكل دائم، فمشت وراء إبراهيم وسألته: إلى أين تنصرف بعد أن تتركنا ههنا؟

لقد صور المصلح الموعود t هذه الحالة بأسلوب رائع جميل فقال:

كانت حالة من الرقة تغلب على إبراهيم في ذلك الوقت جراء العاطفة الطبيعية التي كان قلبه يفيض بها. أي أن قلب إبراهيم u كان يمتلئ بعاطفة جياشة لكونه أواهًا منيبًا، ولم يستطع أن ينبس ببنت شفة لغلبة الرقة عليه. فسألته هاجر مرة أخرى: أين تذهب وتتركنا ههنا؟ لم يستطع  إبراهيم الرد بسبب حالته العاطفية رغم تكرار السؤال من السيدة هاجر، بل وأنى لشخص أواه مثل إبراهيم u أن يردّ لأنه كان يتراءى له ظاهرا أنهما سيواجهان بعده ظروفا صعبة في ذلك المكان الخراب. فمن ناحية كان حب ابنه وزوجته يغلبه بحسب مقتضى بشريته، إضافة إلى ذلك  كان أواهًا فطريا، وهو أمر كان يمنعه من الرد لأنه كان يخشى أنه لو ردّ لربما يفيض بالمشاعر المكبوتة وبالتالي يؤدي ذلك إلى اضطراب السيدة هاجر أكثر؛ ومن ناحية أخرى كان يفكر أيضا أنه إذا فاضت مشاعره فلربما يؤدي إلى التقليل من مستوى التضحية التي استعد هو وزوجته وابنه لتقديمها ابتغاء مرضاة الله تعالى والتي سينالون قرب الله تعالى نتيجة لها، ولأجل ذلك ظل إبراهيم صامتًا.

فلما قالت له السيدة هاجر: آلله أمرك بهذا؟ لم ينبس بنت شفة إلا أنه رفع يده إلى السماء مغلوبا بمشاعره. فلما رأت السيدة هاجر هذه الإشارة قالت بكامل التوكل: “إذًا لن يضيّعنا”، فاذهب إلى حيث تشاء.

لاحظوا الآن أنه لا يمكن التسليم بهذا الأمر ظاهرًا أن يتلقيا ماء بعد انتهاء الماء من القربة، أو تمرًا بعد انتهاء التمر الذي في الوعاء، أو أي طعام آخر في ذلك القفر الذي هو وادٍ غير ذي زرع، كما كان مستحيلا أن يجدا في ذلك المكان الخرِب شخصًا يزيل عنهم أذاهم أو أحدا يأتي على الأقل لمواساتهم، أو أن يروا أحدًا في ذلك المكان الصحراوي، إذ لم يكن لأحد أن يأتي إلى هناك. ولكن بما أن رفقة إبراهيم u قد أحدثت انقلابا في السيدة هاجر أيضا فقد بلغت عندها أيضا الأمنية بنوال قرب الله تعالى منتهاها. فقالت بدون خوف بأنه إذا كان هذا أمر الله تعالى فلا أبالي بشيء. لا شك أنه لما سمع رب العرش كلمات السيدة هاجر: إذا كان هذا ما أمرك الله به فلن يضيعنا أبدا، فلعل الله تعالى أيضا قال ردًّا عليها: لن أضيعك ولا ابنك أبدًا. ويتضح من الأحداث اللاحقة أن الله تعالى فعل وفق المأمول منه، فلم يعصمهما الله تعالى من الضياع فقط بل أنشأ بواسطتهما قومًا بعث فيهم نبيًّا عظيم المرتبة مثل خاتم الأنبياء محمد المصطفى r الذي بعث للعالم كله، والذي هو الملك الروحاني للعالم كله، ولا يمكن الوصول إلى الله تعالى الآن إلا بوسيلته.

لقد تخلت السيدة هاجر وإسماعيل عليهما السلام عن الدنيا لوجه الله تعالى، فجعل الله تعالى العالم كله عند أقدام نسل إسماعيل u. وبسبب النبي r يحج مئات الألوف من الناس اليوم ويعتمرون اليوم فإنهم عند ذلك يحيون ذكرى السيدة هاجر أيضا. فقد منح الله تعالى تضحية السيدة هاجر مكانة عظمى وشرفًا عظيمًا، فإنها وابنها قطعا علاقتهما عن الدنيا متوكلين على الله تعالى وابتغاء مرضاته، والآن يضطر العالم أن يوصل علاقته معهم للفوز بالله تعالى.

فلم تكن تضحيتهم هذه يسيرة. ولم يكن يسيرا إيمانهم القائل إن الذي يعمل لله تعالى فلن يضيعه. ثم إن الله تعالى هيأ أسبابا ليحقق آمالهم وتوكلهم إلى يوم القيامة وينعم عليهم. فإن هذا اليوم يذكرنا توكلَ هذه الأسرة بالله تعالى ومستوياتهم العليا للتضحية لوجه الله. ولكن إضافة إلى ذلك ينبغي أن نرى هل يكفي سرد أحداث هذه التضحية وذكر توكل هذه العائلة وتذكّر هذه التضحية فقط؟ كلا، بل ينبغي عند إحياء هذه الذكرى أن نتخذ وفاء إبراهيم وتضحيته مثالا نحتذي به، وينبغي أن نجعل تضحية السيدة هاجر هدفًا لنا. وينبغي أن تفكر كل سيدة ماذا ينبغي عليها من أجل تحقيق هذا المستوى من التضحية.

لقد بلغني أن بعض السيدات قلن إنهن يلتزمن الصمت عند ترديد هذا الجزء من عهد لجنة إماء الله: “أكون مستعدة للتضحية بأولادي”، لأنهن غير مستعدات لذلك. لا يمكن أن يخطر بالبال مثل هذا التفكير إن كان توكل المرء على الله وهدفه نيل رضا الله وتكون لديه أمنية إحراز قرب الله فوق كل أمنية.

إذا كنتم تعهدتم بإيثار الدين على الدنيا، فهذا العهد يلفت انتباهنا إلى التوكل على الله وحده، حين عقدتم هذا العهد فمن الواجب على كل رجل أحمدي وامرأة أحمدية وشابٍّ أحمدي وطفل أحمدي أن ينجزه. فحين يسعى الإنسان للتقرب إلى الله فإن الله I لا يضيعه بل يكرمه، عندما يرفع الرجال الأحمديون معاييرهم إلى معيار سيدنا إبراهيم u فسوف تنتقل تلك المعايير الروحانية إلى النساء والأولاد أيضا. فقبل كل واحد ثمة حاجة لأن يرفع الرجال مستوى تفكيرهم وتضحياتهم، إذا كان الرجال يريدون أن يرتفع مستوى التوكل على الله والتضحية لدى النساء والأولاد فعليهم أن يقدموا لهم أسوتهم. ولا يخطرنَّ ببالكم أن الله I قد ذكر هذه الأمثلة لنخلق بها تغييرات بسيطة فينا فقط أو لكي يحفظها كقصة. كلا بل في هذه الأمثلة أسوة لنا. فعندما يسعى كل رجل أن يتأسى بأسوة إبراهيم u ويسعى بذلك لرفع معيار وفائه، وعندما تستعد كل سيدة للتأسي بأسوة السيدة هاجر، ويستعد كلُّ شاب لاتخاذ فعل سيدنا إسماعيل أسوة له، فسوف ينزل عليكم غيث أفضال الله I وتحرزون إدراك القربان الحقيقي وقربِ الله نتيجة له وتتمتعون بقربه I أيضا.

الخادم البار للنبي r في هذا العصر الذي آمنا به لكي نساهم في النشأة الثانية للإسلام، قد سمَّاه الله I أيضا بإبراهيم، فقد خاطبه الله I في الوحي في عدة مواقع بإبراهيم.

فإذا كنا قد آمنا بإبراهيم هذا لإحراز الرقي الروحاني وغلبة الإسلام في العالم، ورفْع لواء النبي r في العالم، فيجب على كلّ واحد منا أن يسعى ليكون إسماعيل وأن تكون كلُّ امرأةٍ هاجرَ. وإذا استعددنا لتقديم التضحيات من أجل الدين فسوف يفتح الله لنا سبلا جديدة كثيرة، وسوف نساهم في تحقق الوعود التي قطعها الله I مع المحب المخلص للنبي r لرقي الإسلام. إذا حقَّق كل واحد منا عهده بإيثار الدين على الدنيا في الحقيقة فسوف نتمكن من خلْق الانقلاب في العالم. إذا بدأنا العيش عاملين بتعاليم الإسلام، فبوسعنا إحداث الانقلاب في العالم. إذا استطعنا إحضار العالم تحت لواء النبي r من خلال نشر التعليم الجميل للإسلام في العالم، فسوف نقدر على أخذ أروع ثأر لقرابين الشهداء الذين قُتلوا عقابا على إيمانهم بإمام الزمان. حين أقام الله I هذه الجماعة بواسطة سيدنا المسيح الموعود u كان ذلك ليستعيدَ إلى العالم جميعَ البركات التي قُدّرتْ لأتباعٍ حقيقيين ومؤمنين بالنبي r، وقد قدم الأولون التضحيات من أجل ذلك، وضحَّوا بنفوسهم. ونحن أيضا نتعهد بأننا سنضحي بأموالنا وأرواحنا ووقتنا، لذا يجب أن نبقى مستعدين لتقديم التضحيات واضعين هذا العهد في الحسبان. ولا بد لنا من تقديم التضحيات كما يقدمها الكثيرون سلفا، لأنه بدون التضحيات لن يحدث هذا الانقلاب كما أن الانقلابات لا تحدث أصلا دون التضحيات. ومن هذا المنطلق أود أن ألفت إلى التضحية انتباهَ الأمهات اللاتي يقلن إنهن يصمتن عند ترديد هذه الفقرة في العهد. فهناك أمهات قدمن أولادهن في مشروع وقف نو، وعندما يكبرون يقدم بعض الوالدين اعتذارا أن أوضاعنا الاقتصادية ليست جيدة، وإذا خدم أولادنا للجماعة فلن يكفيهم الراتب القليل، لذا نرجو أن تسمحوا له بالانخراط في العمل المادي. فمن ناحية تعهدن بالتضحية وقدمن الأولاد من تلقاء أنفسهن ومن ناحية أخرى يدفعنهم بأيديهن إلى المادية. ومثل ذلك يصبح بعض الأولاد الواقفين أطباء ومهندسين ويقولون الآن نجد صعوبة في عمل الجماعة، ولا نستطيع العيش بنقود قليلة، فاسمحوا لنا بالعمل المادي. فأقول لهم حين قطعتم العهد بإيثار الدين على الدنيا، وتعهدتم بأنكم ستضحُّون، ووُفِّق الوالدان لينذروا أولادهم قبل الولادة، فلا معنى لهذه الأعذار. بل ثمة حاجة للوفاء بهذا العهد، إذا كان الراتب قليلا فإن الله I يبارك فيه. فعلى الواقفين الشباب أن يتقدموا ليكونوا دعاة ومبلغين، كما ينبغي أن يخدموا الجماعة في مجال الطب والهندسة أو في التدريس، ويقدموا التضحية، ويرفعوا معايير التضحيات، ولا يكتفوا بالاستمتاع بسماع القصص والوقائع القديمة فقط، ولا يفرحوا بنشوء الحماس لديهم إثر الاستماع إلى وقائع قديمة، فهي تُقرأ لكي نقتدي بها. لا يُهمنا المملكات المادية ولا الحكومات المادية ولا علاقة لنا بأنظمة الحكومات وثرواتها، ولا بقواتها، وينبغي أن يكون الأمر كذلك   فإذا كان هناك هدف، فهو كيف يمكن أن نُثبت صدْق الإسلام ونظهره على العالم، وكيف يمكن أن نجمع العالم تحت راية النبي r، وكيف يمكن أن نُقيم حُكم الله الواحد في الدنيا، وكيف يمكن أن نجعل البشرية الناسية والضالة خاضعةً لله تعالى، وكيف يمكن أن نجعل الناس يؤدون حق بعضهم البعض. هذا هو الهدف من إقامة جماعتنا، وهذا هو هدف كل أحمدي ولا سيما الواقفين الجدد، لذا يجب عليهم أن يقفوا أنفسهم للدراسة في الجامعة الأحمدية وأن يُصبح معظمهم دُعاةً ومربّين لكي تنتشر رسالةُ الإسلام في العالم كله في أسرع ما يمكن.

فهذه الأمور التي ذكرتُها هي الهدف من تأسيس هذه الجماعة ولتحقيقه يجب أن نقدم تضحيات، وهذا ما ذكره المسيح الموعود u مرارا، لأن تحقيق هذه الأمور يتطلب تضحيات، فالانقلابات لا تحدث بمجرد قراءة واقعات التضحيات القديمة، لذا لا بد أن تصبح كل امرأة أحمديةٍ هاجرَ ويُصبحَ كلُّ شاب أحمدي إسماعيلَ، ولا بد أن يُظهر مثلَ هذه النماذج كلُّ أحمدي من كل بلد وملة ونسلٍ، حينها يمكن أن نُنشئ الوحدة في العالم. وحينما نقوم بتضحية مشتركة لنيل هذا الهدف نتمكن من تحقيق الهدف من بناء بيت الله وهو إقامة وحدانية الله التي من أجلها قدّم إبراهيم وهاجر وإسماعيل تضحيات وظهر بيتُ الله الأول كعلامة لوحدانية الله، وحينها سنتمكن من تحقيق الهدف من بعثة إبراهيم هذا الزمان والخادمِ الصادق للنبي r، وهو جمع العالم على دين واحد. ندعو الله تعالى أن يخلق فيها روح التضحية الحقيقية، وأن نكون ممن يقدّمون الدين على الدنيا دوما وأن يُرينا في عيد الأضحى القادم منازلَ جديدة من رقي الإسلام وأن نقدم تضحيات مقبولة تصلنا فيوضُها وبركاتها في الدنيا والآخرة. (آمين)

والآن سنقوم بالدعاء الجماعي وعليكم أن تذكروا في الدعاء أولئك الأسرى الذين يواجهون صعوبات السجن والحبس من أجل الأحمدية فقط، وهم في السجون من أجل الدين في ظروف قاسية للطقس خاصةً في باكستان، ويواجهون كل هذه الصعوبات بسعادة ومنهم امرأة تتكبد عناء السجن وأُلصقت بها تهمة زائفة وطُبِّقت عليها أحكام بُنودٍ خطيرة جدا وذلك لأنها آمنت بإمام هذا الزمان u. وتذكّروا في أدعيتكم أُسر الشهداء أيضا، ثم ادعوا لواقفي الحياة والدعاة والدعاة المحليين أن يُوفوا بعهد الوقْف لهم بروح التضحية. وفي كثير من البلاد وفي أفريقيا أيضا هناك دعاة محليون يقومون بأعمال مهمة أن يوفقهم الله تعالى لأنهم يقومون بأعمال جيدة مع أنهم نالوا تربية قليلة وعلما قليلا في صف الدعاة المحليين، بارك الله تعالى في أعمالهم وإخلاصهم ووفائهم وروحانيتهم وأن يُوفوا بعهد الوقْف بإخلاص ولوجه الله تعالى. وادعوا للذين هم محاطون بمشاكل أن يرفع الله مشاكلهم ويزيل دواعي القلق عنهم. وادعوا الله تعالى للحماية من شر المشايخ النفعيين الذين أثاروا شرًّا في باكستان خاصةً وفي بعض البلاد الأفريقية أيضا. وادعوا لحماية الأبرياء من شر كل قوي شرير. وفي هذا العيد هناك ضجيج في باكستان –يكون هذا الضجيج كل سنة ولكن في هذه السنة اشتد كثيرا- أن الأحمديين إذا ضحّوا وقدموا القرابين في مناسبة العيد فسوف تُرفع ضدهم قضايا وسيعاقَبون، ندعو الله تعالى أن يحمي كل أحمدي من مثل هؤلاء الأشرار، وعلينا أن ندعو كثيرا لنكون محقّقين لهدف بعثة المسيح الموعود u، وما هو الهدف من بعثة المسيح الموعود u؟ إنما هو أن ترفرف راية النبي r في العالم كله وأن يكون في الدنيا عمل. وأما المعارضة فلا تقتصر على باكستان فقط بل يذهب بعض المشايخ في أفريقيا من الخارج ويثيرون الناس المحليين هناك مما يُنشئ المعارضة. ولكن الأحمديين هناك ثابتون على إيمانهم بقوة بفضل الله تعالى ولا يبالون بأية معارضة، بل هُدِّدوا بالقتل ومع ذلك ثبتوا على إيمانهم. وكذلك يُسعى للاستيلاء على بعض مساجدنا في أفريقيا، ندعو الله تعالى ليهيء أسبابا لنتمكن من استعادة مساجدنا التي يسعى العدو للسيطرة عليها بغير حق. باختصار، ينبغي أن ندعو عموماً أن نكون ورثة أفضال الله تعالى ورحمته جميعاً.

ستكون خطبة الجمعة في وقتها اليوم أيضا إن شاء الله. والآن تعالوا ندعو، وقبل الدعاء أهنئ جميع أفراد الجماعة في العالم بالعيد. والآن نقوم بالدعاء الجماعي. عفوا، سنقوم بالدعاء الجماعي بعد الخطبة الثانية.

*****

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز