خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 1/12/2017
***
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
يوم 12 من ربيع الأول هو اليوم الذي ظهر فيه في الدنيا ذلك النور الذي سماه الله سراجا منيرا، صلى الله عليه وسلم، والذي كان سيهب للعالم كله نورًا روحانيا، فوهب، والذي كان سيقيم حكم الله في العالم، فأقامه، والذي كان سيحيي الموتى منذ قرون حياة روحانية، فأحياهم، والذي كان سينشر السلام والأمان في العالم، فنشر، والذي قال الله له (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، والذي لم يكن رحمة للناس فحسب، بل كان رحمة للأنعام والطيور وغيرها، والذي لم يكن رحمة للمسلمين فقط، بل كان ولا يزال رحمة لغير المسلمين أيضا، والذي شريعته رحمة للجميع إلى يوم القيامة، والذي قال الله فيه (القرآن الكريم) لأتباعه إن رسولنا هذا أسوة حسنة لكم حيث قال الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }. فالمسلم لا يمكن أن يسمى مسلما حقيقيا بدون التأسي بهذه الأسوة الحسنة. إن نبينا صلى الله عليه وسلم قد قدم لنا أسوة في مجال إقامة التوحيد، وفي مجال العبادات وفي مجال الأخلاق السامية وفي مجال أداء حقوق العباد. ولكن المؤسف أن أكثرية المسلمين اليوم يدّعون حب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أعمالهم هي ضد ما علّمناه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقدم لنا أسوته الحسنة بالعمل به. لقد جاء نبينا صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، ولكن هؤلاء القوم الذين يدعون حبه ويحتفلون بهذا اليوم 12 من ربيع الأول بكل حماس، فإنهم قد ملأوا معظم بلاد العالم الإسلامي بالفتن والفساد بدلاً من أن يعاهدوا ويقولوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف ننشر الرحمات في كل طرف وصوب عاملين بأسوتكم الحسنة. في يوم الفرحة هذا كان الواجب على كل المسلمين أن يؤكدوا بأعمالهم أن النبي الذي يؤمنون به كان مَلِكَ الأمنِ والسلام، وكان رحمة للعالمين، وقدم نموذجا مثاليا عاليا في عبادة الله وبلغ أعلى مستوى في الأخلاق السامية، وإنهم عاملون بسنته كما أمرهم الله تعالى، لذا سوف تتفجر منهم في هذا اليوم ينابيع المحبة والوئام والأمن والسلام فرحة بيوم ولادة هذا النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا ما أمر به رسولهم صلى الله عليه وسلم أتباعَه، وهذا ما توقعه منهم، وهذا ما علّمهم.
لكن ما نراه هو عكس ذلك، إذ الفساد مستشرٍ في البلاد الإسلامية، بل العالم غير الإسلامي خائف بسبب المسلمين في بعض البلاد. ففي باكستان قد أوقفت الحكومة خدمة الهاتف الجوال في بعض المدن خوفًا من انتشار نيران الفتنة والفساد هذه في المدن الأخرى، ورجال الشرطة واقفون بأعداد كبيرة في كل ميدان ومنعطف طريق. هل هذا هو السبيل للاحتفال بولادة هذا النبي؟ حيث أصبح كل إنسان شريف خائفا، وتتردد الحكومة في تنفيذ القانون للحفاظ على الأمن والأمان خوفًا من هؤلاء. إن سبّهم لنا نحن الأحمديين وكيل الشتائم ضدنا باسم سيدنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم كان دأبهم اليومي، إلا أنهم قد ازدادوا شتما لنا في هذا اليوم احتفالا به، وهم يحسبون أنهم يزيدون في عظمة هذا النبي العظيم بتصرفهم هذا.
إن ما حدث قبل بضعة أيام في بعض المدن بباكستان من محاصرة مناطق معينة وإغلاق الشوارع والطرق بالجلوس فيها ووضع العراقيل فيها من قِبل الغوغاء، قد أقض مضاجع كل مواطن، حيث تعطلت الحياة اليومية كلية، فلم يستطع مريض الوصول إلى المشافي، وأغلقت المدارس، بل المحلات أيضا فلم يتمكن أي إنسان نفدت في بيته المؤن أن يجلبها من المحلات من أجل أهله وأولاده. وقد لحقت بالشعب خسائر ببلابين الروبيات. وقد حدث كل هذا بسبب هتاف حب الرسول الذي رفعه هؤلاء المشايخ المزعومون، ذلك الرسول الذي هو رحمة للعالمين، والذي أمرنا بأداء حق الطرق والشوارع. فقد قال صلى الله عليه وسلم إياكم والصخب في الأسواق، والجلوسَ في الطرق. فقال له الصحابة يا رسول الله ليس لنا بد من الجلوس فيها (إذ لم تتوفر في ذلك الزمن مكاتب تجارية لإتمام الصفقات، فكانوا يجلسون في الطرق من أجل المعاملات التجارية) فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إذن فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، هذا هو حق الطريق.
لكن هؤلاء المشايخ قد آذوا الناس بإغلاق الطرق والشوارع باسم حفظ عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يزعمون أنهم محتكرو الدين، يجعلون من شاءوا مؤمنا ومن شاءوا كافرا في زعمهم. وليس وراء تصرفاتهم هذه إلا جلب المنافع الشخصية، وتصرفاتهم هذه لا تمتّ إلى تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى أسوته بصلة.
فليفعلوا ما يحلو لهم، إلا أن من واجب المسلمين الأحمديين أن يجعلوا كل جانب من أسوة الرسول صلى الله عليه وسلم نصب الأعين ويسعوا للعمل به بكل ما أوتوا من قوة وكفاءة.
سوف أذكر لكم بعض جوانب حياة النبي صلى الله عليه وسلم كأسوة حسنة لنا.
قال المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام مبينا حب النبي صلى الله عليه وسلم لذات الباري تعالى:
لقد صار النبي صلى الله عليه وسلم عاشقًا وَلْهَانًا لله تعالى، فنال ما لم ينله أحد في الدنيا. لقد أحب الله تعالى حبا جعل الناسَ يقولون: عشق محمد ربه.
ويقول عليه السلام في وصف حب وعشق النبي صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه وتعالى:
حين نزلت الآيات التي جاء فيها أن المشركين نجس، وشرُّ البرية، وسفهاء، وذرية الشيطان، وأن آلهتهم وقود النار وحصب جهنم، دعا أبو طالب النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – وقال له: يا ابن أخي، قد استشاط قومك غضبا نتيجة شتائمك وكادوا يقتلونك وإيايَ، فقد سفَّهتَ حكماءهم، وسميتَ كِرامهم شرَّ البرية، ونعتَّ آلهتهم الجديرة بالتعظيم حصبَ جهنم ووقودَ النار، واعتبرتهم جميعا رجسًا ونجسًا وذرية الشيطان. فأقول نصحا لك أن تكفّ لسانك وتتوقَّف عن السباب وإلا فأنا لا أقدر على مواجهة القوم.
يقول المسيح الموعود عليه السلام: هذا ما قاله للنبي عمُّه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب: أيا عمّاه، إن ذلك ليس سبًّا بل هو بيان الواقع، وذكرُ حقية الأمر في محله تماما. وهذا ما أُرسلتُ من أجله، فلو متّ في هذا السبيل فأنا راض بموتي بكل سرور، فإن حياتي فداء هذا السبيل، ولن أتوقَّف عن قول الحق خشية الموت. ويا عمِّ، فإن كنتَ تخشى ضعفك وقلة حيلتك ومعاناتك فتخلَّ عن ذمتي، فوالله لستُ محتاجا إليك، لأني لن أحيد عن تبليغ أمر الله أبدا. إن أحكام ربي أحبّ إليّ من نفسي. ووالله لو قُتلت في هذا السبيل لتمنّيت أن أظل أُحيا وأقتل في هذا السبيل مرة بعد أخرى. هذا ليس مقام خوف بل إن غاية سعادتي تكمن في تحمُّل المعاناة في سبيله – سبحانه وتعالى. كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول ذلك والرقة المفعمة بالصدق والنورُ تعلو وجهه الكريم. ولما أنهى كلامه سالت عينا أبي طالب بالدموع عفويا لِما رأى من نور الصدق والحق، فقال للنبي: كنت أجهل حالتك السامية هذه! فإن لك شأنا غريبا وحالة عجيبة! فاذهبْ إلى عملك واستمر فيه، وسوف أنصرك ما استطعتُ ما دمتُ حيا.”
أقول: اليوم يتهمنا المعارضون ويقولون بأن الأحمديين كفار بسبب إيمانهم بمرزا غلام أحمد القادياني (). الحادث الذي ذكرتُه آنفا قد قرأناه في التاريخ وسمعناه مرارا ولكن العفوية والكيفية القلبية التي بها ذكره المسيح الموعود تبين حبَّه للنبي العربي محمد ، وبواسطته تتراءى للمرء سبل حب الله تعالى أيضا.
وقد بيّن المسيح الموعود هذا الجانب من سيرة النبي غارقا في حبه وقال ما تعريبه:
“إنني دائمًا أنظر بعين الإعجاب إلى هذا النبي العربي الذي اسمه محمد – عليه ألف ألف صلاة وسلام – ما أرفَعَ شأنَه! لا يمكن إدراكُ سموِّ مقامه العالي، وليس بوسع الإنسان تقدير تأثيره القدسي. من المؤسف أن الدنيا لم تقدر مكانته حق قدرها. إنه هو البطل الوحيد الذي أعاد التوحيد إلى الدنيا بعد أن غاب عنها. لقد أحبَّ اللهَ غاية الحبِّ، وذابت نفسه تمامًا شفقةً على خلق الله، لذلك فإن الله العالِمَ بسريرته فضَّله على الأنبياء كافةً، وعلى الأولين والآخرين جميعًا، وحقّق له في حياته كلَّ ما أراد. هو المنبع لكل فيض. ومن ادعى بأية فضيلة من غير الاعتراف بأنه قد نالها بواسطة النبي ، فليس هو بإنسان، وإنما هو ذرية الشيطان؛ لأنه قد أُعطي مفتاحًا لكل خير وكنـزا لكل معرفة. إن الذي لا ينال عن طريقه فهو محروم أزلي. من نحن وما هي حقيقتنا؟ سنكون من الكافرين بنعمة الله إن لم نعترف بأن التوحيد الحقيقي إنما وجدناه بفضل هذا النبي، وأن معرفة الإله الحيّ إنما حصَّلناها بواسطة هذا النبي الكامل وبنوره، ولم نتشرف بمكالمة الله ومخاطبته التي نحظى من خلالها برؤية وجهه إلا بفضل هذا النبي العظيم. إن أشعة شمس الهداية هذه تقع علينا كالنور الساطع، ونستطيع أن نبقى مستنيرين ما دمنا واقفين إزاءها.”
إذًا، لا يمكن معرفة التوحيد الحقيقي إلا باتباع النبي ، ولا يمكن الوصول إلى الله تعالى إلا بالتأسي بأسوته ، وهذا هو أساس ادعاء المسيح الموعود .
كم كان مستوى عبادة النبي رفيعا! تقول السيدة عائشة رضي الله عنها في ذكر كيفية أدائه صلاة التهجد: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً … فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنّ.
وقد جاء في رواية أن صحابيا رأى النبي وهو يصلي (أي رآه يصلي صلاة النافلة في عزلة) فقال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ الْبُكَاءِ.
وفي رواية أخرى: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ نَبِيَّ اللهِ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا.
ما هو الانقلاب الذي أحدثته في الصحابة عبادةُ النبي البالغة هذا المستوى؟ يقول المسيح بهذا الشأن ما تعريبه: “أقول بكل قوة وشدة بأنه مهما كان العدو لدودا، سواء أكان مسيحيا أو من الآريين، عندما يتفقد حالة العرب قبل بعثة النبي ثم ينظر في التغيّر الذي حدث بتعليمه وتأثيره لاضطر للشهادة على صدقه عفويا. لقد صور القرآن الكريم حالتهم الأولى قائلا: يَاكُلُونَ كَمَا تَاكُلُ الْأَنْعَامُ. هذه كانت حالتهم في زمن الكفر، ثم عندما أحدثت تأثيرات النبي الطيبة فيهم تغييرات صارت حالتهم: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا. التغيّر الذي أحدثه النبي في العرب الهمجيين وإخراجه إياهم من الهوة وإيصالهم إلى سموٍّ ومقام رفيع؛ يدفع الإنسان إلى البكاء تلقائيا فيتساءل: ما هذا الانقلاب العظيم الذي أحدثه النبي الذي لا نظير له في أيّ تاريخ أو في أيّ قوم في العالم كله. هذه ليست أساطير بحتة بل أحداث واقعة أقرَّ الدهر بصدقها.”
فمن واجب أفراد جماعة “الآخرين” الذين لحقوا بالأولين أن يرفعوا مستوى عباداتهم متأسين بهذه الأسوة كما فعل أصحاب النبي ، وألا يظلوا غارقين في الأمور الدنيوية فقط.
ترفع المنظمات الفرعية وأنطمة الجماعة تقاريرها ويقولون بأن أربعين بالمئة أو خمسين بالمئة أو ستين بالمئة من أفراد الجماعة قد أصحبوا ملتزمين بالصلاة جماعةً، ولكن يجب ألا يهدأ بالنا ما لم يلتزمها مئة بالمئة منهم. وهذه المسؤولية لا تقع على نظام الجماعة فقط بل يجب على كل فرد أن يحاسب نفسه ويتفقد حالته بهذا الشأن.
ماذا كانت أسوة النبي فيما يتعلق بقول الصدق والحق؟ فاسمعوا بهذا الشأن شهادة ألد أعدائه وهو النضر بن الحارث، فقد جاء في رواية أن زعماء قريش اجتمعوا ذات مرة بمن فيهم أبو جهل والنضر بن الحارث فقال أحدهم عن النبي إن علينا أن نذيع أنه ساحر، قام النضر بن الحارث…؟ فقال: “يا معشر قريش إنه والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله. لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب. وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر! لا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة … وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن قد رأينا الكهنة وحالهم… وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها… وقلتم: مجنون! ولا والله ما هو بمجنون… يا معشر قريش انظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.”
هذا، ولم يستطع أبو جهل أيضا أن ينكر صدق مقال النبي ، فقال ما معناه بأني لا أكذّبك ولكن أكذّب ما جئتَ به لأنك تخالف أوثاننا. وهذا ما قاله أبو سفيان في بلاط هرقل، أي أنه لم يكذب قط، بل هو ينصح بصدق المقال دائما. إذًا، لم يستطع ألد أعداء النبي أيضا أن يشيروا إلى كذبه. وهذا أقوى دليل على صدق نبوته.
وقال الراهب اليهودي بعد أن نظر إلى وجهه إن هذا الوجه ليس لكاذب. إن أرفع معايير صدق تعليمه وعمله هي حصرا يمكن أن تقرِّب غير المسلمين إلى الإسلام اليوم أيضا. أما الكذب والخداع والزيف فيمكن أن يزيد الكراهية والنفور ضد الإسلام ويستحيل أن يقرِّب أحدًا إليه. فليس من شأن الأمور المادية وإقامة الحكومات وحفاظ العلماء المزعومين على منابرهم بناء على الكذب أن يُثبت أبدا فضيلة الإسلام. لذا يجب على الأحمديين أن يسعوا دوما لرفع معايير صدقهم تأسيا بأسوة النبي لكي يسْهل علينا نشرُ تعليم الإسلام الجميل. إن تبليغ الدعوة يقتضي التطابق في القول والفعل. وإن لم يكن في الفعل صدقٌ فسوف يَعدّ الناس التعليم الديني كاذبا. إن وجود الله حق، ودين الإسلام حق ومن واجبنا اليوم أن ننشر هذا الحق بالصدق. يقول سيدنا المسيح الموعود :
“العاقل الفطين لا يجد بدا من الإقرار بأن كل الأديان كانت قد فسدت وفقدت الروحانية قبيل الإسلام. فكان نبينا هو المجدد الأعظم في مجال بيان الصدق الذي أعاد الحق المفقود إلى الدنيا، ولا أحد يشارك نبينا في هذا الشرف، حيث وجد العالم كله في الظلام، وبظهوره تحوّل الظلام إلى نور، ولم يرحل من الدنيا حتى خلعَ القومُ كلهم الذين بُعث إليهم لباسَ الشرك، ولبسوا حُلّة التوحيد. وليس ذلك فحسب، بل وصلوا إلى أرفع مراتب الإيمان، وظهرت على أيديهم من أعمال الصدق والوفاء واليقين ما لا نظير له في أي بقعة من بقاع العالم. وهذه الدرجة من النجاح لم تكن من نصيب أيّ نبي سوى نبينا الأكرم . هذا هو الدليل الأكبر على صدق نبوة سيدنا رسول الله ، إذ بُعث في زمن غارق في الظلمات؛ وكان بطبيعة الحال يتطلَّبُ بعثة مصلح عظيم الشأن. ثم ارتحل من الدنيا بعد أن تمسَّك بالتوحيد والصراط المستقيم مئاتُ الألوف من الناس، متخلين عن الشرك وعبادة الأصنام. والحق أن هذا الإصلاح الكامل كان خاصًّا به وحده، حيث علّم قومًا همجيين ذوي طبائع وحشية الخصال الإنسانية، أو قولوا بتعبير آخر إنه حوَّل البهائم أناسًا، ثم حوّلهم مثقفين، ثم جعل المثقفين أناسًا ربانيين، ونفخ فيهم الروحانية وأنشأ لهم علاقة بالإله الحق.”
فإن كنتم تريدون أن تُسمَّوا مسلمين حقيقيين وتنشئوا العلاقة بالإله الحق فثمة حاجة ماسة لرفع معايير الصدق، وإذا كان أحد يؤدي حق ذلك في العصر الراهن فهم الأحمديون. وذلك لأنهم قد عقدوا العهد مع إمام الزمان أنهم سيؤْثرون الدين على الدنيا. فلا تدَعوا هذا العهد محصورا في الإقرار باللسان فقط، بل يجب أن يشهد كل عمل لكل أحمدي على ذلك، وعندها فقط سيتضح صدق هذا العهد. من الأخلاق العظيمة التي كان يتحلى بها التواضع أو بتعبير آخر يمكن أن نقول إنه كان قد بلغ قمة التواضع. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها لم يحدث قط أن أحدا من الصحابة أو أهل بيته دعا النبي ولم يستجب له، لذلك قال الله له إنك لعلى خلق عظيم.
وعن علي أن النبي كلما نظر إلى أحد التفت إليه كاملا، وكان دوما مطرقا كأنه ينظر إلى الأرض أكثر. وكان يبادر في إلقاء التحية.
قد قال: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ وَلِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ. فهذا منتهى التواضع، وكان يظهر من كل قوله وفعله.
يقول سيدنا المسيح الموعود يجب اجتناب التباهي المحض والاستكبار والخيلاء بغير حق، وينبغي التحلي بالتواضع. انظروا أن النبي الذي كان في الحقيقة أعظم وأجدر بالشرف والكرم قد ورد نموذج تواضُعه في القرآن الكريم أن أعمى كان يتعلم منه القرآن الكريم، وذات يوم حين جاء كان عند النبي عمائد مكة وزعماءها وكان يتكلم معهم، فبسبب انشغال النبي في الحديث معهم تأخَّر قليلا فانصرف ذلك الأعمى، وكان الأمر عاديا وبسيطا، لكن الله أنزل سورة عن ذلك، فذهب النبي إلى بيته وجاء به وفرش له رداءه المبارك ليجلس عليه.
الحقيقة أن الذين في قلوبهم عظمة الله لا يجدون بدا من التواضع لأنهم يخافون استغناء الله دوما ويرتجفون من خشيته.
ذلك لأن الله إذا كان يكرم على أمر ما فهو يعاقب أيضًا على أمر، إذا غضب من عمل فيحبط الأعمال كلها في لحظة، لذا يجب أن تتدبروا في هذه الأمور واحفظوها واعملوا بها.
إن موضوع سيرته وأسوته لا يكاد ينتهي، فقد ترك لنا أسوة عظيمة في كل خلق، فكيف لا إذ كان معلما عظيما وكان معلم الإخلاق، فحين جاء لزيارته شخص سيئ قابله بخلق حسن.
فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ (رغم ما رأى فيه من أخلاق سيئة) فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ.
حين سأله أحدٌ مرة قائلا: يا رسول الله، كيف أعرف أنني أُحسن أو أسيء؟ فقال: إذا سمعتَ جارك يقول بأنك صالح فعملك حسن، وإذا قال جارك إنك سيئ وتعامُلك سيئ فاعلم أنك سيئ وسلوكك ليس صحيحا.
إذًا ثمة حاجة لتحسين الأخلاق دوما وهذا يجب أن يكون دأب كل أحمدي اليوم. فالسبب الأساس للفتن والفساد في المسلمين في هذا العصر هو الانحطاط الأخلاقي ونسيان الناس أسوةَ النبي فبقيت عندهم ادعاءات فارغة فقط.
يقول المسيح الموعود وهو يذكر أسوة الرسول الكاملة:
“إن النبي أسوةٌ كاملة في كافة مجالات الحياة. فانظروا في حياته كيف كان يعامل زوجاته. إنه لجبان وشقي عندي من يقوم مقابل المرأة. لو درستم حياة النبي لعلمتم كم كان خلوقا. لا شك أنه كان ذا هيبة عظيمة ومع ذلك لو أوقفته امرأة ضعيفة توقّف ما لم تسمح له بالانصراف. كان يشتري البضائع بنفسه. ذات مرة اشترى النبي شيئا وقال له أحد الصحابة: أرجوك أن تجعلني أحمله فقال: يجب أن يحمل الشيء صاحبُه. ولكن يجب ألا يُفهم من ذلك أنه كان يحمل رزمة الحطب أيضا. الهدف من بيان هذه الأحداث هو أنها توحي ببساطته وعدم تكلُّفه . (الملفوظات)
ثم قال المسيح الموعود : “حين ننظر إلى نبينا نرى أنه عاش 13 عاما من نبوته في المصائب والشدائد، وعاش 10 أعوام حاكما يتمتع بالسلطة والثروة، ومقابله أممٌ كثيرة. أولا كانت أمته واليهود والنصارى وجماعة عبدة الأصنام والمجوس وغيرهم، وكانت أعمالهم عبادة الأوثان وكان اعتقادهم الراسخ بالأوثان أكبر من الاعتقاد بالله. فلم يكونوا يعملون أي عمل ينافي عظمة الأصنام، وكانوا يدمنون شرب الخمر لدرجة شربه خمس أو سبع مرات يوميا، بل كانوا يشربون الخمر بدل الماء، وكانوا يحسبون أكل الحرام كحليب الأم وكانوا يرون القتل كقَطعِ الجزر والفجل. باختصار كانوا متورطين في جميع الأعمال السيئة التي ترتكبها شعوب العالم كله فكان عليه إصلاح هؤلاء القوم بينما كان يعيش في مكة وحيدا فريدا دون أن يكون له أي نصير أو معين، فأحيانا كان يجد شيئًا للأكل وأحيانا ينام جائعا، وعدد قليل من الذين آمنوا به أيضًا كانوا يتعرضون للأذى والاضطهاد بسوء كل يوم، فكانوا عديمي الحيلة، ويتجولون هنا وهناك متشردين، واضطُرّ للهجرة من الوطن. أما المرحلة الثانية من الحياة فكانت الجزيرة العربية كلها خادمةً له من أقصاها إلى أقصاها، ولم يكن أحدهم يبدي المعارضة، وكان الله قد أعطاه اقتدارًا وهيبة. لو أراد لَقتَل العرب كلَّهم، فلو كان متبع الهوى والنفس فقد كانت عنده فرصةٌ سانحة للانتقام منهم على تصرفاتهم، لكنه حين عاد إلى مكة فاتحا أعلن “لا تثريب عليكم اليوم”. باختصار قد طرأتْ على النبي مرحلتان وكانت فرصة جيدة لفحص أخلاقه واختبارها جيدًا حيث لم تكن حالة حماس مؤقت فوري، بل كانت أخلاق النبي قد اختُبرت كلية، وكانت قد ظهرت أخلاقُه من الصبر والعزيمة والعفة والحلم والتسامح والشجاعة والكرم والجود وغيرها ولم يكن أي جزء منها لم يختبر. (الملفوظات)
فاليوم لو أردنا الاحتفال الحقيقي فلا بد من العمل بأسوته بحيث يكون مستوى العبادات عاليا والإيمان بالتوحيد كاملا ومعيار الأخلاق عظيما، وإن لم يكن كذلك فلا فرق بيننا وبين غيرنا، وإن لم نعمل بأسوة الرسول فلا فرق بيننا وبين المتشتتين والمتسببين في التضييق على الآخرين متّبعين قادةً عارِضين وعلماء مزعومين. إنما بيعة المسيح الموعود تتطلب منا أن نضع في كل شيء أسوة الرسول أمامنا، وفّق الله الجميع لذلك.
يقول المسيح الموعود في ذكر مقام النبي العالي: “ذلك الإنسان الذي كان أكمل البشر وإنسانا كاملا وأكمل الأنبياء، وجاء ببركات كاملة، والذي بسبب بعثته الروحانية والحشر الروحاني ظهرت القيامة الأولى في الدنيا وعاد عالم كامل من الأموات إلى الحياة. فإنّ ذلك النبي المبارك هو سيدنا خاتم الأنبياء، إمام الأصفياء، ختم المرسَلين فخر النبيين محمد المصطفى . فيا ربنا الحبيب صلّ وسلِّم على هذا النبي الحبيب صلاة وسلاما لم تصلّ وتسلِّم بمثلها على أحد منذ بدء الخليقة. لو لم يأت هذا النبي العظيم في الدنيا لما كان عندنا دليل على صدق بقية الأنبياء الصغار الذين جاؤوا إلى الدنيا مثل يونس وأيوب والمسيح ابن مريم وملاخي ويحيى وزكريا وغيرهم. مع أنهم كلهم كانوا مقرّبين ووجهاء وأحباء الله ، ولكنها منّة هذا النبي أنهم عُدُّوا صادقين في الدنيا. اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وآله وأصحابه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.”
سأصلّي بعد صلاة الجمعة والعصر صلاة الغائب على الأخت سلمى غني من أمريكا، كانت تسكن في فلادلفيا، وتوفيت في 20 نوفمبر عن عمر يناهز 83 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون. كتب أمير الجماعة في أمريكا: بايعت المرحومة في 1960 أو 61 حين كانت في السادسة والعشرين من عمرها، وانضمت إلى الجماعة، وكانت مدرِّسة في المدرسة، وحضرت الجلسة السنوية بربوة في 1975-76، وكانت تسعد دوما بذكر أحداث ربوة ولقائها مع الخليفة الثالث ، وخدمت جماعة أمريكا 15 عاما بصفتها رئيسة لجنة إماء الله الوطنية، واجتهدت جدا وأوصلت لجنة إماء الله في أمريكا مستوًى جديدا، وكذلك خدمت كرئيسة لجنة إماء الله في فلادلفيا عدة مرات. كانت المرحومة تهتم بصلاة التهجد أيضا إضافةً إلى الصلوات الخمس، وكانت تسعى دوما لرقي الجماعة وكانت تتمنى أن يكتمل مسجد جماعة فلادلفيا وكانت تدعو كثيرا لذلك، والآن يؤمل أن يكتمل بناؤه عاجلا بفضل الله. كتب أمير الجماعة: يقول رئيس الجماعة المحلي: كانت المرحومة تطيعني بصفتي رئيس الجماعة وتتعاون معي جدا، وكانت تستشيرني في جميع فعاليات اللجنة، يقول أيضا: قبل شهرين حين تبين أنها مصابة بسرطان المعدة فذهبتُ لعيادتها فقالت: اسمع وصيتي، يقول الأطباء أنني سأموت في أربع أو ستة أشهر ولكن الحق أنني ميتة في أيام قليلة، وعليك أن تؤمَّ الصلاة عليّ، ولا تؤخرها أكثر من ثلاثة أيام إلى أقصى حد، وتُصلى علي في مسجد “ولنك بارو” وقد تم تدبير القبر في فلادلفيا، لم تكن للمرحومة ذريّة، ولم يكن أحد من أسرتها أحمديا أو مسلما، ولكن سلوكها مع إخوتها وأخواتها كان جيدا جدا.
كتبت رئيسة إماء الله في أمريكا: كانت المرحومة قد تربّت في بيئة مسيحية، ولكن منذ الخامسة عشرة من عمرها بدأت تنشأ في ذهنها تساؤلات عن موت المسيح على الصليب وعن عقيدة المسيحية الخاطئة أيْ الكفارة، وكانت تبحث عن دين يُطمئن قلبها وذهنها، وفي هذا البحث درست المذهب الكاثوليكي دراسة عميقة واطلعت على الأديان الأخرى كالبوذية والهندوسية وطوائف المسيحية الأخرى، فوجدت في كل دين بعض الأمور الجيدة ولكن لم ترتَحْ لأيّ ديانة، وفي هذا الأثناء أحد الأصدقاء، الذي قبِل الإسلام قبل فترة قليلة، أعطاها منشورا يذكر أن المسيح لم يمت على الصليب، ولما رأت هذا المنشور اغرورقت عيناها وقالت لقد حييتُ من جديد، وكنتُ أشعر منذ سنوات أن بعض كياني ميتٌ. كان هذا المنشور يحوي ردودا على الأسئلة التي تنشأ في ذهنها. وبعد ذلك ذهبت إلى المسجد واشتـرت بعض الكتب وقرأتها، وفي النهاية بايعت في مدينة فلادلفيا بأمريكا، وسكنت هنالك حتى آخر أنفاسها. ذات مرة قالت: ذلك المنشور الذي كان يذكر عدم وفاة المسيح على الصليب تسبب في انضمامي إلى الإسلام الدين الحق، وعاشت 54 عاما في الأحمدية وأظهرت في هذه الفترة نموذجا أعلى للإخلاص والوفاء والحب مع الجماعة والخلافة. وكانت مثالا للآخرين في الطاعة.
في عهد الخليفة الرابع خدمت الجماعة بصفتها رئيسة لجنة إماء الله في أمريكا لمدة خمسة عشر عاما، ثم خدمت كعضوة فخرية للجنة إماء الله وكرئيسة للجنة استشارية للمكتب الأفريقي الأمريكي لإماء الله. كانت شغوفة بتبليغ الدعوة كل حين، ولأنها كانت من أسرة مسيحية فكانت تبلّغ المسيحيين بأسلوب علمي ومؤثِّر، وبسبب جهودها قبِل كثير من الناس الأحمديةَ، وهكذا أصبحت وسيلة هداية الكثيرين. كانت تنصح الناس دوما بالتآخي والتحابب، وبعد زياراتها المتعددة لغانا ونيجيريا عُرفت بالعمّة سلمى غني، ستُذكر في جماعة أمريكا دوما كامرأة صالحة وتقية ومحبوبة، رفع الله درجاتها وثبت الذين بايعوا عن طريقها ووفق الأمريكيين أن يفهموا رسالة الإسلام الحقيقية ويقبلوها. (آمين)