خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز، الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي ؏ في مسجد بيت الفتوح بلندن يوم 27/4/2018م
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
توفِّي قبل أيام أحد صلحاء الجماعة وعلمائها وهو السيد عثمان الصيني. إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد أخرجه الله تعالى بقدره الخاص من منطقة نائية في الصين وجاء به إلى باكستان ووفّقه لقبول الأحمدية. ثم كيف ظل الله تعالى يعامله؟ وكيف أرشده إلى نذر الحياة؟ قد ذكر المرحوم هذه الأمور مفصلا في مُذَكِّرَاتِه التي كتبها بنفسه. لا شك أن الوقت لا يتسع لبيان التفاصيل كلها. هذا، وهناك أمور وذكريات كثيرة أخرى أرسلها الإخوة عن المرحوم بالتفصيل، ولا يمكن بيانها أيضا بالتفاصيل نفسها في هذا الوقت، ولكن مما لا شك فيه أن هذه المذكِّرات تزيد المرء إيمانا. هناك مادة كثيرة جدا عن سيرته ووقائع حياته وخدماته بحيث يمكن جمعها في كتاب. وأظن أنه يمكن لمجلس خدام الأحمدية بباكستان أن يكمل هذا العمل على أحسن وجه.
على أية حال، سأذكر اليوم بعضا من الخصال الحميدة لهذا الإنسان الربَّاني والصالح، وداعية الجماعة، والعالِم الملتزم، وولي الله تعالى. وهذه الخصال تمثّل أسوة جديرة بالتقليد لدعاة الجماعة وكذلك الذين نذروا حياتهم لخدمة الجماعة، ولكل أحمدي بشكل عام. وسأتناول الآن بإيجاز كما قلتُ من قبل شيئا مما أرسله إليَّ مختلف الناس حول سيرة المرحوم.
كان المرحوم معروفا باسم عثمان الصيني، وكان اسمه الحقيقي والكامل محمد عثمان جَوْ شَنْغ شِي، وقد توفّي في 13/4/2018م. وكان قد وُلد بتاريخ 13/12/1925م في عائلة مسلمة تسكن في إقليم آنْ خُوئي في الصين. بعد الدراسة إلى الثانوية، أكمل في عام 1946م دورة متقدمة (Advance course) من جامعة نانْ شَنْغ. ثم بدأ الدراسة في قسم العلوم السياسية في الجامعة الوطنية المركزية نانْ شنغ. ولكن لما لم تكن لديه رغبة في السياسة، لذا فكّر في دراسة القانون والفلسفة والدين. كان ينوي الدراسة في تركيا ولكنه جاء إلى باكستان في عام 1949م. وبايع بعد البحث والتحري بنفسه وشرع في الدراسة الدينية في الجامعة الأحمدية، وفي 1957م نال “شهادة الأجانب” بعد اجتياز دورة موجزة للدعاة. ثم نذر حياته بتاريخ 16 آب/ أغسطس 1959م، ووُظِّف في الخدمة في عام 1960م. ثم التحق في أبريل عام 1961م، بالجامعة الأحمدية مرة أخرى لاجتياز دورة الدعاة. وهكذا نال شهادة “الشاهد” في 1964م، ووُفّق لخدمة الجماعة في باكستان في وكالة التصنيف في مؤسسة “التحريك الجديد” ربوة، كواقف الحياة والداعية في كراتشي. وفي عام 1966م أُرسل إلى سنغافورة وماليزيا وخدم في سنغافورة إلى ثلاث سنين ونصف وفي ماليزيا قرابة أربعة أشهر. وعاد إلى باكستان في 1970م وعمل داعيةً في أماكن مختلفة. وقد نال شرف أداء العمرة والحج أيضا. وعندما أُسست مكاتب مختلفة في لندن بعد هجرة الخليفة الرابع رحمه الله إليها، وتوسعت أعمال الجماعة، بما فيها تراجم كُتبها، أُسس المكتب الصيني أيضا ودُعي المرحوم إلى هنا ووفِّق لتراجم كتب الجماعة إلى اللغة الصينية، أهمها ترجمة معاني القرآن الكريم. وقد ألَّف الكتب أيضا حول معتقدات الجماعة وتعليمها.
لقد ترك المرحوم وراءه أرملة وابنا وبنتين. فيما يتعلق بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية فقد بدأ من عام 1986م، بأمر من الخليفة الرابع رحمه الله. وفي شهر يونيو/حزيران من العام نفسه دُعي إلى بريطانيا، وأكمل هذا العمل الجبار بجهد جهيد دام إلى أربع سنين.
يقول المرحوم بهذا الشأن ما مفاده: ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية كانت تقتضي وقتا طويلا. وكان الخليفة الرابع رحمه الله قد أمر بنشرها بمناسبة الذكرى المئوية للجماعة، وكنت مهتما جدا بإتمام هذا العمل في وقت مناسب، وكنت أبحث عن أناس متمكنين ليساعدوني في مراجعة الترجمة وتحسينها لغويا. وكان إنجاز هذه المهمة في باكستان أو في بريطانيا صعبا جدا. فمثلا، إذا وجدنا أحدا يتقن اللغة الصينية كانت معلوماته الدينية ضعيفة جدا، وإذا كان أحد ملمّا بالعلوم الدينية لم تكن لغته الصينية على المستوى المطلوب. عندما اكتملت الترجمة سافرتُ بأمر الخليفة الرابع رحمه الله إلى الصين وسنغافورة للاستعانة بعلماء اللغة الصينية وتم تحسين مستوى الترجمة وصارت رفيعة المستوى وممتازة بفضل الله تعالى. يقول المرحوم بكل تواضع: لم يكن إنجاز هذا العمل ممكنا لي بل قد تم بمحض فضل الله تعالى. كانت تراجم معاني القرآن الكريم باللغة الصينية موجودة من قبل أيضا، وصدرت بعد ترجمتنا أيضا، ولكن الترجمة التي قامت بها الجماعة الإسلامية الأحمدية لها مزايا فريدة لا تلاحَظ في أية ترجمة أخرى، وهي عمل فريد بالنظر إلى علم الكلام للجماعة.
أقول: عندما نُشرت هذه الترجمة وصلتنا تعليقات كثيرة لعلماء اللغة من الصين وبلاد أخرى أشادوا فيها بهذه الترجمة وعدّوها أحسن ترجمة لمعاني القرآن الكريم. لقد لاقت ترجمتنا قبولا واسعا جدا. يعترض بعض الناس على أنه قد أُدخلت فيها مفاهيم الجماعة أو تفسيرها، ولكن الجميع قد وصفوها بالترجمة الممتازة والراقية جدا.
هناك برفسور صيني اسمه لِنْ سانغ ألّف كتابا بعنوان: “تراجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية في هذا القرن”، وقد ذكر فيه ترجمتنا وكرّس لها في كتابه 15 صفحة تقريبا وعلّق على ترجمة الجماعة لمعاني القرآن الكريم، وذكر في تعليقه مزاياها بكل وضوح. فقال مثلا: إن عامة العلماء لا يترجمون بعض الكلمات العربية بل يكتبونها كما هي، أو يوضحونها في الهامش. ولكن يبدو في الأخير أن ذلك الجزء ظل مبهما عليهم، بينما مزية الترجمة التي قام بها السيد عثمان هي أنه يترجم مثل هذه الكلمات أيضا، ثم يكتب في الهامش المراجع المؤيدة التي أسس عليها ترجمته.
يتابع البرفسور المذكور ويقول: لقد كتبتُ تعليقا على ترجمة معاني القرآن الكريم، ثم لقيتُ السيد عثمان عدة مرات بعد ذلك، وانطباعي عنه أنه إنسان بسيط ومتواضع (هذا انطباع شخص ليس أحمديا وهو برفسور مثقف ويَعُدّ نفسه مرجعا في الدراسات الإسلامية) فيقول: هو إنسان بسيط ومتواضع ومخلص وصادق وعامل بالأوامر بكل جدية. لقد دعوته إلى الإفطار في شهر رمضان، فوجدتُ أن السيد عثمان يصوم ويعُدّ القرآن أعلى كتاب للشريعة. ويتابع قائلا: مع أن بعضا من أجزاء ترجمته وتفسيره لا تتطابق مع معتقدات أهل السنة في الصين، ولكن لا يمكن إنكارُ أن هذا الشخص موَحِّدٌ ومحبٌّ للنبي ﷺ وملتزم بأوامر الله تعالى.
أقول: لقد أعّد السيد عثمان بإشرافه بعض الكتب باللغة الصينية وفيما يلي عناوين بعضها بالإنجليزية:
My Life and ancestry, An Introduction to morality, An outline of Ahmadiyya Muslim jama’at, Brief Introduction of Islam,
هذا وهناك قرابة 35 كتابا وكتيبا ترجمها المرحوم أو تُرجمت تحت إشرافه، منها:
Islamic concept of Jihad and Ahmadiyya Muslim jama’at, Ahmadiyya Muslim community’s contribution to the world
تقول زوجته عن حياته المنـزلية: عندما عُرض من باكستان اقتراح زواجي، لم يقبل والدي الاقتراح بسبب الفارق الكبير في العمر بيني وبينه السيد عثمان، علما أن زوجته أيضا من الصين، كان عمري حينذاك عشرين عاما بينما كان السيد عثمان بالغا من العمر خمسين عاما تقريبا. فلم يخبرني والدي عن اقتراح الزواج إلى عدة أشهر. وحين قرر إخباري بعد فترة وضع أمامي الرسالة المحتوية على الاقتراح لأقرر بنفسي بشأنها.
تتابع زوجة المرحوم وتقول: رأيت في المنام أني واقفة صفر اليدين في ميدان واسع في أحد البلاد، وأقول في نفسي: ماذا عسى أن يكون مصيري. عندها رأيتُ على مقربة مني شخصا لابسا لباسا أبيض وسمعتُ صوتا يقول: إن حاجاتك كلها ستُسَدّ بواسطة هذا الرجل. وبعد قراءة الرسالة المذكورة رأيتُ السيد عثمان في المنام وكان واقفا بالقرب مني مرتديا لباسا أبيض وأنا مستلقية. ثم أُريتُ بعد فترة من الزمن صورة السيد عثمان وعلمتُ أنه الشخص نفسه الذي كنت رأيته في المنام، فقبلتُ اقتراح الزواج منه. طالت فترة الخِطبة إلى أربع سنين بسبب المشاكل في استصدار جواز السفر بسبب الظروف المحلية السائدة حينذاك، فكان السفر إلى خارج البلاد صعبا جدا بسبب الظروف السياسية والثورة الثقافية. وفي هذه الأثناء رأى السيد عثمان في الرؤيا أن زوجته ستلحقه بعد وفاة الزعيم الصيني ماوتسي تونغ. وكان ماوتسي تونغ يتمتع بصحة جيدة ولم يكن مريضا بل كان يتمتع بالعافية. فقال عثمان في نفسه: لعل مجيئها سيتأخر كثيرا، فقرر أن يبعث رسالة إلى ماوتسي تونع. بينما كان السيد عثمان ذاهبا إلى مكتب البريد ليرسل تلك الرسالة سمع خبر وفاة ماوتسي تونع. وبعد وفاته ببضعة أيام حصلتُ على جواز السفر. فجئتُ بالجواز إلى بيت والدي، وكان من قدر الله أن مطرا غزيرا نزل في تلك الليلة بعد جفاف شديد. كان المطر غزيرا بحيث حدثت في الأرض مجارٍ كثيرة بسبب جريان الماء بشدة. فقال لي أحد جيراننا، وكان غير أحمدي: ليتكِ جئتِ من قبل ليزول الجفاف.
تتابع زوجة المرحوم: بعد أسبوع تقريبا غادرتُ الصين ولم تكن معي أية أمتعة إلا النـزر اليسير من صلصة الصويا (soya sauce) ولباسان فقط أعطانيهما الأخ الأصغر للسيد عثمان. وصلت إلى كراتشي في 12/8/1978م، وعَقد قراننا السيد شودهري أحمد مختار وكان هو وليِّي أيضا في النكاح. في اليوم الثالث من النكاح كان علينا الذهاب إلى السفارة الصينية وتقرر السفر بالقطار. كانت مقصورات النساء منفصلة عن مقصورات الرجال، فقررنا أننا سنلتقى في المحطة عندما ينـزل الناس جميعا. كنت حديثة العهد بالمدينة. وفي إحدى المحطات نزل المسافرون جميعا من القطار فحسبتُ أنها المحطة الأخيرة فنـزلت أنا أيضا، وعندما انطلق القطار شعرتُ بخطئي. ولكن ركوب القطار حينذاك كان صعبا لكثرة الازدحام.
باختصار كنت قلقة جدا، وأخيرا حين رآني رجل من شرطة القطار أهيم ضائعة، ناداني وأوصلني إلى السفارة الصينية، كنت أتحجب وألبس النقاب والمعطف، لذا لم يصدِّق رجال السفارة أني صينية، إذ كانوا يستغربون من حجاب المرأة الصينية، فطلبوا مني قراءة مجلة صينية، ثم دبروا لي التاكسي، وهي قصة طويلة. باختصار في الطريق رأيت أحمديا ساعدني على الوصول إلى زوجي عثمان المحترم، وكان صاحب التاكسي أيضا يستغرب جدا كيف أن سيدة شابة انفصلت عن زوجها ثم وجدتْه! باختصار، هذه هي بدايات حياتي الزوجية، ثم تقول عن زوجها المرحوم السيد عثمان المحترم: كان زوجا رائعا بل كان أستاذي الروحاني أيضا، فحين أتيت إلى باكستان علَّمني كيف أصلي، فكان بعد أن يصلي بالناس في المسجد عندما يعود إلى البيت كان يصلي معي جماعة، فكان يعلمني الكلمات العربية للصلاة إلى ساعات طويلة. فقد علَّمني كلمة كلمة وسطرا وسطرا، ونصحني بالتمرُّن وأن أضع معي كتاب الأدعية لأراجعه إذا نسيتُ. فقد علمني خلال ستة أشهر الدروس الابتدائية لتعلم القرآن الكريم، ثم حين بدأ يعلمني القرآن الكريم علمني معه الترجمة أيضا لأحافظ على الرغبة والاستمتاع، فكان صبورا ويفهِّمني الموضوع بالتعمق، ويشرح الموضوع بسرد الأمثلة. كان يهتم كثيرا بصلة الرحم، فقد أحضر والدته من الصين وخدمها كثيرا، فقد أتى علينا حين من الدهر يوم لم نكن نستطيع أن نشتري من الحليب أكثر من زجاجة واحدة، فكان يقدمها إلى والدته. كما كان يصحبها في السفر أيضا، فقد خدمها كثيرا، كانت حياته كلها عبارة عن الشغف بعمله، يوم كانت صحته جيدة كان يعمل في المكتب إلى ساعات متأخرة من الليل وأحيانا كان يواصل أعماله حتى الصباح. كان أهم أعماله في البيت تربية حسنة لأولاده، ولم يكن يرغب في أشغال مادية، وكان بسيطا جدا في طعامه ولباسه.
تقول ابنته الكبرى الدكتورة قرة العين: لا تكاد الكلمات تسعفني في بيان خصال والدي المتميزة، فقد كان شفيقا ولطيفا ومجتهدا كثيرا وصاحب آمال وطموحات جيدة، وكان إنسانا متواضعا. كان يرغِّبنا نحن الإخوة كلنا وصهرَيه أيضا في الاشتراك في الحديث حول كل قضية. وكان يبدي اهتماما كبيرا بدراستنا، وكان يسعى ليعرف انطباعات الأساتذة عنا، وكان يقول لنا: لقد خلقكم الله ﷻ في هذه الدنيا لتدعوا الناس إلى الإسلام ولا سيما الصينيين، وكان ينصحنا بانتظام بأن نستمر في التقدُّم في الأخلاق والروحانية. وكان عادة يقول لنا: يجب أن يتولد الشعور لدى الناظرين إلى شخصيتكم وتصرُّفِكم وسلوككم بأن الله ﷻ موجود، وذلك لأن الأولاد الذين يوقنون بوجود الله أفضل بكثير من الذين لا يوقنون به. كان ينصحنا دوما بأننا إذا بدأنا أي عمل أن نداوم عليه، فلم يوبخنا في الطفولة قط، بل كان دوما ينصح بحب ولطف. وإذا قسا فإنما على عدم المواظبة على الصلاة فقط، ومن أجل أن يعوِّدنا على الصلاة كان في الطفولة يصحبنا إلى المسجد خمس مرات. في أيام العطلة كان يعطينا كتابا ما للقراءة ثم يفحصنا. لقد أعطاني نسخة قديمة لسفينة نوح قائلا اقرئي هذا الكتاب فلغته ليست صعبة ككتب أخرى، ثم قال لي هذا أول كتاب قرأتُه بنفسي في الجامعة الأحمدية. كان لديه اهتمام ملحوظ بالحجاب، فقال لي: عندما تسجلين في الجامعة فحافظي على الحجاب، ثم قال بعد تلقِّي التوجيه من سيدنا الخليفة الرابع رحمه الله: إذا اضطررت لخلع الحجاب في الجامعة فيجب أن لا تضعي المكياج وهذا السماح أثناء المحاضرة حصرا، وبعدها فورا يجب أن تتحجبي. فهكذا وجَّهني بخصوص الحجاب. وأذِن لي بدراسة جامعية بهذا الشرط.
مثل ذلك تقول ابنته الصغرى “منـزهة”: كان والدي دوما يقول: يجب أن تسعوا لنَيل القمر، فإن لم تنالوا القمر فستنالون النجوم على الأقل. أي ينبغي أن تكون أهدافكم سامية وعالية دوما. وكان ينصحنا بأداء صلاة التهجد أيضا إلى جانب الصلوات الخمس المكتوبة، وكان يرش الماء علينا لإيقاظنا لصلاة الفجر، وكان ينصحنا بقراءة كتب سيدنا المسيح الموعود ؏ وخلفائه، وكان يجلس معنا ساعات طويلة ليردّ على تساؤلاتنا بصبر ورحابة صدر، دون أن ينـزعج لأبسط الأمور، ففي ذلك أسوة للوالدين، وكان دوما يقول: وظِّفوا الكفاءات التي وهبكم الله ﷻ إياها ولا تضيِّعوها، وأنجِزوا كل عمل باعتباره عبادة لله، وكان يضرب مثلا للتقدم الروحاني أنه كمَثل الدَّرَجِ، حيث يتوقف الإنسان أحيانا لاستراحة ثم يتابع مشواره بالارتفاع أكثر.
تتابع قائلة: لقد علَّمَنا البساطة والتواضع وإيثار الآخرين على أنفسنا. يوم كان رئيس الجماعة في إسلام آباد (تلفورد – بريطانيا)، دبرت الجماعة التدفئة المركزية في البيوت، فأكد على العاملين ألا يهيئوا هذه السهولة في بيته إلا بعد الجميع.
يقول ابن المرحوم، الدكتورُ داود: لقد أخبرني والدي أنه تلقَّى البرقية أثناء الدراسة في الجامعة الأحمدية بوفاة أخيه الأكبر ووالده، وكان في تلك الأيام مشغولا في الامتحانات، فخطر بباله أن الخبر المحزن هذا أيضا امتحان كامتحانات الجامعة، فحضر الامتحان دون أن يضيِّع الوقت. كان والدي مشغوفا بنشر الدعوة في الصينين، فحيثما حضر أيَّ برنامج أو احتفال، عرَّف الناس بالأحمدية، وقدَّم إليهم كتب الجماعة، حتى عندما مرض وضعُف كثيرا ولم يكن يقدر على المشي وكان يستخدم كرسي المعاقين، كان يصر على أن يضع عليه أيضا بعض الكتب، لكي يوزعها على الناس.
في طفولتي حين كنت أذهب إلى مكتبه، وكنت أحاول أن آخذ القلم أو اللوح من المكتب، لم يكن يسمح لي بذلك وكان يقول لوالدتي إنه يحتاج إلى قلم فاشتري له، وإذا احتجتُ إلى تصوير مستند كان يطلب مني أن أُحضر الأوراق من البيت أولا ثم يمكن أن أستخدم آلة تصوير المستندات.
كان ينصحنا بحفظ أسماء الله الحسنى، وكان قد نَظَمَ قصيدة باللغة الصينية، وبيَّن فيها تعريفًا لمائة اسم لله ﷻ. وكان ينشد تلك القصيدة كل يوم، وكان يجري المسابقة فيما بيننا ثم يقدم الجائزة لمن حفظ هذه الأسماء أكثر من غيره.
لقد جاء المرحوم للقائي قبل شهرين أو ثلاثة، برفقة أهله، فقد كتب صهرُه أن المرحوم كتب له ثلاثة أمور، ليعرضها عليَّ إذ لم يكن يقدر على النطق، وأول هذه الأمور أنه أصبح ضعيفا جدا ولا يستطيع الوقوف على قدميه، لذا يجلس على كرسي المعاقين، فيعتذر على ذلك. فكان يكنّ احتراما كبيرا للخلافة.
وأن أدعو له أن يوفَّق لنشر الدعوة حتى آخر لحظة من حياته.
وأن أسمح له بأن يتابع أعماله جالسًا في البيت لأنه لا يستطيع حضور المكتب بسبب المرض والضعف.
فكان مشغوفا بالعمل ولم يكن يتحمل أن يجلس فارغا عاطلا، لذا كان يريد أن يتابع العمل في البيت.
حين ذهب المرحوم للحج رافَقه صهره أيضا، فهو يقول: إن المرحوم قد نَظَمَ أدعيته ومشاعره هناك باللغة الصينية، وقال لي إنني أسجل هذه المشاعر في صورة قصيدة لتنفع في المستقبل أيضا. وحين سأله بعض أفراد فريقنا ماذا يَنْظِمُ ويسجل، أخبره بإيجاز أنه يَنْظم الأدعية لقومه الصينيين أن يهديهم للإسلام الصحيح. فأبدَوا دهشة كبيرة كيف يفكر رجل مسن لا يقدر على التحرك دون سند أحد في هداية قومه!
يقول الأستاذ الصيني المرحوم في سيرته الذاتية: في الصين قد اختلطت تعاليم البوذية والكنفوشية والطاوية، وكثير من الصينيين من يعملون بتعاليم هذه الأديان الثلاثة في وقت واحد، فهم جمعوا تعاليم مختلفة لهذه الأديان الثلاثة وشكَّلوا دينا جديدا، وفي هذا الدين الجديد تركيز خاص على الأخلاق.
حين نُشرت مقابلاتي في ثلاث جرائد صينية، أبدى أتباع هذا الدين الجديد الرغبة في أن أكتب مقالا بعنوان تعاليم الإسلام عن الأخلاق، لكي ينشروه مع تعليم الأديان الأخرى عن الأخلاق في كتيب. فكتبتُ مقالا بهذا العنوان. فأرسَلوا إليَّ رسالة شكر وقالوا: نشكرك كثيرا لأنك كتبت لنا مقالا عظيما عن الإسلام، ونحن نشكرك على بيان حقائق الإسلام بموضوعية، كان بحثك دقيقا ولطيفا، ومن هنا يتضح أنك تلقيت علوم الدين باهتمام كبير. فالصينيون إلى الآن غير مطلعين على الإسلام، وسبب ذلك أن دعوة الإسلام لم تُنشر في الصين باللغة الصينية، الآن قد أتيتَ إلى سنغافوره لنشر الإسلام -وكان المرحوم يوم ذاك قد عُين داعيةً في سنغافوره- فمن المؤكد أن الإسلام سينتشر في الصينيين في هذه البلاد، وأنهم سينالون بركاته.
يقول الأستاذ آغا سيف الله المحترم: كان الأستاذ الصيني المرحوم زميلي في الجامعة الأحمدية، فكان في عز شبابه صالحا بارًّا يملك خصالا حميدة ونبيلة، فكان يصلي بمنتهى الخشوع ويدعو الله بضراعة متناهية. كان من عادته أن يصلي النوافل ويصوم تطوعا، وكان شغوفا بالتسبيح والتحميد وذكر الله، وكان يشكر الله ﷻ على الفوز بنعمة الأحمدية، وكان دوما يبدي عواطف الحب والإخلاص والتفاني لها.
إنني أشهد شهادة الحق أن المرحوم كان يذرف الدموع أحيانا أيام الدراسة بسبب الأوقات العصيبة والحنين والتفكر، وكان يبدي حزنه على أنه بسبب النظام الحكومي في بلده لا يستطيع زيارة والدته وإخوته، ومن ثم كان يدعو الله بمنتهى الضراعة والخشوع لتحقيق غاياته المنشودة. إن هذه المشاهد مدعاة غبطة لي الآن في هذه السن المتقدمة أيضا.
يقول السيد آغا سيف الله المحترم: الحق أن ما سأله عبد الله هذا ربَّه في فترة الابتلاء تلك قد آتاه الله كله ببركة الأحمدية متقبلا إخلاصه ومستجيبا لدعائه، ومنحه حظًّا وافرا من رحمته، بل قد اقتطف خلق الله أيضا ثمار استجابة أدعيته. بفضل الله تعالى كنت قد تشرفت في زمن الدارسة بصحبة حضرة المولوي غلام رسول الراجيكي وحضرة المولوي عبد اللطيف البهاولبوري والصاحبزاده سيد أبو الحسن وغيرهم من الصلحاء وطلبت منهم الدعاء ورأيت آثار استجابة دعائهم، وإني أستطيع أن أشهد شهادة عيان ووجدان وبمنتهى الحيطة بأني قد رأيت في شخص الأستاذ عثمان الصيني المحترم انعكاس ما كان يوجد في عبادة هؤلاء الأكابر والأكارم من حرقة ولوعة وبكاء ودعاء، وما تمتعوا به من استجابة دعاء. لقد شاهدت بنفسي استجابة دعائه في العديد من شؤوني الشخصية.
ويتابع الأستاذ ويقول: كان دائما يوصيني وزملائي الذين كانوا يأتون للقائه بالدعاء. كان شديد الذكاء وذا فراسة مؤمنة. كان محتاطا جدا في الإدلاء برأيه في الأمور الإدارية للجماعة. كان يلتزم بنظام الجماعة كما كان ينصح بذلك أصدقاءه ومعارفه دائما. كان له ولاء روحاني كامل للخلافة، وكان يعبر عن شكره العميق على أيادي الخلافة. كلما طلب منه أحد الدعاء كان يقول له: هل التمستَ الدعاء من الخليفة؟
يقول الدكتور رضوان المحترم رئيس الجماعة في إسلام آباد (تلفورد- بريطانيا): لقد بلغ من حبه للصلاة أنه لم يكن بين بيته والمسجد إلا مسافة دقيقتين أو ثلاث، إلا أنه في السنوات الأخيرة كان يقطع هذه المسافة في عدة دقائق إذ كان يضطر إلى التوقُّف في الطريق مرارا لالتقاط الأنفاس. قلت له مرة في أيام كانت الفترة فيها بين صلاتي المغرب والعشاء وجيزة جدا: لماذا لا تجلس في المسجد انتظارا لصلاة العشاء بدلًا من الذهاب إلى البيت ثم العودة، أو لماذا لا تجمع الصلاتين؟ فقال: المشي فيه رياضة، وأنال ثواب الذهاب والإياب بين البيت والمسجد أيضا، ولذلك أرجع إلى البيت ثم آتي.
يقول السيد رشيد بشير الدين من أبوظبي: كان الأحمديون وغيرهم يتمتعون بفيوض دعائه. عندما كان الأستاذ الصيني المحترم يعمل داعية في منطقة درغرود بكراتشي كان غير الأحمديين رجالا ونساء يستشيرونه في أمورهم الشخصية، وكانوا يشهدون على أن مشاكلهم كانت تحل بعد العمل بمشورته وببركة دعائه. باختصار ظل الشيخ الصيني الشهير في منطقة درغرود بكراتشي ينفع الجميع وينشر المحبة بين الكل على حد سواء دون أي تمييز ديني، وبعد ذهابه إلى لندن لم يزل الناس يتحدثون عنه وعن ذكرياته إلى مدة طويلة. كان الأستاذ الصيني خدوما لوالدته. إذا نهرته بغضب أحيانا سارع إليها وقبّلها وسدّ حاجتها بمنتهى الانهماك والاستغراق غيرَ مكترث ما إذا كان أحد يراهما أم لا. كان حبه لأمه وتعبيره عن حبه لها غير عاديين.
وكتب السيد مجانو محمد المحترم من جماعتنا في تمكوو، قرغستان: لقيت السيد عثمان تشو المحترم خلال السفر في الطائرة عام 1994م. في البداية لم أعلم أنه مسلم أو أنه عالم من علماء الجماعة الإسلامية الأحمدية. لما تحركت الطائرة قال الأستاذ: بسم الله، فعلمتُ أنه مسلم. وبعد قليل سلمت عليه وتعارفنا، وأخذْنا في الحديث حول أمور شتى. قال لي: هل تعرف الجماعة الإسلامية الأحمدية؟ قلت لا. فقال: هل تقرأ ترجمة القرآن الكريم باللغة الصينية؟! قلت نعم. قال: كم من تراجم صينية للقرآن الكريم تعرفها؟ قلت: لقد طالعت كل التراجم الصينية الموجودة للقرآن الكريم ولا أزال أطالعها. فقال الأستاذ عثمان: هل تعرف كل المترجمين الذين قاموا بترجمة القرآن الكريم بالصينية؟ قلت: نعم، أنا أعرفهم جميعا. فقال: أحد هؤلاء المترجمين اسمه عثمان تشو، هل تعرفه؟ قلت: نعم، أعرفه، ولكن لم أقرأ ترجمته ولم أقابله أيضا. فقال: كيف تعرف عثمان تشو؟ قلت: فقط أعلم أنه عالم وأنه قد قام بترجمة القرآن الكريم بالصينية، لكني لم أره قط. فأخبرَني الأستاذ وقال إني أنا عثمان تشو. فلم أصدق أني التقيت بالأستاذ عثمان تشو. فأعطاني معلومات عنه وعن المكان الذي كان مقيما فيه مؤقتا للتواصل معه. فأعطيته رقم هاتفي. وبعد يوم أو يومين اتصل بي الأستاذ عثمان هاتفيا وقال: إني أريد أن آتي إلى بيتك للقائك. لم أكن لأتصور أن عالما كبيرا مثله سيأتي إلى بيتي للقائي. فاستقبلته في بيتي. وكان معه شخصان باكستانيان أيضا. فظللنا نتحدث فيما بيننا إلى عشر دقائق.
ثم دعاني السيد عثمان إلى الطعام في فندق، فقلتُ له: أنت ضيف، لذا يجب عليّ أن أُضَيِّفَك، فقال: أنت طالب، وأنا أكبر منك سنًّا، وبمنـزلة والدك، لذا يتحتّم علي أن أساعدك. فذهبنا إلى الفندق للطعام، وتجاذبنا أطراف الحديث حول مواضيع مختلفة. يتابع الراوي قائلا: ذات يوم ذهبت للقائه في مقر إقامته في مبنى البنك المركزي، وتحدثنا حول عدة أمور. في هذه الأثناء طرح عليّ السيد عثمان أسئلة حول وفاة المسيح الناصري، وختم النبوة ويأجوج ومأجوج والجنّ والإمام المهدي والقرآن والحديث، فرددت عليه بما يرد عامة المسلمين التقليديين فتبسم السيد عثمان بسماعي. ثم أخبرني بأجوبة صحيحة على تلك الأسئلة. فلم أدرِ ما أقول! ولم أجد كلمات للإشادة به! وقد تركتْ أجوبته أثرا عميقا في نفسي. ثم أهداني ترجمة معاني القرآن الكريم وبعض الكتب الأخرى، وقال: اقرأها ثم أخبِرني عن رأيك بعد قراءتها. بدأت في قراءة الكتب وانقلبت أفكاري رأسا على عقب. عندها لم أكن أعلم عن البيعة شيئا، إلا أنني بايعت فيما بعد. ثم يقول الراوي: إنني أرى معرفة ظهور الإمام المهدي وجماعته الصادقة شرفا كبيرا لي.
كذلك أرسل لي الإخوة أحداثا كثيرة توحي باستجابة أدعية المرحوم. يقول السيد شاد: كنا في السفر بالقطار من كراتشي إلى ربوة للاشتراك في برنامج الأطفال هنالك، وعندما صلينا جماعةً في الطريق علم الناس أننا أحمديون. عندها بدأ أحد المشايخ في إلقاء خطاب مطالبا باتخاذ الإجراءات ضدنا، مما جعلنا قلقين. كان السيد عثمان جَو أيضا معنا في السفر. كلّفنا بعض الإخوة بمهام مختلفة تتعلق بالحراسة وغيرها نظرا إلى حساسية الموقف. قال لي السيد عثمان أن يكلَّف هو أيضا بمهمة ما. قلتُ: إن مهمتك هي أن تجلس على الكرسي وتستمر في الدعاء. كان الشيخ المذكور ينوي أن يقوم وأصحابه بأعمال شغب وضربنا عند وصول القطار إلى مدينة “مُلتان”. ولكن لاحظنا أن مدينة ملتان مرت بخير وسلام، وظل الشيخ صامتا. وتبين بعد البحث والتحري أنه كان ينوي النـزول في مدينة ولكنه ظل نائما ولم يستيقظ في وقت مناسب حتى مر القطار من مدينة ملتان بخير حتى نزل في محطة تالية، وهكذا أنقذنا الله من شره.
يقول السيد عدنان ظفر: كنت أواجه مشاكل جمة في قضيتي العالقة في وزارة الداخلية في بريطانيا منذ فترة طويلة. كلما طلبتُ منهم جواز السفر قالوا لي: ليس في سجلاتنا أية معلومات تدل على تواجدك في بريطانيا. كنت أذهب إلى المكتب المعني آخذا الرخصة من العمل، وبقي الحال على هذا المنوال إلى ثلاثة أو أربعة أشهر حتى يئستُ.
فذات يوم التقيتُ بالسيد الصيني في إسلام آباد إذ كان عائدًا إلى البيتِ بعد الصلاة، فبيّنْتُ له مشكلتي المتعلقة بجواز السفر، فقال وهو في مكانه: تعال ندعو، وكان يتضرع ويبتهل في دعائه حتى استغربتُ من دعائه لي بهذه الطريقة وقلتُ في نفسي: إنني كلّفتُه عبثا، وشارك الدعاء بعضُ الناس الآخرين أيضا. وفي اليوم التالي حين هاتفَ محاميَّ مكتب الأمور الداخلية، ولم يكن هناك من يجيب المتصل إلى وقت طويل، رفع المدير السماعة أخيرا حيث كان يمر بالمكان مصادفةً، فأخبره المحامي بالقضية، فقال المدير: قل لهذا الشخص أن يأتي للقائي غدا صباحا. قال: ذهبتُ إلى المكتب وقلتُ في غرفة الاستقبال إنني أريد لقاء المدير وكان اسمه السيد رتشارد، فقال العاملون في الاستقبال: هو مسؤول كبير، لا تستطيع أن تلقاه، أخبرنا ماذا تريد؟ فقلتُ: المدير نفسُه دعاني، لم يكن أحدٌ مستعدا ليخبر المدير بذلك، ولكن أخيرا وافق رجل على أن يُطْلِعَ المدير، فجاء السيد رتشارد بنفسه وأخذني إلى مكتبه وبحث في ملفّاتي على الحاسوب، ثم نادى سكرتيره وأعطاه رسالة تفيد بإصدار جواز السفر لي، ثم جاء معي إلى الخارج ليودّعني وجميع الموظفين كانوا يستغربون رؤية ذلك ويتساءلون من هذا الشخص الأجنبي حتى يفتح المدير الأعلى بنفسه البابَ ليودّعه. ما كان لي أن أخبرهم حالتي آنذاك، إنها كانت أدعية السيد عثمان تشو المتضرعة التي أنجزت في يوم واحد فقط ما كان معلقا منذ أربعة أشهر، ولم تنجزه في يوم واحد فقط بل أنجزته بيد المسؤول الأعلى.
الأحداث كثيرة لا يمكن بيانها كلها كما قلتُ، ولكن أسرد هنا بعضها مما ذكره القريبون من المرحوم، كتب الداعية سيد حسين أحمد أنه كان اجتماع يُعقد كل أسبوع ولم تكن لدى الدعاة سيارات في تلك الأيام، بل كنا نذهب بالباصات وكان الاجتماع يستمر طويلا في الليل وبعد انتهاء الاجتماع كنا نتـرقب بعض أعضاء الهيئة حتى نذهب معهم، ولكن السيد عثمان الصيني لم يكن ينظر إليهم بل كان يخرج ماشيا وكان يجد باصا أو كان بعض السيارة يوصلونه. وكان مكان سكنه ضيقا جدا، ذات مرة دعانا لمأدبة فسألناه أين تقيم؟ فقال في هذه الغرفة، وهي غرفة الصلاة للنساء وحين تأتي النساء للصلاة أجمع أغراضي وبعد ذهابهن تكون هي مبيتي ومطعمي وكل شيء لي، كان يسكن في مكان ضيق بكل تواضع وانكسار.
الداعية رشيد أرشد عمل معه إلى مدة طويلة وهو يعمل في المكتب الصيني في الجماعة، يقول: وجدتُ فرصة العمل مع المرحوم منذ 33 عاما، كان المرحوم ذا مزايا كثيرة. وكان أسوة لنا في التزامه بصلاة الجماعة وفي شغفه بالعبادات. سواء كان هناك مطر أو سَيْل أو جليد، كان المرحوم يأتي المسجد لأداء الصلاة في الجماعة، قال: رأيناه في كبر سِنه إذ كان ضعُفَ للغاية وكان يقطع المسافة من بيته إلى المسجد في خمس عشرة أو عشرين دقيقة وبعد أن يتوقف للاستراحة أكثر من مرة في الطريق، ولكن كان يأتي المسجد في كل حال، وقد مر هذا الذكر من قبل أيضا، وكان يواظب على صلاة التهجد. قال: مرة ذهبنا إلى منطقة في الصين، وبعد سفر طويل، تحدثنا هناك مع بعض الأحمديين المحلّيين إلى ساعة متأخرة في الليل، فكنتُ أظن أن الاستيقاظ لصلاة التهجد سيكون صعبا، ولكنني رأيتُ صباحا أن السيد الصيني كان يتهجد، صحيح أنه صلّى صلاة خفيفة ولكنه لم يُفوّتـها، وقد كتب السيد الصيني نفسه أيضا أنه حين جاء من الصين إلى ربوة رأى كبار الجماعة في ربوة يصلون الصلوات بتضرع وابتهال ويصومون ويعتكفون ويدعون ويستجيب الله أدعيتهم، وهذا الشيء أثّر فيه كثيرا، فعزم على السير على خُطى هؤلاء الكبار، وكان يسترشد حينها بخليفةِ المسيحِ الثاني t ويتمتع بصحبة مرزا بشير أحمد ومرزا شريف أحمد ومولانا غلام رسول الراجيكي ومختار أحمد الشاهْجَهَانْبُوْرِيْ ومحمد إبراهيم البقابوري وسيد ولي الله شاه وغيرهم y، وطوّر الله تعالى شخصية المرحوم أكثر بسبب صحبة هؤلاء الكبار وتعلّقَ بالله تعالى أكثر.
وأضاف: كان المرحوم نشيطا جدا في التبليغ، وكان هادئ الطبع وقليل الكلام عموما، ولكننا لاحظنا أنه كلّما شرع في التبليغ نشأ فيه حماس وقوة غير عادية فكان يتكلم إلى ساعات طويلة، وفي بعض الأحيان لو شرع في التبشير على الهاتف لم يشعر بالوقت وكانت تمر ساعة في الحديث دون أن يشعر. ورِث المرحوم خُلُق قِرَى الضيف أيضًا، وكان يقول: إن والدي كان مضيافا لأنه لم يكن في القرية أي فندق فكان بيتنا بمنزلة الفندق كما كان يقول والده، وكانت زوجةُ السيد الصيني أيضا تساعده جدا في الضيافة. وبالإضافة إلى ذلك كان يراعي مشاعر الجميع وإن كان متعَبًا جدا، ذات مرة استمرَّ اجتماعٌ إلى وقت طويل في الليل، وحين أراد المرحوم الجلوس في السيارة قال له أحد الأشخاص: انزِل في بيتي فإنه قريب من هنا. يقول السيد رشيد: فقلتُ في نفسي إنه سيرفض الطلب ولكنه ذهب، وهناك بدأ ذلك الشخص في تحضير العَشاء أيضا، مكث هناك إلى وقت طويل وعاد إلى البيت في الساعة الواحدة تقريبًا ولكن لم يرفض الطلب أو لم يقل أنه مستعجل.
كذلك كتب الداعية نصير أحمد بدر: حين كُلفت بتعلُّم اللغة الصينية تعرفتُ إلى المرحوم ووُفّقتُ لتبليغ الدعوة في مختلف المناطق الصينية واستفدتُ أثناء ذلك بآراء المرحوم ونصائحه المفيدة، إذ كان يُرشدني بواسطة رسائله، وجدتُ فرصة تبليغ دعوة المسيح الموعود ؏ إلى آلاف الصينين شفهيا وبالمناشير والكتب، وفي كل مكان سمعنا ذكر السيد عثمان الصيني بكلمات حسنة، وهو يُعَدُّ علامة كبيرا للإسلام في الصين، والمؤلفات التي خلَّفها باللغة الصينية سَتُخَلِّدُ ذكره، وعشرات الكتب والتـراجم التي قام بها هي بحر العلوم التي أخذها من الخزائن الروحانية للمسيح الموعود ؏، وبلّغ الناسَ تراجـمها، ولِلُغته الصينية الفصيحة والبليغة تأثير وجذب خاص، وعلمت بذلك حين ذهبتُ إلى مدرسة إسلامية في الصين حيث لم يعيروني أدنى اهتمام عند زيارتي الأولى، ولكن حين ذهبتُ إليها مرة ثانية بعد فترة وجيزة لقيني جميعُ المسلمين الصينين فيها وإمامُهم بحب واحترام، فسألتُ أحدَهم: حين أتيتُكم في المرة الأولى لم تُبدوا هذا الحب الذي تُبدونه الآنَ فما سبب ذلك؟ فردّ قائلا: إن الكتب باللغة الصينية التي أعطيتَها للإمامَ هو يقرؤها علينا في خطبته، وخاصة ترجمةَ كتابات المسيح الموعود ؏ إلى اللغة الصينية، تجعلنا في حالة الوجد، فلم نسمع قط بمثل هذه الكتابات الرائعة في حياتنا كلها، لذا نريد أن تجلب لنا مزيدا من مثل هذه الكتابات.
ثم قال: ذهبتُ إلى قرية السيد الصيني ولقيت أقاربه وكلهم كانوا يذكرون السيد عثمان تشو بغاية الاحترام والحب، كل من أتاني اعتز بذكر قرابته بالسيد عثمان وأبدى فرحة، واهتموا بي جدا واستضافوني بإكرام طوال مدة مكثي هناك لمجرد أنني كنت أعرف السيد عثمان الصيني ولأنني ممثل الجماعة الأحمدية.
إن ترجمة معاني القرآن الكريم التي قام بها السيد عثمان الصيني هي ترجمة سلسة وسهلة يفهمها الجميع كما أنها تبلغ مستوى اللغة الصينية الفصيحة والبليغة، لذا فمع وجود تراجم أخرى للقرآن الكريم باللغة الصينية، فإن ترجمة السيد عثمان جو مقبولة في الصين كله ويُعترف بها، وعلمتُ بذلك بعد لقاء عديد من العلماء الصينيين الذين ينظرون إلى هذه الترجمة بنظرة الإعجاب رغم اختلافهم معنا عقائديا، ويحبون جدا أن يفهموا القرآن الكريم. قال: أثناء زيارتنا لمنطقة ما، حين رأى أحد الأئمة الكبار هذه الترجمة معي لمعت عيناه، كان لديّ ترجمة القرآن الكريم التي قام بها السيد الصيني، ففرح الإمام برؤيتها وقال مرارا: كنتُ أبحث عن هذه الترجمة منذ مدة طويلة، هل يمكنك أن تعطيني إياها؟ فقلنا له: ليست لدينا حاليا إلا نسخة واحدة منها، فلو أعطيتنا عنوانك لطلبنا من السيد عثمان الصيني أن يرسل إليكم نسخة منها، فقال بعد تأمل لبرهة: أرجو أن تعيروني هذه النسخة لبعض الوقت لكي أصورها، علما أنها ألف وأربعمائة وخمسون صفحة تقريبا، وحين رأينا شوقه هذا أعطيناه هذه النسخة نفسها، ففرح بذلك للغاية وشكر مرارا وتكرارا وكأنه وجد كنزا ثمينا، ولا شك أنها كنز يقينًا، فلم يتمالك نفسه في إظهار الفرحة.
كذلك كان له صلاتٌ كثيرة وروابط مع الناس إلى وفاته، وكتب الدعاة الذين مكثوا في الصين أنه حيثما ذهبنا في الصين وجدنا ذكر السيد الصيني في كل مكان. مكث الداعية ظفر الله أيضا في الصين وهو في باكستان الآن، قال: حين جاء السيد الصيني إلى باكستان في 2004 ذهب بي إلى كَلَّرْ كَهَّار أثناء سفرنا من إسلام آباد إلى ربوة، وأراني ذلك المكان الذي كان يعتكف فيه أثناء دراسته في الجامعة الأحمدية، وسرد علي حادث استجابة دعاءٍ له، وهو أنه ذهب إلى بيت شخص لم ينجب ومضى على زواجه عشر سنين، وطلب ذلك الشخص من السيد الصيني الدعاء أثناء اعتكافه من أجل الذرية، فدعا السيد الصيني فرأى في الرؤيا الشودهري ظفر الله خان نائما على سرير في صحن بيته، سرد على ذلك الشخص هذه الرؤيا وقال إن الله تعالى بشّر فيها بأنه سيرزقك ابنًا، فبعد فترة قليلة رزقه الله تعالى ابنا.
إنني أيضا أذكُر حين كان المرحوم يعتكف في كَلَّرْ كَهَّار في زمن الخليفة الثاني t وكنتُ صغيرا، فذهبنا مرةً هناك، ورأيناه جالسا في غرفة صغيرة وكان القرآن الكريم في يده وكان يدعو، ثم طلبنا نحن صغارا وكبارا منه الدعاء، وكان يجيب بوجه طلق ويعاملنا بلطف.
كتب السيد الدكتور نوري أيضا: أجرينا الفحص الطبي للمرحوم في 2004م قبل أربعة عشر عاما فتبيّن أنه مصاب بمرض القلب ولا يمكن علاجه، فقلقتُ جدا لأنه لم يكن بأيدينا حيلة لعلاجه إلا الدعاء وبعض الأدوية البسيطة، وعموما لا يعيش مثل هؤلاء الناس طويلا إلا بضع سنوات كأقصى حد، ولكنني التقيتُ بعد ذلك بالسيد الصيني عدة مرات واستغربتُ أنه بفضل الله تعالى لم يدَع مرضه يحول دون أداء واجباته، وظل يعمل رغم اعتلال صحته وظهورِ آثار الضعف عليه.
لم يحدث أنه قصّر في أعماله أو في العبادات بسبب مرضه، بل كتب إليَّ أحد الأشخاص أن الثلج نزل بكثرة، بحيث ظننا أن لن يأتي الناس إلى المسجد اليوم لأن المشي كان صعبا ولكن قلنا لنفتح المسجد لعل البعض يأتي، وحين قصدنا المسجد رأينا آثار الأقدام على الثلج في الطريق، فلما دخلنا وجدنا السيد الصيني الذي جاء المسجد قبلنا ماشيا على الثلج وكان يؤدي صلاة التهجد هناك.
كتب السيد عطاء المجيب راشد ملخصا لسيرة المرحوم وهو ملخص جيد ومبني على الواقع، كتب: إن المرحوم ترك فراغا كبيرا، كان رجلا صالحا عظيما. كنتُ أفكر في مزايا السيد الصيني فخطر ببالي أنه كان كثيرَ الدعاء ومستجابَ الدعاء وملتزمًا بالصلوات لأقصى الحدود، وكان يحضر المسجد رغم المرض والضعف، وكان ناصحًا أمينًا وبسيطَ الطبع خاليًا من التكلف، ومضيافًا يُقري الضيوف بإصرار لطيف، وعاليَ الهمة ونشيطًا ومنشغلا بخدمة الدين رغم ضعفه، ومؤدّيا واجباته بغاية الإخلاص والجهد والحب، وكانت لوعة خدمة الدين بارزة جدا فيه، وكان خادما صادقا ومخلصا ووفيا للخلافة الأحمدية، وكان يلقى الجميع بوجه طلق ومبتسما دوما. وله مزايا كثيرة، وما قاله السيد راشد هو الحق تماما. رفع الله تعالى درجات السيد عثمان الصيني باستمرار وألهم زوجته الصبر والسلوان وحماها ونصرها وجعل أولاده يَرِثُون أدعيته وحسناته ووفقهم ليسلكوا خطاه.
سأصلي عليه بعد صلاة الجمعة إن شاء الله.
*****