خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 14/2/2020م
في مسجد بيت الفتوح بلندن
*********
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم ]الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين[.
كان الحديث في الخطبة الماضية عن سيدنا محمدٍ بنِ مسلمة t، وبقي جزء منه سأتناوله اليوم. عندما ذكر كعب بن الأشرف أن سيدنا محمداً بنَ مسلمة أخرجه من بيته بحيلة، ثم أخذه بعيدا عنه فقتله، ينشأ التساؤل: أفَلَيس ذلك من الكذب؟ وذُكر أيضا أن الكذب مسموحٌ به انطلاقاً من حديثٍ عند بعض العلماء في ثلاثة مواضع. لكنها في الحقيقة فكرة باطلة، وإن شئت فقل هو تفسيرٌ خاطئٌ للحديث الذي يجيزون به الكذبَ في ثلاثة مواضع. باختصار، كنتُ قد وضَّحت ذلك انطلاقاً مما ورد في كتاب سيرة خاتم النبيين. ثم وجدتُ أن سيدنا المسيح الموعود u أيضا سلّط الضوء على هذا الموضوع في كتابه نور القرآن، ردًّا على اعتراضِ مسيحيّ، وسأتناول بعض النصوص التي توضح المسألة تماما، وأنّ الإسلام لم يسمح بالكذب مطلقا.
يقول سيدنا المسيح الموعود u دحضا لاعتراضِ مسيحيٍّ قال إن النبي r أجاز الكذبَ في ثلاثة مواضع، وأمر في القرآن صراحة بإخفاء الدين، بينما لم يسمح الإنجيل بكتمان الإيمان. فقال حضرته ردًّا على ذلك: فليتضح أني لا أعتقد أن الإنجيل يضم عُشر معشار التأكيد الوارد في القرآن الكريم على التمسك بالصدق.
ثم قال حضرته u .. لقد جعل القرآنُ الكريم قولَ الزور مساويا لعبادة الأوثان كما يقول: ]فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ[، وقال في آية أخرى ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ[. افتح الإنجيل، يا مَن لا تخاف الله! وَأخبرنا أين ورد مثل هذا التأكيد البالغ على التمسك بالصدق فيه؟
ثم قال موجها الخطاب إلى المعترض فتْح المسيح: تقول إن النبي r قد سمح بالكذب في ثلاثة مواقف. لكنك أخطأتَ في ذلك جهلا منك، وإنما الحقيقة أنّ الكذب غير مسموح به في أي حديث قط، بل إن الحديث ينص على: “إن قُتلتَ وأُحرِقت” أي لا تتخلَّ عن الصدق حتى لو قتلت وأحرقت في سبيل ذلك، ثم إذا كان القرآن الكريم يقول: تمسَّكوا بالصدق والإنصاف ولو خسرتم في سبيل ذلك أرواحكم، والحديثُ يقول: تمسكوا بالصدق حتى لو أُحرقتم وقُتلتم. ففي هذه الحالة إذا كان أي حديث يقول فَرَضًا خلافَ القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة فهو غير جدير بالاهتمام والقبول. فلا نقبل إلا تلك الأحاديث التي لا تعارض القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة. صحيح أنّ بعض الأحاديث تشير إلى جواز التورية (أي استخدام كلمات لها أكثر من معنى) وسمَّتْها بالكذب لتُكرّهها. (والمعارضون يسمُّون ذلك الكلام ذا المعنى بالكذب تنفيرا) وحين يَقرأ أي جاهل وغبي مثل هذه الكلمة في أي حديث من باب التسامح (أي تُسخدم كلمة لتفهيم أحد وتيسيرا له) فقد يفهمها كذبا حقيقيا لأنه يجهل القرار الحاسم للإسلام، وهو أن الكذب الحقيقي رجسٌ وحرام في الإسلام ويساوي الشرك، بينما التورية التي ليست في الحقيقة كذبا، وإن كانت تشبه الكذب فجوازها في الأحاديث موجود بحق العامّة عند الاضطرار، لكنه قد ورد إزاء ذلك أنّ الذين هم أعلى وأسمى مرتبةً في الإيمان والتقوى فإنهم يجتنبون حتى التورية. وإنّ التورية في المصطلح الإسلامي هي أن يتكلم المرء عن سرٍّ قصدَ الإخفاء-تفاديا للفتنة أو لمصلحة-بأساليب وأمثلةٍ يفهمها العقلاءُ ولا يفهمها الغبي، ويخطر بباله شيءٌ آخر لم يقصدْه المتكلم، ويدرك السامع، بعد التدبر، أنّ ما قاله المتكلم ليس كذبا، وإنما هو الحق المحض، ولا يشوبه شائبة من الكذب، ولم يكن قلبه قد مال إلى الكذب مطلقاً. كما يُفهم من بعض الأحاديث جواز التورية للإصلاح بين مسلمَين، أو ليدرأ المرء عن زوجته الفتنة، أو النـزاع العائلي أو الشجار، أو لإخفاء المصالح عن العدو في الحرب، أو لإمالته إلى طرف آخر؛ ومع ذلك هناك أحاديث كثيرة تفيد أنّ التورية تنافي أعلى مراتب التقوى، وأنّ الصدق الجلي البين أفضل حتى لو قُتل المرء بسبب ذلك أو أُحرق.
ثم يقول حضرته إنّ النبي r قد أمر باجتناب التورية قدر الإمكان، لكيلا يشبه مضمونُ الكلامِ الكذبَ حتى في الظاهر، وذلك عندما أرى سيد المرسلين في غزوة أحد يعلن وحيدًا أمام السيوف المسلولة: “أنا محمد، أنا نبي الله، أنا ابن عبد المطلب”.
هنا أود أن أوضِّح أنّ هذا الكتاب حين نشر؛ كُتب في حاشيته أنّ هذا سهو، وأن حضرته r قال ذلك في غزوة حنين لا في أُحد. لكنَّ خلية البحث قد أرسلت لي مقتبساً من السيرة الحلبية الذي يفيد أنّ النبي r قد نطق بهذه الجملة في غزوة حنين وأُحدٍ كلتيهما، لذا يجب على قسم النشر ونظارة الإشاعة أن تشطب هذه الحاشية مستقبلا. لقد لاحظتُ في أغلب الأحيان أنه لتأويل كلام المسيح الموعود u أو تسهيله يُكتب في الحاشية متسرعين أنه سهو أو خطأ، مع أن هناك حاجةً مُلِحَّةً للبحث والتحري. على كل حال، قد وصلني هذا المقتبس الذي ورد فيه بكل وضوح أنّ النبي r قد استخدم هذه الكلمات في حنين وأُحد كلتيهما. وعلى كل حال، قد تمَّ التصحيح في هذا الموضوع.
ثم يقول حضرته u .. فمن الجهل الشديد أن تعتبر التوريةُ كذبا حقيقياً حتى لو كانت قد وُصفتْ في الحديث كذبا تجاوزاً، (أي قد استخدم كلمة الكذب لتسهيل الكلمات والتفهيم)، فلمَا كان القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة قد أَجمعت على أنّ الكذب الحقيقي حرامٌ ورجس، كما تُبين الأحاديث من الدرجة الأولى مسألةُ التورية بوضوح.
فلو افترضنا أنّ أحاديث ذكرت كلمة الكذب بدلا من التورية فكيف يمكن أن يراد منها الكذب الحقيقي والعياذ بالله؟ بل يدل ذلك على دقة التقوى لقائلِ هذه الكلمة الذي اعتبر التورية كذبا إذ استخدم لها كلمة “الكذب” تسامحا. يجب علينا اتباعُ القرآن الكريم والأحاديثِ الصحيحة، وإذا كان ثمة أمر يناقضهما فلن نقبل أبدا معناه الذي يخالفهما. (نور القرآن، الخزائن الروحانية، المجلد9)
ثم قال u: لعن القرآن الكريم على الكاذبين، وكذلك قال: الكاذبون رفقاء الشيطان، والكاذبون لا إيمان لهم، وتنزل على الكاذبين الشياطينُ، ولم يكتفِ بقول ألا تكذبوا، بل قال: لا تصاحبوا الكاذبين وتجعلوهم أصدقاءكم، واتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وقال في مكان آخر: إذا تحدثت فيجب أن يكون كلامك صدقا محضا وينبغي ألا يكون فيه شائبة من الكذب حتى على سبيل المزاح.
هذا توضيح ما كنت قلته سابقا، والآن أُبين الأحداث المتبقية من حياة محمد بن مسلمة. حين أراد بنو النضير قتل النبي r بإلقاء رحى عليه غدرا أخبره الله تعالى وحيا بما هموا به، فنهض r سريعا كأنه يريد حاجة، وتوجه إلى المدينة، وبعد قليل تبعه أصحابه، وحين وصلوا المدينة علموا أن النبي r أرسل إلى محمدٍ بنِ مسلمة يدعوه، فقال أبو بكر t: يا رسول الله، قمتَ ولم نشعر، فقال رسول الله r: “همت يهود بالغدر بي، فأخبرني الله تعالى فقمت، وأنزل الله تعالى في ذلك قوله: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[ (المائدة:12).
أرسل النبيُّ r محمدَ بن مسلمة t إلى اليهود، ورد هذا الحدث كالتالي: لمـّا جاء محمد بن مسلمة رسولَ الله r قال: “اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم: إنّ رسول الله r أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلدي. لأنهم قاموا بهذه المؤامرة، ونقضوا العهد وغدروا، لذا عوقبوا بالنفي. فلما جاءهم قال: إنّ رسول الله r أرسلني إليكم برسالة، ولست أذكرها لكم حتى أعرفكم بشيء تعرفونه في مجلسكم، فقالوا: ما هو؟ قال: أنشدكم بالتوراة، التي أنزل الله على موسى u: هل تعلمون أني جئتكم قبل أن يبعث محمد وبينكم التوراة فقلتم لي في مجلسكم هذا: يا ابن مسلمة إن شئت أن غديناك، وإن شئت أن نهودك هوّدناك، فقلت لكم: بل غدوني ولا تهودوني، فإني والله لا أتهود أبدا، فغديتموني في صحفة لكم، وقلتم لي: ما يمنعك من ديننا إلا أنه دين يهود، كأنك تريد الحنيفية التي سمعت بها، أما إنّ أبا عامر الراهب ليس بصاحبها، أتاكم صاحبها الضحوك القتال في عينيه حمرة، ويأتي من قِبَل اليمن، يركب البعير، ويلبس الشملة، ويجتزئ بالكِسرة، وسيفه على عاتقه، ينطق بالحكمة كأنه وَشِيجتُكم هذه، والله ليكونن في قريتكم هذه سَلْبٌ، وقتْلٌ، ومثلٌ، قالوا: اللهم نعم، قد قلنا ذلك وليس به. أي قد قلنا هذا كله ولكنّ محمداً ليس ذلك النبيَّ الموعود.
قال محمد بن مسلمة: قد فرغت، إنّ رسول الله r أرسلني إليكم يقول لكم: “إنكم قد نقضتم العهد الذي جعلتُ لكم بما هَممْتم به من الغدر بي.” أخبرهم بما كانوا هموا به وظهور عمرو بن جحاش على البيت ليطرح الصخرة، فأسكتوا، فلم يقولوا حرفا. ثم قال لهم محمد ابن مسلمة بأنّ النبي r يقول: “اخرجوا من بلدي وقد أجَّلتُكم عشرا، فمن رُئي بعد ذلك ضربت عنقه”، قالوا: يا محمد، ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجل من الأوس. قال محمد بن مسلمة: تغيرت القلوب. فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون، وأرسلوا إلى ظهرهم بذي الجدر يجلب لهم، (وذو الجدر مرعى على بعد ستة أميال من المدينة نحو القباء وكانوا يرعون فيه مواشيهم.) وتكاروا من ناس من أشجع “إبلا” وجَدُّوا في الجَهاز. هذا من أحد كتب التاريخ.
كيف كان سلوك اليهود؟ كتب عنه خليفة المسيح الثاني t في موضعِ حادثِ غدرِ بني قريظة، وقد مر ذكره عند الكلام عن عمار بن ياسر سابقا، ولكن من الضروري ذكره هنا أيضا. قال حضرته t: كان أمر بني قريظة يكاد يُبَتُّ فيه، ولم يكن غدرُهم مما يُغَضُّ الطرفُ عنه.
وأمر رسول الله r فورَ عودته من غزوة الخندق أصحابَه ألا يستريحوا في بيوتهم، بل يجب أن يصلوا إلى حصون بني قريظة. ثم بعث صلى الله عليه وسلم عليَّاً بنَ أبي طالب إلى بني قريظة ليسألهم لماذا نكثوا العهود غادرين. ولكن اليهود لم يندموا ولم يستعفوا ولم يعتذروا، وإنما تكلموا مع علي وأصحابه بكلام سيء، وبدأوا يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم ونساءه، وقالوا لا نعلم من هو محمد، وليس بينه وبيننا أي عهد ولا ميثاق. فرجع عليّ رضي الله عنه ولقى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة وهو في طريقه إلى حصون اليهود. وحيث إنّ اليهود كانوا يسبّون سبًا فاحشا ويتكلمون ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزاوجه وبناته كلامًا قذرا، ففكّر عليٌّ أنّ سَبَّ اليهود سيؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرجو ألا تدنو من هؤلاء، بل نكفيك قتالَهم، فارجعْ أنت! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أظنُّك سمعتَ لي منهم أذى! وتريد ألا أسمعَه منهم. قال: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ضير، فقد آذوا نبيهم موسى أكثرَ من ذلك مع أنه كان منهم. ثم توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصون اليهود، فأغلقوا أبوابه متحصنين، وبدأوا حرب المسلمين حتى شاركت فيها نساؤهم. وكان بعضٌ من المسلمين جالسين تحتَ جدارِ حصنٍ لهم، فألقت يهوديةٌ حجرًا على أحدِهم وقتلتْه.
فلما اشتد الحصارُ على اليهود طلب زعماؤهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسلَ إليهم أبا لبابة الأنصاري للاستشارة، وكان رئيس الأوس ومن أصدقاء اليهود. فأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فاستشاروه وقالوا هل نستسلم ونلقى السلاح راضين بحكم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلم يقل لهم أبو لبابة بلسانه شيئا ولكنه أشار إلى حلقِه، أي أن مصيركم الذبحُ والقتل. ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أظهر أيَّ رأي بشأن اليهود، ولكنَّ أبا لبابة ظن من عنده أنه ليست عقوبة جريمتهم هذه “أي نكث العهد والغدر” إلا القتل، ونتيجةَ تسرُّعِه وقلةِ عقلِه أخبرهم بالإشارة أمرًا أدى إلى هلاكهم في النهاية، حيث قال اليهود فيما بعد لو أنهم رضوا بحكم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت أقصى عقوبتهم الجلاء من المدينة كما حصل مع قبائلهم الأخرى. ولكنهم لسوء حظهم قالوا لن نرضى بحكم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل سوف ننزل على حكم سعد بن معاذ حليفِنا من الأوس.
ثم اختلف اليهود فيما بينهم، فقال بعضهم لقد غدرنا بالمسلمين، وإن سلوكهم يدل على أن دينهم هو الحق. فدخل بعضهم في الإسلام تاركين اليهودية. وقال لهم رجلٌ منهم، وهو عمرو بن سعدى وهو يلومهم: يا معشر اليهود، لقد حالفتُم محمداً على ما حالفتُموه عليه ثم غدرتُم به، فإن أبيتم أن تدخلوا معه في دينه فاثبتوا على اليهودية وأعطوا الجزية. فقال معظمهم لن ندخل في الإسلام ولن نعطي الجزية، بل القتل أفضل لنا. فقال: فإني بريءٌ منكم، وخرج من الحصن. فمر بكتيبة من المسلمين عليها محمد بن مسلمة، فقال له محمد بن مسلمة: من هذا؟ فقال: أنا فلان. فقال محمد: مُرّ، اللهم لا تحرمني إقالةَ عثرات الكرام، فخلَّى سبيلَه. يعني: أن هذا قد ندم على ما فعله هو وقومه، فمن واجبنا الأخلاقي ألا نلقي القبض عليه، بل علينا أن نخلي سبيلَه، وأدعو الله تعالى أن يوفقني لمثل هذه الأعمال. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، لم يعنف محمداً بنَ مسلمة على ذلك ولم يقل له لماذا تركت هذا اليهودي، بل أشاد بفعله. فالحق أن المسلمين قد أنصفوا الناس دائما نتيجة تعليم وتربية النبي صلى الله عليه وسلم.
لما أثار أهلُ خيبر الشر، قتَل المسلمون أبا رافع اليهودي عقابا على ذلك. وفيما يلي قصة قتله: كان محمدٌ بنُ مسلمة في الجماعة التي أُرسلت لقتله. لقد قتله شخص واحد لكن أرسلت لقتله جماعة من الصحابة. وقال حضرة صاحبزاده مرزا بشير أحمد وهو يبين تفاصيل قتله على ضوء ما ورد في كتب التاريخ: حصلت الفتنة الخطيرة، حربُ الأحزاب، في آخر السنة الخامسة الهجرية نتيجةَ تأليب زعماء اليهود الكفارَ على المسلمين، وكان زعيم اليهود حُيَيُّ بن أخطب قد نال عقابه مع اليهود الآخرين من بني قريظة، ولكن سلام بن أبي الحقيق والذي كُنيته أبو رافع ظلّ مستمرًا في إثارة الفتن بكل حرية مقيمًا في منطقة خيبر، بل إنّ هزيمة الأعداء في غزوة الخندق ومصيرَ بني قريظة المخيف قد زادته عداءً للمسلمين. وكان مسكن قبائل غطفان قريبا من خيبر حيث كان يهود خيبر وقبائل نجد جيرانًا. وكان أبو رافع رجلا ثريا وتاجرا كبيرا، وكان من دأبه تأليب قبائل نجد الهمجية المحاربة على المسلمين دوما، وكان مثيلاً لكعب بن الأشرف في عداء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمدّ الغطفانيين في تلك الأيام بأموال كثيرة لكي يشنّوا الهجوم على النبي صلى الله عليه وسلم، والثابت من التاريخ أنّ الخطر الذي هدّد المسلمين من قِبَل بني سعد في شهر شعبان والذي بُعثت لمواجهته كتيبة تحت قيادة سيدنا علي t، قد كان يهود خيبر وراء هذا الخطر أيضا، وقد كانوا يقومون بكل هذه المؤامرات تحت إشراف أبي رافع، وبتخطيط وتأليبٍ منه. ولكن أبا رافع لم ينته عند ذلك الحدّ فحسب، بل كانت نار عداوته متعطشة لدماء المسلمين. وكان وجود النبي r كالشوكة في عينيه. فدبّر في نهاية المطاف مكيدة ماكرة، فبدأ بجولة في قبائل نجد مثل غطفان وغيرها كما حدث قُبيل غزوة أُحد، وبدأ يجمعهم كجيش عظيم للقضاء على المسلمين.
عندما بلغ الأمرُ هذا الحدّ، ومثُلَت أمام أعين المسلمين مشاهدُ كانت قبيل غزوة أُحد، جاء بعض الأنصار من قبيلة الخزرج إلى النبي r وقالوا إنه لا علاج لهذه الفتنة إلا أن يُقتل _ بطريقة ما _ أبو رافع الذي هو أصل هذه الفتنة ومؤسسها. فسمح رسول الله r الصحابة بقتله واضعا في الحسبان أن قتل شخص واحد مُثيرٍ للفتن أهون من أن تعمَّ في البلاد الفوضى، ويسود القتل وتتناثر أشلاء الضحايا على نطاق واسع. وبعثَ أربعةً من الصحابة من قبيلة الخزرج تحت قيادة عبد الله بن عتيك الأنصاري إلى أبي رافع، ونصحهم عند إرسالهم ألا يقتلوا امرأة ولا صبيا على الإطلاق. فخرجت هذه البعثة في شهر رمضان عام ستة من الهجرة، وأكملت مهمتها بكل دهاء وعادت. وبذلك انقشعت سحائب الفتن من جو المدينة.
لقد وردت تفاصيل هذا الحادث في رواية في صحيح البخاري كما يلي:
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ r إِلَى أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ r وَيُعِينُ عَلَيْهِ. وَكَانَ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ … فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَصْحَابِهِ اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ … فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنَ الْبَابِ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً. وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ. فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ .. أَغْلَقَ الْبَابَ ثُمَّ عَلَّقَ الْأَغَالِيقَ عَلَى وَتَدٍ. قَالَ فَقُمْتُ إِلَى الْأَقَالِيدِ فَأَخَذْتُهَا فَفَتَحْتُ الْبَابَ (ليتمكن من الخروج من الحصن بسهولة عند الضرورة) وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ عِنْدَهُ وَكَانَ فِي عَلَالِيَّ لَهُ. فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ (وساد السكوتُ) صَعِدْتُ إِلَيْهِ فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُ عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ … فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ (كأنه يستعد للنوم بعد إطفاء السراج)… فَقُلْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ! قَالَ مَنْ هَذَا؟ فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ وَأَنَا دَهِشٌ (بسبب شدة الظلام). فَمَا أَغْنَيْتُ شَيْئًا وَصَاحَ فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ فَأَمْكُثُ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ (مغيِّرا صوتي) مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ؟ فعرف صوتي المتغير فَقَالَ: لِأُمِّكَ الْوَيْلُ إِنَّ رَجُلًا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي قَبْلُ بِالسَّيْفِ. سمعتُ هذا الصوت وانتهيت إليه مرة وضربته بالسيف ولكنه لم يُقتل هذه المرة أيضا وإن كانت الضربة قوية، ثم ضربته للمرة الثالثة حتى قتلتُه…فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الْأَبْوَابَ بَابًا بَابًا (وخرجت من الغرفة) حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَهُ فَوَضَعْتُ رِجْلِي وَأَنَا أُرَى أَنِّي قَدْ انْتَهَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ فَوَقَعْتُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَانْكَسَرَتْ سَاقِي. (وفي رواية أن مفصل ساقي انزلق) فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَةٍ ثُمَّ انْطَلَقْتُ … فَقُلْتُ لَا أَخْرُجُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ أَقَتَلْتُهُ، فاختبأت في مكان قرب الحصن، فلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِي عَلَى السُّورِ فَقَالَ أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ. فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي … فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ r فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ ابْسُطْ رِجْلَكَ فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا وهو يدعو فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ.
وفي رواية أنه عندما هجم أبو عتيك على أبي رافع فَصَاحَتْ امْرَأَتُهُ بشدة فخفتُ أن ينتبه الناس بسماع صوتها. فرفعت سيفي عليها ثم تذكرت نهي النبي r عن قتل النساء فامتنعتُ.
كذلك جاء في سيرة خاتم النبيين: لا حاجة لنا إلى البحث في تبرير لقتل أبي رافع، لأن مكائده الدموية منتشرة على أوراق التاريخ بكل وضوح. (وقد أوردتُ بحثا مستفيضا في بيان حادث مماثل وذلك في بيان قتل كعب بن الأشرف)
كانت حالة المسلمين آنذاك ضعيفة جدا، إذ كانوا محاطين بالأخطار والمصائب من كل حدب وصوب. كان البلد كله متحدا على القضاء عليهم قضاء نهائيا. وفي تلك الظروف العصيبة كان أبو رافع يحرّض قبائل مختلفة ضد الإسلام وكان يَعُدُّ عدتَه ليهاجم المدينة بالتعاون مع قبائل العرب الوحشية كلها متحدين فيما بينهم مرة أخرى، كما حدث في غزوة أُحد.
أقول: إني أذكر هنا الأحداث بإيجاز شديد ولا أسرد التاريخ بكامله. لماذا كان قتله جائزا؟ لأنه لم تكن في بلاد العرب حينذاك حكومة رسمية، ليكون تطبيق العدل بواسطتها ممكنا، بل كانت كل قبيلة حرّة في حد ذاتها.
فلم تكن هناك طريقة سوى هذه الطريقة تضمن استتباب الأمن، ولم يكن بالإمكان حيلة أخرى تضمن حفظ الأنفُس. ولقد ذكرتُ في الخطبة الماضية بالتفصيل أسبابَ ذلك، وأنه لم تكن هناك حكومة سوى حكومة النبي r، على أية حال، ما فعله الصحابة في ظل تلك الظروف كان جائزًا ومشروعًا، وإنّ مثلَ هذه التدابير تعتبر مشروعة تمامًا إذا كان قوم من الأقوام يعيش حالة الحرب، فتكون القضيةُ قضيةَ حياةٍ أو موت.
قد استعمل عمرُ محمداً بن مسلمةٍ رضي الله عنهما في عهده علی زکاة جُهينة، وقد کان عمر إذا شکى إلبه عامل، أرسل محمداً إليهم من أجل التحقيق في القضية. مما يدل على أنه كان محل ثقة كبيرة لدى عمر t، فكان يبعثه لجمع المحاصيل المركزية، كما كان يستعمله لحل مشاكل المناطق المختلفة وتسوية أمورها.
وبنى سعدٌ بنُ أبي وقاصٍ قصرًا في الكوفة، وجعل له بابًا، فكان يغلق بابه، وبالتالي لم يكن يسمع صوت الناس.
فلما بلغتْ هذه الكلمةُ عمرَ بنَ الخطاب بعث محمدًا بن مسلمة (وكان من دأبه أنه إذا أراد أن يقوم بعمل حسب إرادته بعث محمدًا بن مسلمة إليه) فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يحرق باب القصر.
فلما انتهى إلى الكوفة قدح زناده وحرق الباب. فلما علم سعد خرج فأخبره بالأمر كله ولماذا أنه حرق الباب.
لقد ذُكر عن محمدٍ بن مسلمة أنه بعد استشهاد عثمان t اعتزلَ الناس، واتخذ لنفسه سيفا من الخشب، وكان يقول: هذا ما أمرني به النبي r. يقول محمد بن مسلمة: أعطاني رسول الله r سيفًا وقال: قاتل به المشركين ما قتلوا، فإذا رأيت المسلمين قد أقبل بعضهم على بعض فاضرب به الحجر حتى تكسره، ثم اجلس في بيتك حتى تقتلَك يدٌ خاطئة، أو مَنِيَّةٌ قاضية. ففعل هكذا واعتزل الفتن فلم يشهد صفين ولا الجمل.
قال زبير بن حصين التغلبي: كنا جلوسا مع حذيفة فقال: إني لأعلم رجلا لا تُنقصه الفتنة شيئًا. فقلنا: من هو؟ قال: هو محمد بن مسلمة الأنصاري. فلما مات حذيفة وكانت الفتنة خرجت فيمن خرج من الناس، فأتيتُ أهلَها فإذا بفسطاطٍ مضروبٍ بنجيّ به تضرب الرياح، فقلت: لمن هذه الفسطاط؟ فقالوا: لمحمد بن مسلمة. فأتيته، فإذا هو شيخ، فقلت له: يرحمك الله أراك رجلا من خيار المسلمين. تركتَ بلدَك ودارك وأهلك وجيرانك. قال: تركته كراهية الشر.
هناك اختلاف في وفاته قيل إنه توفي في 43 أو 46 أو 47 هـ بالمدينة، وعمره يومها 77 عامًا، وصلى عليه مروان بن الحكم وكان واليا على المدينة. وذكر في بعض الروايات أنه قد قتله أحدُ الناس.
وأنهي الآن ذكرَه t، وسأصلي صلاة الجنازة بعد صلاتي الجمعة والعصر على السيد تاج الدين ابن صدر الدين الذي وافته المنية في 10 فبراير الجاري عن عمر يناهز 84 عامًا، إنا لله وإنا إليه راجعون.
كان بفضل الله تعالى منضمًّا إلى نظام الوصية.
ولد في أوغندا ثم انتقل إلى بريطانيا في عام 1967م. لما شُريت أرض إسلام آباد في عام 1984 قدّم نفسه للخليفة الرابع رحمه الله من أجل خدمة الجماعة في إسلام آباد. ثم وفق للخدمة في إسلام آباد طيلة 22 عامًا بكل إخلاصٍ وتفانٍ. لقد سخر كل قواه بدءًا من الجلسة الأولى في إسلام آباد وحتى آخر جلسة فيها، وكان يسعى جاهدًا لتوفير كل نوع من الراحة والمرافق لضيوف المسيح الموعود u. كان يستطيع أن يقوم بكل نوع من الأعمال التقنية والصيانة، لذلك وُفّق ليل نهار في إسلام آباد للخدمة في مجال الكهرباء وتمديد أنابيب المياه والصرف الصحي والنجارة وغيرها.
كان مواظبًا على الصوم والصلاة ومتديّنًا، كما كان بشوشًا ومطيعًا ويتسم بطبع هادئ. كان يرتبط ارتباطاً وثيقا بالخلافة، ويتعلق بها بعلاقة الإخلاص والوفاء. تخرّج أحدُ أحفادِه السيد مدبر الدين داعيةً من الجامعة الأحمدية في بريطانيا، ويعمل حاليا في أم. تي. أيه. يقول: أخبرني الكثيرون الذين كانوا يسكنون في إسلام آباد أن جدّي كان مجتهدًا ومجدًّا كثيرا. وكان جدي يقول بأنه كان يسكن وحيدًا في إسلام آباد في البداية، ولم تكن فيها الكهرباء ولا التدفئة. وكان الوقت عصيبًا، إلا أنه كان سعيداً مسروراً بأنه مُوفَّقٌ للتضحية من أجل الجماعة وخليفة الوقت.
كانت من صفاته المميزة الصلاةُ على وقتها، والقيامُ بالأعمال بيده، وحسن الضيافة والصبر.
لقد كتب بعض الإخوة محاسنه، وكتب السيد مجيد السيالكوتي أن السيد تاج دين كان ماهرًا في الأعمال التقنية، فبنى ورشة في إسلام آباد، ثم تواصل مع شركات مختلفة، وبدأ بإعمار بنايات إسلام آباد واحدة تلو الأخرى، وجعلها قابلة للسكن. كان يملك فنّ تكوين مجموعة العمل الفعالة. وكان ينهمك في عمله صيفا وشتاء، وذلك لأن جميع الأشياء هنا كانت قديمة، وكانت بحاجة إلى الصيانة والضبط وإعادة التشغيل من جديد. وكانت هذه مهمة كبيرة أداها بكل اتقانٍ واجتهاد. مع كل ذلك لم تكن ابتسامة الرضا تفارق وجهه، وكان بشوشاً دائماً. وكان يقول للجميع: أدعوا لي فقط.
لم يهتم -أثناء إقامته في إسلام آباد في غرفة صغيرة – بأهله وأولاده الذين كانوا يعيشون في لندن، غير أنه كان يزورهم من وقتٍ لآخر. رحمه الله وغفر له وزاد أولاده وذريتهم أيضا إخلاصا ووفاء وصبرًا وهمّة. آمين.