خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 27/07/2018
في مسجد بيت الفتوح بلندن
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين، آمين.
سوف أتحدث اليوم عن اثنين من الصحابة ؓ. أوّلهما المنذر بن محمد الأنصاري الذي كان من بني جحجبى. بعد أن هاجر النبي ﷺ إلى المدينة آخى بين المنذر بن محمد والطفيل بن الحارث. ولما وصل الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة وأبو سَبْرة بن أبي رُهْم من مكة إلى المدينة مهاجرين أقاموا في بيت المنذر بن محمد رضي الله عنهم. حضر المنذر بدرًا وأُحدًا، واستُشهد في بئر معونة. لقد تحدثت عن واقعة بئر معونة من قبل مرة أو مرتين خلال الحديث عن بعض الصحابة، وسوف أتحدث عنها اليوم ثانية. ورد فيما كتبه حضرة مرزا بشير أحمد عن استشهاد الصحابي المنذر من تفصيل في كتابه “سيرة خاتم النبيين”: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة تحت إمرة المنذر بن عمرو الأنصاري في صفر السنة الهجرية الرابعة، وكان معظمهم من الأنصار، وكانوا 70 رجلا كلُّهم قُرّاءً، أي حفظة القرآن الكريم. كانوا يجمعون الحطب وقت النهار ويبيعونه ويعيشون عليه، ويقضون معظم الليل في العبادة. لما وصل هؤلاء إلى مكان يدعى بئر معونة – وكان شهيرا بهذا الاسم بسبب بئر هناك- تقدّمَ حرام بن ملحان خالُ أنس بن مالك وذهب إلى عامر بن الطفيل زعيمِ بني عامر وابن أخي أبي البراء العامري بدعوة الإسلام من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما بقي الصحابة الآخرون في الوراء. ولما وصل حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل وأصحابه سفيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم رحبوا به في البداية نفاقا، ولما جلس مطمئنا وبدأ يبلغهم رسالة الإسلام أشار بعض أشرارهم إلى شخص منهم، فطعن هذا السفير بالرمح من ورائه وقتله في مكانه، فصاح حرام بن ملحان بالكلمات التالية: الله أكبر، فزتُ ورب الكعبة.
ولم يكتف عامر بن الطفيل بقتل السفير بل حرض بعد ذلك بني عامر على الهجوم على جماعة المسلمين الآخرين، ولكنهم رفضوا ذلك وقالوا لن نهاجمهم وهم في ذمة أبي البراء. فأخذ عامر رجالا من بني سُلَيمٍ ورِعْلٍ وذَكْوانَ وعُصَيَّةَ وغيرها من القبائل – وهم الذين جاء وفدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله أن يرسل إليهم رجالا لتبليغ الدعوة- فشنّوا الهجوم على هذه الجماعة القليلة العدد والحيلة من المسلمين، فلما رأى المسلمون هؤلاء الوحوش يتوجهون إليهم قالوا لهم أنهم لن يتعرضوا لهم لأنهم لم يأتوا هنا ليحاربوهم بل جاؤوا لتنفيذ أوامر رسول الله ﷺ، ولا يبغون قتالهم. ولكن الأعداء لم يكترثوا بما قاله المسلمون وانقضوا عليهم لقتلهم. ولم ينج من هؤلاء الصحابة المتواجدين في ذلك المكان إلا كعب بن زيد الذي كان أعرج وكان قد صعد الجبل، ولقد سبق ذكره.
يتضح من بعض الروايات أن الكفار هاجموه فأصيب بجروح وظنوه قد مات وهو لا يزال حيًّا وبالتالي قد نجا بحياته لاحقًا، وكان اثنان من هؤلاء الصحابة وهما عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد، قد انفصلا عن الجماعة وذهبا ليرعيا الجمال، فلما نظرا من بعيد إلى مكان نزولهم وجدا طيورًا تحلق عليه، ففهموا هذه الإشارة في الصحراء. إن تحليق الطيور بأعداد كبيرة في الصحراء يعني أن هناك طعامًا لها فيه. ففهما أنه قد حدث اقتتال فلما جاءا وجدا أمام عينيهما عملية القتل والدم التي شنها الكفار الظالمون. ولقد تشاورا فيما بينهما عما ينبغي عليهما فعله وهما ما يزالان على بعد مسافة من مكان الحدث. فرأى أحدهما أن عليهما الهرب والعودة إلى المدينة المنورة، وإبلاغ النبي ﷺ بما حدث؛ ولكن الآخر لم يوافقه الرأي وقال أنه لن يترك المكان الذي استشهد فيه زعيمهم المنذر بن عمرو، فذهب الى مكان الحدث وقاتل العدو وقُتِل، (أي استشهد المنذر بن محمد الذي كان قد ذهب لرعي الجمال، فلما عاد قاتل العدو واستشهد هنالك، وكان ذلك في سنة 4 للهجرة.
والصحابي الثاني الذي أريد ذكره هو حاطب بن أبي بلتعة الذي كان من قبيلة لخم حليف بني أسد. كان يكنى بأبي عبد الله وقيل أنه كان يكنى بأبي محمد. كان حاطب من اليمن.
عن عاصم بن عمر قال: لما هاجر حاطب بن أبي بلتعة مع مولاه سعد من مكة إلى المدينة فنـزلا على المنذر بن محمد بن عقبة، وآخى النبي ﷺ بينه وبين رخيلة بن خالد وفي رواية آخى النبي ﷺ بينه وبين عويم بن ساعدة. وشهد حاطب بدرًا وأُحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وكان حاطب من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان حاطب بن أبي بلتعة أحد فرسان قريش في الجاهلية وشعرائها. وقيل كان مولى عبيد الله بن حميد فكاتبه فأدى مكاتبته يوم فتح مكة.
تروي أم سلمة أنه ولما أرسل رسول الله ﷺ يخطبها بعد وفاة زوجها فقد أرسل ذلك مع حاطب بن أبي بلتعة.
ورد في إحدى الروايات أن أنس بن مالك سمع حاطب بن أبي بلتعة يقول: إنه طلع على النبي ﷺ وهو يشتد وفي يد علي بن أبي طالب الترس فيه ماء ورسول الله ﷺ يغسل وجهه من ذلك الماء، فقال له حاطب: من فعل بك هذا؟ قال: عتبة بن أبي وقاص هشم وجهي بحجر رماني. يقول حاطب: قلت: إني سمعت صائحًا يصيح على الجبل قُتل محمد فأتيت وكأن قد ذهب روحي. سأل حاطب: أين توجه عتبة؟ فأشار إلى حيث توجّه فمضى حاطب إليه حتى ظفر به لأنه كان مختفيًا هناك فضربه بالسيف فطرح رأسه، ثم أخذ رأسه وسلبه وفرسه وجاء بها إلى النبي ﷺ فسلّم ﷺ ذلك إلى حاطب ودعا له فقال مرتين: رضي الله عنك رضي الله عنك.
مات حاطب بن أبي بلتعة في سنة ثلاثين من الهجرة وله خمس وستون سنة وصلّی عليه عثمان ؓ. وكان حاطب ممن حمل رسائل النبي إلى الملوك، إذ حمل رسالته إلى المقوقس عظيم القبط. يقول حضرة مرزا بشير أحمد ؓ كانت الرسالة التي حملها حاطب من النبي إلى المقوقس هي الثالثة من الرسائل التي بُعثت إلى الملوك.
ويقول الخليفة الثاني ؓ أنها كانت الرسالة الرابعة. على أية حال، الرسائل التي بُعثت إلى الملوك لتبليغهم دعوة الإسلام كانت ضمنها رسالة موجّهة إلى المقوقس والي مصر الذي كان عاملا لقيصر على مصر والإسكندرية، وكان حاكما بالوراثة ويدين بالمسيحية مثل قيصر، واسم المقوقس هو جريج بن مينا وكان هو ورعيته أقباطا. أرسل النبي ﷺ رسالته هذه مع صحابيه حاطب بن أبي بلتعة وجاء فيها:
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ. مِنْ مُحَمّدٍ عَبْدِ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى أَمّا بَعْدُ فَإِنّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللّهُ أَجْرَكَ مَرّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلّيْت فَإِنّ عَلَيْكَ إثْمَ الْقِبْطِ. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلا اللّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ.
هذا كان نص الرسالة التي أرسلها النبي ﷺ إلى المقوقس. فلَمّا دَخَلَ حاطبٌ على المقوقس وقدّم رسالة النبي ﷺ إليه قرأها وقَالَ مخاطبا حاطبا بشيء من المزاح بما مفاده: أخبِرني عن صاحبك أليس نبيا؟ فما له حيث كان هكذا لم يدعُ الله علي ليسلطه عليّ بدلا من إرسال هذه الرسالة؟ قال حاطب: إذا كان اعتراضك هذا في محله فإنه نفسه يقع على عيسى ؏ أيضا، إذ لماذا لم يدعُ على هذا النحو على معارضيه؟ ثم قال حاطب ناصحا المقوقسَ بما مفاده: عليك أن تفكر بجدية في أنّهُ كَانَ قَبْلَك رَجُلٌ في بلدك هذا أي في مصر وهو فرعون يَزْعُمُ أَنّهُ الرّبّ الْأَعْلَى والحاكم الأعلى في العالم، فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالْأُولَى، فأنصحك نصيحة مخلصة أن تعتبِر بغيرك ولا تكن ممن يعتبر به الآخرون. عندما رأى المقوقس أنه يتكلم بشجاعة هكذا قال: إنّ لَنَا دِينًا لَنْ نَدَعَهُ إلّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ (أي لن أترك المسيحية) فَقَالَ حَاطِبٌ ؓ: نَدْعُوك إلَى دِينِ اللّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْكَافِي بِهِ اللّهُ فَقْدَ مَا سِوَاهُ، وهو الدين الأخير الذي اجتمعت فيه الأديان كلها، دون أن يمنعكم من الإيمان بالمسيح الناصري، بل يأمر بالإيمان بالأنبياء السابقين كلّهم، وكما بشّر موسى بعيسى كذلك بشّر عيسى ؏ بنبينا ﷺ. فأطرَقَ المقوقس هنيهة مفكّرا في الموضوع. ثم قال في مجلس آخر ضم كبار القساوسة مخاطبا حاطبا بما مفاده: فما له لم يدعُ على قومه حيث أخرجوه من بلدته ليهلك مخرجوه ويعيش هو في أمن وسلام؟ سمع حاطب ذلك وقال له: إن نبينا قد أُخرج من وطنه فقط أما مسيحكم فقد أراد قومه صلبه ولكنه لم يدعُ عليهم ولم يقدر على إهلاكهم بالدعاء. فقال المقوقس متأثرا بهذا الجواب: أنت حكيم جئتَ من عند حكيم. ثم قال: إنّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ هَذَا النّبِيّ فَوَجَدْتُهُ لَا يَأْمُرُ بِمَزْهُودٍ فِيهِ وَلَا يَنْهَى عَنْ مَرْغُوبٍ فِيهِ، ثم جعل رسالة النبي ﷺ فِي حُقّ مِنْ عَاجٍ وَخَتَمَ عَلَيْهِ وَدَفَعَهُ إلَى جَارِيَةٍ لَهُ.
باختصار، أبدى المقوقس إكراما لائقا لرسالة النبي ﷺ، ثُمّ دَعَا كَاتِبًا لَهُ يَكْتُبُ بِالْعَرَبِيّةِ فَكَتَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ﷺ: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ لِمُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ مِنَ الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ سَلَامٌ عَلَيْك. أَمّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَك وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنّ نَبِيّا بَقِيَ وَكُنْتُ أَظُنّ أَنّهُ يَخْرُجُ بِالشّام وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَك وَبَعَثْتُ إلَيْك بِجَارِيَتَيْنِ لَهُمَا مَكَانٌ فِي الْقِبْطِ عَظِيمٌ وَبِكِسْوَةٍ وَأَهْدَيْتُ إلَيْك بَغْلَةً لِتَرْكَبَهَا وَالسّلَامُ عَلَيْك. ووضع توقيعه.
يتضح من هذه الرسالة أن مقوقس مصرَ عامَل رسول رسولِ الله ﷺ بالحسنى وأظهر إلى حد ما اهتماما بدعوته ﷺ ولكنه لم يُسلم. يثبت من روايات أخرى أنه مات على المسيحية. ويتبين من حديثه أنه كان مهتما بأمور الدين ولكن لم تكن لديه الجدية المطلوبة لهذا الأمر لذا فقد أعرض عن دعوة النبي ﷺ على الرغم من إظهاره الإكرام والحفاوة تجاهها. الجاريتان اللتان أرسلهما المقوقس كانت إحداهما “مارية” والأخرى “سيرين” وهما أختان من الأقباط كما قال المقوقس في رسالته، علمًا أن المقوقس أيضا كان من القوم نفسه. هاتان الجاريتان لم تكونا من عامة الناس بل كان لَهُمَا مَكَانٌ فِي الْقِبْطِ كما جاء في رسالة المقوقس.
لقد كتب حضرة مرزا بشير أحمد ؓ: يبدو أنه في المصريين كانت عادة قديمة أنهم إذا كانوا يريدون إنشاء العلاقات بالضيوف الكرام وتطويرها قدموا إليهم البنات النبيلات من عائلتهم أو من قومهم للزواج. فحين ذهب سيدنا إبراهيم ؏ إلى مصر قدم إليه أيضا زعيمُ مصر ابنة شريفة للزواج وهي السيدة هاجر التي صارت أمًّا للقبائل العربية الكثيرة إذ ولدت سيدنا إسماعيل ؏. على كل حال عند وصول هاتين البنتين من المقوقس إلى المدينة اصطفى النبي ﷺ السيدة مارية القبطية لنفسه، وقدم أختها سيرين للشاعر المشهور من العرب حضرة حسان بن ثابت.
مارية هذه هي السيدة المباركة التي أنجبت نجل النبي ﷺ حضرة إبراهيم الذي كان المولود الوحيد للنبي في عصر النبوة، والجدير بالذكر أيضا أن هاتين البنتين كانتا قد أسلمتا كلتاهما حتى قبل وصولهما إلى المدينة بدعوة سيدنا حاطب بن أبي بلتعة، والبغلة التي أرسلها المقوقس إلى النبي ﷺ كانت بيضاء، وكان النبي ﷺ يستخدمها للركوب عادة، وكان يركبها في غزوة حنين أيضا. لقد كتب المصلح الموعود ؓ أمرا إضافيا عن الرسالة التي أُرسلتْ إلى المقوقس، فقال: هذه الرسالة تماثل الرسالة التي أرسلت إلى قيصر الروم، فالكلمات تقريبا نفسها وإنما الفرق أن في الرسالة إلى قيصر ورد إن لم تؤمن فسيكون إثم رعيتك الرومان على عاتقك، وفي هذه الرسالة ورد أن إثم الأقباط سيكون على عاتقك.
عندما وصل حاطب ؓ إلى مصر، لم يجد المقوقس في العاصمة، فتبعه إلى الإسكندرية حيث كان له بلاط قريب من البحر. ذهب حاطب على قارب، وكان القصر مدجّجًا بالحرس، عند ذلك رفع حاطب يده بالكتاب على مقربة منهم وأخذ ينادي بصوت عال، فأمر المقوقس أن يُدنوه إليه.
ثم كتب حضرته أن حاطبا قال للمقوقس أيضا: بالله ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فلكل نبيّ أمّته. فمن واجبهم أن يطيعوه. ولما كنت قد أدركت هذا الرسول الذي بعثه الله إلى العالم كله فمن واجبك أن تؤمن به، ودِينُنا لا ينهاك عن اتباع المسيح وليس ذلك فحسب بل نأمر الآخرين أيضا أن يؤمنوا بالمسيح.
(فهؤلاء كانوا يؤدون واجب التبليغ بجرأة وحكمة كبيرة ولم يكونوا يخافون في سبيل ذلك أي حاكم أو والٍ أو ملك)
ثم هناك حادث إرسال رسالة إلى أهل مكة بيد امرأة، وكان مرسلها حاطب بن أبي بلتعة، وكان أخبرهم بخروج النبي ﷺ إليهم، فقد ورد في الروايات أن النبي ﷺ حين انطلق بجيش لفتح مكة أرسل الصحابي حاطب بن أبي بلتعة ؓ رسالة إلى قريش بيد امرأة، وقد أورد الإمام البخاري هذه الواقعة في سياق تفسير الآية ]لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ[ وكتب: عن علي ؓ يَقُولُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوا مِنْهَا. قَالَ فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ. قُلْنَا لَهَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ قَالَتْ مَا مَعِي كِتَابٌ فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ قَالَ فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَا حَاطِبُ مَا هَذَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ يَقُولُ كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي. وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ (لست كافرا ولا مرتدا، ولست منافقا أيضا) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ.
يقول حضرة ولي الله شاه ؓ في شرح حديث آخر من البخاري: في حديث آخر وُصفت تلك المرأة بالمشركة والذين بُعثوا خلفها كانوا سيدنا علي وأبو مرثد الغنوي والزبير ؓ كما ورد أنها كانت تركب الجمل. وعن إخفاء الرسالة ورد أنها حين لاحظت أنهم جادّون مالت إلى إزارها وأخرجتْ لهم الرسالة، فجيء بتلك المرأة إلى رسول الله ﷺ.
قال عمر ؓ (بحق حاطب ؓ) إنه خان الله ورسوله والمؤمنين، فاسمحْ لي يا رسول الله أن أضرب عنقه، فقال أوليس ممن شهدروا بدرا، أي حاطب بن أبي بلتعة، لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فقد وجبت لكم الجنة، أو قال قد سترتكم وغفرت لكم. وبسماع ذلك دمعت عينا عمر ؓ وقال: الله ورسوله أعلم.
أرسل سيدنا أبو بكر ؓ أيضا حاطب ؓ إلى المقوقس بمصر وكتب اتفاقيةً دامت بين الطرفين حتى فتح عمرو بن العاص مصرَ، وكانت اتفاقية سلام. ورد عن حاطب ؓ أنه كان رجلًا حسن الجسم، خفيف اللحية، أجنأ به حَدْب، يميل إلى القِصَرْ، غليظ الأصابع.
عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: تَرَكَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعَةَ آلافِ دِينَارٍ وَدَرَاهِمَ وَدَارًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَكَانَ تَاجِرًا يَبِيعُ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ. وَلِحَاطِبٍ بَقِيَّةٌ بِالْمَدِينَةِ.
عن جابر ؓ أن مولى حاطب جاء إلى الرسول ﷺ وقال يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار، لعل حاطبا عاتبه، فقال رسول الله ﷺ: لقد كذبتَ فإنه لن يدخل النار لأنه شهد بدرا وبيعة الرضوان.
كان حاطب تاجرا كما ذكرتُ، وكان يبيع بضاعته في السوق. قال المصلح الموعود ؓ وهو يتحدث عن تعليم الإسلام في البيع وتحديد الأسعار: منذ زمن النبي ﷺ كانت للحكومة الإسلامية سلطة على الأسعار في المدينة، أي كانت الحكومة الإسلامية تحدِّد الأسعار، ورد في الأحاديث أن عمر ؓ ذات مرة كان يمشي في السوق فمرّ بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عمر ؓ عن سعرهما، فسَعَّر له مدّين لكل درهم، وهذا السعر كان أقل من سعر السوق، فقال له عمر ؓ: إما أن ترفع السعر، وإما أن تدخل زبيبك البيت تبيعه كيف شئت، لأن هذا السعر قليل جدا ويُخِلُّ بسعرَ السوق، وسوف يسيء الناسُ الظن بأصحاب السوق، لأنهم سيقولون إن أصحاب السوق يستغلوننا ويأخذون منا ثمنا أكثر. كتب المصلح الموعود ؓ أن الفقهاء بحثوا في هذا الأمر كثيرا، فقال البعض أن عمر ؓ كان قد تراجع عن هذا الرأي ولكن الواقع أن الفقهاء عموما سلّموا برأْي عمر ؓ هذا كأصل يجب العمل به، وكتبوا أن من واجب الحكومة الإسلامية تحديد أسعار السوق وإلا تأثرت أخلاق القوم وأمانتهم. ويجب التذكر أن الحديث هنا عن الأشياء التي تُحضر إلى السوق وتُباع علنًا وأما الأشياء التي لا تُحضَر إلى السوق فلها طابع فردي، وهي لا تُبحث هنا، والأشياء التي تُحضر إلى السوق وتُباع فلها يأمر الأسلام بشكل واضح بتحديد أسعارها، لكي لا يتمكن أي تاجر من أن يتلاعب بها، فكتب الفقهاء بعض الآثار والأحاديث التي تؤيد هذا الموقف.
ومن واجبات الحكومة الإسلامية تهيئة المراتع وحفر الآبار فيها تحت نظام الحكم. ولهذا أيضا استخدم النبي ﷺ حاطبا ؓ. يُروى أن النبي ﷺ عند عودته من غزوة بني المصطلق مرّ بالنقيع فرأى سعة وكلأ وغدرا كثيرة، كانت منطقة واسعة وكان ماؤها أيضا طيبا، فسأل ﷺ عن ماء الغدر فقيل: يا رسول الله، إذا صفنا قلّت المياه وذهبت الغدر، فأمر رسول الله ﷺ حاطب بن أبي بلتعة أن يحفر بئرًا، وأمر بالنقيع أن يحمى، أي سيكون هذا الحمى تحت نظام الحكم، واستعمل عليه بلال بن الحارث المزني، فقال بلال: يا رسول الله، وكم أحمي منه؟ (لأن المنطقة كانت واسعة جدا فسأل كم منها أحمي؟) قال ﷺ: أقم رجلًا صيتًا إذا طلع الفجر على هذا الجبل (لأن الصوت في ظلام الليل يبلغ بعيدا جدا، فقال:) أقم رجلًا صيتًا إذا طلع الفجر على هذا الجبل – وهو جبل صغير يُسمى مقملًا – فحيث انتهى صوته فاحمه لخيل المسلمين وإبلهم التي يغزون عليها. (كان هذا أيضا طريق لتحديد الحدود ولم يحدِّد بالأقدام والأميال، بل أمر بإقامة رجال في نهاية كل زاويةٍ يصلها الصوتُ، وهي تكون الحدود لهذا الحمى، وسيكون هذا الحمى لخيل المسلمين وإبلهم التي يغزون عليها، وهذا بيت المال وحمى حكومي ترتع فيه خيل المجاهدين وإبلهم.)
قال بلال: يا رسول الله! أفرأيت ما كان من سوائم المسلمين؟ (أي ترتع فيه دواب المسلمين العامة أيضا في المراعي المفتوحة فماذا تأمر بشأنها) فقال ﷺ: لا يدخلها. (لأن هذا الحمى إنما لأولئك الناس الذين يُربّون إبلهم وخيلهم للجهاد) قال بلال: يا رسول الله، أرأيت المرأة والرجل الضعيف تكون له الماشية اليسيرة وهو يضعف عن التحول؟ (أيْ هناك قلة قليلة من الفقراء الذين يربون الماشية اليسيرة ويصعب عليهم حتى الذهاب باللبن إلى أيِّ مكان كما لا يستطيعون الذهاب إلى مكان آخر لأنهم ضعفاء ومسنّون ونساء) قال ﷺ: دعه يرعى. (أي يُسمح لمواشي الفقراء والمحتاجين والضعفاء أن ترتع في حمى حكومي، والأصل أن الملك الحكومي لا بد أن يُستخدم للأهداف الحكومية ولكن الفقراء يستطيعون أن يتشاركوه من أجل الحاجة الشخصية أيضا.)
كتب صاحب “سيرة الصحابة” عن أخلاق حاطب بن أبي بلتعة ؓ أنه كان من مزاياه الوفاء والإحسان والصدق والسداد، وكان ؓ يهتم بأحبابه وأقاربه للغاية، والكتاب الذي أرسله إلى مشركي مكة بمناسبة فتح مكة كان من دافع الاهتمام بالأقارب. لذا راعى رسول الله ﷺ أيضا نيته الصالحة وصدقه وعفا عنه.
ندعو الله تعالى أن يجعلنا متحلين بمزايا هؤلاء الصحابة العظيمة ويرفع درجاتهم، آمين.