خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 24/08/2018
في مسجد بيت الفتوح بلندن
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين، آمين.
ومن صحابة الرسول ﷺ عاصم بن ثابت ؓ، كان والده ثابت بن قيس ووالدته الشموس بنت أبي عامر. آخى النبي ﷺ بينه وبين عبد الله بن جحش ؓ، وكان عاصم بن ثابت ممن ثبتوا مع النبي ﷺ يوم أحد، بايع النبيَّ ﷺ على الموت، وكان من الرماة الذين عينهم النبي ﷺ يوم أحد، وكان من قبيلة الأوس وشهد بدرا أيضا.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُونَ الْقَوْمَ إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ؟، فَقَامَ عَاصِمُ بن ثَابِتٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَا كَانَ الْقَوْمُ مِنَّا حَيْثُ يَنَالُهُمُ النَّبْلُ، كَانَتِ الْمُرَاةُ بِالنَّبْلِ، فَإِذَا اقْتَرَبُوا حَتَّى يَنَالَنَا وَإِيَّاهُمُ الْحِجَارَةُ، كَانَتِ الْمُرَاضَخَةُ بِالْحِجَارَةِ، فَأَخَذَ ثَلاثَةَ أَحْجَارٍ فِي يَدَهِ وحَجَرَيْنِ فِي حِزْمَتِهِ، فَإِذَا اقْتَرَبُوا حَتَّى يَنَالَنَا وَإِيَّاهُمُ الرَّمَّاحُ، كَانَتِ الْمُدَاعَسَةُ بِالرِّمَاحِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الرِّمَاحُ، كَانَتِ الْجِلادُ بِالسُّيُوفِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: بِهَذَا أُنْزِلَتِ الْحَرْبُ، مَنْ قَاتَلَ فلْيُقَاتِلْ قِتَالَ عَاصِمٍ. (المعجم الكبير للطبراني)
كان القتال في ذلك الزمن بالرماح والنبال والسيوف بل كانت الأحجار أيضا تُستخدم في القتال، ولم يكن كقتال اليوم الذي يُقصَف فيه المواطنون الأبرياء ويُقتَل الأطفال، كتب شخص غير مسلم كتابا ذكر فيه حروب النبي ﷺ فقال: إنكم تتهمون محمدا ﷺ بأنه قام بحروب، ولم يُقتَل في حروبه إلا بضع مئات أو بضعة آلاف من الناس، ولكنكم، وعلى الرغم من أنكم تحسبون أنفسكم متحضرين ومواسي البشرية، قد قتلتم أكثر من سبعين مليون شخص في حرب واحدة (يشير إلى الحرب العالمية الثانية) وكان معظمهم مدنيين. ولكن للأسف يقلِّدهم اليوم المسلمون ويقتل بعضهم البعض بلا تمييز، وبدلا من أن يحاربوا حين يهاجمهم العدو ويقترب منهم، كما ورد في الحديث أن يحاربوهم بأساليب مختلفة، فإنهم يتبادرون الهجوم ويقتلون الأبرياء.
وفي رواية: جاء علي بن أبي طالب بسيفه يوم أحد قد انحنى فقال لفاطمة: هاك السيف حميدا فانها قد شفتني، فقال رسول الله ﷺ: “لئن كنت أجدت الضرب بسيفك لقد أجاده سهل بن حنيف وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة”.
وفي رواية: أَمّنَ رَسُولُ اللّهِ ﷺ مِن الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ أَبَا عَزّةَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللّهِ… وَكَانَ شَاعِرًا، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللّهِ ﷺ، وَقَالَ لِي خَمْسُ بَنَاتٍ لَيْسَ لَهُنّ شَيْءٌ فَتَصَدّقْ بِي عَلَيْهِنّ يَا مُحَمّدُ. فَفَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ﷺ. وَقَالَ أَبُو عَزّةَ أُعْطِيك مَوْثِقًا لا أُقَاتِلُك وَلَا أُكْثِرُ عَلَيْك أَبَدًا. فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللّهِ ﷺ. فَلَمّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إلَى أُحُدٍ جَاءَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فَقَالَ اُخْرُجْ مَعَنَا فَقَالَ إنّي قَدْ أَعْطَيْت مُحَمّدًا مَوْثِقًا أَلّا أُقَاتِلَهُ وَلَا أُكْثِرَ عَلَيْهِ أَبَدًا، وَقَدْ مَنّ عَلَيّ وَلَمْ يَمُنّ عَلَى غَيْرِي… فَضَمِنَ صَفْوَانُ أَنْ يَجْعَلَ بَنَاتَه مَعَ بَنَاتِهِ إنْ قُتِلَ وَإِنْ عَاشَ أَعْطَاهُ مَالًا كَثِيرًا لَا يَأْكُلُهُ عِيَالُهُ. فَخَرَجَ أَبُو عَزّةَ يَدْعُو الْعَرَبَ وَيَحْشُرُهَا، (أي لم يخرج للقتال هو فقط بل حرض القبائل أيضا للقتال ضد المسلمين) ثُمّ خَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأُسِرَ وَلَمْ يُوسَرْ غَيْرُهُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ يَا مُحَمّدُ إنّمَا خَرَجْت مُكْرَهًا، وَلِي بَنَاتٌ فَامْنُنْ عَلَيّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ﷺ: أَيْنَ مَا أَعْطَيْتنِي مِنْ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ؟ لَا وَاَللّهِ لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْك بِمَكّةَ تَقُولُ سَخِرْت بِمُحَمّدٍ مَرّتَيْنِ.
وفي رواية أخرى أن النبي ﷺ قال: إِنّ الْمُؤْمِنَ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرّتَيْنِ، يَا عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ قَدّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَدّمَهُ عَاصِمٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
إذًا، عندما يعاقَب أحد من هؤلاء الظالمين وناقضي العهود يعترض المعترضون على النبي ﷺ أنه ارتكب الظلم والعياذ بالله، فالسياسي الهولندي فلدرز الذي يكثف الاعتراضات على النبي ﷺ في هذه الأيام إذا أرانا مثل هذه النماذج للعفو في بلاده أيضا فسوف نرى أنه محق في اعتراضه لحد ما، لكنه لن يتمكن من ذلك.
لقد ذكر حضرة مرزا بشير أحمد ؓ في كتابه سيرة خاتم النبيين حضرةَ عاصم ؓ وحادث الرجيع فقال: لقد شكَّل النبي ﷺ فريقا من صحابته في شهر صَفَر من العام الهجري الرابع، قوامه عشرة أشخاص وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت ؓ، وأمَرهم باستطلاع أوضاع قريش سرًّا قريبا من مكة، وأن يُطلعوا حضرته ﷺ على أعمالهم. لكنه قبل انطلاق هذا الفريق جاء إلى حضرته أشخاص من عضل وقارة وقالوا له: كثيرون من أفراد قبيلتينا مائلون إلى الإسلام، فأرسلْ معنا عددا من الرجال لجعلنا مسلمين ولكي يعلِّمونا الإسلام. ففرح النبي ﷺ كثيرا برغبتهم هذه وأرسل معهم الفريق نفسه. ولاحقا تبين أنهم كانوا كاذبين وكانوا أتوا إلى المدينة بإغراء بني لحيان، وكانت مكيدة منهم لأخذ ثأر رئيسهم سفيان بن خالد أنه بهذا سيخرج المسلمون وسوف يقتلونهم، ولتنفيذ هذه الخطة أغروا رجال عضل وقارة بكثير من الإبل جائزةً مقابل هذه المهمة.
فحين وصلوا بين عسفان ومكة، ذكر أولئك الغدارون لبني لحيان سرًّا، أن المسلمين قادمون معنا فتعالوا لقتلهم، فخرج منهم مائتا شابٍّ فيهم مائة رام، لإصابة المسلمين فأدركوهم في موضع الرجيع. كيف لعشرة أشخاص أن يقاوموا مائتي جندي؟! إلا أن المسلمين لم يتعلموا الاستسلام، لذا لجأوا فورا إلى جبل وتجهزوا للقتال، والكفار الذين لا يجدون أي عيب في الخداع قالوا: انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدًا. فقال عاصم بن ثابت نحن لا نثق بعهدكم وميثاقكم، ولن ننـزل في ذمتكم، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم أنت ترى ما أصابنا فأخبرْ عنا نبيك. باختصار قاتل عاصم وأصحابه فاستُشهدوا.
يتابع حضرته ويقول: في سياق حادث الرجيع هذا هناك رواية أن قريشا حين اطلعوا على أن عاصم بن ثابت ؓ أيضا كان من الذين قتَلهم بنو لحيان، فبما أن عاصما كان قد قتل زعيما كبيرا لقريش لذا قد أرسلوا رجالهم إلى الرجيع وأوصَوهم بإحضار رأس عاصم أو عضوٍ من جسمه لكي يطمئنوا وتخمد عاطفة انتقامهم.
وفي رواية أن أمَّ الذي كان قتَله عاصمٌ سلافةُ بنت سعد كانت قد نذرت أن تشرب الخمر في قحف رأس قاتل ابنها، فلما وصل هؤلاء الرجال إلى هناك فإذا الدَّبْر (الدبابير) الكثير يجتمع على جثمان عاصم ولا يكاد يبارحه بأي طريقة ممكنة، فقد حاولوا كثيرا لصرفه ولم ينجحوا فعادوا خائبين فاشلين، ثم بعث الله عليه سيلاً فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه. وفي رواية أن عاصمًا كان قد نذر عند إسلامه ألا يمس مشركًا ولا يمسه مشركٌ تنجسًا به. وحين علِم سيدنا عمر ؓ بهذا الحادث قال كيف يراعي الله ﷻ عواطف عباده فقد أبرَّ نذر عاصم حتى بعد وفاته، حيث حماه من مسّ المشركين. فكان يسمى حميَّ الدَّبْر أيضا، حيث كان الله قد بعث الدبر لحماية جثمانه. لقد قنت النبي ﷺ مدة شهر تقريبا بعد شهادة عاصم وأصحابه ؓ في صلاة الفجر، حيث لعن رعل وذكوان وبني لحيان.
وفي رواية أن عاصما ؓ كان يرمي العدو ويقرأ الشعر:
الموت حقٌّ والحياة باطل
وكل ما حمَّ الإله نازل … بالمرء والمرء إليه آثل
فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، فطاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، فأخرج سيفه وقاتل حتى قتل.
الصحابي الثاني الذي أذكره اليوم هو سيدنا سهل بن حُنَيف الأنصاري، وكانت هند ابنة رافع والدته، وكان له أخَوان من أمّه هما عبد الله ونعمان. وأبناؤه أسد وعثمان وسعد. أولاد سيدنا سهل أقاموا في المدينة وبغداد. كان النبي ﷺ قد آخى بينه وبين علي ؓ، ولقد شارك النبيَّ ﷺ في بدر وسائر الغزوات. كان صحابيا عظيما ولم يكن وضعه الاقتصادي جيدا. عن ابن عيينه أنه سمع الزهري يقول أن النبي ﷺ لم يعط من أموال بني النضير أيًّا من الأنصار سوى حضرة سهل بن حنيف وحضرة أبي دجانة رضي الله عنهما لأنهما كانا فقيرين.
قال ابن إسحاق: أقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدَّى عن رسول الله ﷺ الودائع التي كانت عنده، ثم لحق برسول الله ﷺ فنزل معه على كلثوم بن الهدم. فكان علي بن أبي طالب إنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين.
يقول: كانت بقباء امرأةٌ لا زوجَ لها مسلمة، فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه، فاسترَبتُ بشأنه فقلت لها يا أَمة الله، مَن هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوجَ لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف.
وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا. فكان عليٌّ ؓ يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق. وهكذا كان يسعى لمحو الشرك من قومه.
كان حضرة سهل من عظماء الصحابة الذين ثبتوا يوم أُحد وبايعوا النبي ﷺ على الموت، فقد ثبت أمام النبي ﷺ كالـجُنة، وحين تشتت المسلمون إثر الهجوم الشديد من العدو أطلق النبال من النبي ﷺ، فقال النبيُّ ﷺ: نبِّلوا سهلا فإنه سهل.
ثم في رواية أن غزولا كان راميا خبيرا من اليهود حيث كان سهمه يصل إلى مكان لا يصل إليه سهام الآخرين. في أيام حصار بني النضير كانت خيمة قد أُعدَّت للنبي ﷺ فرمى غزول سهمًا وصل إلى تلك الخيمة، فأمر النبي ﷺ بتغيير مكان الخيمة، ففعلوا ذلك. ثم خرج علي ؓ يترصد بغزول وكان يخرج مع جماعة لقتل سيد مسلم، فقتلَه علي ؓ وقدم رأسه للنبي ﷺ. والذين كانوا معه قد هربوا وأرسل النبي ﷺ كتيبة قوامها عشرة أشخاص بقيادة علي ؓ لملاحقتهم فأصابوهم وقتلوهم وذلك لأنهم كانوا قد خرجوا قصد القتال سرا. وكان حضرة أبي دجانة وحضرة سهل بن حنيف أيضا من هذه الكتيبة. فلم يكن يمضي أي يوم بهدوء وسكينة، حيث كان العدو كل يوم بالمرصاد، فهؤلاء الأعداء كانوا يستحقون هذه المعاملة حصرا.
بعد فتح خيبر توجَّه النبي ﷺ إلى وادي القرى فلما نزل جيشُ النبي ﷺ بوادي القرى كان اليهود مستعدين سلفا للقتال، فاستقبلوا المسلمين بالرماح، وغلام النبي ﷺ مُدَعَّمٌ كان يُنـزل الهودج وغيره من راحلة النبي ﷺ إذ أصابه سهم فمات. أَمر النبي ﷺ فورا بتسوية الصفوف، وسلَّم اللواء إلى سعد بن عبادة، وقدم أحد الأعلام لخباب بن المنذر والثاني لسهل بن حنيف والثالث لعباد بن بِشر ؓ. بعد هذا القتال صارت المنطقة كلها تحت سيطرة المسلمين وهيأ الله ﷻ أموالا كثيرة في هذا القتال. أقام النبي ﷺ هناك أربعة أيام، ووزع الغنائم على الصحابة، وترك الأرض والبساتين لليهود، والملاحَظ أنه ﷺ ترك الأرض والبساتين لليهود حتى بعد الانتصار عليهم، وهذا أيضًا أسمى مثال للإحسان إلى العدو حيث بقي اليهود مالكي الأرض والبساتين، إنما جَعل عليهم عاملا من عنده لأخذ الضرائب. فلو كان النبي ﷺ استولى على أموال العدو وعقاره لما كان محل اعتراض بحسب العادة السائدة في ذلك العصر. لكنه ﷺ أحسن إليهم.
يقول حضرة مرزا بشير أحمد ؓ في كتابه سيرة خاتم النبيين، حين فُتحت الشام وخضع المسيحيون هناك للحكم الإسلامي، فذات يوم كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد رضي الله عنهما يجلسان في موضع بالقادسية، فمرَّت بهما جنازةُ مسيحي، فقاما إكراما لها، فتعجّب من ذلك شخصٌ لم يحظ بصحبة الرسول ﷺ ولم يكن يعرف الأخلاق الإسلامية، وقال لسهل وقيس: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَا: هذه سنة النبي ﷺ أنه كلما مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ قَامَ. وكان يقول: أَلَيْسَتْ نَفْسًا خلقها الله؟ هذا هو الطريق لاحترام الإنسانية ولمحو الكراهية بين الأديان، وعلّمه النبي ﷺ بأسوته الحسنة وتأسّى به الصحابة أيضا.
عن أَبي وَائِلٍ قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ ؓ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ فَقَالَ: بَلَى. فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ، قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ ﷺ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا. فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ؓ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أَبَدًا. ثم ورد في صحيح البخاري نفسه: فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ ﷺ: نَعَمْ. (صحيح البخاري)
كتب السيد سيد ولي الله شاه ؓ في شرح هذا الحديث: صفين موضع بين العراق والشام حيث وقعت الحرب بين علي ؓ ومعاوية ؓ، وحين شعر جيش معاوية أنهم خاسرون رفعوا المصاحف وقالوا: القرآن الكريم يحكم بيننا، فتوقّفت الحربُ، وأعلن حضرة علي ؓ الهدنة، فاعترض البعض على ذلك، وكان سهل بن حنيف ؓ في جيش علي ؓ، فقال لهم سهل: اتهموا أنفسكم، أي لا تحسبوا رأيكم صائبا لأن عمر ؓ منْ قبلُ قد أخطأ في رأيه يوم الحديبية ولكن الأحداث فيما بعد أثبتت أن الله تعالى بارَك في استقامة النبي ﷺ وإيفاء عهده وحفِظَه من الخطر، فالأمر الذي كان يحسبه الناسُ ضعفًا وذلةً جعله الله سببا للقوة والعزة، وحافظ النبي ﷺ على كل صغيرة وكبيرة في المعاهدة. وأما هنا (في صفين) فكان خداع ولم تظهر النتائج مثل الحديبية ولكن يجب على المؤمن أن يُحسن الظن دوما وإذا دُعي إلى عقد معاهدة الصلح باسم الله تعالى فعليه أن يعقدها مراعيا كل الأمور، وهذه هي مزية المؤمن، ولكن يجب ألا ينخدع مرة ثانية. وفي الحديبية كان الله تعالى قد أخبر الرسول ﷺ، فقال سهل ؓ ما دمنا نُدعى إلى الصلح والهدنة فلا بد أن نستجيب واضعين أمامنا حادث صلح الحديبية.
عن سهل بن حنيف ؓ قال أن رسول الله ﷺ قال له: أنت رسولي إلى أهل مكة، قال: إن رسول الله ﷺ أرسلني، يقرأ السلام عليكم، ويأمركم بثلاث: لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ (الحلف بالآباء ممنوع وإثم) وإذا تخلّيتم فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، (أي يجب عند قضاء الحاجة التوجه شمالا أو جنوبا،) ولا تستنجوا بعظم ولا ببعرة. (وفيه حكمة عظيمة لأن فيهما بكتيريا كثيرة تؤدي إلى عدوى. تُستخدم اليوم المحارم أو الماء ولكن في تلك الأيام كانت الأحجار أو العظام تُستَخدم في البراري ومنع النبي ﷺ من استخدام العظم من أجل ذلك).
وكما ذكرتُ في ذكر علي ﷺ أنه قال يوم أحد عن سيفه: لقد أحسنتُ به الضرب اليوم، فقال رسول الله ﷺ: “إن كنتَ أحسنت به القتال فقد أحسنه عاصم بن ثابت وسهل بن حنيف”.
حين بويع علي ؓ كان سهل ؓ في صحبته وحين خرج علي ؓ إلى البصرة ولّى سهلا على المدينة، وشهد سهل وقعة صفين مع علي، ثم استخلفه علي ؓ على بلاد فارس فأخرجه أهلها، فاستعمل علي ؓ زياد بن أبيه فرضوه وأدّوا الخراج. (لم يُخرجوه لفعل سيئة بل لكل إنسان طبيعة وخصوصية، فاستطاع زياد أن يضبط أهل فارس بأسلوب أحسن ورضوه وأدوا الخراج أيضا.)
توفي سهل بن حنيف سنة 38 هـ بالكوفة بعد العودة من صفين، وصلى عليه علي ؓ صلاة الجنازة، عن حنش بن المعتمر قال: لما توفي سهل بن حنيف أتى به علي في الرحبة، فكبر عليه ست تكبيرات، فكان بعض القوم أنكر ذلك، فقال: إنه بدري. فلمّا انتهى إلى الجبّانَة لحقنا قَرَظَة بن كعب في نفر من أصحابه فقال لعلي ؓ: يا أمير المؤمنين لم نشهد الصّلاة عليه، فسمح لهم علي بالصلاة عليه، فصلّوا عليه وكان إمامهم قَرَظَة.
الصحابي الثالث الذي سأتناول ذكره هو جبار بن صخر ؓ، كان ابنَ صخر بن أمية، وشهد بيعة العقبة الثانية مع سبعين صحابيا، وأخى النبي ﷺ بينه وبين المقداد بن عمرو، كان ابن 32 عاما يوم بدر، كان النبي ﷺ يبعثه خارصا على أهل خيبر وغيرهم، والخارص مَن قَدَّرَ تَقْدِيرًا جِزَافِيًّا مَا عَلَى النخل مِنَ التَّمْرِ. تُوفي سنة ثلاثين في خلافة عثمان ؓ وهو ابن اثنتين وستين سنة. شهد جبار مع النبي ﷺ بدرا وأحدا والخندق والغزوات كلها.
عَنْ جَبَّارِ بْنِ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيِّ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَهُوَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ مَنْ يَسْبِقُنَا إِلَى الْأُثَايَةِ؟ -قَالَ أَبُو أُوَيْسٍ هُوَ حَيْثُ نَفَّرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ- فَيَمْدُرَ حَوْضَهَا وَيَفْرِطَ فِيهِ فَيَمْلَأَهُ حَتَّى نَأْتِيَهُ، قَالَ الراوي: قَالَ جَبَّارٌ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ أَنَا. قَالَ ﷺ: اذْهَبْ. فَذَهَبْتُ فَأَتَيْتُ الْأُثَايَةَ فَمَدَرْتُ حَوْضَهَا وَفَرَطْتُ فِيهِ وَمَلَأْتُهُ ثُمَّ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ فَمَا انْتَبَهْتُ إِلَّا بِرَجُلٍ تُنَازِعُهُ رَاحِلَتُهُ إِلَى الْمَاءِ وَيَكُفُّهَا عَنْهُ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَوْرَدَ رَاحِلَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَنَاخَ ثُمَّ قَالَ: اتْبَعْنِي بِالْإِدَاوَةِ، فَتَبِعْتُهُ بِهَا فَتَوَضَّأَ وَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ وَتَوَضَّأْتُ مَعَهُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي (بعد الوصول إلى هناك أول ما فعله النبي ﷺ هو الوضوء والقيام لأداء النوافل) فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَحَوَّلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، (أي رأى جبار أنه يجب أن أصلي النوافل مع النبي ﷺ جماعةً، فقال عن يساره فحوّله النبي ﷺ عن يمينه لأنه لو كانت الصلاة جماعة وكان شخصان فيجب أن يقوم الثاني عن يمين الإمام، قال:) فَصَلَّيْنَا فَلَمْ يَلْبَثْ يَسِيرًا أَنْ جَاءَ النَّاسُ.
ويوم بدر دعا النبي ﷺ: “اللهم اكفني نوفل بن خويلد” فأسره جبار بن صخر، ولقيه عليٌّ فقتله… ثم قال: من له علم بنوفل؟ فقال عليٌّ: أنا قتلتُه، فقال: “الحمد لله الذي أجاب دعوتي منه”.
أقول: كان نوفل عدوا لدودا، فدعا النبي أن يكفيه الله، فقدّر الله تعالى لقتله.
وفي رواية أن النبي ﷺ حين هاجر إلى المدنية تمنى كلُّ واحد من الصحابة أن يقيم في بيته. فهناك روايات كثيرة بهذا المعنى، وقد ورد فيها أنه ﷺ قال ما مفاده: خلّوا سبيل ناقتي فحيثما بركتْ سأقيم. فكان لا يمر بأزقة المدينة إلا قال الصحابة: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة والمنعة. فيقول: خلُّوا سبيلها فإنها مأمورة، حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده… فلما بركتْ استولت عليه حالة من الوحي، فلم ينـزل عنها، ثم وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله، ﷺ واضع لها زمامها لا يثنيها به، فالتفتت خلفها ثم رجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ووضعت جرانها، فنـزل رسول الله ﷺ عنها وقال: “هنا المنـزل إن شاء الله، (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)… ثم قال رسول الله ﷺ: أيّ بيوت أهلنا أقرب”؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي وقد حططنا رحلك فيها. قال: فانطلقْ فهيئْ لنا مقيلا، فذهبَ فهيأ لهما مقيلا.
مَرَّ شاس بنُ قيس وكان شيخًا عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله ﷺ … في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة – يعني الأوس والخزرج – بهذه البلاد، لا، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار؛ فأمر فتى شاباً من يهود كان معه، قال: فاعمِدْ فاجلسْ إليهم، ثم ذكِّرهم يوم بعاث وما كان فيهم، وأنشدْهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج؛ ففعل.
فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب: أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث بن أوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان وقالوا: قد فعلنا … وتجاور الناس. فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فخرج إلى الأوس والخزرج، فيمن معه من المهاجرين من أصحابه، حتى جاءهم فقال: “يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله تعالى إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟” فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكَوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله ﷺ سامعين مطيعين، وأطفأ الله عنهم كيد عدو الله وعدوهم ساش بن قيس.
فأنزل الله تعالى في شاس بن قيس وما صنع: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
وأنزل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شاس بن قيس من أمر الجاهلية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
باختصار، لقد انخدع هؤلاء الصحابة مؤقتا بمكيدة من الشيطان، ولكن لما أُخبروا بحقيقة الأمر وقال لهم النبي ﷺ: لماذا أنتم راجعون إلى ما كنتم عليه في الجاهلية؟ أبدوا الندم فورا وتقدموا إلى الصلح بل أبدَوا الأخوة والحب المتبادل. فهذه كانت سيرتهم وسلوكهم. وهذه أسوة عظيمة للذين تأخذهم الأنانية والغيرة المزعومة لأتفه الأمور في هذه الأيام. فلو أصبح هؤلاء القوم الذين كانوا عطاشى لدماء بعضهم إخوة فلماذا لا يمكن اليوم للناطقين بالشهادتين والذين قد وُلدوا في جماعة واحدة أن يتخلوا عن أنانيتهم الزائفة. تُرفع إلي قضايا كثيرة يتبين منها أن الخصومات والنـزاعات بين الفريقين تستمر إلى شهور بل إلى أعوام بسبب الأنانية المزعومة. يكتب إليّ بعض الشباب أن أبناء الجيل الناشئ يرغبون في إقامة علاقات متبادلة ولكنهم لا يستطيعون فعل ذلك بسبب النـزاعات الجارية بين العائلات نتيجة عناد الكبار في العائلة. فعلى هؤلاء الكبار أن يعودوا إلى صوابهم وليعلموا أن الله تعالى قد أعطانا تعليم الحب المتبادل والوحدة، وجعلنا أمة واحدة، لذا علينا أن نعيش كأمة واحدة، ونكفّ عن الأنانية الزائفة. ندعو الله تعالى أن يهب الجميع العقل والفطنة.
وقد جاء في رواية: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القسام برجلين، جبار بن صخر وزيد بن ثابت، هما قاسما المدينة وحاسباها… وقسما السهمان بوادي القرى. وقد جعل عمر ؓ لجبار بن صخر سهما مع غيره في وادي القرى.
هذه كانت بعض الوقائع لهؤلاء الصحابة ؓ، رفع الله درجاتهم دائما وأبدا.