خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي ؏
يوم 26/10/2018
في مسجد بيت السميع بتكساس، أمريكا
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين، آمين.
هذه منة الله العظيمة علينا أنه وفقنا بمحض فضله للإيمان بالمسيح الموعود ؏.. ذلك الخادم الصادق للنبي ﷺ الذي وصفه النبي الكريم ﷺ بـ “مهدينا”. إنها لدرجة سامية -للتعبير عن الحب والقرب- أعطاها النبي ﷺ للمسيح الموعود ؏ بكلمة: مهدينا.
لقد أثبت المسيح الموعود ؏ في كتبه أن الإسلام هو الدين الأمثل والأعلى كما أنه ردّ اعتراضات المعترضين عليه وأثبت أنه إذا كان هناك دين اليوم يكفل نيل قرب الله تعالى الحقيقي ويخلص من الآثام فهو الإسلام وحده. ومن ناحية ثانية قد وجه ؏ إلى أتباعه في خطاباته وكتاباته ومجالسه تعليمات لا تحصى، وهي ترشدنا وتهدينا عند كل خطوة. لقد وجه حضرته المومنين به بكل التياع إلى أداء حق البيعة وإلى أن يكونوا مؤمنين حقيقيين. فينبغي علينا أن نضع تلك التعليمات والنصائح نصب أعيننا دومًا لأنها ذريعة لتربيتنا الروحانية كما نستطيع بها الوصول إلى حقيقة الدين وتحري سبل نيل قرب الله تعالى، ويمكننا بهذه الذريعة بلوغ الأسرار والمعارف القرآنية، وبها يمكننا معرفة مكانة النبي ﷺ ودرجته، وتصحيح حالاتنا العقدية وتحسين حالاتنا العملية. وما أشقانا لو لم نستفد بهذه الخزائن رغم وجودها بين أيدينا! إن التأثير والقوة القدسية التي تتحلى بها كلمات المسيح الموعود ؏ لا يمكن أن تتحلى بها كلمات أي إنسان. ولم لا يكون الأمر كذلك؟! إذ إنه هو الإمام الذي بعثه الله تعالى في هذا الزمان من أجل النشأة الثانية للإسلام ولتمكين الناس من نيل قرب الله تعالى.
فمن واجبنا نحن الذين ندعي بيعة المسيح الموعود ؏ أن نقرأ كلماته ونستمع لها ونسعى جاهدين للعمل بها، ولترقية حالتنا حتى تبلغ تلك الدرجة التي توقع المسيح الموعود ؏ منا الوصول إليها.
سأقدم الآن بعض تعليمات المسيح الموعود ؏ التي تُعَدّ خطة عمل لحياتنا وتمثّل غايةً وضعها حضرته ؏ أمامنا لنعرف كيف ينبغي أن يكون الأحمدي؟ وما هو المستوى الذي ينبغي أن يصل إليه؟
ازداد اهتمام الناس بالأمور الدنيوية في عصر المادية هذا، وأصبحت الدنيا من أولويات بعضنا أيضا فلا يعطون للدين أهمية تُذكر. نسمّي أنفسنا مسلمين أحمديين من الناحية العقدية ولكن أخذ ينشأ لدينا ضعف كبير في العمل. فعلى ضوء هذه التعليمات يمكن للجميع أن يحاسبوا أنفسهم ليعرفوا أين يقفون وأين ينبغي أن يكونوا؟ وليعرفوا ما هي التقوى، وما هو مستواها المطلوب؟ وما هي الحسنة وما هو مستواها المطلوب؟ وما هي مسؤولياتنا تجاه هذا؟
يتناول المسيح الموعود ؏ هذا الأمر فيقول:
“وللحصول على التقوى الصادقة التي تُرضي الله قال الله تعالى مرارا: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) وقال أيضا: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)”.
يقول حضرته: “المراد من التقوى هو اجتناب السيئة. والمحسنون هم الذين لا يكتفون باجتناب السيئة فقط بل يكسبون الحسنات أيضا. ثم يقول الله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى)”
يقول حضرته: “لقد تلقيت إلهامَ “إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون” مرات كثيرة لا أستطيع إحصاءها، ويعلم الله أنه ربما نزل هذا الوحي ألفَي مرة. والهدف من ذلك هو ليعلم أفراد الجماعة أنه يجب ألا يكتفوا بأنهم انضموا إلى هذه الجماعة، وألا يرضوا بالإيمان الفكري والجاف فقط، بل إن معية الله ونصرته ستحالفكم عندما تكون التقوى صادقة إلى جانب الحسنات”.
قال حضرته: “ليست مفخرة أن يفرح المرء بمجرد أنه لا يزني، أو لم يسفك الدم، أو لم يقتل أحدًا، أو لم يسرق. أَمِن الفضيلة أن يفتخر المرء باجتنابه السيئات؟ (فليس بأمر كبير ولا أهمية له أن يكون الإنسان مجتنبًا السيئات) لأنه يعلم أنه لو سرق لقُطعت يده، أو سيُزَجّ به في السجن بحسب القانون. (أي سيُعتَقَل ويَذوق وبال أمره) ليس الإسلام عند الله أن يجتنب المرء السيئات فقط بل لا يمكنه أن يعيش عيشا روحانيا ما لم يترك السيئات ويختار الحسنات. الحسنات بمنـزلة الغذاء، فكما لا يمكن لأحد أن يعيش بغير الطعام كذلك لا فائدة إن لم يعمل بالحسنات”.
فإن تخليتم عن السيئات وعملتم بالحسنات فستنالون الحياة الروحانية.
تؤثر بعض السيئات في حياة الإنسان بدون أن يشعر بها، ولكنه في وقت ما يقع تحت بطش الله تعالى بسببها، يذكر حضرته ؏ هذا الموضوع فيقول:
“هناك بعض الآثام الكبيرة المعروفة مثل قول الزور، والزنا والخيانة والشهادة الكاذبة، وإتلاف الحقوق والشرك وغيرها، ولكن هناك بعض الآثام الدقيقة التي يتورط فيها الإنسان دون أن يعرف. إذ يمكن لشاب أن يشيخ وهو لا يعرف أنه يرتكب ذنب َ كذا وكذا، (أي قد يمضي عمره في ارتكاب هذه الذنوب التي يعتبرها صغيرة دون أن يدرك خطورتها) فمثلا يكون المرء معتادا على الغيبة (وهو عادة بعض الناس أنهم يشكون من أمور صغيرة ويعبرون أمام الناس عن استيائهم منها، ويمشون بالنميمة هنا وهناك وينقلون قول هذا إلى ذاك. يقول حضرته أن مثل هذا الإنسان) يحسب ذلك أمرا هينا مع أن القرآن الكريم يَعُدُّه سيئة كبرى (إن هذه الأمور الصغيرة والشكاوى تتحول إلى الغيبة والنميمة، لأجل ذلك اعتبرها القرآن من الكبائر) فيقول: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَاكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا). إن الله تعالى يسخط من أن يتفوه الإنسان بكلمة تؤدي إلى تحقير أخيه. (لقد قال الله تعالى أن هذا التصرف بمنـزلة أكل لحم أخيكم وتكرهون أن تأكلوا لحم أخيكم ميتًا، يقول حضرته:) إن الله تعالى يسخط من أن يتفوه الإنسان بكلمة تؤدي إلى تحقير أخيه، أو أن يقوم بتصرف يُحرجه. (أي يجب أن يكف عن الكلام ضده أيضا، لأن بعض الأقوال تكون ضارة بالآخرين، يتطرق بعض الناس إلى الشكاوى والغيبة وسوء الظن ضد الآخرين ويتحول الأمر إلى النميمة ثم يبلغ الأمر بالمرء مبلغا يحاول عنده أن يضرّ بأحد بشكل مادي أيضا. يقول حضرته ؏🙂 إن بيان المرء عن أخيه ما يثبت كونه جاهلا وأحمق أو يثير بشكل خفي سفاهة بعض الناس ضده أو عداوتهم، كلها أمور سيئة.
كذلك هو حال البخل والغضب، فهي سيئات كلها. (البخل والشح والغضب كلها من السيئات). فالمرحلة الأولى بحسب أمر الله تعالى هي أن يجتنب الإنسان السيئات ذات الصلة بالعينين أو الأذنين أو اليدين أو القدمينِ (أي أن يجتنب جميع أنواع الجرائم والآثام سواء صدرت من عينيه أو أذنيه أو يديه أو قدميه) لأن الله يقول: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 37).
أي يجب ألا تتبع عبثًا ما ليس لك به علم، ويجب أن تعلم أن كل عضو من أعضاء الإنسان كالأذن والعين والقلب سيُسأل عن هذه الأمور عندما يمثل الإنسان أمام ربه بعد الموت. يقول حضرته: هناك سيئات كثيرة تنشأ من سوء الظن فقط، فمثلا يسمع المرء شيئا عن شخص ويوقن به فورا. هذا تصرف مكروه جدا. يجب ألا تلقوا بالا لما لا تعلمون عنه علم اليقين وما لستم به بمستيقنين. فمن الضروري لاجتناب سوء الظن ألا يوقن الإنسان بشيء ولا يتفوه به ما لم يشاهده بنفسه وما لم يتأكد من صحته. ما أحكم هذا الكلامَ! وما أقواه! كثير من الناس سيؤاخَذون بسبب لسانهم. (فإذا تخلصنا من سوء الظن فسوف تزول نصف المفاسد والنـزاعات والأحزان من مجتمعنا، وتتحقق الوحدة) فمن الملاحَظ في هذه الدنيا أيضا أن كثيرا من الناس يؤاخَذون بسبب لسانهم ويواجهون كثيرا من الخسارة والندم. (أي يتفوه المرء بأمر لا يثبت صدقه فيترتب عليه المؤاخذة والخجل، لذا من الأفضل ألا تسيئوا الظن، وأن تحسنوا الظن بالآخرين. إذا تناهى إلى أسماعكم أمرٌ فتبيَّنوا. إن الإنسان ضعيف وتنشأ في قلبه شتى الأفكار، وإن لم يعمل بها يعفُ الله عنه، إذ لا يؤاخِذ الله ﷻ على مجرد نشوء الخواطر، وإنما يؤاخِذ على العمل بها. ثم بيَّن حضرته كيف يؤاخذ الله ﷻ فقال:)
الخواطر والأفكار العابرة التي تخطر بالبال لا يؤاخَذ المرء عليها، فمثلا إذا خطر ببال أحدكم أنه إذا وجد مالا كذا وكذا كان أفضل. فهذا أيضا نوع من الطمع ولكن لا مؤاخذة على أفكار تخطر بالبال عفويا وتمرّ. ولكنه إذا نمَّى المرء مثل هذه الأفكار ثم عزم عليها وسعى لينال ذلك المال حتما بحيلة أو أخرى (أي يكسب المال باطلا. فمثلا خطر بباله أن مبلغ الضريبة المُستحَق علي إذا نقصتُه فسوف يتوفر لي كذا من المال، فالله ﷻ لا يؤاخذ بمجرد نشوء مثل الفكرة،. أما إذا دفع مبلغ الضريبة أقلَّ من الواجب وسبَّب الخسارة للحكومة، أو لم يَصْدُق وأخبر نظامَ الجماعة عن دخْله بأقلَّ من الأصل ليدفع تبرعات أقل، فسوف يؤاخِذه الله. فهناك أمثلة كثيرة وتجارب لأناس قلَّ دخْلهم تدريجا وصار مساويا لما أخبروا به نظامَ الجماعة بخصوص التضحية بالمال والحكومةَ أيضا بشأن الضريبة) فهذا ذنب وجدير بالمؤاخذة. باختصار، عندما يعزم المرء على أمر ويرتكب الشر والتزوير للعمل به فيكون هذا الذنب جديرا بالمؤاخذة. (فالرجال الذين يشتغلون بالتجارة أو الآخرون الماديون المنغمسون في الأطماع المادية حين تنشأ في قلوبهم فكرة خاطئة يخططون للعمل بها وتنفيذِها) الناس لا يعيرون لمثل هذه الذنوب اهتماما لائقا فتكون سببا لهلاكهم. معظم الناس يجتنبون الذنوب الكبيرة والجلية، وسيكون هناك كثيرون لم يسفكوا الدم قط ولم يسرقوا ولم يرتكبوا ذنوبا كبيرة من هذا القبيل. ولكن السؤال هو: كم هم الذين لم يغتابوا أحدا ولم يؤذوه ولم يسيئوا إليه؟! ( كم من الناس مَن لا يؤذون إخوتهم باحتقارهم أو لا يجرحون مشاعرهم؟!) أو لم يكذبوا (فالكذب أيضا أنواع وقد قال الله ﷻ للمؤمنين أنه يجب أن لا يكون في كلامهم أية شائبة من الكذب ويجب أن يكون كل قولهم صدقا وحقا) أو لم يتابعوا خواطر القلب على الأقل؟ (أي لم ينفِّذوا ما خطر ببالهم من أفكار، فكم يقدَّر عدد هؤلاء؟!) أستطيع أن أقول يقينا إن قلة قليلة جدا هم الذين يهتمون بهذه الأمور (أي لا يؤذون أحدا ولا يغتابون ولا يسيئون الظن بأحد ولا يكذبون ولا يتبعون ما يخطر ببالهم من أمور سيئة) ويخشون الله. (أي هم لا يرتكبون هذه الأمور، خشية لله وخوفا منه). وسترون غالبيتهم يكذبون وتجري في مجالسهم شكاوى الآخرين كل حين وآن، ويصيبون إخوتهم الضعفاء بأنواع الأذى. (يمكن أن تفحصوا مجالسكم، فليفحص كل واحد بنفسه فسوف يرى أن الناس في مجالسهم يذكرون سيئات الآخرين ويضحكون عليهم وينشرون عيوبهم البسيطة ويسخرون منهم، الأمر الذي يؤدي إلى النـزاعات. فالمعيار المطلوب للحسنات أن يجتنب المؤمن ما يُتوقع منه اجتنابه) يقول الله تعالى إن المرحلة الأولى هي أن يتقي الإنسان. لا يسعني هنا بيانُ تفاصيل السيئات، فالقرآن الكريم من أوله إلى آخره يتضمن الأوامرَ والنواهي وتفصيلَ أحكام الله، (أي قد فصَّل القرآن الكريم ما الذي يجب علينا فعلُه وما الذي يجب علينا الامتناعُ عنه. ويجب على المؤمن أن يقرأ القرآن الكريم ويفهمه) فقد ذكر مئات الفروع لأنواع الأوامر المختلفة. أقول بإيجاز: إن الله تعالى لا يرضى بحال من الأحوال أن تفسدوا في الأرض، بل يريد أن ينشر الوحدة في العالم. ولكن الذي يؤذي أخاه ويرتكب الظلم والخيانة فهو عدوٌّ للوحدة. (لأن هذه الأمور تنافي التحابّ والتآخي) وما لم تزُل هذه الأفكار السيئة لا يمكن أن تسود الوحدة الحقيقية. لذلك قدّم هذه المرحلة على المراحل كلها. (فبركة الجماعة أن تتحقق الوحدة والاتحاد، وإنما الهدف من بعثة المسيح الموعود ؏ والإمام المهدي أن يجعل المسلمين يدا واحدة ويشكِّل أمة واحدة).
ثم يقول حضرته ؏: من الملاحظ بوجه عام أن معظم الناس عندما يسمعون كلاما كهذا في مجلس تتأثر قلوبهم ويستحسنونه، (أي ما يسمعون من الأمور الحسنة في مجلس، كما يسمع الناس الآن خطبة، تتأثر بها قلوب الغالبية، فالأحمديون يكتبون ذلك في الرسائل إلي) ولكن عندما يخرجون من المجلس ويخلون إلى أصدقائهم وأحبتهم يتصبغون بصبغتهم وينسون دفعة واحدة ما سمعوه من قبل (أي عن الحسنات. لذلك أقول يجب أن نذكر هذه الأمور ونضعها في الحسبان دوما لتبقى في بالنا قبل النسيان). ويعودون إلى دأبهم السابق. يجب على المرء أن يجتنب هذا التصرف. ولا بد أن يتنحى عن تلك الصحبة والمجالس التي تجري فيها الأحاديث من هذا القبيل. وإلى جانب ذلك لا بد من التذكر أيضا أن يكون مطَّلعا على دقائق الأعمال السيئة لأن العلم بشيء قبل طلبه ضروري أولا وقبل كل شيء. (أي إذا كان المرء يريد شيئا ويتمنى الحصول عليه فيجب أن يدركه ويفهمه أولا، أهو جيد أم سيئ؟ ويجب أن يطلع على محاسن ذلك ومساوئه، لكي يجتنبه إذا كان سيئا ويقتنيه إذا كان جيدا) فما لم يكن لدى المرء علم بشيء، أنّى له أن يحصل عليه؟
لقد تناول القرآن الكريم هذا الأمر بالتفصيل مرارا. أكثِروا من تلاوة القرآن الكريم وسجلوا تفصيل الأعمال السيئة ثم اسعوا جاهدين لأن تنأوا عنها بفضل الله وتأييده. هذه هي المرحلة الأولى للتقوى (أن تجتنبوا السيئات). عندما تسيرون على هذا النحو يوفقكم الله (للاجتناب) وتُعطون شرابا كافوريا تبرد به عواطف الذنب عندكم تماما (يقول الأطباء إن الكافور يُبرد الثوائر، ويستخدمه الناسُ في الأدوية أيضا، وهنا ذكر حضرته ؏ في معرض حديثه عن الأمراض الروحانية أنكم إن اجتنبتم السيئات فهذا التصرّف سيصبح لكم شرابا كافوريا وستبرد ذنوبكم شيئا فشيئا وتتلاشى) ولن تصدر منكم بعدها إلا الحسنات. ولا يُسقى المرء هذه الكأس ولا تُقبل عباداته وأدعيته ما لم يكن تقيا (فإذا كنتم تريدون أن تُقبل عباداتكم وأدعيتكم فلا بد أن تتجنبوا السيئات وتعملوا الحسنات، لأنه من الشروط الضرورية لاستجابة الدعاء) لأن الله تعالى يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 28). صحيح تماما أن العبادات والصلاة والصيام تُقبل من المتقين فقط. ولكن ما معنى قبول العبادات؟ وما المراد من ذلك؟ (قال ؏ في شرح ذلك)
حين نقول أن الصلاة قُبلتْ يكون المراد من ذلك أن تأثيرات الصلاة وبركاتها نشأت في المصلي. وما لم تنشأ تلك البركات والتأثيرات فليست الصلاة إلا كنقرات الدجاجة. ما الفائدة من الصلاة أو الصوم إذا صلّى المرء في مسجد ثم شرع في الشكاوى ضد أحد، (يسأل الناسُ كيف نعرف أن الله قد قبل صلاتنا أو عبادتنا فعلامته أن يروا بعد الصلوات والعبادات ما إذا كانت السيئات -صغيرة كانت أم كبيرة- تزول عنهم أم لا؟ وهل ينشأ فيهم النفور عنها؟ وهل تنشأ فيهم الرغبة في عمل الحسنات ويتقدمون نحو الصدق؟ وإن لم يكن كذلك فهذا يعني أنهم لم يصلوا، وإنما نقروا كالدجاجة) قال ؏: ما الفائدة من الصلاة أو الصوم إذا صلّى المرء في مسجد ثم شرع في الشكاوى ضد أحد وإساءة الظن، أو خان في مال أو أمانة أحد، (وهناك أمانة المجالس أيضا، يجب على المسؤولين ألا يقولوا لأحد في بيوتهم ولا لأي شخص غير معني بالأمر ما يجري في اجتماعات الجماعة، ولا بد من التقيد بذلك لأن كثيرا من الفتن إنما تنشأ لما يتسرب من هذه الأمانة، فيبدأ الناس في بعض الأماكن يحسدون ويهاجمون عرْض الآخرين) قال ؏: قولوا بالله عليكم ما فائدة صلاة المرء إذا بقي المرء متورطا في عيوب ومنكرات من هذا القبيل؟!
(إنني أعلم شخصيا بين فينة وأخرى ويكتب إلي بعض الشباب أيضا أنهم بسبب بعض المسؤولين وكبارهم ابتعدوا شيئا فشيئا عن الجماعة ثم عن المسجد ثم عن العبادة وأخيرا ابتعدوا عن الله تعالى أيضا. فصلوات مثل هؤلاء الكبار لا تفيدهم بل في بعض الأحيان تضر بالآخرين أيضا، فإذا كنتم تريدون الحفاظ على الأجيال القادمة فثمة حاجة إلى أن يُنشئ الكبار والمسؤولون أولا التقوى في أنفسهم.) قال ؏: فالمرحلة الأولى والصعبة للذي يريد أن يكون مؤمنا هي أن يجتنب السيئات، هذا ما يسمّى التقوى.
ثم قال ؏ في مناسبة: تذكّروا أيضا أنه ليس المراد من التقوى أن يجتنب المرء السيئات الكبيرة، بل يجب اجتناب أدق السيئات أيضا مثل القعود في مجالس الاستهزاء والسخرية أو التي يساء فيها إلى الله ورسوله أو يُنال فيها من عزة أخيه. فمن يسمع مثل هذا الكلام سيئ كذلك في نظر الله وإن لم يوافق جلساءه في رأيهم. (صحيح أنه لم يشاركهم الحديث، ولكن لماذا استمع لمثل هذا الكلام؟) هذه شيمة الذين في قلوبهم مرض لأنه لو كان عندهم شعور كامل بالسيئة لما فعلوا ذلك ولما جلسوا في تلك المجالس ولما استمعوا لمثل هذا الكلام.
ثم قال؏: تذكّروا أيضا أن المستمع لمثل هذا الكلام كالعامل به. والذين يقولون ذلك بلسانهم إنهم تحت مؤاخذة الله مباشرة لأنهم ارتكبوا ذنبا، ولكن الذين جلسوا هنالك صامتين سيشاركونهم في مغبة ذنبهم. (هم أيضا آثمون وسيتحملون نتيجة ذلك) قال ؏: تذكروا هذا الأمر جيدا وأكثِروا من قراءة القرآن الكريم. (لأنه حكم الله تعالى فلا بد من تذكُّره، فالذين يسمعون تلك الأمور ويصمتون ويظلّون جالسين في هذه المجالس من أجل المتعة هم أيضا مسؤولون أمام الله تعالى.)
ثم قال ؏ وهو يشرح ذلك أكثر أن المؤمن لا يفرح لمجرد أنه لم يرتكب الذنب، وهذا قد سبق ذكره، لأن الطيبين من الأديان والملل الأخرى بل أكثرهم لا يرتكبون السيئات، قال ؏: يوجد بين الهندوس والمسيحيين والأمم الأخرى أيضا أناس لا يرتكبون بعض الذنوب، فمثلا لا يكذبون ولا يأكلون أموال الآخرين بغير حق، ولا يغصبون الدَّين بل يسدِّدونه، وهم جيدون في الأمور الاجتماعية أيضا ولكن الله تعالى يقول أنه لا يرضى بذلك فقط بل يجب اجتناب السيئات وكسب الحسنات مقابلها، والنجاة مستحيلة بدون ذلك. والذي يعتز بأنه لا يرتكب السيئة هو جاهل. الإسلام لا يترك الإنسان بعد إيصاله إلى هذا المقام بل يريد أن يُكمل المرءُ كلا الشقَّين، أيْ أن يترك المرء المنكرات بالتمام والكمال ويكسب الحسنات بكامل الإخلاص، وما لم يتحقق كِلا هذين الأمرين استحالت النجاة.
قال ؏: أوصي الجماعة مرة أخرى بأنْ إذا تقدمتم في التقوى والطهارة سيكون الله معكم، يقول الله تعالى: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: 129) واعلموا يقينًا أنكم إن لم تتقوا ولم تأخذوا نصيبا وافرًا من البرّ فسيُهلككم الله قبل غيركم لأنكم آمنتم بالحق ثم تنكرونه عمليا. (أي آمنتم بإمام الزمان ؏ وادّعيتم أنكم خير من المسلمين الآخرين وتسلكون دروب الحسنات، ولكن إن لم تكن فيكم التقوى عمليا فهذا يعني أنكم تُنكرونه ؏) فلا تعتمدوا أبدا ولا تعتزوا بأنكم بايعتم لأنكم لن تنجوا ما لم تتقوا حق التقاة. ليس لله تعالى علاقة قرابة مع أحد ولا ينحاز إلى أحد. إن معارضينا أيضا خلقه كما أنكم خلقه. الاعتقاد وحده لن ينفع ما لم يكن قولكم وفعلكم متوافقين”.
يعتقد المسلمون الآخرون أيضا أن الله واحد وأن محمدا خاتم النبيين وأن القرآن كتاب الشريعة الأخير، وهذه عقيدتنا أيضا ولكن إذا كان هناك تناقض بين قولنا وفعلنا فلن يفيدنا اعتقادنا لأن الأصل هو العمل الذي يجب على جميعنا السعي له. فلا يكفي لنا أن نُسلم ونصبح أحمديين، بل ثمة حاجة إلى العمل بأحكام الله تعالى وإلى أن نصبح مؤمنين حقيقين وهذا ما ينتظره الله تعالى منا.
ثم يقول المسيح الموعود ؏: إن الله تعالى يريد منكم أن تتحلوا بالصدق عمليًّا لكي يكون معكم. أما إذا قصرتم في التحلي بالرحمة والخلق الطيب والعمل الحسن والمواساة والحلم والتواضع فإني أعلَمُ، وقد أخبرتكم مرارا، أن مثل هذه الجماعة ستهلك قبل الآخرين. عندما لم يقدر قوم موسى ؏ أحكام الله تعالى في زمنه فإنهم قد أُهلكوا بالصاعقة مع أن موسى كان بينهم. فهل تظنون أنكم تنجون بمجرد بيعتي.
ثم يضرب المسيح الموعود ؏ مثال الصحابة وهو يحثّنا على إيثار الدين على الدنيا: إن إيثار الدين على الدنيا والتحلي بالتقوى ليس بأمر سهل. ما هي القدوة التي قدّمها الصحابة في سبيل الله تعالى؟ لقد رضوا بتقديم أرواحهم في سبيل الله تعالى. والتحلي بهذه الصفة، أعني أن يستعد المرء لتقديم نفسه في سبيل الله تعالى، ليس أمرا سهلا، ولكن حال الصحابة تكشف لنا أنهم قد أدوا هذا الواجب. لمّا أُمروا أن يقدموا أرواحهم في هذا السبيل فلم يركنوا إلى الدنيا. فمن الضروري لكم أن تؤثروا الدين على الدنيا.
في هذه الأيام أتناول ذكر سيرة الصحابة في خطبي، ونقرأ فيها أحداثا عجيبة غريبة جدا، فكم كانوا يقدمون التضحيات! وكم كانوا يعملون الصالحات! وكم كانوا سبّاقين إلى التقوى! وكم كان مستوى عباداتهم عاليا! إنني أذكر لكم سيرتهم لكي نطلع على قدوة هؤلاء القوم الذين قال النبي ﷺ فيهم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. فهؤلاء الصحابة هم أسوة حسنة لنا.
ثم يقول المسيح الموعود ؏: اعلموا أن الذي مطلبه الدنيا بعد ذلك مع كونه في هذه الجماعة، فهو ليس فيها عند الله تعالى. إنما يدخل في هذه الجماعة من يتخلى عن الدنيا.
ثم يزيد حضرته ؏ هذا الأمر إيضاحا ويقول:
لا يظننّ أحد منكم أنه إذا تخلى عن الدنيا فسوف يهلك. هذه فكرة تبعد عن سبيل معرفة الله تعالى. إن الله لا يضيع أبدًا من يصبح له كلية، بل إنه تعالى يتكفله بنفسه. إن الله كريم، وإن الذي يخسر في سبيله تعالى شيئا هو الذي يجد منه شيئا. الحق والحق أقول إن االله تعالى إنما يحب ويبارك في أولاد إنسان يعمل بأحكامه. لم يحدث قط ولن يحدث أبدًا أن يكون المرء مطيعًا صادقًا لله تعالى ثم يدمَّر هو أو أولاده. إنما يُدمَّر أولئك الذين يهجرون الله تعالى ويتكالبون على الدنيا. أليس حقًا أن كل شيء بيد الله، ولا يُحرَز النصر في قضية، ولا يحقَّق النجاح في أمر، ولا تتيسر راحة ولا سهولة إلا بعونه تعالى؟! يمكن أن ينال المرء المال والثروة، ولكن من يضمن أن ماله وثراءه سينفع بعده أهلَه وأولاده؟! نرى أمثلة كثيرة لأناس نُهبت أموالهم وضاعت ثرواتهم بعد موتهم. فتدبروا في هذه الأمور وأحدِثوا في أنفسكم تغييرا طيبا.
ثم يقول ؏: إن ما يثنى به على جماعتنا أو الأحمديين من مدح حتى اليوم إنما راجع إلى ستر الله لنا، (أي أن الله تعالى يستر عيوبنا، ولكن إذا حلّ الابتلاء والاختبار هتَك ستر الإنسان، وعندها فإن المرض الذي يكون في قلب المرء يُهلكه بعد أن يكمل تأثيره فيه.
يتحدث هنا المسيح الموعود ؏ عن زمنه حين كان مستوى تقوى الأحمديين وصلاحهم أعلى بكثير مما هو عليه اليوم، ومع ذلك كانت في قلبه ؏ حرقة أيضا، أما اليوم فيمكن لكل واحد منا فحص نفسه وحاله، ويرى ما هي دعوانا وما هو مستوى صلاحنا.
ثم يقول المسيح الموعود ؏ وهو يبين حقيقة المؤمن الصادق): اعلموا يقينا أنما المؤمن والمبايع عند الله من يؤثر الدين على الدنيا كما يعاهد على ذلك عند البيعة. أما من آثر مطالب الدنيا على الدين فإنه ينكث عهده ويكون عند الله من المجرمين. اعلموا يقينا أن المرء إذا لم يصلح حالته العملية فلا قيمة لما يقوله بلسانه، إنما هو مجرد ثرثرة اللسان. إنما الإيمان الحق ما يدخل في قلب المرء ويصبّغ بتأثيره أعمالَه. إنما الإيمان الحق كان إيمان أبي بكر وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين الذين لم يكترثوا لتقديم أرواحهم ناهيك عن أموالهم في سبيل الله تعالى. إنني أفكر دائما في هذا الأمر وترتسم عظمة الرسول ﷺ في قلبي، فكم كان هؤلاء القوم مباركين! وكم كان تأثير قوته القدسية فيهم قويا إذ بلغ بهم إلى هذه المكانة! انظروا وفكروا كيف وصل بهم النبي ﷺ من الثرى إلى الثريا. كانوا من قبل يستحلون جميع المحرمات كلبن الأم (أي كانوا يرتكبون كل السيئات بلا هوادة) وكانوا متورطين في كل سيئة من سرقة وشرب خمر وزنا وفسق وفجور، فأي إثم لم يكن فيهم؟! ولكن بركة صحبة الرسول ﷺ وتربيته قد أثّرت فيهم وأحدثت فيهم تغييرا عظيما شهد عليه النبي ﷺ أيضا إذ قال: “الله الله في أصحابي”. وكأنهم نزعوا عنهم رداء البشرية وأصبحوا مَظْهَرًا لله تعالى، وصاروا كالملائكة ومصداقا لقول الله تعالى: “يفعلون ما يؤمرون”. هكذا تماما صارت حال الصحابة. لقد زالت عنهم إرادات قلوبهم وأهواء نفوسهم كلية.
ثم يقول المسيح الموعود ؏ وهو يبين كيف يجب أن يكون الأحمدي بعد البيعة وكيف يجب أن تكون علاقته قوية مع الجماعة، أي مع حضرته ؏ ومع سلسلة الخلافة بعده، التي أنبأ بأنها ستكون بعده وتستمر إلى يوم القيامة:
الغصن الذي لا يبقى متصلا بالشجرة يجف ويسقط في آخر الأمر. إن الذي يؤمن إيمانا حيا لا يبالي بالدنيا، والدنيا تُنال في كل حال. إن الذي يؤثر الدين على الدنيا هو المبارك، أما الذي يؤثر الدنيا على الدين فهو كالجيفة، ولن يرى وجه النصرة الحقة أبدًا. إن هذه البيعة إنما تنفع المرء إذا آثر الدين على الدنيا وسعى للترقي في ذلك. إن البيعة بذرة قد بُذرت اليوم. انظروا لو أن الفلاح اكتفى ببذر البذرة في الأرض وظن أن كل شيء قد تم على ما يرام، ولم يؤد ما يجب عليه من أعمال لجني الثمرة، أعني لم يهتم بإصلاح الأرض وريها، ولا بتسميد الزرع في الوقت المناسب، ولم يحمه حماية كافية، فكيف يمكن أن يرجو منه أي ثمر؟!
هذه المنطقة أيضا زراعية، وكثير من المهاجرين إليها هم من أهل القرى ويعرفون أن الفلاح إذا لم يعتنِ بحقله بعد بذر البذرة فيه فلن يعطيه الزرع أي ثمر. ومن هذا المنطلق أقول للقادمين الجدد: إن الله تعالى قد حسّن ظروفكم هنا، ومتّعكم بالحرية الدينية، حيث تستطيعون أن تؤدوا حق العبادة وتعلنوا عن دينكم بحرية، لذا ينبغي على كل أحمدي وخاصة من جاؤوا إلى هنا من باكستان أن يسعوا جاهدين لتقديم الدين على الدنيا ويبذلوا كل ما في وسعهم للعمل بأوامر الله تعالى.
يقول المسيح الموعود ؏: إن لم يهتم المرء بحديقته أو مزرعته فلسوف تباد وتخرب مزرعته حتما. ولن تسلم مزرعة إلا لمن يعمل كفلاح حقيقي. فإنكم أيضا زرعتم اليوم بذرة…
أقول: فقد نصح المسيح الموعود ؏ مَن كانوا موجودين أمامه حينذاك، أما اليوم فنحن أيضا مخاطَبون بهذا الكلام لأننا زرعنا بذرة بقبولنا الأحمدية.
يتابع ؏ قائلا: … والله وحده يعلم المقدَّرَ لكل شخص. ولكن السعيد هو الذي يحمي هذه البذرة ويستمر في الدعاء للتقدم. فمثلا يجب أن يكون هناك تغيُّر في الصلوات.
أقول: لا يكفي بناء المساجد، بل لا بد من السعي لأداء حقوقها أيضا.
وهناك نصيحة هامة أخرى وجهها ؏ إلى أفراد الجماعة وألقيها عليكم الآن، يقول ؏:
لقد فسد الزمن كثيرا في العصر الراهن إذ قد ظهرت أنواع الشرك والبدعة وأنواع المفاسد. يجب على المرء أن يضع أمام عينيه دائما الإقرار الذي قطعه عند البيعة أي: “إني سأؤثر الدين على الدنيا”. فينبغي أن تتمسكوا به جيدًا حتى الموت، وإلا فاحسبوا كأنكم لم تبايعوا. وإذا تمسكتم به فسوف يبارك الله في الدين والدنيا، اتقوا الله حق تقاته بحسب مشيئة ربِّكم. الزمن حساس، والغضب الإلهي يظهر، فالذي سيجعل نفسه تابعا لمرضاة الله فهو يرحم نفسه وآله وذريته. انظروا، إن الإنسان يأكل الخبز، فما لم يتناول ما يكفي منه لا يشبع”.
أقول: انتبهوا لما يقوله المسيح الموعود ؏ عن غضب الله! يقول: الغضب الإلهي يظهر. ونحن نرى الأرقام والإحصائيات في العالم كلها بهذا الشأن ونجد أن الزلازل والفيضانات والآفات التي وقعت في المائة عام الماضية لم تحدث من قبل. فتطغى الفيضانات وتنـزل الأمطار هنا أيضا بكثرة هائلة ويقال كل مرة أنها حطمت أرقاما قياسية لم تبلغها منذ خمسمائة عام أو منذ عقود كذا وكذا. إذًا، هناك حاجة إلى استيعاب هذا الموضوع. إن الناس الماديين لا يستوعبونه، ولكن يجب علينا نحن أن نفهم أنها مظاهر غضب الله تعالى. لقد أشار المسيح الموعود ؏ إلى هذه الأمور بكل وضوح. وعلينا أن نتوجه إلى إصلاح أنفسنا، كذلك يجب أن نخبر العالم أيضا أن هذه الآفات ليست بالعادية بل قد أُنبئ بها قبل مائة عام. والسبيل الوحيد لتجنبها هو أن يعود الإنسان إلى الله تعالى. وإن لم يفعل ذلك الآن أيضا فإن نجاته مستحيلة. كذلك قد خلق الإنسان المصائب لنفسه بنفسه، بما فيها الحروب والمظالم التي يصبها الناس على بعضهم بعضا. والنتيجة النهائية لكل هذه الأمور هي أن المظالم تبلغ أوجها. عندما تبلغ المظالم أوجها في نظر الله تعالى – وإن كنا نراها بالغة منتهاها، ولكن الله تعالى يمهل إلى وقت معين – يُكتب الدمار والخراب على القوم الظالمين، فلا يسلم منه إلا الذين قال المسيح الموعود ؏ بحقهم في بيت شعره ما تعريبه: هناك نارٌ قادمة ولكن لا يُنقذ منها إلا الذين يكنون حبًّا لله ذي العجائب.
إذًا، هناك حاجة ماسة إلى الانتباه إلى هذا الأمر سعيا لإنقاذ أنفسنا وإنقاذ العالم. فعلينا أن نبذل قصارى جهودنا وقوانا ومواهبنا للوصول إلى الله تعالى.
يتابع المسيح الموعود ؏ قائلا: “انظروا إن الإنسان يأكل الخبز، فما لم يتناول ما يكفي منه لا يشبع، وإذا أكل كِسرة من الخبز أسيذهب عنه الجوع؟! كلا لن يشبع، كذلك إذا قَطَر في حلقه قطرةً من الماء فلن تنجيه أبدًا، بل سوف يموت مع شربه تلك القطرة، ولا يمكن أن يعيش ما لم يتناول ما يكفيه من الطعام والشراب الضروريين للحياة، وكذلك هو حال دين الإنسان، فما لم يرتق إيمانُه إلى حد معين لن ينجو. فلا بد للنجاة من التدين والاتقاء والاستجابة لأوامر الله بنفس درجة تناولنا الطعام والشراب لإزالة الجوع والعطش.
تذكروا جيدا، إن عدم الاستجابة لبعض أوامر الله يماثل ترك جميع أوامره. فإذا كان نصيب للشيطان ونصيب لله ﷻ فإن الله لا يحب الشراكة، ولقد أسس الله تعالى هذه الجماعة لكي يتوجه الإنسان إليه. وصحيح أن المجيء إلى الله صعب جدا، بل هو نوع من الموت، لكن الحياة أخيرا تكمن فيه. فالذي يزيل من نفسه النصيب الشيطاني هو إنسان مبارك، وتصيب بركتُه بيته ونفسه ومدينته كلها، أما إذا كان نصيبُه قليلا فلن ينال بركةً. فالبيعة ما لم تتحقق عمليا لا تفيد أبدًا. فكما أنكم إذا تكلمتم بلسانكم كثيرا أمام إنسان ولم تنجزوا عملا فلن يرضى. فكذلك هي معاملة الله، فهو أكثر غيرةً من جميع الغيورين. أفيمكن أن تطيعوه وتطيعوا أعداءه أيضًا في الوقت نفسه؟! هذا هو النفاق بعينه. على الإنسان ألا يبالي في هذه المرحلة بزيد أو بكر، بل عليه أن يتمسك بهذا المبدأ (أي مبدأ تقديم الدين على الدنيا) حتى الموت.
إن السيئة نوعان، أحدهما الإشراك بالله وعدم إدراك عظمته، والتهاون في عبادته وطاعته. والثاني التقصير في الشفقة على عباده، وعدم تأدية حقوقهم. فعليكم ألا يصدر منكم أي نوع من الفساد، وتمسكوا بالعهد الذي قطعتموه عند البيعة، ولا تؤذوا عباد الله، واقرأوا القرآن الكريم بمنتهى التدبر واعملوا به، واجتنبوا مجالس السخرية والسخف والبذاءة والشرك. حافظوا على الصلوات الخمس. باختصار، يجب ألا تهملوا أيّ أمر إلهي، نظِّفوا الجسم أيضًا وطهِّروا القلوب من كل أنواع البُغض والحقد والحسد. فهذه هي الأمور التي يريدها الله منكم”.
ندعو الله تعالى أن يوفقنا لخلق تغييرات حسنة في أنفسنا مؤدين حق البيعة، ونحقق عهد تقديم الدين على الدنيا ما دمنا أحياء، ونعمل بأوامر المسيح الموعود ؏، ونفهم طاعته ؏ فهمًا حقيقيا كما بيّن في الشرط العاشر من شروط البيعة، ونحقق ذلك المعيار للطاعة لنرث أفضال الله تعالى التي وعد بها المسيحَ الموعود ؏.