خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 30/3/2018
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
هناك صحابي للنبي صلى الله عليه وسلم هو جابر بن عبد الله وهو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام الذي تحدثتُ عنه في إحدى خطب الجمعة الماضية وقلت إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر ابنه أن الله تعالى سأل عبد الله بن عمرو بن حرام بعد استشهاده أخبرْني أمنيتك أحقّقْها لك؟ قال رب أمنيتي أن أُحيا وأرسل إلى الدينا ثانية فأُقتل في سبيلك ثانية، فقال الله هذا محال لأنه خلاف سنتي، فإن الأموات لا يرجعون إلى الدنيا ثانية، فهاتِ أمنية أخرى.
هذه القصة تدل على عظمة تضحية هذا الصحابي ومعاملة الله غير العادية معه.
كان جابر بن عبد الله ابنًا لهذا الصحابي العظيم، وكان قد اشترك في بيعة العقبة الثانية وهو صغير. وورد في قصة عبد الله بن عمرو بن حرام أنه قال لابنه عبد الله سدد عني القرض الذي اقترضته من يهودي وذلك ببيع ثمار بستاني، وورد في تلك الرواية أن جابر كان قد سدد دين أبيه هذا. كانت العادة في تلك الأيام أن الناس كانوا يقترضون ويدفعون عند حصاد الزروع والبساتين، وكان جابر رضي الله عنه أيضا يستدين لسد حاجاته. وهناك رواية مفصلة تبين كيف أن جابرا قال لليهودي الذي استدان منه عندما جاءه يطالب بالدين أن بستانه لم يدرّ عليه جيدا أو أن هناك احتمالا أن المحصول سيكون قليلا هذه المرة فسهّلْ عليّ قليلا، وخُذْ بعض الدين الآن والباقي في العام التالي، لكن اليهودي رفض أن يعطيه أية مهلة. فجاء جابر النبيَّ r أو أن ذلك الخبر بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فاستشفع له أمام اليهودي ولكنه رفض، ثم كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى لتسديد دين هذا الصحابي ودعا له شفقةً عليه، وكيف أن الله تعالى تفضل على ذلك الصحابي. هذا الأمر مذكور في الروايات.
وأود أن أنوه هنا أن البعض قال إن هذه القصة تتعلق بالدين الذي أوصى عبد الله بن عمرو بن حرام ابنه جابرًا بتسديده، وأن النخيل لم تثمر جيدا فتعذر سد الدين بثمارها، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم كما ذكرتُ آنفًا. إلا أن الرواية الواردة في البخاري تبين أن هذه القصة مختلفة ووقعت فيما بعد. على كل حال تكشف لنا هذه القصة شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على صحابته وأيضا معجزةَ استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم.
والرواية كالآتي: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَهُودِيٌّ، وَكَانَ يُسْلِفُنِي فِي تَمْرِي إِلَى الجَدَادِ ( أي إلى موسم جني ثمار النخل)، وَكَانَتْ لِجَاِبرٍ الأَرْضُ الَّتِي بِطَرِيقِ رُومَةَ، فَجَلَسَتْ فَخَلّا عَامًا (أي لم تمثر أشجاري جيدا في تلك السنة) فَجَاءَنِي اليَهُودِيُّ عِنْدَ الجَدَادِ وَلَمْ أَجُدَّ مِنْهَا شَيْئًا، فَجَعَلْتُ أَسْتَنْظِرُهُ إِلَى قَابِلٍ (أي أطلب منه المهلة إلى العام القادم) فَيَأْبَى (لعله كان ينوي الاستيلاء على البستان كله) فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجَابِرٍ مِنَ اليَهُودِيِّ. فَجَاءُونِي فِي نَخْلِي، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ اليَهُودِيَّ، فَيَقُولُ: أَبَا القَاسِمِ لاَ أُنْظِرُهُ. فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَطَافَ فِي النَّخْلِ، ثُمَّ جَاءَهُ فَكَلَّمَهُ فَأَبَى. فَقُمْتُ فَجِئْتُ بِقَلِيلِ رُطَبٍ، فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ عَرِيشُكَ يَا جَابِرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: افْرُشْ لِي فِيهِ. فَفَرَشْتُهُ، فَدَخَلَ، فَرَقَدَ ثُمَّ اسْتَيْقَظ. فَجِئْتُهُ بِقَبْضَةٍ أُخْرَى فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَ فَكَلَّمَ اليَهُودِيَّ، فَأَبَى عَلَيْهِ. فَقَامَ فِي الرِّطَابِ فِي النَّخْلِ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ جُدَّ وَاقْضِ (أي اقطفْ ثمر النخل وادفعْ به دينَه)، فَوَقَفَ فِي الجَدَادِ، فَجَدَدْتُ مِنْهَا مَا قَضَيْتُهُ، وَفَضَلَ مِنْهُ. فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَشَّرْتُهُ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ.” أي لقد وقعت هذه المعجزة والأمرُ الخارق لأن الله تعالى يستجيبب لأدعيتي ويبارك في أعمالي. هذه القصة كما تدل على شفقة النبي r على أصحابه وعلى البركة التي وضعت في الثمار بسبب استجابة دعائه، فإنها تكشف لنا أيضا عن قلق الصحابة على دفع ديونهم. هذه هي العاطفة التي يتحلى بها المؤمن الحقيقي.
نرى أحيانًا في مجتمعنا هنا أيضا أن الناس لا يراعون هذا الأمر بعد ادعائهم بالأحمدية ويماطلون في تسديد الديون، بل لا يؤدونها إلى سنين طويلة رغم رفع الناس القضايا ضدهم.
ينبغي أن نتذكر دوما كلمات المسيح الموعود u التي قال فيها: ينبغي أن تتأسوا بأسوة الصحابة بعد دخولكم في بيعتي وبعد ذلك يمكن إقامة مجتمع جميل وُعدنا بقيامه بعد مجيء المسيح الموعود والإمام المهدي u.
هناك رواية عن جابر u حول أهمية سداد الدين، ولكن سأذكر قبل هذه الرواية واقعة وردت في إحدى الروايات أنه عندما أُدّي دين والد جابر كان عمر t أيضا جاء إلى هناك فقال النبي r لعمر t أن يسأل جابر كيف تم ذلك؟ فقال عمر t: لا داعي لي أن أسأله لأنني تيقنت لما مشى النبي r في نخله من أن ديونه ستسدد كلها، ولما مشى فيه النبي r مرة ثانية أصبحت على يقين تام بأن جميع ديونه ستسدد اليوم.
وكما ذكرت أن هناك رواية عن جابر حول أهمية سداد الدين أن أحد الصحابة كان عليه دين دِينَارَينِ، فَتَخَلَّفَ رسول الله r عن الصلاة عليه فَقَالَ لَهُ صحابي يَا رَسُولَ اللَّهِ! هُمَا عَلَيّ، فصلى عليه النبي r، ثم عندما لقيه r في اليوم التالي قال: مَا صَنَعْتَ فِى الدِّينَارَيْنِ؟ أي هل أديتهما أم لا؟
هذه هي أهمية سداد الدين، ويجب أن يكون هناك اهتمام خاص بهذا الأمر. وهناك رواية أخرى عن جابر أن مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِلْوَرَثَةِ ولأهله وَمَنْ تَرَكَ ضَيَاعًا أو دَيْنًا ولا يكفي عقارُه لسداد ديونه، أو من ترك أولادًا خلفه ولا سند لهم، فسنقوم بأداء هذا الدين وكفالة أولاده أي ستتكفل الحكومة بسداد ديونه، أي سيتكفل بذلك المسؤولون. إلى جانب ذلك أكد الإسلام على ضرورة كفالة اليتيم وتربيته أيضا.
أما ما سبق من روايتين مختلفتين في قضية واحدة فعلى ما يبدو أن لكلٍ من هاتين الواقعتين مناسبة مختلفة ففي إحداهما أنكر النبي r أن يصلي على من كان عليه دين دينارين وفي مناسبة أخرى قال أداء هذا الدين مسؤولية الحكومة.
فالقول الأول لإفهام الناس الذين يقترضون دون الحاجة الملحة إليه، ولإخبارهم أن للديون أهمية كبيرة وينبغي على ورثة مثل هذا الميت وأقاربه أن يؤدوا مسؤولية أداء هذه الديون. وفي القول الثاني قد اعتبرها r مسؤولية الحكومة الإسلامية وهذا يعني أن كفالة اليتيم وأداء دينه -في حالة لم تكف عقاراته لتسديده- هي مسؤولية للحكومة. ففيه درس أعطاه النبي r للحكومات الإسلامية لتعرف كيف ينبغي أن تهتم برعاياها، ولكن مع الأسف إن أكثر حقوق الشعب تُغتصب في الحكومات الإسلامية نفسها.
هناك واقعة أخرى لشفقة النبي r ولُطفه بجابر t، يقول الراوي أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ فَقُلْتُ لَهُ حَدِّثْنِي بِمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r، قَالَ: سَافَرْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، قَالَ الراوي: لَا أَدْرِي غَزْوَةً أَوْ عُمْرَةً، على أية حال لَمَّا أَنْ أَقْبَلْنَا أي عدنا إلى المدينة قَالَ النَّبِيُّ r مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِلَى أَهْلِهِ فَلْيُعَجِّلْ، قَالَ جَابِرٌ: فَأَقْبَلْنَا وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ لِي أَرْمَكَ لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ، وَالنَّاسُ خَلْفِي فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قَامَ عَلَيَّ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ r يَا جَابِرُ! اسْتَمْسِكْ، فَضَرَبَهُ بِسَوْطِهِ ضَرْبَةً فَوَثَبَ الْبَعِيرُ مَكَانَهُ وأسرع في مشيه، فَقَالَ r: أَتَبِيعُ الْجَمَلَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فِي طَوَائِفِ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ، وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلَاطِ، فَقُلْتُ لَهُ r: هَذَا جَمَلُكَ. فَخَرَجَ r، فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ وَيَقُولُ: الْجَمَلُ جَمَلُنَا، فَبَعَثَ النَّبِيُّ r أَوَاقٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: أَعْطُوهَا جَابِرًا، ثُمَّ قَالَ: اسْتَوْفَيْتَ الثَّمَنَ؟ قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ: الثَّمَنُ وَالْجَمَلُ لَكَ.
أي لقد أدّى النبي r لجابر ثمن الجمل وأرجع الجمل أيضا إليه لطفًا منه.
قد يكون السبب في إرجاع الجمل هو كما ورد في بعض الروايات أن هذا الجمل كان يستخدم لجلب الماء للعائلة. وكان يستخدمه خالُ جابر t وأقاربه الآخرون أيضا، فقالوا: لماذا بِعتَه؟ كيف نجلب الماء الآن؟ على أية حال، كان النبي r يلطف على هذا النحو بأصحابه وخاصة أولئك الذين قدّموا تضحيات معينة. يرفع الله تعالى درجات هؤلاء الصحابة كلهم. أسرد عليكم بين حين وآخر وقائع حياتهم راجيا أن يوفقنا الله تعالى لإحياء حسناتهم والتأسي بأسوتهم.
بعد هذه الخطبة الوجيزة سأذكر بعض المناقب لفردَين مخلصَين من الجماعة توفِّيا مؤخرا. أولهما المرحوم بلال إدلبي المحترم الذي أصيب بحادث سيارة قبل بضعة أيام وتوفّي في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل بتاريخ 17 آذار/مارس 2018م على إثر سكتة قلبية. إنا لله وإنا إليه راجعون. كان المرحوم من مواليد 1978م. عندما كان شابا بعمر 17 عاما وظّفه أخوه الأحمدي في شركة الدكتور مُسَلَّم الدروبي وتعرّف على الجماعة والأحمديين وبايع بعد أن عمل هنالك لفترة وجيزة. يقول الدكتور مسلّم المحترم: كانت الصلاة تقام في بيوت الأحمديين منذ عام 2010م. ولكن بعد أن عدنا من قاديان هذه السنة أردتُ أن أصلّي في مجموعة كانت تصلّي في بيت الأخ بلال. وعندما علم الأخ بلال بحضوري استقبلني استقبالا حافلا ورحّب بي، علما أن الضيافة كانت من عادته بوجه عام، وكان في قلبه حب خاص للشخص الذي كان سببا في تعرّفه على الجماعة.
يقول رئيس الجماعة في سورية: كان الأخ بلال يملك محلا لبيع الملابس الرياضة فكان يساعد جميع الإخوة المحتاجين، حتى لو لم يكن لديه في المحل حاجتهم كان يذهب ويشتريها ويقدمها لهم. كان الأخ شديد الغيرة مسعفا لإخوانه ولا يرضى أن يرى أحدا من الإخوة الأحمديين لا يملك ما يكسيه أو يرى فيه ضيقا أو حاجة.
كان يعتني بأولاده اعتناء فائقا وكان يضعهم بأفضل المدارس. قبل الحادث بيومين كنا نصلّي الجمعة في بيته، وقد أخبرني سكرتير المال أن المرحوم دفع كل ما كان عليه من تبرعات الوصية ووعود التحريك الجديد والوقف الجديد، وقال أيضا له: إنني قد سجّلت أرضا جديدة باسمي وأريد أن أضعها في ملف الوصية الخاص بي. كان المرحوم يدفع التبرعات بالتزام ويدوّن حسابها جيدا. كان مهتما كل اهتمام بخدمة الخلق وملتزما بالصلاة والعبادات. كان يحب الخلافة والخليفة حبا جما حتى عندما كنتُ أذكر كلماتكم في الخطبة كان يغطي وجهه ويبكي. وكان دائما يقول لي: كأن الخليفة نصره الله يتحدث إليّ أو يتحدث عني.
لقد ترك المرحوم وراءه ابنا بالغا من العمر 11 عاما، وابنة عمرها 12 عاما. لديه أخ أكبر منه موجود حاليا في ألمانيا وهو أحمدي، وأخان وأخت غير أحمديين موجودين في دمشق. أخته من أشد المعارضين للجماعة.
يقول رئيس الجماعة: عندما حان وقت صلاة الجنازة على المرحوم لم نكن نتوقع أن يسمحوا لنا بالصلاة عليه، ولكن حدث بقدر الله تعالى أن قالوا لنا: صلّوا عليه أنتم في مسجدنا ولا بأس ولن نعترض. وقد صلّى خلفنا الجنازة جميع من كان في المسجد وكان الجمع غفيرا، والحمد لله.
الجنازة الثانية هي للمرحومة سليمة مير رئيسة لجنة إماء الله السابقة في كراتشي. كانت زوجة السيد عبد القادر دار، وقد توفيت بتاريخ 17/3/2018م عن عمر يناهز 90 عاما. كان والدها السيد مير إلهي بخش صحابيا للمسيح الموعود u من سكان مدينة شيخ بور محافظة غوجرات، وقد بايع في عام 1904م. كانت والدة المرحومة – السيدة مريم بيغم- خريجة مدرسة البنات في قاديان. كانت المرحومة مولعة بتعليم القرآن الكريم. لقد تزوجت في 1946م وانتقلت عائلتها إلى كراتشي بعد تقسيم القارة الهندية، ثم سافرت هذه العائلة إلى إيران في عام 1961م، حيث كانت بضع عائلات أحمدية تسكن هنالك من قبل، فدبّرت المرحومة صلاة الجمعة وعقد الاجتماعات.
توفّي زوج المرحومة في عام 1964، فانتقلت عند أخيها السيد مير أمان الله الساكن في كراتشي. وإلى جانب تربية أولادها الثمانية خاضت مجال الدراسة أيضا ونالت شهادة البكالوريوس وبدأت العمل في فرع المراسلة في مكتب لجنة إماء الله. وإضافة إلى ذلك وفّقت للعمل في مناصب مختلفة تحت مظلة لجنة إماء الله. عندما شُكّلت لجنة مشرفة في عام 1981م عيّنها الخليفة الثالث رحمه الله رئيسة لها.
تقول المرحومة بهذا الشأن: عندما عيّني الخليفة الثالث رحمه الله رئيسة تلك اللجنة غلبتني حالة غريبة بحيث احترتُ في أمري، وقلتُ في نفسي: أنّى لي أن أؤدي حق هذه المسؤولية الجسيمة؟ فمن ناحية كان الأمر يتعلق بطاعة الخليفة ومن ناحية ثانية كنت أشعر بقلة علمي وعدم خبرتي للعمل في مجال واسع مثله، فانصرفتُ إلى الدعاء وتضرعتُ إلى الله تعالى بشدة، وبدأتُ العمل. طلبتُ اجتماعات الهيئة الإدارية على فترات متقاربة وقمتُ بجولات تفقدية في مختلف الفروع للجنة إماء الله، وحثثتُ عضواتها على ضرورة الطاعة والالتزام بنظام اللجنة والتحلي بأخلاق إسلامية سامية، والجهاد ضد البدعات وتجنّب عادة الاعتراض على النظام اجتنابا كليا. (علما أن من عادة بعض الناس وخاصة السيدات الاعتراض على النظام دون مبرر، وإن كان الرجال أيضا يفعلون ذلك في هذه الأيام دونما سبب) فقالت يجب أن لا يثار في مجالسنا أي اعتراض، ونصحتْهن بالإكثار من الاستغفار. كانت ترسل الرسائل إلى الخليقة الثالث بانتظام، تقول: بفضل الله I أن لجنة إماء الله في كراتشي بدأت تتقدم. كانت بدأتْ أعمال اللجنة في إيران في 1961 ثم حين التحقت في كراتشي بلجنة إماء الله المركزية من جديد في 1986 عيَّنها الخليفة الرابع رحمه الله رئيسة لجنة إماء الله في كراتشي. فخدمتْ اللجنةَ على هذا المنصب من 1986 إلى 1997. لجنة إماء الله كراتشي أحرزت في عهدها نشاطا بارزا في نشر الكتب، فقد نُشرت في عهدها مجلتان وستُّون كتابا. في عهدها فُتحت دورة لتدريب الداعيات إلى الله أيضا، فأبدى الخليفة الرابع إعجابه الكبير بذلك. وكتب في رسالة لها: “أنت بفضله تعالى تنجزين أعمالا رائعة وتنبعث من فؤادي أدعيةٌ لك. بارك الله في عمرك وصحتك وأفراحك، وجزى زميلاتك المخلصات أحسن الجزاء في الدنيا والآخرة.”
هناك تفاصيل كثيرة لأعمالها، وقد أشاد الخليفة الثالث والرابع رحمهما الله بروعة خدماتها كثيرا، فقد كتب الخليفة الرابع في رسالة إليها: “وصلني منك تقريرٌ عن أنشطة لجنة إماء الله في كراتشي وعواطفُ الإخلاص والاعتقاد الكبيرين، إنني أقدر عواطف إخلاصكنّ واعتقادكنّ جميعا من صميم فؤادي، وأسأل ربي دوما الخير لكنّ وأدعو الله أن يعيد بعظمة أكبر من ذي قبل تلك الأيام التي ذكرياتُها عزيزة إلي جدا.”
كانت المرحومة سلمى مير ترملت يوم كان عمرها 36 سنة، وتقول ابنتها إني لم أسمع قط من لسانها أي كلمة تنافي الصبر والشكر، فكانت تشكر الله I دوما وفي كل حال، وكانت أفكارها دوما إيجابية، وكانت تتمنى أن يكون أولادها كذلك.
تقول إحدى بناتها: مرض زوجي وكان مرضه الأخير وكانت أمي قد جاءت إلى بيتي وأول شيء أعطتنيه بعد وفاته كان مجلدات ملفوظات المسيح الموعود u. وقالت: لقد عشتُ مع هذه الملفوظات بعد وفاة والدك، وفوَّضت أمري كله إلى الله I. وكانت تقول يجب أن يفوق حب الله كل حب آخر. تتابع ابنتها وتقول: حين كان زوجي يُحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة، طلب مني الدكتور التوقيع على استمارة، ففقدتُ السيطرة على العواطف وبكيت، وارتفع صوت بكائي وكنت أتألَّم كثيرا، فسمعتْني أمي التي كانت تجلس قريبا مني، وحين توقفت عن ذلك لدى الخروج من المستشفى، قالت لي بلجهة قاسية حازمة جدا: أنت ابنتي ويجب أن لا تكون ابنتي فاقدة الصبر لهذه الدرجة. لـمَ صدر منك صوتُ البكاء العالي؟ ثم قالت: الصبر عند الصدمة الأولى. أما لاحقا فكل واحد يصبر. ثم نصحتني قائلة: كان زوجك أمانة الله فهو الذي كان قد وهبه لكِ وكان ملكه والآن استعاده. كانت المرحومة نفسها قد أنجبت صبيا بعد أربع بنات وحين توفي قالت بمنتهى الصبر والتحمل: كان أمانة من الله I وقد استعاد أمانته. كانت تداوم على الدعاء. تقول بناتها: كانت تنصحنا دوما باللغة البنجابية ما معناه حذار أن تتركن ذيل الخليفة، وابقين متمسكات دوما بأهداب الخلافة. كانت تهتم كثيرا بالحجاب، وحيثما لاحظت تقصيرا في الحجاب نصحت بأسلوب لطيف حتى لا تنـزعج الأخريات. تقول إحدى بناتها: عند خِطبة ابنتي الصغيرة قال الشاب إنه يريد أن يرى الخطيبة قبل أن يتقدم في الموضوع، فقلت لأمي يمكن أن تظهر البنت أمامه متخففة الحجاب قليلا، فقالت أمي فورا لن أسمح لها بذلك وإن لم تتم الخطبة.
ذات يوم كان لحفيدتها امتحان السواقة هنا في لندن وكان الممتحن رجلا، فرافقتْها المرحومة ولم تسمح لها بالذهاب وحدها مع رجل. وسخر منها الناس لكنها لم تبالِ بأهل الدنيا. كانت تنصح دوما بالحجاب أو الخمار وتقول هناك كتاب نشرته لجنة إماء الله باسم “الأزهار لذوات الخمار” ويحتوي على توجيهات الخلفاء، وكانت تقول: إذا أردتن الأزهار فلا بد من ارتداء الخمار، فالأزهار للمحجبات فقط. تقول إحدى حفيداتها: أيامَ عرسي أهدت لي كتابا عن سيرة المرحومة نواب مباركة بيغم بعد أن وضعت الخط تحت نصائح حضرتها للعروس يوم العرس، وقالت لي: اقرئيه مرة بعد أخرى. لم يكن يعجبها بقاء الفتيات في أي مناسبة خارج البيت حتى وقت متأخر من الليل. أيام دراستي في الكلية إذا كان احتفال في بيت صديقاتي كانت المرحومة ترافقني.
تقول في هذه الأيام أيضا كثير من الفتيات أننا نريد قضاء الليل في الخارج، فأقول: هذا السلوك خاطئ تماما ويجب أن تجتنبه بناتنا. تقول بنت المرحومة: إذا فاتتنا صلاة الفجر لم تكن تتكلم معنا، وكان ذلك أكبر عقاب لنا. ذات مرة جاءت إلى شيكاغو بأمريكا، ففي مناسبة شغّلت إحدى النساء موسيقا وقامت بأسلوب وكأنها تهب للرقص فأمسكت بها المرحومةُ من الخلف وقالت لها: أغلقي هذه الموسيقا، ألَا تعرفين ماذا قيل عن الراقصات؟ كفلت المرحومة ابنةً مسيحيةً وعلّمتها بعض الأدعية وأمورا أخلاقية أخرى، وكانت هذه البنت تقول: لقد أصبحتُ شبه أحمدية.
تقول السيدة أمة الباري ناصر المحترمة: إن الله تعالى استخدم الأختَ سليمة مير للجنة إماء الله في كراتشي لمدة طويلة. إنها لم تبقَ في هذه الدنيا ولكن عضوات اللجنة اللواتي تربَّيْن على يديها سيحيين اسمها وعملها بخدماتهن في جميع أنحاء العالم، وكان اسمها مثلًا لحسن العمل. كانت تشرف دوما وتعلّم الآخرين، لم تكن تحب إظهار نفسها كثيرا، بل كانت تحب أن تتعلم العاملاتُ معها العملَ. وحين نُشرت الكتب عملت على تشجيع اللجنة كثيرا. وفي أواخر عمرها كانت تُضطر للذهاب إلى خارج البلاد كثيرا مما كان يؤثر في عمل الجماعة فطلبت بنفسها من المركز تعيين رئيسة أخرى وعقدت اجتماعا وقلّدت السيدة بهتي الرئيسةَ الجديدة أزهارًا، ثم أجلستها على كرسي الرئيسة وألقت كلمة رائعة حول خدماتها وأكدت على الطاعة وهكذا تخلت عن مسؤوليتها بكل وقار.
فهكذا تُنقل المسؤولية، وفيه درس للذين إذا أُزيلوا من مسؤولية في الجماعة أو إذا لم يُوافَقْ على تعيينهم بدأوا بالاعتراض، بدل أن يشكروا الله تعالى سواء وجدوا فرصة الخدمة أم لم يجدوها، وإذا لم يجدوا فرصة بحثوا عن سبل أخرى لخدمة الجماعة، ولكن ليس ضروريا للخدمة أن يجدوا منصبا ما.
ثم قالت: كانت المرحومة تقوم بجميع الأعمال بحكمة ومحافظةً على أسرار الآخرين، كلما شاطرناها خواطر القلب لم نخشَ قط إفشاء السر. كانت محافظة جدا على السر. كتبت أمة الباري ناصر: لا ندري كيف كانت تدفن أسرار الجميع في صدرها. وهذه ميزة مهمة تنقص الرجال أيضا.
كتبت السيدة أمة النور من كراتشي: كانت السيدة سليمة مير مُـحبّة جدا ومخلصة ومتواضعةً للغاية ومشجعةً جدا أعمالَ الآخرين وذاكرة إياها ناكرةً ذاتها، وطليقة الوجه. وكان الله تعالى قد أعطاها قلبا جميلا وليِّنا إضافةً إلى الوجه الجميل. قالت: عندما عيّنتْني رئيسةً محلية فقلتُ هذه المنطقة واسعةً جدا ولستُ خبيرةً كما لا أملك وسيلة مواصلات فقالت: لا تقلقي، إن ابنتي تسكن قريبا منك، وكلما احتجتِ سيارة لزيارة الأخوات قولي لها ستُهيئ لك السيارة أو قولي لي سأرسل إليك سيارتي، فلا داعي للقلق. كانت متواضعةً للغاية، وكانت تستعمل العاملات وهي تجلس بينهن.
تقول سكرتيرة النشر والتوزيع في كراتشي: وجدتُ فرصة العمل مع السيدة سليمة مير منذ 1986م فوجدتها كريمة ومتواضعةً. وفي مناسبة عُلم عن سيدة كانت متحمسة جدا في الخدمة ولكنها انقطعت لفترة من الزمن، ثم تبيّن أنها مريضة جدا ولديها بعض الأشياء النادرة فتواصلنا معها بحكمة تحت إشراف السيدة سليمة ولكنها تُوفيت قبل أن نحصل على هذه الأشياء، فقلنا لإحدى قريباتها إن كان لديكم مثل هذه الأشياء للمتوفاة فأعطونا إياها سندفع ثمنها، لأنها كانت تخص تاريخ الجماعة وكانت تبركات المسيح الموعود u، فوجدنا صندوقا كانت فيه رسائل المسيح الموعود u التي كتبها بخط يده وكتابات الخليفة الأول t، والصندوق أيضا كان تاريخيا، أخذته المرحومة بغاية الحكمة وعالجت أيضا المرأة التي كانت قد انقطعت عن الجماعة.
لقد كتب الجميع أنها كانت وقورةً جدا وذات همة عالية وصبورة ودمثة الأخلاق وتحب الخلافة وتوصي الآخرين أيضا بالارتباط بالخلافة، وصالحة تدعو الآخرين أيضا إلى الصالحات، وكانت تنصح الجميع سواء كانوا أقاربها أم غيرهم، ولم تكن تنصح الآخرين وتغض الطرف عن أولادها بل وجّهت النصائح إلى بناتها أيضا، وكانت جدّ متوكلة على الله، وراضيةً برضى الله تعالى في كل حال. رفع الله تعالى درجاتها ووفّق أولادها وبناتها ليواصلن حسناتها. سأصلي بعد صلاة الجمعة على كلا المرحومين.
*********