خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام

يوم 7/12/2018

*****

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.

اسم الأول من الصحابة الذين أتناول ذكرهم اليوم هو عبيد بن زيد الأنصاري، وكان من بني العجلان. شهد بدرًا وأحدًا. عن معاذ بن رفاعة عن أبيه: خرجت أنا وأخي خلاد مع رسول الله ﷺ إلى بدر على بعير لنا أعجف، حتى إذا كنا موضع البريد الذي خلف الروحاء، برك بنا بعيرنا (ولقد ذُكِرَ جزء من هذه الواقعة في إحدى خطبي أثناء تناولي لذكر صحابي آخر، يقول:) برك بنا بعيرنا، فقلت: اللهم لك علينا لئن أدّيتنا إلى المدينة لننحرنّه. فبينا نحن كذلك إذ مرّ بنا رسول الله ﷺ فقال: ما لكما؟ فأخبرناه أنه برك علينا، فنـزل رسول الله ﷺ فتوضأ ثم بصق في وضوئه ثم أمرنا ففتحنا له فم البعير فصب في جوف البكر من وضوئه، ثم صب على رأس البِكر ثم على عنقه ثم على حاركِه ثم على سنامه ثم على عجزه ثم على ذنبه، ثم قال اللهم احمل رافعا وخلادا. فمضى رسول الله ﷺ وقمنا نرتحل فارتحلنا فأدركنا النبي ﷺ على رأس المنصف، وبكرنا أول الركب، فلما رآنا رسول الله ﷺ ضحك، فمضينا حتى أتينا بدرا، وعند الرجوع من بدر لما وصل بعيرنا إلى مصلى برك علينا فنحرناه وتصدقنا بلحمه.

على أية حال كان عبيد بن زيد أيضا معهم في هذه الرحلة.

زاهر بن حرام الأشجعي أيضا من الصحابة الذين شهدوا بدرًا وكان من بني أشجع. كان قد شهد بدرًا مع رسول الله ﷺ. عن أنس بن مالك أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ ﷺ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ”

كان النبي ﷺ يحبّه كثيرًا. لم يكن زاهر يتمتع بوسامة كبيرة بل كانت ملامح وجهه عادية. {فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَرْسِلْنِي، مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ ﷺ فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: “مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟” فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ” أَوْ قَالَ: “لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ”.

ولقد ذكر المصلح الموعود ؓ هذه الواقعة نفسها إذ جَبَرَ النبي ﷺ خاطرَ الصحابي المذكور فقال:

كان النبي ﷺ ذات مرة يمر من السوق، فرأى صحابيا فقيرا دميم الخِلقة يحمل حِملا ثقيلا في طقس حارق، وكان جسده مغبرًّا ويسيل عرقًا. ذهب رسول الله ﷺ إليه من ورائه في صمت تام ووضع يديه على عينيه كما يفعل الصبيان في اللعبة فيضعون أيديهم على عيني أحد ثم يريدون أن يتحسس زميلهم ويكتشف مَن وضع يديه على عينيه. كذلك وضع رسول الله ﷺ يديه على عينَي الصحابي مداعبًا، فتحسس يدَي النبي ﷺ الناعمتين وعرف من هو، ثم بدأ يُلامس جسمه المتعرِّق بثيابه ﷺ بفرط الحب. ظل رسول الله ﷺ يبتسم ثم قال: عندي عبدٌ، هل يريد أحد أن يشتريه؟ قال الصحابي: من سيشتريني في هذا العالم يا رسول الله؟ قال: لا تقل هذا بل إن ثمنك غال عند الله.

وعليه فقد نال هؤلاء الصحابة فيوض المحبة العجيبة.

لقد قال النبي ﷺ مرة: “إِنَّ لِكُلِّ حَاضِرَةٍ بَادِيَةً، وَبَادِيَةُ آلِ مُحَمَّد زَاهِرُ بْنُ حَرَامٍ”. لقد انتقل زاهر بن حرام لاحقًا إلى الكوفة.

والصحابي الآخر الذي أتناول ذكره هو زيد بن الخطاب وهو الأخ الأكبر لعمر بن الخطاب، وأسلم قبل إسلام عمر، وهو من أوائل المهاجرين أيضا. شهد مع النبي ﷺ بدرًا وأحدًا والخندق والحديبية وبيعة الرضوان وشهد مع النبي ﷺ المشاهد كلها.

وقد آخى النبي ﷺ بينه وبين معن بن عدي، وظلا معًا حتى استشهدا في اليمامة.
كان زيد الأخ الأكبر لعمر بن الخطاب، فقد قال له عمر يوم أحد: خذ درعي يا زيد فقاتل به، فلبسه لبرهة ثم خلعه عند القتال. فسأله عمر عن ذلك، فردَّ عليه زيد: إني أريد من الشهادة ما تريده يا عمر، فتركا الاثنان الدرع وقاتلا بدونه.

عن زيد بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ في حجة الوداع: أرقّاءكم أرقّاءكم، أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، وإن جاؤوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذّبوهم.
في معركة اليمامة التي تراجع المسلمون منهزمين في أولها، جعل زيد يصيح بأعلى صوته: اللهم إني أعتذر إليك من فرار أصحابي، وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة ومحكم بن طفيل. ثم جعل يسير بالراية يتقدم بها في صفوف العدو مظهرًا مهارته في استخدام السيف إلى أن استشهد.

فلما استشهد زيد قال عمر بن الخطاب: رحم الله زيدًا سبقني إلى الحسنيَين، أسلم قبلي، واستشهد قبلي.

وفي رواية: لما سع عمر متمم بن نويرة يرثي أخاه مالك بن نويرة قال: لو كنت أحسن الشعر لقلت في أخي زيد مثل ما قلت في أخيك مالك، فقال متمم: ولو أن أخي ذهب على ما ذهب عليه أخوك ما حزنت عليه، فقال عمر: ما عزاني أحد بأحسن مما عزيتني به.

وقد وردت هذه الواقعة مفصلة في رواية أخرى جاء فيها: قال عمر بن الخطاب ؓ لمتمم بن نويرة: ما أشدَّ ما لقيتَ على أخيك من الحزن! فقال: كانت عيني هذه قد ذهبتْ، وأشار إليها، فبكيت بالصحيحة فأكثرتُ البكاء حتى أسعدتْها العينُ الذاهبة وجرت بالدمع. فقال عمر: إن هذا لحزن شديد، ما يحزن هكذا أحد على هالكه. ثم قال عمر: يرحم الله زيدَ بن الخطاب، إني لأحسب أني لو كنتُ أقدر على أن أقول الشعر لبكيتُه كما بكيتَ أخاك، فقال متمم: يا أمير المؤمنين، لو قُتل أخي يوم اليمامة كما قُتل أخوك ما بكيته أبدا. فأعجبَ عمر قولُه وتعزَّى عن أخيه، وكان قد حزن عليه حزنا شديدا. وكان عمر يقول: إن الصبا لتهب فتأتيني بريح زيد بن الخطاب.

وزيد بن الخطاب ؓ هو الذي قتل الرَجّالَ بنَ عُنْفُوة وهو أحد أتباع مسيلمة الكذاب. وفي رواية أن اسمه نهار بن عنفوة. وكان هذا قد أسلم وهاجر وكان من قراء القرآن الكريم، ثم لحق بمسيلمة الكذاب مرتدًا، هذا يعني أن على المرء أن يدعو دائما لحسن عاقبته، وقال الرجّال لمسيلمة أنه سمع رسول الله ﷺ يُشرِكه في الرسالة، فكان أعظمَ فتنة على بني حنيفة.

وعن أبي هريرة قال: جلستُ مع رسول الله ﷺ في رهط ومعنا الرجّال بن عنفوة، فقال ﷺ: إن فيكم لرجُلاً ضرسُه في النار مثل أُحُد، أي أنه سيكون في النار وسيُضلّ قوما. وبقيتُ أنا والرجّال بن عنفوة، فكنتُ متخوفًا لها، حتى خرج الرجّال مع مسيلمة وشهد له بالنبوة. وقُتل الرجال بن عنفوة يوم اليمامة، قتله زيدٌ بن الخطاب.

وكان زيد بن الخطاب استُشهد على يد أبي مريم الحنفي، وكان أبو مريم أسلم بعد ذلك، فقال له عمر ؓ ذات مرة: أأنت قتلتَ زيدَ بن الخطاب؟ فقال أبو مريم: يا أمير المؤمنين إن الله أكرمَ زيدًا بيدي، ولم يُهِنّي بيده. فقال عمر: كم ترى المسلمين قتلوا منكم يومئذ؟ قال: ألفا وأربعمائة يزيدون قليلا. فقال عمر: بئس القتلى! قال أبو مريم: الحمد لله الذي أبقاني حتى رجعت إلى الدين الذي رضي لنبيه، عليه السلام، وللمسلمين. قال فسُرّ عمر بقوله. وصار أبو مريم فيما بعد قاضيا على البصرة.

والصحابي الذي سأذكره الآن هو عبادة بن الخشخاش ؓ. وقال الواقدي أن اسمه عبدة بن الحساس، بينما قال ابن منده إن اسمه عباده بن الخشخاش العنبري. وكان من قبيلة بلي وهو أَخو المُجذَّر بن زياد لأُمهِ؛ وهم حُلفاء بني سالم. حضر عبادة بن الخشخاش بدرًا، وأسَرَ قيس بن السائب يوم بدر. استُشهد يوم أحد، وقد دُفن مع النعمان بن مالك والمجذر بن زياد في قبر واحد.

والصحابي الذي أذكر بعده هو عبد الله بن الجد. كان والده الجد بن قيس. كانت كنيته أبو وهب، وكان من بني سلمة وهي قبيلة من الأنصار. وكان معاذ بن جبل ؓ أخا له من أمه. شهد عبد الله بن الجد بدرًا وأُحدا. قال رسول الله ﷺ لوالده أبي وهب: يا جدّ، هل لك أن تخرج معنا للحرب هذا العام. فاعتذر بعذر واه عجيب، وقال يا رسول الله ائذن لي، ولا تفتنّي، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشدَّ عجبا بالنساء مني، وإنى أخشى إنْ رأيتُ نساء بنى الأصفر أن لا أصبر. فأعرض عنه رسول الله ﷺ وقال: قد أذنتُ لك، أي تختلق عذرا واهيا ومع ذلك آذن لك. ولما علم عبد الله بن الجد ما فعل أبوه جاءه وقال لماذا رفضت قول رسول الله ﷺ، فوالله أنت أكثرُ بني سلمة مالا، كان عليك أن تستغل هذه الفرصة وتشترك في الغزوة، فأنت لا تحضر الغزوات ولا تهيئ المركب للآخرين.

وقدّم الأب لابنه عذرا آخر وهو الصحيح فقال يا بني لماذا أخرج لقتال بني الأصفر في موسم هذا الحر وهذا الضيق. والله لا أراني محفوظا من خوف بني الأصفر وأنا في بيتي في خربة. والخربة موضع ديار بني سلمة. فكان هذا يخاف الروم خوفا شديدا. كان جبانا. فقال لابنه هل أخرج خلافهم وأشترك في قتال ضدهم؟! يا بني والله أنا أعلم بمكر الدهر، وأعلم أن الأيام دول.

لما سمع عبد الله كلام والده هذا تكلم معه بشدة وقال والله إن فيك نفاقا، ولا بد أن ينزل الله على رسوله ﷺ فيك قرآنا سيقرأه الجميع، أي سيكشف الله للجميع أنك من المنافقين. فرمى إليه والده نعله فأصاب وجهه، فخرج عبد الله من عند والده بدون أن يكلمه.

أما ما قيل عن نفاق الجد بن قيس والد عبد الله ؓ فقد ورد في أسد الغابة أنه حضر صلح الحديبية، ولكن لما أخذ النبي ﷺ البيعة لم يشترك فيها الجد بن قيس، وقيل أنه تاب بعد ذلك، وتوفي في خلافة عثمان ؓ.

والصحابي الآخر الذي سأذكره الآن هو الحارث بن أوس بن معاذ، وكان ابن أخي سعد بن معاذ زعيم قبيلة الأوس. شهد الحارث بدرا وأُحدا. وقد ورد عنه أنه استُشهد في غزوة أحد حين كان بالغا من العمر 28 عاما. ولكن تقول روايات أخرى أنه لم يُستشهَد في غزوة أُحد. عن عائشة قالت خرجت يوم الخندق فسمعت حسا فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنه.

فهذا الحديث يدل على أنه كان على قيد الحياة إلى يوم الخندق. يروى عن الحارث أنه كان ممن قتلوا كعب بن الأشرف. وكان كعب من زعماء المدينة وكان ممن اشتركوا في ميثاق أُبرم بينهم وبين النبي ﷺ. ولكنه سعى فيما بعد لعيث الفتنة وأمر النبي ﷺ بقتله. على أية حال إن وقائع أصابته بالجروج وقتله مذكورة في شرح عمدة القاري، وجاء فيها أن محمدا بن مسلمة هاجمه مع أصحابه وأرداه قتيلا. في هذه الأثناء أصابه نصل سيف أحد أصحاب الحارث بن أوس وجُرح، فحملوه ووصلوا به إلى المدينة فورا وذهبوا إلى النبي ﷺ فوضع النبي ﷺ لعابه على جروح الحارث بن أوس فلم يشعر بألم بعده.

لقد ذكرتُ من قبل أيضا وقائع قتل كعب بن الأشرف بشيء من التفصيل، والآن أذكر تفاصيل أخرى للحادث نفسه كما أوردها مرزا بشير أحمد ؓ، فقال: كان كعب بن الأشرف يهوديا مذهبا ولكنه لم يكن يهودي النسب، بل كان من العرب. كان والده “الأشرف” من بني نبهان وكان ذا نفوذ كبير، وكان قد أنشأ علاقات جيدة مع بني النضير بعد مجيئه إلى المدينة ثم صار حليفا لهم. ثم ازداد نفوذا وأحرز قوة كبيرة إلى درجة أن زوّجه أبو رافع بن أبي الحقيق، زعيمُ قبيلة بني النضير ابنتَه التي أنجبت كعبًا. وحاز كعب مرتبة أعلى من أبيه أيضا حتى حسبه اليهود العرب كلهم زعيما لهم. كان كعب جميل الشكل خطيبا مفوها وشاعرا متمكنا وثريا جدا، فكان يجعل العلماء وغيرهم من قومه يدينون له نتيجة سخائه المالي. أما من الناحية الأخلاقية فكان سيئ الأخلاق جدا. كان بارعا في المكر السيئ وحياكة المكايد. عندما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة اشترك كعب بن الأشرف مع اليهود الآخرين في ميثاق معه ﷺ.

لقد سجل مرزا بشير أحمد ؓ تفصيلا طويلا لهذا الحادث ولكنني سأوجز بيانه. إذًا، قد اشترك كعب في مثياق الصداقة والأمن والسلام والدفاع المشترك بين النبي ﷺ واليهود، ولكن كعبًا كان يحترق داخليا في نار البُغض والعداوة. لقد اشترك في الميثاق ظاهريا ولكن كان يكنّ في قلبه نفاقا. وبسبب البُغض والعداوة في قلبه شرع في معارضة الإسلام والنبي ﷺ من خلال المكايد والمؤامرات السرية. فقد جاء أن كعبا كان يتصدق كثيرا كل عام على أحبار اليهود وعلمائهم. وحين جاءه هؤلاء الناس بعد الهجرة طالبين رواتبهم السنوية ذكر كعبٌ النبيَّ ﷺ عندهم في معرض الحديث وقال: ما رأيكم فيه بحسب كتبكم الدينية، هل هو صادق أم لا؟ قالوا: يبدو في الظاهر أنه ذلك النبي الذي وُعدنا به. فبسماع هذا الجواب فإن كعبًا، الذي كان يكنّ البُغض والضغينة سلفا، استشاط غضبا ولامهم كثيرا ولم يعطهم رواتبهم أو الصدقة التي كان يعطيهم إياها من قبل. عندما انقطع معاش العلماء اليهود جاؤوه مرة أخرى بعد فترة من الزمن وقالوا ما مفاده: لقد أخطأنا في فهم علامات ذلك النبي وبعد مزيد من التدبر توصلنا إلى نتيجة أن محمدا ليس ذلك النبي الموعود. وبهذا الجواب تحققت أمنية كعب، وسُرّ كثيرا وتصدّق عليهم وبذلك تحققت أمنيتهم أيضا.

لقد صدق مرزا بشير أحمد ؓ حين قال أن معارضة كعب للإسلام كانت ناتجة عن خلاف ديني. ولكن المعارضة الدينية ليست محلا للاعتراض إلى حد اتخاذ إجراءات قاسية ضده إلى أقصى الحدود أو يُعَدّ كعبٌ مجرما بناء عليها. ولكن الحق أن معارضته قد اتخذت صبغة خطيرة جدا، وبعد معركة بدر بدأ يعيث الفساد ويثير الفتنة التي خلقت للمسلمين ظروفا خطيرة جدا. لقد ظن كعبٌ في البداية أن الحماس الإيماني لدى المسلمين شيء مؤقت وسيخمد سريعا، وسيعودون إلى دينهم السابق. ولكن عندما حاز المسلمون فتحا عظيما في معركة بدر وقُتل معظم زعماء قريش أصابه قلق شديد وعقد العزم على القضاء على الإسلام وتدميره بكل قوة. وقد بدا بُغضه وحسده للمرة الأولى بمناسبة بدر نفسها حين قال الناس بعد العودة أنهم انتصروا على كفار مكة. فقال كعب إن هذا كذب كله، وهذا الخبر باطل. مع أنه كان صادقا. وكما سبق الذكر أن كعبا استشاط غضبا أكثر من ذي قبل بعد تَبَيُّن صدق الخبر. وعندما عاد المسلمون بعد انتصارهم في معركة بدر، سافر كعب إلى مكة وأثار حفيظة أهلها وأشعل نار ضغينتهم ضد المسلمين أكثر بإلقاء القصائد والخطابات عليهم بلسانه الذرب، وخلق في قلوبهم عطشا لا يخمد لدماء المسلمين، وملأ صدورهم بعواطف الانتقام. عندما احتدّت عواطفهم كثيرا نتيجة تحريض كعب أخذهم إلى الكعبة المشرفة وجعل ستائرها في أيديهم وناشدهم ألا يهدأوا ما لم يقضوا على الإسلام ومؤسسه ﷺ قضاء نهائيا. إن تصرفاته هذه قد أحدثت في مكة بركانا. ثم توجه كعبٌ إلى قبائل أخرى وذهب إلى كل قوم وحث الناس ضد المسلمين وشبب بنساء المسلمين (أي ذكر السيدات المسلمات في أشعاره المثيرة بطريقة بذيئة جدا) حتى جعل السيدات الطاهرات من أسرة النبي ﷺ عرضة لأشعاره البذيئة وأشاع أشعاره هذه. بلغ من وقاحته ذروتها حتى تآمر لقتل النبي ﷺ بحيث أوكل إلى بعض الشباب اليهود مهمة قتله، ولهذا الغرض دعا النبيَّ ﷺ إلى بيته بحجة تقديم الضيافة له، ولكنه ﷺ علم بفضل الله تعالى بالمؤامرة في وقت مناسب ولم تنجح مؤامرة كعب. عندما بلغ الأمر إلى هذا الحد وثبتت جرائم كعب بما فيها نقض العهد والتمرد والتحريض على القتال، وإثارة الفتنة وبذاءة الكلام ومؤامرة القتل، حكم النبيُّ ﷺ- الذي كان زعيما للحكومة الديمقراطية التي تأسست في المدينة وبناء على الميثاق الذي أُبرم بينه وبين أهل المدينة  بعد وصوله ﷺ إليها- بأن كعبا بن الأشرف يستحق القتل بسبب تصرفاته ومؤامرته، وأمر ﷺ أصحابه بقتله. ولكن لما كانت الأوضاع في المدينة بسبب إثارة كعب الفتنة تهدد بخطورة الحرب الأهلية وسفك الدماء، لذا قرر النبي ﷺ قتله سرا درءا للفتنة والفساد وسفك الدماء. وكلّف بهذه المهمة محمد بن مسلمة الذي كان صحابيا مخلصا من قبيلة الأوس. وأوصاه بأن ينفذ الخطة باستشارة سعد بن معاذ زعيم قبيلة الأوس. فقال محمد بن مسلمة ما مفاده: يا رسول الله، لا بد لنا من إبداء سبب ما لهذا الغرض ليخرج كعب من بيته حتى نقتله. فسكت ﷺ أي افعلوا ما تشاؤون. فبعد استشارة سعد بن معاذ ذهب محمد بن مسلمة مع أبي نائلة وصحابيين أو ثلاثة صحابة آخرين إلى بيت كعب وقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وقد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضًا لتملنَّه. فرد عليه محمد إنا قد اتبعنا بمحمد رسول الله ﷺ وننظر إلى أي شئ يصير شأنه، لكن أخبرنا أنت هل تُسلفنا أم لا؟ فقال له كعب: نعم سأهيئ لكم القرض بشرط أن تُرهنوني. فسألوه: أي شئ تريد؟ فقال ذلك الشقي أولا: أرهنوني نساءكم. فغضبوا كثيرا وقالوا: كيف نرهن رجلا مثلَك نساءَنا؟ فقال أرهنوني أبناءكم إذن. قالوا هذا أيضا مستحيل إذ سوف يعيِّرنا العرب كلُّهم فلا نطيق ذلك، ولكن نرهنك السلاح. فوافق كعب على ذلك، ثم وعده محمد بن مسلمة وأصحابه بأنهم سيأتونه ليلا وانصرفوا من عنده. ثم حين حلَّ الليل جاؤوا إليه مع السلاح علنا، فنادَوه إلى الخارج وأمسكوا به وقتلوه. وكان زيد هذا قد أصيب بجرح من سيف أحد أصحابة أثناء عملية القتل تلك. وبعد قتله جاؤوا إلى النبي ﷺ وأخبروه بأنهم قتلوه. وحين انتشر خبر قتله صباحا ذاع الفزع والذعر، وثار اليهود كلُّهم، وجاء وفد منهم إلى النبي ﷺ واشتكوا عنده أن زعيمهم كعب بن الأشرف قد قُتل. فلم ينكر النبي ﷺ ذلك ولم يقل لهم إني لا أعرف عن ذلك، بل سألهم هل تعرفون ما هي الجرائم التي كان ارتكبها، ثم ذكّرهم بتصرفات كعب الشنيعة مثل نقض العهد والتحريض على الحرب، وإثارة الفتن والفواحش، ومؤامرة قتل النبي ﷺ، فصمتوا خوفا، وهدأت ثورتُهم وعرفوا أن هذه هي الحقيقة وكان يستحق هذا العقاب. ثم قال النبي ﷺ لهم، عليكم أن تتعهدوا من جديد أنكم ستعيشون بالسلام والتعاون، ولا تنشروا الفتنة والفساد. فكُتب بموافقة اليهود ميثاقٌ جديد، وسُلِّم هذا الميثاق الجديد لسيدنا علي ؓ. بعد ذلك لم يُذكَر في التاريخ مطلقا أن اليهود بعد ذلك اتهموا أحدا بقتل كعب بن الأشرف، لأن قلوبهم قد استيقنت بأن كعبا نال ما استحقه من العقاب.

يقول حضرة مرزا بشير أحمد المحترم، إن المؤرخين الغربيين يعترضون مؤخرا بالقول بأن النبي ﷺ أمر بقتل غير شرعي ويستنكرون. ثم كتب حضرته أن هذا القتل لم يكن غير شرعي، وذلك لأن كعبا بن الأشرف كان قد أبرم مع النبي ﷺ عهد السلام رسميا، وكان قد تعهد أنه سينصر المسلمين ضد أي عدو خارجي وأنه سينشئ علاقات الصداقة مع المسلمين ناهيك عن عدم القيام بأي عملية ضدهم. وكان قد أقرَّ بمقتضى ذلك العهد أن النبيَّ ﷺ سيكون رئيسا للحكومة الديمقراطية التي أقيمت في المدينة، وأن حكمه سيكون واجب القبول في النـزاعات والخصومات. فالثابت من التاريخ أن اليهود كانوا يتحاكمون إلى النبي ﷺ في القضايا بحسب هذا الميثاق، وكان النبي ﷺ يحكم فيها. فكعْب تجاهل كل هذه الأمور والميثاق والعهد مع المسلمين. والحق أنه لم يغدر بالمسلمين فحسب بل قد غدر بحاكم الوقت، لأن النبي ﷺ كان رئيس المدينة، فقد بذَر الفتنة والفساد في المدينة، وحاول إشعال نار الحرب في البلد، وأثار قبائل العرب ضد المسلمين لأقصى الحدود، وكان يشبب في شعره المثير بنساء المسلمين،  ثم تآمر لقتل النبي ﷺ. فالمسلمون كانوا سلفا يعانون المشاكل من الجهات الأربع، وخلق لهم كعبٌ هذه الأوضاع الصعبة. وفي هذه الحال لم تكن جريمة كعب، بل مجموعةُ جرائمه، أمرا يمكن تجاهلُه ويُترك دون العقاب، فقد صدر الأمر بعقابه. ومن المعلوم أن مجرمي التمرد ونقض العهد وإثارة الحرب ومؤامرة القتل يعاقَبون في العصر المتحضر الراهن أيضا، فما مبرر الاعتراض على الإسلام؟

والاعتراض الثاني هو على أسلوب القتل، إذ لماذا قُتل ليلا بصمت؟ فقط كتب عن ذلك حضرته ؓ: فليكن معلوما أن في العرب لم تكن حكومة رسمية، وصحيح أنهم كانوا قد عيَّنوا حاكما وكان حكمه نافذا، ولكن في الوقت نفسه كان كل إنسان وكل قبيلة حرا في الحكم في القضايا الشخصية، حيث كانوا يأتون النبيَّ ﷺ للحكم في القضايا المشتركة، أما في الأمور الخاصة بالقبائل فكانوا يحكمون محليا. وفي هذا الوضع لم تكن هناك محكمة تُرفَع إليها قضية كعب بن الأشرف ويُستصدر الحكم بقتله. فهل كان يمكن أن يُرفع الشكوى إلى اليهود الذين كان كعب زعيمهم وكانوا قد غدروا بالمسلمين، وكانوا يثيرون يوميا الفتن؟ فكان من المستحيل أن ترفع قضيته إلى اليهود. أما الاستعانة بقبيلتَي سليم وغطفان، فكانوا في الشهر الماضي قد استعدّوا للغارة على المدينة بضع مرات، فكانوا مع اليهود ولم يكن هناك أمل منهم في الإنصاف.

يتابع حضرته ويقول: ادرسوا أوضاع ذلك العصر ثم تدبروا وقولوا بإنصاف أيَّ طريق كان مفتوحا للمسلمين حين وجدوا شخصا يشكِّل خطرا عليهم وعلى سلام البلاد سوى أن يقتلوه عند فرصة سانحة لإثارته الفتن وتحريضه على الحرب ومؤامرته لقتل النبي ﷺ؟ وذلك لأن قتل شرّير ومفسد أفضل بكثير من أن تبقى حياةُ كثير من المواطنين في خطر منه ويتلاشى سلام البلاد. فقد قال الله ﷻ أيضا إن الفتنة أكبر من القتل.

باختصار إن النبي ﷺ، بحسب الميثاق الذي أُبرِم بين اليهود والمسلمين بعد الهجرة، لم يكن مواطنا عاديا، بل كان قد عُين رئيسا للحكومة الديمقراطية التي أقيمت في المدينة. وكان من صلاحياته أن يُصدر الحكم المناسب في جميع النـزاعات والأمور السياسية. فإذا كان ﷺ قد حكم نظرا لمصلحة سلام البلد أن كعب بن الأشرف يجب قتله جراء فتنه، فلا يجوز الاعتراض عليه. لذا فهذا الاعتراض لخصوم الإسلام بعد مضي 1300 سنة سخيف جدا، وذلك لأن اليهود يومذاك لم يعترضوا على قول النبي ﷺ ولم يعترضوا على ذلك مدة طويلة. فهذه قصته.

على كل حال كنت أذكر أن حضرة زيد أيضا كان عضوا في الفريق المرسَل لقتل كعب، وأن التهم بالتطرف التي تلصق بالنبي ﷺ أو الإسلام كلها باطلة، إذ كان كعب يستحق أن يعاقَب على جرائمه فعاقَبه النبي ﷺ بصفته رئيس الحكومة.

أنهي خطبة اليوم على هذه الأحداث، وأسأل الله ﷻ أن يحمي الإسلام دوما من هذه الفتن. فالمسلمون يعيشون الأوضاع نفسها في هذه الأيام، حيث يتورطون في الفتن بدلا من أن يتلقوا درسا من التاريخ. والمسلمون والحكومات الإسلامية كذلك يتسببون في نشوء الفتن في بلادهم. حمى الله ﷻ الإسلام من هذه الفتن ووفَّقهم للإيمان بالهادي الذي بعثه الله ﷻ في هذا العصر لإحياء الإسلام.

 

 

 

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز