خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 14/12/2018
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
سأتناول اليوم من الصحابة ذكرَ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ ؓ، اسمه عوف ولقبه مسطح، وأمه أم مسطح سلمى بن صخر، أمها ريطة بنت صخر خالة أبي بكر الصديق ؓ، هاجر مسطح بن أثاثة إلى المدينة مع عبيدة بن الحارث وأخويه الطفيل بن الحارث والحصين بن الحارث، فاتَّعَدُوا بطن ناجح قبل السفر، فتخلف مسطح لأنه لدغ، فلما أصبحوا جاءهم الخبر فانطلقوا إليه فوجدوه بالحصاص، فحملوه فقدموا به المدينة. وفي المدينة أقاموا جميعهم في بيت عبد الرحمن بن سلمة، وآخى النبي ﷺ بين مسطح بن أثاثة وبين زيد بن المزين ؓ. وقد شهد مسطح مع النبي ﷺ المشاهد كلها بما فيها بدر.
وبعد ثمانية أشهر من الهجرة بعث رسول الله ﷺ عبيدة بن الحارث مع ستين راكبا وفي رواية ثمانين، وعقد ﷺ لعبيدة بن الحارث لواء أبيض يحمله مسطح بن أثاثة، ليعترض عيرًا لقريش، وكان على المشركين أبو سفيان بن حرب، وقيل مكرز بن حفص بن الأخيف، وقيل عكرمة بن أبي جهل. وكان في مائتين من المشركين يذهب بالمال، فالتقى بهم المسلمون في بطن رابغ ويقال لها ودان أيضا، هذه القافلة لم تكن تجارية فقط بل كانت مسلّحة وكان ربحُ القافلة سيُستخدم للحرب ضد المسلمين، لأن الأحداث تدل على أنهم كانوا يُعدّون العُدَّة. باختصار، التقى هو والمشركون، فكان بينهم الرمي دون المسايفة، وقد مر هذا الشيء في ذكر صحابي آخر أيضا أن أول من رمى بسهم في سبيل الله من المسلمين هو سعد بن أبي وقاص ؓ، فكان أول مَنْ رمى به في الإسلام. وهنالك فَرَّ من المشركين إلى المسلمين المِقْداد، وعيينة بن غزوان (وفي سيرة بن هشام وتاريخ الطبري عتبة بن غزوان)، وكانا مسلمين لكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار إلى المسلمين. كان لواء عبيدة بن الحارث ثاني لواء في الإسلام، وبعد الرمي انصرف الفريقان. وقد ذكرتُ في إحدى خطبي السابقة أن المشركين ارتعبوا ظانّين أن مع المسلمين جيشا كبيرا يمكن أن يُمدّهم فعادوا خائفين، ولم يلاحقهم المسلمون أيضا لأن الهدف لم يكن الحربَ بل إعتراضهم وإبلاغهم أنهم إن كانوا يُعِدُّون للحرب ضد المسلمين فالمسلمون أيضا جاهزون للمواجهة.
ويوم خيبر قسم رسول الله ﷺ لمسطح بن أثاثة وابن إلياس خمسين وسقًا من الغنائم، كان هذا طريق توزيع الغنائم في ذلك الزمن.
توفي في سنة ست وعشرين للهجرة وورد في الطبقات الكبرى أنه توفي في عهد عثمان ؓ سنة أربع وثلاثين وهو ابن ست وخمسين سنة، وقيل: بل عاش حتى زمن علي ؓ وشهد معه صفين، ومات سنة سبع وثلاثين.
وكان مسطح الذي يُنفق عليه أبو بكر ؓ، ولكنه كان ممن اشترك في الإفك على عائشة رضي الله عنها، فأقسم أبو بكر ؓ ألا ينفق عليه، فأنزل الله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور 23)، فعاد أبو بكر ؓ ينفق عليه. وأمر النبي ﷺ بجلد أهل الإفك بعد أن برأت الآيات القرآنية عائشة رضي الله عنها. فالذين جُلدوا في قذفهم لعائشة رضي الله عنها كان منهم مسطح أيضا.
ثم يقول المسيح الموعود ؏ وهو يتحدث عن واقعة الإفك، وهي واقعة التهمة التي هي واقعة عظيمة وهامة وفيها درس للمسلمين وقد وردت عنها تفاصيل كثيرة، وقد أنزل الله تعالى بشأنها آيات في القرآن الكريم:
لقد جعل الله تعالى في صفاته وأخلاقه أنه يلغي نبوءة وعيده نتيجة التوبة والاستغفار والدعاء والصدقة، وكذلك قد علّم الله الإنسانَ أيضا هذه الأخلاق.
ثم يقول عليه السلام وهو يبين الفرق بين الوعد والوعيد متحدثا عن هذه الواقعة:
فكما هو ثابت من القرآن الكريم والحديث الشريف أن التهمة الباطلة التي رمى بها المنافقون السيدة عائشة رضي الله عنها جراء خبثهم، قد وقع في فخ تلك التهمة بعض الصحابة البسطاء أيضا. (أي لم يقصد هؤلاء الصحابة أية فتنة بل وقعوا في فخ هذه التهمة جراء سذاجتهم) وكان من بينهم صحابي كان يأكل كل يوم مرتين في بيت سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فحلف أبو بكر وأقسم على سبيل الوعيد أنه لن يطعمه أبدًا عقوبةً على تصرفه الخاطئ هذا، فأنزل الله قوله في القرآن الكريم: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم)، فألغى سيدنا أبو بكر حلفه وأجرى على الصحابي طعامه ثانية.
ثم يبين المسيح الموعود عليه السلام مسألة دينية ويقول: من أجل ذلك قد صار من الأخلاق الإسلامية أن إلغاء المرء وعيده يُعَدّ من حُسن الخلق. ثم يبين عليه السلام المقصود من الوعيد فيقول: فمثلا لو حلف المرء على أنه سوف يضرب خادمه خمسين ضربة بالنعال، ثم عفا عنه نتيجة توبته وتضرعه فهذا من سنة الإسلام، لأنه تخلُّقٌ بأخلاق الله تعالى.
ولكن إخلاف الوعد غير جائز. سَيُسْأَل الإنسان على إخلاف وعده، ولكن لا مؤاخذة عليه على إلغاء وعيده.
والوعد هو العهد الذي يتعهد به المرء واضعا في الاعتبار الأمور الإيجابية والسلبية كلها، ولا بد للمرء من الوفاء بوعده، وإذا أخلفه فسوف يسأل عنه ويغرم أيضا.
ولأن واقعة الإفك هامة جدا لذا أذكر الآن تفاصيلها كما ذكرتها عائشة رضي الله عنها بحسب ما ورد في رواية البخاري: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ رَكِبْتُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ إِنَّمَا تَأْكُلُ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِر الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ (أي كان هناك شخص من يبقى وراء القافلة بعد رحيلها ليتفقد إذا نسوا شيئا وراءهم) فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ (أي بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون)… حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ. (أي عندها بدأ بعض الناس يتهّمون عائشة رضي الله عنها ونسبوا إليها الأباطيل) وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا. وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ لَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّطَفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي. (لقد انتشرت الشائعات على نطاق واسع حتى بلغت النبي ﷺ أيضا) إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. فَذَاكَ الَّذِي يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقَهْتُ فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلا إِلَى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الْغَائِطِ (وكانت النساء يخرجن في ظلام الليل) … فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ … فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ لَهَا بِئْسَ مَا قُلْتِ! أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا قَالَتْ أَيْ هَنْتَاهْ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قَالَتْ قُلْتُ وَمَا قَالَ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَعْنِي سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَقُلْتُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا. قَالَتْ فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي يَا أُمَّتَاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا. قَالَتْ فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللهِ أَوَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ (لشناعة التهمة الموجَّهة إلي) وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى أَصْبَحْتُ أَبْكِي فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ قَالَتْ فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوُدِّ. فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلَكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا (أي لم أر فيها أدنى عيب) وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ (قال عليّ ؓ ذلك لأنه كان في طبعه شيء من الحدة) وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَإِنْ تَسْأَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ قَالَتْ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بَرِيرَةَ فَقَالَ أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ قَالَتْ بَرِيرَةُ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. (أي ليس فيها عيب إلا أنها تنام نوما عميقا أحيانا) فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ (مخاطبا الصحابة) مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ (لأنه هو من أذاع هذه التهمة) قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا. وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِن الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ قَالَتْ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِن احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدٍ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ. (فبدأ النقاش بين الصحابة) فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ … فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ قَالَتْ فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ قَالَتْ فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي. قَالَتْ فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي. قَالَتْ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا. (بل كان يسأل عن حالي من غيري) وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي. قَالَتْ فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا (هذه أول مرة تكلم فيها النبي ﷺ مع عائشة منذ أن وُجِّهت التهمة إليها) فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَتْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لِأَبِي أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِيمَا قَالَ قَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ. (كانت تقصد أن يبرءها عند النبي ﷺ) فَقُلْتُ لِأُمِّي أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَتْ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَتْ فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ (لأن الإشاعات منتشرة على نطاق واسع ويذيعها الناس، فلعلكم تظنون أنني لست بريئة) وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلًا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (هذا ما قاله يعقوب ؏ لإخوة يوسف)
قَالَتْ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى. وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ. قَالَتْ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ ﷻ فَقَدْ بَرَّأَكِ (فاشكري الله) فَقَالَتْ أُمِّي قُومِي إِلَيْهِ قَالَتْ فَقُلْتُ لَا وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﷻ: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ؓ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ وَاللهِ لا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا. قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْأَلُ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ يَا زَيْنَبُ مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا. قَالَتْ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا (أي كانت تتفق مع أصحاب الإفك) فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِفْكِ. (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن)
لقد أورد حضرة مرزا بشير أحمد رضي الله عنه في كتابه سيرة خاتم النبيين هذه الواقعة التي قد ذكرتُها في ضوء ما ورد في البخاري برواية عائشة رضي الله عنها، والأمر الزائد الذي ذكره حضرته رضي الله عنه هو أن عائشة رضي الله عنها قالت: إن ذلك الصحابي لما قال إنا لله وإنا إليه راجعون، استيقظتُ وخمّرت وجهي بالخمار على الفور لأن حكم الحجاب كان قد نزل، ووالله لم يكلّمني هذا الصحابي ولم أكلمه غير أني سمعت قوله إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم بعد ذلك جاء بالجمل وأناخه قريبا مني، وجعل قدمه على ركبتَيْ الجمل لكيلا يقوم، فركبتُ الجمل.
وكما قالت عائشة رضي الله عنها كانت لوحي الله النازل في أمري أهمية كبرى عندي لأني لم أتوقع نزوله بحقي.
على أية حال، كان الحادث ذا أهمية كبيرة، إذ وُجِّهت إلى زوجة النبي ﷺ تهمة شنيعة. كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تحتل مكانة عظيمة، وأحد أسباب هذه المكانة العظيمة أن النبي ﷺ قال: وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِي غَيْرَ عَائِشَةَ.
وقد ذُكر في سورة النور مفصلا ما كان يجب أن تكون ردة فعل المؤمنين تجاه المتَّهِمين، وقد جاء هذا الذكر في نحو عشر أو اثنتي عشرة آية. وقد شرح سيدنا المصلح الموعود ؓ بالتفصيل الآية التي أشارت إليها السيدة عائشة رضي الله عنها. وسأذكر فقط أمورا تزيد على ما ذُكر في الحديث. والآية المشار إليها هي: ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) إضافة إلى هذه الآية قد ذُكر هذا الحادث في ثلاث آيات تليها أيضا.
على أية حال يقول الخليفة الثاني ؓ: فلما بلغ المدينة أشاع عبد الله بن أُبيّ بن سلول وأصحابه أن عائشة رضي الله عنها قد تخلفت، والعياذ بالله، قصدًا، وأنها على صلة مع صفوان. وشاعت هذه الإشاعة على نطاق واسع حتى اشترك بعض الصحابة أيضا خطأ مع الذين كانوا وراء هذه الأراجيف. وهؤلاء الصحابة هم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش التي كانت أختًا لإحدى زوجات الرسول ﷺ.
أما عائشة فأصابتها صدمة شديدة بسبب هذا الحادث إذ تخلّفت عن القوم وحيدةً في تلك السن الصغيرة في صحراء موحشة، فمرضت بعد وصولها إلى المدينة.
يقول المصلح الموعود ؓ أن الخوف الناتج عن بقائها وحيدة في ذلك المكان كان أحد أسباب مرضها. فبلغت الرسولَ ﷺ الأراجيف التي أشاعها المنافقون ضد عائشة، ولكنه لم يسألها عنها بسبب مرضها. وازدادت الأقاويل شدة يومًا فيومًا. تقول عائشة: كنت أستغرب أن أرى الرسول ﷺ يأتي إلى البيت حزينًا ولا يتكلم معي، وإنما يسأل الآخرين عن حالي ويخرج.
فاستأذنتْ عائشة الرسول ﷺ وذهبت إلى بيت أبيها. وذات يوم خرجت مع إحدى قريباتها لقضاء الحاجة … فأخذت قريبتها هذه تُلقي اللوم على ابنها مسطح. فقالت عائشة: لم تقولين هكذا؟! قالت: كيف لا ألومه وقد تكلم بكذا وكذا؟ يبدو أن تلك السيدة كانت تتحيّن الفرصة لتخبر عائشة بالتهمة الموجَّهة إليها لأنها ما كانت تعرف عنها شيئا. فلما سمعت عائشة رضي الله عنها حديثها أصيبت بصدمة شديدة، ووصلت إلى البيت بصعوبة، وعاودها المرض بشدة…
يتابع سيدنا المصلح الموعود ؓ قائلا: ثم دعا النبي ﷺ عمرَ وعليًّا وأسامة بن زيد واستشارهم في الأمر. فقال عمر وأسامة: إن هي إلا أراجيف أشاعها المنافقون ولا حقيقة لها. أما علي ؓ فكانت في طبعه حدة، فقال: مهما يكن، فلستَ يا رسول الله، بحاجة إلى امرأة رُميتْ بهذه التهمة. وأضاف قائلا: اسألْ خادمتها تصدُقْك القول. فقال الرسول ﷺ لبريرة: هل رأيت في عائشة شيئًا يريبكِ؟ قالت: لم أر فيها عيبا إلا أنها لصغر سنها تنام عن عجينها… فخرج الرسول ﷺ وجمع أصحابه وقال: من ذا الذي يريحني من هذا الشخص الذي يؤذيني؟
وكان يقصد من ذلك عبد الله بن أبي بن سلول أنه آذى، فقام سعد بن معاذ زعيم الأوس وقال: يا رسول الله، إذا كان هذا الشخص من قبيلتنا ضربنا عنقه، وإذا كان من الخزرج فنحن مستعدّون لقتله أيضا. وتنبّه الشيطان الذي يتربص بالناس لإيقاع الفتنة بينهم، ووجد الفرصة سانحة. فثارت حمية الخزرجيين الذين كانوا غافلين تمامًا عن مدى وطأة صدمة الرسول ﷺ، فغضبوا حين سمعوا قول سعد هذا، فقام منهم سعد بن عبادة وقال لسعد بن معاذ: لا تقتلُون أحدا منا ولا تقدرون على ذلك. ثم نهض الصحابة الآخرون وقالوا سنقتله ونرى من ينقذه منا.
يقول المصلح الموعود ؓ: هذا الأمر بدلا من أن يتوقف عند الكلام فقط قد بدأ أوس والخزرج يُخرجون السيوف من أغمادها، وكاد القتال يندلع، فهدَّأهم النبي ﷺ بصعوبة. حيث كان الأوس يقولون: سنقتل من آذى رسول الله ﷺ، وكان الخزرج يقولون: إنكم لا تقولون هذا الكلام عن إخلاص وحسن نية، إذ تعلمون أن هذا الشخص منا. والثابت أن كلا الفريقين كان يحبّ الرسول ﷺ، لكن الشيطان كان قد نزغ بينهم، وبوسع كل إنسان أن يدرك مدى خطورة الموقف. فمن ناحية كان الرسول ﷺ في أذى شديد، ومن ناحية أخرى كاد المسلمون يضرب بعضهم رقاب بعض. فالشيطان يخلق هذا الوضع أحيانا في الصالحين أيضًا.
بعد ذلك بيَّن المصلح الموعود ؓ الواقعة نفسها التي قالت فيها السيدة عائشة، حين سئلت عمَّا حدث، لو قلت لكم إن هذا الخبر باطل فلن تصدّقوني، ولو قلت إنه حق فسأكذب، فلا أقول لكم إلا ما قال يعقوبُ أبو يوسفَ عليهما السلام: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ). فتركتُ مكاني وجئت إلى السرير. عندها نزلت الآية التي تلوتها عليكم قبل قليل أي أن الذين لفّقوا هذه الفرية الخطيرة هم طائفة منكم، لا تحسبوا هذه التهمة سببَ فساد لكم بل اعتبِروها خيرا لكم، إذ بسببها قد نزلت عاجلا العقوبات للذين يرمون الآخرين كذبًا وتيسرت لكم تعاليم حكيمة. سينال كل واحد من هؤلاء وبال إثمه، أما الذي لعب أكبر دور في هذا الإفك فله عذاب عظيم.
فَتَنَوَّرَ وجه النبي ﷺ إثر نزول هذا الوحي، وتقول السيدة عائشة: إن أمي قالت لي: قُومي واشكري رسول لله ﷺ. فقلت: إنما أشكر ربي الذي برّأني.
باختصار، كما ذُكر سابقا وقد ذكر حضرة المصلح الموعود ؓ أيضا في إحدى خطبه أن ثلاثة أشخاص جُلدوا بسبب هذه التهمة، ومنهم حسان بن ثابت شاعر النبي ﷺ ومسطح وكان ابن خالة أبي بكر ؓ وكان رجلا معدما حيث كان يقيم في بيت أبي بكر ؓ ويأكل من بيته، وهو الذي كان يهيئ له الثياب، وامرأة، فكل هؤلاء الثلاثة عوقبوا. وهذه العقوبة مذكورة في سنن أبي داود أيضا، على كل حال هذه العقوبة نُفذت عند البعض ولم تنفذ عند البعض الآخرين، وبغضّ النظر هل عوقب هؤلاء الصحابة أم لم يعاقبوا فقد عفا الله عنهم، فقد واجهوا العقوبة المقدرة في هذه الدنيا، لكنهم اشتركوا في الغزوات بعدها أيضا، وكانوا ممن شهدوا بدرا وكانت لهم مكانة عظيمة عند الله وكتب الله لهم حسن العاقبة، وأكد على تلك المكانة وثبّتها، رفع الله تعالى درجاتهم جميعا على الدوام.